ج3.
زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
مهموزا
ولين الهمزة نافع في الكل وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف قال الفراء العرب تقول
أرأيتك وهم يريدون أخبرني
فأما عذاب الله ففي المراد به هاهنا قولان
أحدهما أنه الموت قاله ابن عباس
والثاني العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية قاله مقاتل
فأما الساعة فهي القيامة قال الزجاج وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد وللوقت
الذي يبعثون فيه
قوله تعالى أغير الله تدعون أي أتدعون صنما أو حجرا لكشف ما بكم فاحتج عليهم بما
لا يدفعونه لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله
وقوله تعالى إن كنتم صادقين جواب لقوله أرأيتكم لأنه بمعنى أخبروا كأنه قيل لهم إن
كنتم صادقين فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم
بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون
قوله تعالى بل آياه تدعون قال الزجاج أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه
وفي ذلك أعظم الحجج عليهم لأنهم عبدوا الأصنام
فيكشف ما تدعون إليه إن شاء المعنى فيكشف الضر الذي من أجله دعوتهم وهذا على اتساع
الكلام مثل قوله واسأل القرية أي اهل القرية
وتنسون يجوز أن يكون بمعنى تتركون ويجوز أن يكون المعنى إنكم في ترككم دعاءهم
بمنزلة من قد نسيهم
ولقد
أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون
قوله تعالى ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك في الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا إلى
أمم من قبلك رسلا فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الزمانة والخوف رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها البؤس وهو الفقر قاله ابن قتيبة
والثالث أنها الجوع ذكره الزجاج
وفي الضراء ثلاثة أقوال
أحدها البلاء والجوع رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني النقص في الأموال والأنفس ذكره الزجاج
والثالث الاسقام والأمراض قاله أبو سليمان
قوله تعالى لعلهم يتضرعون أي لكي يتضرعوا والتضرع التذلل والاستكانة وفي الكلام
محذوف تقديره فلم يتضرعوا
فلولا إذا جآءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون
قوله تعالى فلولا معناه فهلا والبأس العذاب ومقصود الآية أن الله تعالى أعم نبيه
صلى الله عليه و سلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا
بالشدائد فلم يخضعوا وأقاموا على كفرهم وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصروا عليها
فلما
نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة
فاذا هم مبلسون
قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به قال ابن عباس تركوا ما وعظوا به فتحنا عليهم
أبواب كل شيء يريد رخاء الدنيا وسرورها وقرأ أبو جعفر وابن عامر فتحنا بالتشديد
هنا وفي الأعراف وفي الأنبياء فتحت وفي القمر فتحنا والجمهور على تخفيفهن قال
الزجاج أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم لم
يكن انتقاما وما فتح عليهم باستحقاقهم أخذناهم بغتة أي فاجأهم عذابنا
وقال ابن الانباري إنما أراد بقوله كل شيء التأكيد كقول القائل أكلنا عند فلان كل
شيء وكنا عنده في كل سرور يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه كقوله
وأوتيت من كل شيء وقال الحسن من وسع عليه فلم ير أنه لم يمكر به فلا رأي له ومن
قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له ثم قرأ هذه الآية وقال مكر بالقوم ورب
الكعبة أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا
قوله تعالى فاذا هم مبلسون في المبلس خمسة اقوال
أحدها أنه الآيس من رحمة الله عز و جل رواه الضحاك عن ابن عباس وقال في رواية أخرى
الآيس من كل خير وقال الفراء المبلس اليائس
المنقطع
رجاؤه ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته فلا يكون عنده جواب قد أبلس قال العجاج
... يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا ...
أي لم يحر جوابا وقيل المكرس الذي قد بعرت فيه الإبل وبولت فيركب بعضه بعضا
والثاني أنه المفتضح قال مجاهد الإبلاس الفضيحة
والثالث أنه المهلك قاله السدي
والرابع أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشر مالا يستطيعه قاله ابن زيد
والخامس أنه الحزين النادم قاله أبو عبيدة وأنشد لرؤبة ... وحضرت يوم الخميس
الأخماس ... وفي الوجوه صفرة وإبلاس ...
أي اكتئاب وكسوف وحزن
وقال الزجاج هو الشديد الحسرة الحزين اليائس وقال في موضع آخر المبلس الساكت
المتحير
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين
قوله تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا قال ابن السائب دابرهم
الذي
يتخلف في آخرهم والمعنى أنهم استؤصلوا وقال أبو عبيدة دابرهم آخرهم الذي يدبرهم
قال ابن قتيبة هو كما يقال اجتث أصلهم
قال المفسرون وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم
وعلم الحمد على كفايته شر الظالمين
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وابصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به
أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون
قوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم أي أذهبها وختم على قلوبكم حتى
لا تعرفون شيئا من آله غير الله يأتيكم به في هاء به ثلاثة اقوال
أحدها أنها تعود على الفعل والمعنى يأتيكم بما أخذ الله منكم قاله الزجاج وقال
الفراء إذا كنيت عن الأفاعيل وإن كثرت وحدت الكناية كقوله للرجل إقبالك وإدبارك
يؤذيني
والثاني أنها تعود إلى الهدى ذكره الفراء فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور ولكن
المعنى يشتمل عليه لأن من أخذ سمعه وبصره وختم على قلبه لم يهتد
والثالث أنها تعود على السمع ويكون ما عطف عليه داخلا معه في القصة لأنه معطوف
عليه ذكره الزجاج والجمهور يقرؤون من إله غير الله يأتيكم به انظر بكسر هاء به
وروى المسيبي عن نافع به انظر
بالضم
قال أبو علي من كسر حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو بهي عيب ومن ضم فعلى قول من
قال فخصفنا بهو وبدارهو الأرض فحذف الواو
قوله تعالى انظر كيف نصرف الآيات قال مقاتل يعني تكون العلامات في أمور شتى
فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب وبما صنع بالأمم الخالية ثم هم يصدفون أي
يعرضون فلا يعتبرون
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون
قوله تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة قال الزجاج البغتة
المفاجأة والجهرة أن يأتيهم وهم يرونه هل يهلك إلا القوم الظالمون أي هل يهلك إلا
أنتم ومن أشبهكم لأنكم كفرتم معاندين فقد علمتم أنكم ظالمون
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون
قوله تعالى وما نرسل المرسلين إلا مبشرين أي بالثواب ومنذرين بالعقاب وليس إرسالهم
ليأتوا بما يقترحونه من الآيات ثم ذكر ثواب من صدق وعقاب من كذب في تمام الآية
والتي بعدها وقال ابن عباس يفسقون بمعنى يكفرون
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا
ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير افلا تتفكرون
قوله
تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله سبب نزولها أن أهل مكة قالوا يا محمد لو
أنزل الله عليك كنزا فتستغني به فانك فقير محتاج أو تكون لك جنة تأكل منها فانك
تجوع فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
قال الزجاج وهذه الآية متصلة بقوله لولا أنزل عليه آية من ربه فأعلمهم أنه لا يملك
خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي ولا يقول إنه
ملك لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى مالا يشاهده البشر وقرأ ابن مسعود وابن
جبير وعكرمة والجحدري إني ملك بكسر اللام وفي الأعمى والبصير قولان
أحدهما أن الأعمى الكافر والبصير المؤمن قاله ابن عباس وقتادة
والثاني الأعمى الضال والبصير المهتدي قاله سعيد بن جبير ومجاهد وفي قوله أفلا
تتفكرون قولان
أحدهما فيما بين لكم من الآيات الدالة على وحدانيته وصدق رسوله
والثاني فيما ضرب لكم من مثل الأعمى والبصير وأنهما لا يستويان
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم
يتقون
قوله تعالى وأنذر به قال الزجاج يعني بالقرآن وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون
غيرهم وإن كان منذرا لجميع الخلق لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر لاعترافهم
بالمعاد فهم أحد رجلين إما مسلم فينذر ليؤدي حق الله عليه في إسلامه وإما كتابي
فأهل الكتاب مجمعون على البعث
وذكر
الولي والشفيع لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحباؤه فأعلم عز و جل أن
أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع وقال غيره ليس لهم من دونه ولي أي ليس لهم
غير الله ولي ولا شفيع لأن شفاعة الشافعين بأمره
وقال أبو سليمان الدمشقي هذه الآية متعلقة بقوله وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليه من حسابهم من شيء
وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين
قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم روى سعد بن أبي وقاص قال نزلت هذه الآية في
ستة في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال قالت قريش لرسول الله صلى الله
عليه و سلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء فاطردهم عنك فدخل على رسول الله من
ذلك ما شاء الله أن يدخل فنزلت هذه الآية
وقال خباب بن الأرت نزلت فينا كنا ضعفاء عند النبي صلى الله عليه و سلم يعلمنا
بالغداة والعشي ما ينفعنا فجاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقالا إنا من أشراف
قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك قال نعم
فقالوا لا نرضى حتى تكتب بيننا كتابا فأتى بأديم ودواة ودعا عليا ليكتب فلما أراد ذلك ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم إلى قوله فتنا بعضهم ببعض فرمى بالصحيفة ودعانا فأتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته وقال ابن مسعود مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا يا محمد رضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعا لهم فنزلت ولا تطرد الذين يدعون ربهم وقال عكرمة جاء عتبة وشيبة ابنا ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا وأدنى لاتباعنا إياه فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك فقال عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون فنزلت هذه الآيات فأقبل عمر يعتذر من مقالته وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في الموالي منهم بلال وصهيب وخباب وعمار ومهجع وسلمان وعامر ابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة وأن قوله وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم نزلت فيهم أيضا وقد روى العوفي عن ابن عباس أن ناسا من
الأشراف
قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم نؤمن لك وإذا صلينا فأخر هؤلاء الذين معك فليصلوا
خلفنا فعلى هذا إنما سألوه تأخيرهم عن الصف وعلى الأقوال التي قبله سألوه طردهم عن
مجلسه
قوله تعالى يدعون ربهم في هذا الدعاء خمسة أقوال
أحدها أنه الصلاة المكتوبة قاله ابن عمر وابن عباس وقال مجاهد هي الصلوات الخمس
وفي رواية عن مجاهد وقتادة قالا يعني صلاة الصبح والعصر وزعم مقاتل أن الصلاة
يومئذ كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك
والثاني أنه ذكر الله تعالى قاله إبراهيم النخعي وعنه كالقول الأول
والثالث أنه عبادة الله قاله الضحاك
والرابع أنه تعلم القرآن غدوة وعشية قاله أبو جعفر
والخامس أنه دعاء الله بالتوحيد والإخلاص له وعبادته قاله الزجاج وقرأ الجمهور
بالغداة وقرأ ابن عامر هاهنا وفي الكهف أيضا بالغدوة بضم الغين وإسكان الدال
وبعدها واو
قال الفراء والعرب لا تدخل الألف واللام على الغدوة لأنها معرفة بغير ألف ولام ولا
تضيفها العرب يقولون أتيتك غداة الخميس ولا يقولون غدوة الخميس فهذا دليل على أنها
معرفة
وقال أبو علي الوجه الغداة لأنها تستعمل نكرة وتتعرف باللام وأما غدوة فمعرفة
وقال الخليل يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة وبكرة فجعلها بمنزلة ضحوة فهذا وجه
قراءة ابن عامر
فان
قيل دعاء القوم كان متصلا بالليل والنهار فلماذا خص الغداة والعشي فالجواب أنه نبه
بالغداة على جميع النهار وبالعشي على الليل لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له كان
عمل الليل أصفى
قوله تعالى يريدون وجهه قال الزجاج أي يريدون الله فيشهد الله لهم بصحة النيات
وأنهم مخلصون في ذلك
وأما الحساب المذكور في الآية ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه حساب الأعمال قاله الحسن
والثاني حساب الأرزاق والثالث أنه بمعنى الكفاية والمعنى ما عليك من كفايتهم ولا
عليهم كفايتك
قوله تعالى فتكون من الظالمين قال ابن الأنباري عظم هذا الأمر على النبي صلى الله
عليه و سلم وخوف بالدخول في جملة الظالمين لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء على
الضعفاء
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم
بالشاكرين
قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض المعنى وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير ابتلينا
أيضا بعضهم ببعض وفتنا بمعنى ابتلينا واختبرنا ليقولوا يعني الكبراء أهؤلاء يعنون
الفقراء والضعفاء من الله عليهم بالهدى وهذا استفهام معناه الانكار كأنهم أنكروا
أن يكونوا سبقوهم بفضيلة
قال ابن السائب ابتلى الله الرؤساء بالموالي فاذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن
قبله أنف أن يسلم ويقول سبقني هذا
قوله
تعالى أليس الله بأعلم بالشاكرين أي بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم بالهداية
والمعنى إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر والاستفهام في أليس معناه التقرير أي إنه
كذلك
وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من
عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم
قوله تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال
أحدها أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إنا أصبنا
ذنوبا عظيمة فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية قاله أنس بن
مالك
والثاني أنها نزلت في الذين نهى عن طردهم فكان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رآهم
بدأهم بالسلام وقال الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام قاله
الحسن وعكرمة
والثالث أنها نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وأبي
عبيدة ومصعب بن عمير وسالم وأبي سلمة والأرقم ابن أبي الأرقم وعمار وبلال قاله
عطاء
والرابع أن عمر بن الخطاب كان اشار على رسول الله صلى الله عليه و سلم بتأخير
الفقراء
استمال
للرؤساء إلى الإسلام فلما نزلت ولا تطرد الذين يدعون ربهم جاء عمر يعتذر من مقالته
ويستغفر منها فنزلت فيه هذه الآية قاله ابن السائب
والخامس أنها نزلت مبشرة باسلام عمر بن الخطاب فلما جاء وأسلم تلاها عليه رسول
الله صلى الله عليه و سلم حكاه أبو سليمان الدمشقي
فأما قوله تعالى يؤمنون بآياتنا فمعناه يصدقون بحججنا وبراهيننا
قوله تعالى فقل سلام عليكم فيه قولان
أحدهما أنه أمر بالسلام عليهم تشريفا لهم وقد ذكرناه عن الحسن وعكرمة
والثاني أنه أمر بابلاغ السلام إليهم عن الله تعالى قاله ابن زيد قال الزجاج ومعنى
السلام دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات وفي السوء قولان
أحدهما أنه الشرك والثاني المعاصي
وقد ذكرنا في سورة النساء معنى الجهالة قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي أنه
من عمل منكم سوءا فانه غفور بكسر الألف فيهما وقرأ عاصم وابن عامر بفتح الألف
فيهما وقرأ نافع بنصب ألف أنه وكسر ألف فانه غفور قال أبو علي من كسر ألف إنه جعله
تفسيرا للرحمة ومن كسر ألف فانه غفور فلأن ما بعد الفا حكمة الابتداء ومن فتح ألف
انه من عمل جعل أن بدلا من الرحمة والمعنى كتب ربكم أنه من عمل ومن فتحها بعد
الفاء أضمر خبرا تقديره فله أنه غفور رحيم والمعنى فله غفرانه وكذلك قوله تعالى
فإن له نار جهنم معناه فله أن له نار جهنم وأما قراءة نافع فانه أبدل من الرحمة
واستأنف ما بعد الفاء
وكذلك
نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين
قوله تعالى وكذلك نفصل الآيات أي وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا
على المشركين كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل قال ابن قتيبة ومعنى
تفصيلها إتيانها متفرقة شيئا بعد شيء
قوله تعالى ولتستبين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ولتستبين بالتاء سبيل
بالرفع وقرأ نافع وزيد عن يعقوب بالتاء أيضا إلا أنهما نصبا السبيل وقرأ حمزة
والكسائي وأبو بكر عن عاصم وليستبين بالياء سبيل بالرفع فمن قرأ ولتستبين بالياء
أو التاء فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في آل عمران ومن نصب اللام فالمعنى
ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين وفي سبيلهم التي بينت له قولان
أحدهما أنها طريقهم في الشرك ومصيرهم إلى الخزي قاله ابن عباس
والثاني أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه وذلك إنما هو الحسد لا إيثار مجالسته
واتباعه قاله أبو سليمان
فان قيل كيف انفردت لام كي في قوله ولتستبين وسبيلها أن تكون شرطا لفعل يتقدمها أو
يأتي بعدها فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين
أحدهما أنها شرط لفعل مضمر يراد به ونفعل ذلك لكي تستبين
والثاني انها معطوفة على لام مضمرة تأويله نفصل الآيات ليتكشف أمرهم ولتستبين
سبيلهم
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما
أنا من المهتدين
قوله
تعالى قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله يعني الأصنام وفي معنى تدعون
قولان أحدهما تدعونهم آلهة
والثاني تعبدون قاله ابن عباس وأهواءهم دينهم قال الزجاج أراد إنما عبدتموها على
طريق الهوى لا على طريق البينة والبرهان ومعنى إذا معنى الشرط والمعنى قد ضللت إن
عبدتها وقرأ طلحة وابن أبي ليلى قد ضللت بكسر اللام
قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا الله يقص
الحق وهو خير الفاصلين
قوله تعالى قل إني على بينة من ربي سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش
قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء
وقام النضر عند الكعبة وقال اللهم إن كان ما يقول حقا فائتنا بالعذاب فنزلت هذه
الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس فأما البينة فهي الدلالة التي تفصل بين الحق
والباطل قال الزجاج أنا على أمر بين لا متبع لهوى
قوله تعالى وكذبتم به في هاء الكناية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الرب والثاني ترجع إلى البيان والثالث ترجع إلى العذاب الذي
طلبوه استهزاء
قوله تعالى ما عندي ما تستعجلون به أي ما بيدي وفي الذي استعجلوا به قولان
أحدهما أنه العذاب قاله ابن عباس والحسن
والثاني أنه الآيات التي كانوا يقترحونها ذكره الزجاج
قوله
تعالى إن الحكم إلا لله فيه قولان
أحدهما أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بايجاب الثواب والعقاب
والثاني أنه القضاء بانزال العذاب على المخالف
قوله تعالى يقص الحق قرأ ابن كثير وعاصم ونافع يقص الحق بالصاد المشددة من القصص
والمعنى أن كل ما أخبر به فهو حق وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي يقضي
الحق من القضاء والمعنى يقضي القضاء الحق
قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين
قوله تعالى قل لو أن عندي ما تستعجلون به أي من العذاب لقضي الأمر بيني وبينكم قال
ابن عباس يقول لم أمهلكم ساعة ولأهلكتكم
قوله تعالى والله أعلم بالظالمين فيه قولان
أحدهما أن المعنى إن شاء عاجلهم وإن شاء أخر عقوبتهم
والثاني اعلم بما يؤول إليه أمرهم وأنه قد يهتدي منهم قوم ولا يهتدي آخرون فلذلك
يؤخروهم
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا
يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
قوله تعالى وعنده مفاتح الغيب قال ابن جرير المفاتح جمع مفتح
يقال
مفتح ومفتاح فمن قال مفتح جمعه مفاتح ومن قال مفتاح جمعه مفاتيح وفي مفاتح الغيب
سبعة أقوال
أحدها أنها خمس لا يعلمها إلا الله عز و جل روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر
قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا
يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في
غد إلا الله ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله
قال ابن مسعود أوتى نبيكم علم كل شيء إلا مفاتيح الغيب
والثاني أنها خزائن غيب السموات من الأقدار والأرزاق قاله ابن عباس
والثالث ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب وما تصير إليه الأمور قاله عطاء
والرابع خزائن غيب العذاب متى ينزل قاله مقاتل
والخامس
الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم قاله الزجاج
والسادس عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال
والسابع ما لم يكن هل يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون إن كان كيف
يكون فأما البر فهو القفر وفي البحر قولان أحدهما أنه الماء قاله الجمهور والثاني
أنه القرى قاله مجاهد
قوله تعالى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها قال الزجاج المعنى أنه يعلمها ساقطة
وثابتة كما تقول ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه ليس تأويله اعرفه في حال مجيئه فقط
فأما ظلمات الأرض فالمراد بها بطن الأرض
وفي الرطب واليابس خمسة أقوال
أحدها أن الرطب الماء واليابس البادية والثاني الرطب ما ينبت واليابس مالا ينبت
والثالث الرطب الحي واليابس الميت والرابع الرطب لسان المؤمن يذكر الله واليابس
لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله والخامس أنهما الشيء ينتقل من إحدى الحالتين إلى
الأخرى فهو يعلمه رطبا ويعلمه يابسا وفي الكتاب المبين قولان
أحدهما أنه اللوح المحفوظ قاله مقاتل والثاني أنه علم الله المتقن ذكره الزجاج فان
قيل ما الفائدة في إحصاء هذه الأشياء في كتاب فعنه ثلاثة أجوبة ذكرهن ابن الأنباري
أحدها أنه أحصاها في كتاب لتقف الملائكة على نفاذ علمه
والثاني أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون لأن
من يثبت مالا ثواب فيه ولا عقاب فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع
والثالث
أن المراد بالكتاب العلم فالمعنى أنها مثبتة في علمه
وهو الذي يتوفكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم
إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون
قوله تعالى وهو الذي يتوفكم بالليل يريد به النوم لأنه يقبض الأرواح عن التصرف
بالنوم كما يقبض بالموت وقال ابن عباس يقبض أرواحكم في منامكم وجرحتم بمعنى كسبتم
ثم يبعثكم أي يوقظكم فيه أي في النهار ليقضى أجل مسمى أي لتبلغوا الأجل المسمى
لانقطاع حياتكم فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت
وهو القاهر فوق عبادة ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم
لا يفرطون
قوله تعالى ويرسل عليكم حفظة الحفظة الملائكة واحدهما حافظ والجمع حفظة مثل كاتب
وكتبة وفاعل وفعلة وفيما يحفظونه قولان
أحدهما أعمال بني آدم قاله ابن عباس والثاني أعمالهم وأجسادهم قاله السدي
قوله تعالى توفته رسلنا وقرأ حمزة توفاه رسلنا وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير
حقيقي وإنما التأنيث للجمع فهو مثل وقال نسوة وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أعوان ملك الموت قاله ابن عباس وقال النخعي أعوانه يتوفون النفوس وهو
يأخذها منهم
والثاني
أن المراد بالرسل ملك الموت وحده قاله مقاتل
والثالث أنهم الحفظة قاله الزجاج
قوله تعالى وهم لا يفرطون قال ابن عباس لا يضيعون فان قيل كيف الجمع بين قوله
توفته رسلنا وبين قوله قل يتوفاكم ملك الموت فعنه جوابان
أحدهما أنه يجوز أن يريد بالرسل ملك الموت وحده وقد يقع الجمع على الواحد والثاني
أن أعوان ملك الموت يفعلون بأمره فأضيف الكل إلى فعله
وقيل توفي أعوان ملك الموت بالنزع وتوفي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب ويدعوها
فتخرج وتوفي الله تعالى بأن يخلق الموت في الموت
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين
قوله تعالى ثم ردوا إلى الله يعني العباد وفي متولي الرد قولان
أحدهما أنهم الملائكة ردتهم بالموت إلى الله تعالى
والثاني أنه الله عز و جل ردهم بالبعث في الآخرة وفي معنى ردهم إلى الله تعالى
قولان
أحدهما أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده
والثاني أنهم ردوا إلى تدبيره وحده لأنه لما أنشأهم كان منفردا بتدبيرهم فلما
مكنهم من التصرف صاروا في تديبر أنفسهم ثم كفهم عنه بالموت فصاروا مردودين إلى
تدبيره
قوله
تعالى الا له الحكم يعني القضاء وبيان سرعة الحساب في البقرة
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن انجانا من هذه لنكونن
من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون
قوله تعالى قل من ينجيكم قرأ عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر قل من ينجيكم قل الله
ينجيكم مشددين وقرأ يعقوب والقزاز عن عبد الوارث بسكون النون وتخفيف الجيم قال
الزجاج والمشددة أجود للكثرة وظلمات البر والبحر شدائدها والعرب تقول لليوم الذي
تلقى فيه شدة يوم مظلم حتى إنهم يقولون يوم ذو كواكب أي قد اشتدت ظلمته حتى صار
كالليل قال الشاعر ... فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوما ذا كواكب
أشعنا
قوله
تعالى تدعونه تضرعا أي مظهرين الضراعة وهي شدة الفقر إلى الشيء والحاجة
قوله تعالى وخفية قرأ عاصم إلا حفصا وخفية بكسر الخاء وكذلك في الأعراف وقرأ
الباقون بضم الخاء وهما لغتان قال الفراء وفيها لغة أخرى بالواو ولا تصلح في
القراءة خفوة وخفوة ومعنى الكلام أنكم تدعونه في أنفسكم كما تدعونه ظاهرا لئن
أنجيتنا كذلك قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو لئن أنجيتنا وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي لئن أنجانا بألف لمكان الغيبة في قوله تدعونه وكان حمزة والكسائي وخلف
يميلون الجيم
قوله تعالى من هذه يعني في أي شدة وقعتم قلتم لئن أنجيتنا من هذه قال ابن عباس
والشاكرون هاهنا المؤمنون وكانت قريش تسافر في البر والبحر فاذا ضلوا الطريق
وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم فأما الكرب فهو الغم الذي يأخذ بالنفس
ومنه اشتقت الكربة
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا
ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقون
قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم فيه
قولان
أحدهما
أن الذي فوقهم العذاب النازل من السماء كما حصب قوم لوط وأصحاب الفيل والذي من تحت
أرجلهم كما خسف بقارون قاله ابن عباس والسدي ومقاتل وقال غيرهم ومنه الطوفات
والريح والصيحة والرجفة
والقول الثاني أن الذي من فوقهم من قبل أمرائهم والذي من تحتهم من سفلتهم رواه علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال في رواية أخرى الذي من فوقهم أئمة السوء والذي من
تحت أرجلهم عبيد السوء
قوله تعالى أو يلبسكم شيعا قال ابن عباس يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقا
قال ابن قتيبة يلبسكم من الالتباس عليهم والمعنى حتى تكونوا شيعا أي فرقا مختلفين
ثم يذيق بعضكم باس بعض بالقتال والحرب وقال الزجاج يلبسكم أي يخلط أمركم خلط
اضطراب لا خلط اتفاق يقال لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه ومعنى شيعا أي
يجعلكم فرقا فاذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا
قوله تعالى ويذيق بعضكم بأس بعض أي يقتل بعضكم بيد بعض وفيمن عني بهذه الآية ثلاثة
أقوال
أحدها أنها في المسلمين أهل الصلاة هذا مذهب ابن عباس وابي العالية وقتادة وقال
أبي بن كعب في هذه الآية هن أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت
اثنتان قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعا وأذيق
بعضهم بأس بعض وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم
والثاني
أن العذاب للمشركين وباقي الآية للمسلمين قاله الحسن وقد روي عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا
يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم فأعطانيها وسألته إن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح
بيضتكم فأعطانيها وسألته أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها
والثالث أنها تهدد للمشركين قاله ابن جرير الطبري وأبو سليمان الدمشقي
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل
قوله تعالى وكذب به قومك في هاء به ثلاثة أقوال
أحدها أنها كناية عن القرآن والثاني عن تصريف الآيات والثالث عن العذاب
قوله
تعالى قل لست عليكم بوكيل فيه قولان
أحدهما لست حفيظا على أعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر قاله الحسن
والثاني لست حفيظا عليكم أخذكم بالإيمان إنما أدعوكم إلى الله قاله الزجاج
فصل
وفي هذا القدر من الآية قولان
أحدهما أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة ثم نسخ ذلك بآية
السيف
والثاني أن معناه لست حفيظا عليكم إنما أطالبكم بالظواهر من الإقرار والعمل لا
بالإسرار فعلى هذا هو محكم
لكل نبا مستقر وسوف تعلمون
قوله تعالى لكل نبأ مستقر أي لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا
تأخير قال السدي فاستقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر وقال مقاتل
منه في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة جهنم
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك
الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين
قوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها
المشركون والثاني اليهود والثالث أصحاب الأهواء والآيات القرآن وخوض المشركين فيه
تكذيبهم به واستهزاؤهم ويقاربه خوض اليهود وخوض أهل الأهواء بالمراء والخصومات
قوله تعالى فأعرض عنهم أي فاترك مجالستهم حتى يكون خوضهم في غير القرآن وإما
ينسينك وقرأ ابن عامر ينسينك بفتح النون وتشديد السين والنون الثانية ومثل هذا
غرمته وأغرمته وفي التنزيل فمهل الكافرين أمهلهم والمعنى إذا أنساك الشيطان فقعدت
معهم ناسيا نهينا لك فلا تقعد بعد الذكرى والذكر والذكرى واحد قال ابن عباس قم إذا
ذكرته والظالمون المشركون
وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون
قوله تعالى وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن المسلمين قالوا لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن
وخاضوا فيه فمنعناهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت فنزلت
هذه الآية
والثاني أن المسلمين قالوا إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض فنزلت هذه الآية
والثالث أن المسلمين قالوا لو قمنا عنهم إذا خاضوا فانا نخشى الإثم في مجالستهم
فنزلت هذه الآية هذا عن مقاتل والأولان عن ابن عباس
قوله
تعالى وما على الذين يتقون فيه قولان
أحدهما يتقون الشرك والثاني يتقون الخوض
قوله تعالى من حسابهم يعني حساب الخائضين وفي حسابهم قولان
أحدهما أنه كفرهم وآثامهم والثاني عقوبة خوضهم
قوله تعالى ولكن ذكرى أي ولكن عليكم أن تذكروهم وفيما تذكرونهم به قولان
أحدهما المواعظ والثاني قيامكم عنهم قال مقاتل إذا قمتم عنهم منعهم من الخوض
الحياء منكم والرغبة في مجالستكم
قوله تعالى لعلهم يتقون فيه قولان
أحدهما يتقون الاستهزاء والثاني يتقون الوعيد
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار
على تذكيرهم ثم نسخت بقوله وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر
بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم والصحيح أنها محكمة لأنها خبر وإنما دلت على أن
كل عبد يختص بحساب نفسه ولا يلزمه حساب غيره
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيواة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما
كسبت ليس لها من دون
الله
ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب
من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون
قوله تعالى وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا فيهم قولان
أحدهما أنها الكفار والثاني اليهود والنصارى
وفي اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا ثلاثة اقوال أحدها أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا
سمعوها
والثاني أنهم دانوا بما اشتهوا كما يلهون بما يشتهون
والثالث أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتهوا كما يلهون إذا اشتهوا قال الفراء ويقال
إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد فهم يلهون في أعيادهم إلا أمة محمد صلى الله عليه و
سلم فان أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير
فصل
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية قولان
أحدهما أنه خرج مخرج التهديد كقوله ذرني ومن خلقت وحيدا فعلى هذا هو محكم وإلى هذا
المعنى ذهب مجاهد
والثاني أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم ثم نسخ بآية السيف وإلى هذا ذهب
قتادة والسدي
قوله تعالى وذكر به أي عظ بالقرآن وفي قوله أن تبسل قولان
أحدهما
لئلا تبسل نفس كقوله أن تضلوا
والثاني ذكرهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلهم يخافون
وفي معنى تبسل سبعة اقوال
أحدها تسلم رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد والسدي وقال ابن قتيبة
تسلم إلى الهلكة قال الشاعر ... وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق ...
أي بغير جرم أجرمناه والبعو الجناية وقال الزجاج تسلم بعملها غير قادرة على التخلص
والمستبسل المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص
والثاني تفضح رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثالث تدفع رواه الضحاك عن ابن عباس
والرابع تهلك روي عن ابن عباس أيضا والخامس تحبس وتؤخذ قاله قتادة وابن زيد
والسادس تجزي قاله ابن السائب والكسائي والسابع ترتهن قاله الفراء وقال أبو عبيدة
ترتهن وتسلم وأنشد ... هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر
سمير
الليالي أبد الليالي فأما الولي فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله والعدل
الفداء قال ابن زيد وإن تفتد كل فداء لا يقبل منها فأما الحميم فهو الماء الحار
قال ابن قتيبة ومنه سمي الحمام
قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله
كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدي
الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلواة واتقوه وهو الذي إليه
تحشرون
قوله تعالى قل أندعوا من دون الله أي أنعبد مالا يضرنا إن لم نعبده ولا ينفعنا إن
عبدناه وهي الأصنام ونرد على أعقابنا أي نرجع إلى الكفر بعد إذ هدانا الله إلى
الإسلام فنكون كالذي استهوته الشياطين وقرأ حمزة استهواه الشياطين على قياس قراءته
توفاه رسلنا وفي معنى استهوائها قولان
أحدهما أنها هوت به وذهبت قاله ابن قتيبة وقال أبو عبيدة تشبه له الشياطين فيتبعها
حتى تهوي به في الأرض فتضله
والثاني زينت له هواه قاله الزجاج قال وحيران منصوب على الحال أي استهوته في حال
حيرته قال السدي قال المشركون للمسلمين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فقال تعالى
قل أندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله
فنكون كرجل كان مع قوم
على
طريق فضل فخيرته الشياطين وأصحابه على الطريق يدعونه يا فلان هلم إلينا فانا على
الطريق فيأبى وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق دعاه
أبوه وأمه إلى الإسلام فأبى قال مقاتل والمراد بأصحابه أبواه
قوله تعالى قل إن هدى الله هو الهدى هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام وزجر عن
إجابته كأنه قيل له لا تفعل ذلك لأن هدى الله هو الهدى لا هدى غيره
قوله تعالى وأمرنا لنسلم قال الزجاج العرب تقول أمرتك أن تفعل وأمرتك لتفعل وأمرتك
بأن تفعل فمن قال بأن فالباء للالصاق والمعنى وقع الأمر بهذا الفعل ومن قال أن
تفعل فعلى خذف الباء ومن قال لتفعل فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر قال وفي
قوله وأن أقيموا الصلاة وجهان
أحدهما أمرنا لأن نسلم ولأن نقيم الصلاة
والثاني أن يكون محمولا على المعنى لأن المعنى أمرنا بالإسلام وباقامة الصلاة
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم
ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير
قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق فيه أربعة أقوال
أحدها خلقهما للحق والثاني خلقهما حقا والثالث خلقهما بكلامه وهو الحق والرابع
خلقهما بالحكمة
قوله
تعالى ويوم يقول كن فيكون قال الزجاج الأجود أن يكون منصوبا على معنى واذكر يوم
يقول كن فيكون لأن بعدع وإذ قال إبراهيم فالمعنى واذكر هذا وهذا وفي الذي يقول له
كن فيكون ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم القيامة قاله مقاتل والثاني ما يكون في القيامة
والثالث أنه الصور وما ذكر من أمر الصور يدل عليه قالهما الزجاج قال وخص ذلك اليوم
بسرعة إيجاد الشيء ليدل على سرعة أمر البعث
قوله تعالى قوله الحق أي الصدق الكائن لا محالة وله الملك يوم ينفخ في الصور وروى
إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو ننفخ بنونين ومعنى الكلام أن الملوك يومئذ لا
ملك لهم فهو المنفرد بالملك وحده كما قال والأمر يومئذ لله وفي الصور قولان
أحدهما أنه قرن ينفخ فيه روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى
الله عليه و سلم عن الصور فقال هو قرن ينفخ فيه وقال مجاهد الصور كهيأة البوق وحكى
ابن قتيبة أن الصور القرن في لغة قوم من أهل اليمن وأنشد ... نحن نطحناهم غداة
الجمعين ... بالضابحات في غبار النقعين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وأنشد
الفراء ... لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم ... ولا خراسان حتى ينفخ الصور ...
وهذا اختيار الجمهور
والثاني أن الصور جمع صورة يقال صورة وصور بمنزلة سورة وسور كسورة البناء والمراد
نفخ الأرواح في صورة الناس قاله قتادة وأبو عبيدة وكذلك قرأ الحسن ومعاذ القارئ
وأبو مجلز وأبو المتوكل في الصور بفتح الواو قال ثعلب الأجود أن يكون الصور القرن
لأنه قال عز و جل ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ثم قال ثم نفخ
فيه أخرى ولو كان الصور كان ثم نفخ فيها أو فيهن وهذا يدل على أنه واحد وظاهر
القرآن يشهد أنه ينفخ في الصور مرتين وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول
الله صلى الله عليه و سلم أنه قال الصور قرن ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة
الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيامة لرب العالمين قال ابن عباس وهذه
النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى يعني نفخة الصعق
قوله
تعالى عالم الغيب وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه والشهادة وهو ما شاهدوه
ورأوه وقال الحسن يعني بذلك السر والعلانية
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين
قوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر في آزر أربعة أقوال
أحدها أنه أسم أبيه روي عن ابن عباس والحسن والسدي وابن إسحاق
والثاني
أنه اسم صنم فأما اسم أبي إبراهيم فتارح قاله مجاهد فيكون المعنى أتتخذ آزر اصناما
فكأنه جعل أصناما بدلا من آزر والاستفهام معناه الإنكار
والثالث أنه ليس باسم إنما هو سب بعيب وفي معناه قولان أحدهما أنه المعوج كأنه
عابه نريغه وتعويجه عن الحق ذكره الفراء والثاني أنه المخطئ فكأنه قال يا مخطئ
أتتخذ أصناما ذكره الزجاج
والرابع أنه لقب لأبيه وليس باسمه قاله مقاتل بن حيان قال ابن الانباري قد يغلب
على اسم الرجل لقبه حتى يكون به أشهر منه باسمه والجمهور على قراءة آزر بالنصب
وقرأ الحسن ويعقوب بالرفع قال الزجاج من نصب فموضع آزر خفض بدلا من أبيه ومن رفع
فعلى النداء
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين
قوله تعالى وكذلك نري إبراهيم أي وكما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه
نريه ملكوت السموات والأرض وقيل نري بمعنى أرينا قال الزجاج والملكوت بمنزلة الملك
إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة ومثل الملكوت الرغبوت
والرهبوت قال مجاهد ملكوت السموات والأرض آياتها تفرجت له السموات السبع حتى العرش
فنظر فيهن وتفرجت به الأرضون السبع فنظر فيهن وقال قتادة ملكوت السموات الشمس
والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار وقال السدي أقيم على صخرة
وفتحت له السموات والأرض فنظر إلى ملك الله عز و جل حتى نظر إلى العرش وإلى منزله
من الجنة وفتحت له الأرضون السبع حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون
قوله
تعالى وليكون من الموقنين هذا عطف على المعنى لأن معنى الآية نريه ملكوت السموات
والأرض ليستدل به وليكون من الموقنين وفي ما يوقن به ثلاثة أقوال
أحدها وحدانية الله وقدرته والثاني نبوته ورسالته والثالث ليكون موقنا بعلم كل شيء
حسا لا خبرا
فلما جن عليه الليل رأ كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين
قوله تعالى فلما جن عليه الله قال الزجاج يقال جن عليه الليل وأجنه الليل إذا أظلم
حتى يستر بظلمته ويقال لكل ما ستر جن وأجن والاختيار أن يقال جن عليه الليل وأجنه
الليل
الإشارة إلى بدء قصة إبراهيم عليه السلام
روى أبو صالح عن ابن عباس قال ولد إبراهيم في زمن نمروذ وكان لنمروذ كهان فقالوا
له يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض ويدعوهم إلى غير دينهم ويكون هلاك
أهل بيتك على يده فعزل النساء عن الرجال ودخل آزر إلى بيته فوقع على زوجته فحملت
فقال الكهان لنمروذ إن الغلام قد حمل به الليلة فقال كل من ولدت غلاما فاقتلوه
فلما أخذ أم إبراهيم المخاض خرجت هاربة فوضعته في نهر يابس ولفته في خرقة ثم وضعته
في حلفاء وأخبرت به أباه فأتاه فحفر له سربا وسد عليه بصخرة
وكانت
أمه تختلف إليه فترضعه حتى شب وتكلم فقال لأمه من ربي فقالت أنا قال فمن ربك قالت
أبوك قال فمن رب أبي قالت اسكت فسكت فرجعت إلى زوجها فقالت إن الغلام الذي كنا
نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض ابنك فأتاه فقال له مثل ذلك فلما جن عليه الليل دنا
من باب السرب فنظر فرأى كوكبا قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم رأى بفتح الراء والهمزة
وقرأ أبو عمرو رإى بفتح الراء وكسر الهمزة وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر
عن عاصم رإى بكسر الراء والهمزة واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن وهو آت في ستة مواضع
رأى القمر فلما رأى الشمس وفي النحل وإذا رأى الذين ظلموا وإذا رأى الذين أشركوا
وفي الكهف ورأى المجرمون النار وفي الأحزاب ولما رأى المؤمنون وقرأ أبو بكر عن
عاصم وحمزة إلا العبسي وخلف في اختياره بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل وروى
العبسي كسرة الهمزة أيضا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي بفتح
الراء والهمزة فان اتصل ذلك بمكنى نحو رآك ورآه ورآها فان حمزة والكسائي وخلف
والوليد عن ابن عامر والمفضل وأبان والقزاز عن عبد الوارث والكسائي عن أبي بكر
يكسرون الراء ويميلون الهمزة
وفي الكوكب الذي رآه قولان
أحدهما أنه الزهرة قاله ابن عباس وقتادة والثاني المشتري قاله مجاهد والسدي
قوله تعالى قال هذا ربي فيه ثلاثة أقوال
أحدها
أنه على ظاهره روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال هذا ربي فعبده حتى غاب وعبد
القمر حتى غاب وعبد الشمس حتى غابت واحتج أرباب هذا القول بقوله لئن لم يهدني ربي
وهذا يدل على نوع تحيير قالوا وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه
قبل أن يثبت عنده دليل وهذا القول لا يرتضى والمتأهلون للنبوة محفوظون من مثل هذا
على كل حال
فأما قوله لئن لم يهدني ربي فما زال الأنبياء يسألون الهدى ويتضرعون في دفع الضلال
عنهم كقوله واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ولأنه قد آتاه رشده من قبل وأراه ملكوت
السموات والأرض ليكون موقنا فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التخيير
والثاني أنه قال ذلك استدراجا للحجة ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها ولا بد
أن يضمر في نفسه إما على زعمكم أو فيما تظنون فيكون كقوله اين شركائي وإما أن يضمر
يقولون فيكون كقوله ربنا تقبل منا أي يقولان ذلك ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري
ويكون مراده استدراج الحجة عليهم كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما
فأظهر تعظيمه فأكرموه وصدروا عن رأيه فدهمهم عدو فشاورهم ملكهم فقال ندعو إلهنا
ليكشف ما بنا فاجتمعوا يدعونه فلم ينفع فقال هاهنا إله ندعوه فيستجيب فدعوا الله
فصرف عنهم ما يحذرون وأسلموا
والثالث أنه قال مستفهما تقديره أهذا ربي فأضمرت ألف الاستفهام كقوله أفان مت فهم
الخالدون أي أفهم الخالدون قال الشاعر
كذبتك
عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا ...
أراد أكذبتك قال ابن الأنباري وهذا القول شاذ لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان
فارقا بين الإخبار والاستخبار وظاهر قوله هذا ربي أنه إشارة إلى الصانع وقال الزجاج
كانوا أصحاب نجوم فقال هذا ربي أي هذا الذي يدبرني فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون
أنه مدبر لا نرى فيه إلا أثر مدبر وأفل بمعنى غاب يقال أفل النجم يأفل ويأفل أفولا
قوله تعالى لا أحب الآفلين أي حب رب معبود لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبرا
فلما رأ القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم
الضالين فلما رأ الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء
مما تشركون
قوله تعالى فلما رأى القمر قال ابن قتيبة سمي القمر قمرا لبياضه والأقمر الأبيض
وليلة قمراء أي مضيئة فأما البازغ فهو الطالع ومعنى لئن لم يهدني لئن لم يثبتني
على الهدى فان قيل لم قال في الشمس هذا ولم يقل هذه فعنه أربعة أجوبه
أحدها أنه رأى ضوء الشمس لا عينها قاله محمد بن مقاتل والثاني
أنه
أراد هذا الطالع ربي قاله الأخفش والثالث أن الشمس بمعنى الضياء والنور فحمل
الكلام على المعنى والرابع أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث وإنما
يشبه لفظها لفظ المذكر فجاز تذكيرها ذكره والذي قبله ابن الانباري
إني وجهت وجهي للذي فكر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين
وحآجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي
شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون
قوله تعالى إني وجهت وجهي قال الزجاج جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين
عز و جل وباقي الآية قد تقدم
وقوله تعالى وحاجه قومه قال ابن عباس جادلوه في آلهتهم وخوفوه بها فقال منكرا عليهم
أتحاجوني قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي أتحاجوني و تأمروني بتشديد النون
وقرأ نافع وابن عامر بتخفيفها فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين ومعنى أتحاجوني
في الله أي في توحيده وقد هدان أي بين لي ما به اهتديت وقرأ الكسائي هداني بامالة
الدال والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء وهذا من هدي يهدي
قوله تعالى ولا أخاف ما تشركون به أي لا أرهب آلهتكم وذلك أنهم قالوا نخاف أن تمسك
آلهتنا بسوء فقال لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع إلا أن يشاء ربي شيئا فله أخاف
وسع ربي كل شيء علما أي علمه علما تاما
وكيف
أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي
الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك
لهم الأمن وهم مهتدون
قوله تعالى وكيف أخاف ما أشركتم أي من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا
تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم وهو قادر على ضركم ونفعكم مالم
ينزل به عليكم سلطانا أي حجة فأي الفريقين أحق بالأمن أي بأن يأمن العذاب الموحد
الذي يعبد من بيده الضر والنفع أم المشرك الذي يعبد مالا يضر ولا ينفع ثم بين
الأحق من هو بقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي يخلطوه بشرك روى
البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على
المسلمين فقالوا يا رسول الله وأينا ذلك فقال إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال
لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم
وفيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنه إبراهيم وأصحابه وليست في هذه الأمة قاله علي بن أبي طالب وقال في رواية
أخرى هذه الآية لإبراهيم خاصة ليس لهذه الأمة منها شيء
والثاني أنه من هاجر إلى المدينة قاله عكرمة
والثالث أنها عامة ذكره بعض المفسرين وهل هي من قول ابراهيم لقومه أم جواب من الله
تعالى فيه قولان
وتلك
حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم
قوله تعالى وتلك حجتنا يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب
والقمر والشمس وعيبهم إذ سووا بين الصغير والكبير وعبدوا من لا ينطق وإلزامه إياهم
الحجة آتيناها ابراهيم أرشدناه إليها بالإلهام وقال مجاهد الحجة قول ابراهيم فأي
الفريقين أحق بالأمن
قوله تعالى نرفع درجات من نشاء قرأ ابن كثير ونافع وابن عمرو وابن عامر درجات من
نشاء مضافا وقرأ عاصم وحمزة والكسائي درجات منونا وكذلك قرؤوا في يوسف ثم في
المعنى قولان
أحدهما أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة والثاني بالاصطفاء للرسالة
قوله تعالى إن ربك حكيم قال ابن جرير حكيم في سياسة خلقه وتلقينه أنبياءه الحج على
أممهم المكذبة عليم بما يؤول إليه أمر الكل
ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب
ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين
وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم
واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم
قوله تعالى ووهبنا له إسحاق ولدا لصلبه ويعقوب ولدا لإسحاق كلا من هولاء المذكورين
هدينا أي أرشدنا
قوله
تعالى ومن ذريته في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى نوح رواه أبو صالح عن ابن عباس واختاره الفرا ومقاتل وابن
جرير الطبري
والثاني إلى إبراهيم قاله عطاء وقال الزجاج كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعا قد
جرى واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى ذكر في سياق الآيات لوطا وليس من
ذرية إبراهيم وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد ووهبنا له
لوطا في المعاضدة والنصرة ثم قوله وكذلك نجزي المحسنين من أبين دليل على انه
إبراهيم لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم فأما يوسف فهو اسم
أعجمي قال الفراء يوسف بضم السين من غير همز لغة أهل الحجاز وبعض بني أسد يقول
يؤسف بالهمز وبعض العرب يقول يوسف بكسر السين وبعض بني عقيل يقول يوسف بفتح السين
قوله تعالى وكذلك نجزي المحسنين أي كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه
بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء كذلك نجزي المحسنين فأما عيسى
وإلياس واليسع ولوطا فأسماء أعجمية وجمهور القراء يقرؤون اليسع بلام واحدة مخففا
منهم ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وقرأ حمزة والكسائي هاهنا وفي صلى
الله عليه و سلم إلليسع بلامين مع التشديد قال الفراء وهي أشبه بالصواب وبأسماء
الأنبياء من بني إسرائيل ولأن العرب لا تدخل على يفعل إذا كان في معنى فلان ألفا
ولاما يقولون
هذا
يسع قد جاء وهذا يعمر وهذا يزيد فهكذا الفصيح من الكلام وأنشدني بعضهم
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأحناء الخلافة كاهله فلما ذكر الوليد بالألف
واللام أتبعه يزيد بالألف واللام وكل صواب وقال مكي من قرأه بلام واحدة فالأصل
عنده يسع ومن قرأه بلامين فالأصل عنده ليسع فأدخلوا عليه حرف التعريف وباقي أسماء
الأنبياء قد تقدم بيانها والمراد بالعالمين عالمو زمانهم
قوله تعالى ومن آبائهم وذرياتهم من هاهنا للتبعيض قال الزجاج المعنى هدينا هؤلاء
وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم واجتبيناهم مثل اخترناهم واصطفيناهم وهو مأخوذ من جبيت
الشيء إذا أخلصته لنفسك وجبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه فأما الصراط المستقيم
فهو التوحيد
ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون
قوله تعالى ذلك هدى الله قال ابن عباس ذلك دين الله الذي هم عليه يهدي به من يشاء
من عباده ولو اشركوا يعني الأنبياء المذكورين لحبط أي لبطل وزال عملهم لأنه لا يقبل
عمل مشرك
أولئك
الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا
بها بكافرين
قوله تعالى أولئك الذين آتيناهم الكتاب يعني الكتب التي أنزلها عليهم والحكم الفقه
والعلم فان يكفر بها يعني بآياتنا
وفيمن أشير إليه ب هؤلاء ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أهل مكة قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة
والثاني أنهم قريش قاله السدي والثالث أمة النبي صلى الله عليه و سلم قاله الحسن
قوله تعالى فقد وكلنا بها قال أبو عبيدة فقد رزقناها قوما وقال الزجاج وكلنا
بالإيمان بها قوما وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال
أحدها أنهم أهل المدينة من الأنصار قاله ابن عباس وابن المسيب وقتادة والسدي
والثاني الأنبياء والصالحون قاله الحسن وقال قتادة هم النبيون الثمانية عشر
المذكورون في هذا المكان وهذا اختيار الزجاج وابن جرير
والثالث أنهم الملائكة قاله أبو رجاء والرابع أنهم المهاجرون والأنصار
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى
للعالمين
قوله تعالى أولئك الذين هدى الله يعني النبيين المذكورين
وفي قوله تعالى فبهداهم اقتده قولان
أحدهما بشرائعهم وبسننهم فاعمل قاله ابن السائب
والثاني
اقتد بهم في صبرهم قاله الزجاج وكان ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعامص يثبتون الهاء
من قوله اقتده في الوصل ساكنة وكان حمزة وخلف ويعقوب والكسائي عن أبي بكر واليزيدي
في اختياره يحذفون الهاء في الوصل ولا خلاف في إثباتها في الوقف وإسكانها فيه
قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا يعني على القرآن والذكرى العظة والعالمون هاهنا
الجن والإنس
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب
الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم
مالم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره في سبب نزولها سبعة اقوال
أحدها أن مالك بن الصيف رأس اليهود أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أتجد
فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال نعم قال فأنت الحبر السمين فغضب ثم قال ما
أنزل الله على بشر من شيء فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال
سعيد بن جبير وعكرمة نزلت في مالك بن الصيف
والثاني أن اليهود قالوا يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا والله ما
أنزل الله من السماء كتابا فنزلت هذه الآية رواه الوالبي عن ابن عباس
والثالث أن اليهود قالوا يا محمد إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله فائتنا
بآية كما جاء موسى فنزل يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا
من
السماء إلى قوله عظيما فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة قالوا والله ما أنزل الله عليك
ولا على موسى وعيسى ولا على بشر من شيء فنزلت هذه الآية قاله محمد بن كعب
والرابع أنها نزلت في اليهود والنصارى آتاهم الله علما فلم ينتفعوا به قاله قتادة
والخامس أنها نزلت في فنحاص اليهودي وهو الذي قال ما أنزل الله على بشر من شيء
قاله السدي
والسادس أنها نزلت في مشركي قريش قالوا والله ما أنزل الله على بشر من شيء رواه
ابن أبي نجيح عن مجاهد
والسابع أن أولها إلى قوله من شيء في مشركي قريش وقوله من أنزل الكتاب الذي جاء به
موسى في اليهود رواه ابن كثير عن مجاهد وفي معنى وما قدروا الله حق قدره ثلاثة
أقوال
أحدها ما عظموا الله حق عظمته قاله ابن عباس والحسن والفراء وثعلب والزجاج
والثاني ما وصفه حق وصفته قاله أبو العالية واختاره الخليل
والثالث ما عرفوه حق معرفته قاله أبو عبيدة
قوله
تعالى يجعلونه قراطيس معناه يكتبونه في قراطيس وقيل إنما قال قراطيس لأنهم كانوا
يكتبونه في قراطيس مقطعة حتى لا تكون مجموهة ليخفوا منها ما شاؤوا
قوله تعالى يبدونها قرأ ابن كثير وأبو عمرو يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون بالياء
فيهن وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء فيهن فمن قرأ بالياء فلأن
القوم غيب بدليل قوله وما قدروا الله حق قدره ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب والمعنى
تبدون منها ما تحبون وتخفون كثيرا مثل صفة محمد صلى الله عليه و سلم وآية الرجم
ونحو ذلك مما كتموه
قوله تعالى وعلمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم في المخاطب بهذا قولان
أحدهما أنهم اليهود قاله الجمهور
والثاني أنه خطاب للمسلمين قاله مجاهد فعلى الأول علموا ما في التوراة وعلى الثاني
علموا على لسان محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى قل الله هذا جواب لقوله من أنزل الكتاب وتقديره فإن أجابوك وإلا فقل
الله أنزله
قوله تعالى ثم ذرهم تهديد وخوضهم باطلهم وقيل إن هذا أمر بالإعراض عنهم ثم نسخ
بآية السيف
قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه يعني القرآن قال الزجاج والمبارك الذي يأتي من قبله
الخير الكثير والمعنى أنزلناه للبركة والإنذار
وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين
يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون
قوله
تعالى مصدق الذي بين يديه من الكتب
قوله تعالى ولتنذر أم القرى قرأ عاصم إلا حفصا ولينذر بالياء فيكون الكتاب هو
المنذر وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم فأما أم القرى
فهي مكة قال الزجاج والمعنى لتنذر أهل أم القرى
وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال
أحدها أنها سميت بذلك لأن الأرض دحيت من تحتها قاله ابن عباس
والثاني لأنها أقدمها قاله ابن قتيبة والثالث لأنها قبلة جميع الناس يؤمونها
والرابع لأنها كانت أعظم القرى شأنا ذكرهما الزجاج
قوله تعالى ومن حولها قال ابن عباس يريد الأرض كلها
قوله تعالى والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به في هاء الكناية قولان أحدهما أنها
ترجع إلى القرآن
والثاني إلى النبي محمد صلى الله عليه و سلم والمعنى من آمن بالآخرة آمن به ومن لم
يؤمن به فليس إيمانه بالآخرة حقيقة ولا يعتد به ألا ترى إلى قوله وهم على صلاتهم
يحافظون فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل
مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم
أخرجوا أنفسكم اليوم تجوزن عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن
آياته تستكبرون
قوله تعالى ون أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي اختلفوا فيمن نزلت
على ثلاثة أقوال
أحدها
أن أولها إلى قوله ولم يوح إليه شيء نزل في مسيلمة الكذاب
وقوله تعالى ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح
كان قد تكلم بالإسلام وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض الأحايين
فاذا أملي عليه عزيز حكيم كتب غفور رحيم فيقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم هذا
وذاك سواء فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين أملاها عليه فلما انتهى
إلى قوله خلقا آخر عجب عبد الله بن سعد فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم كذا أنزلت علي فاكتبها فشك حينئذ وقال لئن كان محمد
صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال رواه أبو صالح
عن ابن عباس قال عكرمة ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة
والقول الثاني أن جميع الآية في عبد الله بن سعد قاله السدي
والثالث أنها نزلت في مسيلمة والأسود العنسي قاله قتادة فان قيل كيف أفرد قوله أو
قال أوحي إلي من قوله ومن أظلم ممن افترى وذاك مفتر أيضا فعنه جوابان
أحدهما أن الوصفين لرجل واحد وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته
والثاني أنه خص بقوله أو قال أوحي إلي بعد أن عم بقوله افترى على الله لأنه ليس كل
مفتر على الله يدعي أنه يوحي إليه ذكرهما ابن الأنباري
قوله تعالى سأنزل مثل ما أنزل الله أي سأقول قال ابن عباس يعنون الشعر وهم
المستهزؤون وقيل هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح قال الزجاج وهذا جواب لقولهم
لو نشاء لقلنا مثل هذا
قوله
تعالى ولو ترى إذ الظالمون فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر فلما أبصروا
قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رجعوا عن الإيمان فنزل فيهم هذا قاله أبو
صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم الذين قالوا ما أنزل على بشر من شيء قاله أبو سليمان
والثالث الموصوفون في هذه الآية وهم المفترون والمدعون الوحي إليهم ومماثلة كلام
الله قال الزجاج وجواب لو محذوف والمعنى لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذابا
عظيما ويقال لكل من كان في شيء كبير قد غمر فلانا ذلك قال ابن عباس غمرات الموت
سكراته قاله ابن الانباري قال اللغويون سميت غمرات لأن أهوالها يغمرن من يقعن به
قوله تعالى والملائكة باسطو أيديهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها بالضرب قاله ابن عباس والثاني بالعذاب قاله الحسن والضحاك والثالث باسطوها
لقبض الأرواح من الأجساد قاله الفراء وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال
أحدها عند الموت قال ابن عباس هذا عند الموت الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وملك
الموت يتوفاهم
والثاني يوم القيامة رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث في النار قاله الحسن
قوله تعالى أخرجوا أنفسكم فيه إضمار يقولون وفي معناه قولان
أحدهما استسلموا لإخراج أنفسكم
والثاني
أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم
قوله تعالى تجزون عذاب الهون قال أبو عبيدة الهون مضمون وهو الهوان وإذا فتحوا
أوله فهو الرفق والدعة قال الزجاج والمعنى تجزون العذاب الذي يقعد به الهوان
الشديد
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى
معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركأ لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون
قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى سبب نزولها أن النضر بن الحارث قال سوف تشفع لي
اللات والعزى فنزلت هذه الآية قاله عكرمة ومعنى فرادى وحدانا وهذا إخبار من الله
تعالى بما يوبخ به المشركين يوم القيامة قال أبو عبيدة فرادى أي فرد فرد وقال ابن
قتيبة فرادى جمع فرد
وللمفسرين في معنى فرادى خمسة اقوال متقاربة المعنى
أحدها فرادى من الأهل والمال والولد قاله ابن عباس والثاني كل واحد على حدة قاله
الحسن والثالث ليس معكم من الدنيا شيء قاله مقاتل والرابع كل واحد منفرد عن شريكه
في الغي وشقيقه قاله الزجاج والخامس فرادى من المعبودين قاله ابن كيسان
قوله تعالى كما خلقناكم أول مرة فيه ثلاثة اقوال
أحدها لا مال ولا أهل ولا ولد والثاني حفاة عراة غرلا والغرل القلف والثالث أحياء
وخولناكم بمعنى ملكناكم وراء ظهوركم أي
في
الدنيا والمعنى أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني وبقي الندم على سوء الاختيار
وفي شفعائهم قولان
أحدهما أنها الأصنام قال ابن عباس شفعاؤكم أي آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم
و زعمتم أنهم فيكم أي عندكم شركاء وقال ابن قتيبة زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء
والثاني أنها الملائكة كانوا يعتقدون شفاعتها قاله مقاتل
قوله تعالى لقد تقطع بينكم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر عن
عاصم بالرفع والكسائي وحفص عن عاصم بنصب النون على الظرف قال الزجاج الرفع أجود
ومعناه لقد تقطع وصلكم والنصب جائز ومعناه لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم
وقال ابن الانباري التقدير لقد تقطع ما بينكم فحذف ما لوضوح معناها قال أبو علي
الذين رفعوه جعلوه اسما فأسندوا الفعل الذي هو تقطع إليه والمعنى لقد تقطع وصلكم
والذين نصبوا أضمروا اسم الفاعل في الفعل والمضمر هو الوصل فالتقدير لقد تقطع
وصلكم بينكم وفي الذي كانوا يزعمون قولان
أحدهما شفاعة آلهتهم والثاني عدم البعث والجزاء
إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى
تؤفكون
قوله تعالى إن الله فالق الحب والنوى في معنى الفلق قولان
أحدهما أنه بمعنى الخلق فالمعنى خالق الحب والنوى رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال
الضحاك ومقاتل
والثاني
أن الفلق بمعنى الشق ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما أنه فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة روى هذا المعنى أبو صالح عن
ابن عباس وبه قال الحسن والسدي وابن زيد
والثاني أنه الشقان اللذان في الحب والنوى قاله مجاهد وأبو مالك قال ابن السائب
الحب ما لم يكن له نوى كالبر والشعير والنوى مثل نوى التمر
قوله تعالى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي قد سبق تفسير في ال عمران
قوله تعالى فأنى تؤفكون أي كيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم
قوله تعالى فالق الإصباح في معنى الفلق قولان قد سبقا فأما الإصباح فقال الأخفش هو
مصدر من أصبح وقال الزجاج الإصباح والصبح واحد
وللمفسرين في الإصباح ثلاثة أقوال
أحدها أنه ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه إضاءة الفجر قاله مجاهد وقال ابن زيد فلق الإصباح من الليل
والثالث أنه نور النهار قاله الضحاك وقرأ أنس بن ماله والحسن وأبو مجلز وأيوب
والجحدري فالق الأصباح بفتح الهمزة قال أبو عبيد ومعناه جمع صبح
قوله
تعالى وجاعل الليل سكنا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر جاعل بألف وقرأ
عاصم وحمزة والكسائي وجعل بغير ألف الليل نصبا قال أبو علي من قرأ جاعل فلأجل فالق
وهم يراعون المشاكلة ومن قرأ جعل فلأن فاعلا هاهنا بمعنى فعل بدليل قوله والشمس
والقمر حسبانا فأما السكن فهو ما سكنت إليه والمعنى أن الناس يسكنون فيه سكون راحة
وفي الحسبان قولان
أحدهما أنه الحساب قاله الجمهور قال ابن قتيبة يقال خذ من كل شيء بحسبانه أي
بحسابه وفي المراد بهذا الحساب ثلاثة أقوال أحدها أنهما يجريان إلى أجل جعل لهما
رواه العوفي عن ابن عباس والثاني يجريان في منازلهما بحساب ويرجعان إلى زيادة
ونقصان قاله السدي والثالث أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور والأعوام قاله
مقاتل
والقول الثاني أن معنى الحسبان الضياء قاله قتادة قال الماوردي كأنه أخذه من قوله
تعالى ويرسل عليها حسبانا من السماء أي نارا قال ابن جرير وليس هذا من ذاك في شيء
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم
يعلمون
قوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم جعل بمعنى خلق وإنما امتن عليهم بالنجوم لأن
سالكي القفاء وراكبي البحار إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها
وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون
قوله
تعالى وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يعني آدم فمستقر قرأ ابن كثير وأبو عمرو
ويعقوب إلا رويسا بكسر القاف وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بفتحها قال
الزجاج من كسر فالمعنى فمنكم مستقر ومن نصب فالمعنى فلكم مستقر فأما مستودع
فبالفتح لا غير ومعناه على فتح القاف ولكم مستودع وعلى كسر القاف منكم مستودع
وللمفسرين في هذا المستقر والمستودع تسعة أقوال
أحدها فمستقر في الأرحام ومستودع في الأصلاب رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد
بن جبير ومجاهد وعطاء والضحاك والنخعي وقتادة والسدي وابن زيد
والثاني المستقر في الأرحام والمستودع في القبر قاله ابن مسعود
والثالث المستقر في الأرض والمستودع في الأصلاب رواه ابن جبير عن ابن عباس
والرابع المستقر والمستودع في الرحم رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس
والخامس المستقر حيث يأوي والمستودع حيث يموت رواه مقسم عن ابن عباس
والسادس المستقر في الدنيا والمستودع في القبر
والسابع المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وهو عكس الذي قبله رويا عن الحسن
والثامن المستقر في الدنيا والمستودع عند الله تعالى قاله مجاهد
والتاسع المستقر في الأصلاب والمستودع في الأرحام قاله ابن بحر وهو عكس الأول
وهو
الذي أنزل من السماء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا
متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها
وغير متشابه أنظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون
قوله تعالى وهو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر فأخرجنا به أي بالمطر وفي قوله
تعالى نبات كل شيء قولان
أحدهما نبات كل شيء من الثمار لأن كل ما ينبت فنباته بالماء
والثاني رزق كل شيء غذاؤه وفي قوله تعالى فأخرجنا منه قولان أحدهما من الماء أي به
والثاني من النبات قال الزجاج الخضر بمعنى الأخضر يقال أخضر فهو أخضر وخضر مثل
أعور فهو أعور وعور
قوله تعالى نخرج منه أي من الخضر حبا متراكما كالسنبل والشعير والمتراكب الذي بعضه
فوق بعض
قوله تعالى ومن النخل من طلعها قنوان دانية وروى الخفاف عن أبي عمرو قنوان بضم
القاف وروى هارون عنه بفتحها قال الفراء معناه ومن النخل ما قنوانه دانية وأهل
الحجاز يقولون قنوان بكسر القاف وقيس يضمونها وضبة وتميم يقولون قنيان وأنشدني
المفضل عنهم ... فأثت أعاليه وآدت أصوله ... ومال بقنيان من البسر أحمرا
ويجتمعون
جميعا فيقولون قنو وقنو ولا يقولون قني ولا قني وكلب يقولون ومال بقنيان قال
المصنف والبيت لامرئ القيس ورواه أبو سعيد السكري ومال بقنوان مكسورة القاف مع
الواو ففيه أربع لغات قنوان وقنوان وقنيان وقنيان وأثت كثرت ومنه شعر أثيت وآدت
اشتدت وقال ابن قتيبة القنوان عذوق النخل واحدها قنو جمع على لفظ تثنية ومثله صنو
وصنوان في التثنية وصنوان في الجمع وقال الزجاج قنوان جمع قنو وإذا ثنيته فهما
قنوان بكسر النون ودانية أي قريبة المتناول ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن في
الكلام دليلا أن البعيدة السحيقة قد كانت غير سحيقة فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر
البعيدة كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر وقال ابن عباس القنوان الدانية قصار النخل
اللاصقة عذوقها بالأرض
قوله تعالى وجنات من أعناب قال الزجاج هو نسق على قوله خضرا والزيتون والرمان
المعنى وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان وقد روى أبو زيد عن المفضل وجنات بالرفع
قوله تعالى مشتبها وغير متشابه فيه ثلاثة أقوال
أحدها مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطعم رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني مشتبها ورقه مختلفا ثمره قاله قتادة وهو في معنى الأول
والثالث منه ما يشبه بعضه بعضا ومنه ما يخالف قال الزجاج وإنما قرن الزيتون
بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره قال
الشاعر
بورك
الميت الغريب كما بورك نضح الرمان والزيتون ...
ومعناه أن البركة في ورقه اشتماله على عوده كله
قوله تعالى انظروا إلى ثمرة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم انظروا
إلى ثمره و كلوا من ثمره و ليأكلوا من ثمره بالفتح في ذلك وقرأ حمزة والكسائي وخلف
بالضم فيهن قال الزجاج يقال ثمرة وثمر وثمار وثمر فمن قرأ إلى ثمره بالضم أراد جمع
الجمع وقال أبو علي يحتمل وجهين أحدهما هذا وهو أن يكون الثمر جمع ثمار
والثاني أن تكون الثمر جمع ثمرة وكذلك أكمة وأكم وخشبة وخشب قال الفراء يقول
انظروا إليه أول ما يعقد وانظروا إلى ينعه وهو نضجه وبلوغه وأهل الحجاز يقولون ينع
بفتح الياء وبعض أهل نجد يضمونها قال ابن قتيبة يقال ينعت الثمرة وأينعت إذا أدركت
وهو الينع والينع وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة والأعمش وابن محيصن وينعه بضم الياء
قال الزجاج الينع النضج قال الشاعر ... في قباب حول دسكرة ... حولها الزيتون قد
ينعا ...
وبين الله تعالى لهم بتصريف ما خلق ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق أنه
كذلك يبعثهم
قوله
تعالى إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون قال ابن عباس يصدقون أن لذي أخرج هذا النبات
قادر على أن يحيي الموتى وقال مقاتل يصدقون بالتوحيد
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما
يصفون
قوله تعالى وجعلوا لله شركاء الجن جعلوا بمعنى وصفوا قال الزجاج نصب الجن من وجهين
أحدهما أن يكون مفعولا فيكون المعنى وجعلوا لله الجن شركاء ويكون الجن مفعولا
ثانيا كقوله وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
والثاني أن يكون الجن بدلا من شركاء ومفسرا للشركاء وقرأ ابو المتوكل وأبو عمران
وأبو حيوة والجحدري شركاء الجن برفع النون وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ القارئ الجن
بخفض النون
وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان فجعلوهم شركاء لله قاله الحسن
والزجاج
والثاني قالوا إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه كقوله وجعلوا بينه وبين الجنة
نسبا فسمى الملائكة جنا لاجتنانهم قاله قتادة والسدي وابن زيد
والثالث أن الزنادقة قالوا الله خالق النور والماء والدواب والأنعام وإبليس خالق
الظلمة والسباع والحيات والعقارب وفيهم نزلت هذه الآية قاله ابن السائب
قوله
تعالى وخلقهم في الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء فيكون المعنى وجعلوا للذي خلقهم شركاء
لا يخلقون
والثاني أنها ترجع إلى الجن فيكون المعنى والله خلق الجن فكيف يكون الشريك لله
محدثا ذكرهما الزجاج
قوله تعالى وخرقوا له بنين وبنات وقرأ نافع وخرقوا بالتشديد للمبالغة والتكثير لأن
المشركين ادعوا الملائكة بنات الله والنصارى المسيح واليهود عزيرا وقرأ ابن عباس
وأبو رجاء وأبو الجوزاء وحرفوا بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء وقرأ ابن
السميفع والجحدري خارقوا بألف وخاء معجمة قال السدي أما البنون فقول اليهود عزير ابن
الله وقول النصارى المسيح ابن الله وأما البنات فقول مشركي العرب الملائكة بنات
الله قال الفراء خرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا بمعنى افتروا وقال أبو عبيدة
خرقوا جعلوا قال الزجاج ومعنى بغير علم أنهم لم يذكروه من علم إنما ذكروه تكذبا
بديع السموات والأرض أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء
عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل
قوله تعالى أنى يكون له ولد قال الزجاج أي من أين يكون له ولد
والولد
لا يكون إلا من صاحبة واحتج عليهم في نفي الولد بقوله وخلق كل شيء فليس مثل خالق
الأشياء فكيف يكون الولد لمن لا مثل له فاذا نسب إليه الولد فقد جعل له مثل
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير
قوله تعالى لا تدركه الأبصار في الإدراك قولان
أحدهما أنه بمعنى الإحاطة والثاني بمعنى الرؤية وفي الأبصار قولان أحدهما أنها
العيون قاله الجمهور والثاني أنها العقول رواه عبد الرحمن ابن مهدي عن أبي حصين
القارئ ففي معنى الآية ثلاثة أقوال
أحدها لا تحيط به الأبصار رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد ابن المسيب وعطاء
وقال الزجاج معنى الآية الإحاطة بحقيقته وليس فيها دفع للرؤية لما صح عن رسول الله
صلى الله عليه و سلم من الرؤية وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث
والثاني لا تدركه الأبصار إذا تجلى بنوره الذي هو نوره رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث لا تدركه الأبصار في الدنيا رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن
ومقاتل ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا قوله وجوه
يومئذ
ناضرة إلى ربها ناظرة فقيد النظر إليه بالقيامة وأطلق في هذه الآية والمطلق يحمل
على المقيد
وقوله تعالى وهو يدرك الأبصار فيه القولان قال الزجاج وفي هذا الإعلام دليل على أن
خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان
يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه فأعلم الله أن خلقا من خلقه لا
يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه فكيف به عز و جل فأما اللطيف فقال أبو
سليمان الخطابي هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويسبب لهم مصالحهم
من حيث لا يحتسبون قال ابن الاعرابي اللطيف الذي يوصل إليك أربك في رفق ومنه قولهم
لطف الله بك ويقال هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية وقد يكون اللطف بمعنى الدقة
والغموض ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه
وقال الأزهري اللطيف من أسماء الله معناه الرفيق بعباده والخبير العالم بكنه الشيء
المطلع على حقيقته
قد جآءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ
قوله تعالى قد جاءكم بصائر من ربكم البصائر جمع بصيرة وهي الدلالة التي توجب البصر
بالشيء والعلم به قال الزجاج والمعنى قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر
فمن أبصر فلنفسه نفع ذلك ومن عمي فعلى نفسه ضرر ذلك لأن الله عز و جل غني عن خلقه
وما أنا عليكم بحفيظ أي لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل وهذا قبل الأمر
بالقتال
فصل
وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف وقال بعضهم معناها لست رقيبا عليكم
أحصي أعمالكم فعلى هذا لا وجه للنسخ
وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون
قوله تعالى وكذلك نصرف الآيات قال الأخفش وكذلك معناها وهكذا وقال الزجاج المعنى
ومثل ما بينا فيما تلي عليك نبين الآيات قال ابن عباس نصرف الآيات أي نبينها في كل
وجه ندعوهم بها مرة ونخوفهم بها أخرى وليقولوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن
دارست قال ابن الانباري معنى الآية وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا
دارست وإنما صرف الآيات ليسعد قوم بقهمها والعمل بها ويشقى آخرون بالإعراض عنها
فمن عمل بها سعد ومن قال دارست شقي قال الزجاج وهذه اللام في ليقولوا يسميها أهل
اللغة لام الصيرورة والمعنى أن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا دارست هو تلاوة
الآيات وهذا كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم لم يطلبوا بأخذه أن
يعاديهم ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدوا وحزنا ومثله أن تقول كتب فلان
الكتاب لحتفه فهو لم يقصد أن يهلك نفسه بالكتاب ولكن العاقبة كانت الهلاك
فأما دارست فقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها
ذاكرت أهل الكتاب وقرأ عاصم وحمزة والكسائي
درست
بسكون وفتح التاء من غير ألف على معنى قرأت كتب أهل الكتاب قال المفسرون معناها
تعلمت من جبر ويسار وسنبين هذا في قوله إنما يعلمه بشر إن شاء الله وقرأ ابن عامر
ويعقوب درست بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف والمعنى هذه الأخبار التي
تتلوها علينا قديمة قد درست أي قد مضت وامحت وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته
وقد روي عن نافع أنه قال درست برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء وهي فراءة ابن
يعمر ومعناها قرئت وقرأ أبي بن كعب درست بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء
قال الزجاج وهي بمعنى درست أي امحت إلا أن المضمومة الراء أشد مبالغة وقرأ معاذ
القارئ وأبو العالية ومورق درست برفع الدال وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين وقرأ
ابن مسعود وطلحة بن مصرف درس بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء وروى عصمة عن
الأعمش دارس بألف
قوله تعالى ولنبينه يعني التصريف لقوم يعلمون ما تبين لهم من الحق فقبلوه
إتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شآء الله ما أشركوا
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل
قوله تعالى وأعرض عن المشركين قال المفسرون نسخ بآية السيف
قوله تعالى ولو شاء الله ما أشركوا فيه ثلاثة اقوال حكاها الزجاج
أحدها
لو شاء لجعلهم مؤمنين والثاني لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان والثالث لو شاء
لاستأصلهم فقطع سبب شركهم قال ابن عباس وباقي الآية نسخ بآية السيف
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمه
عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون
قوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه لما قال للمشركين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قالوا لتنتهين
يا محمد عن سب آلهتنا وعيبها أو لنهجون إلهك الذي تعبده فنزلت هذه الآية رواه أبو
صالح عن ابن عباس
والثاني أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى
أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله قاله قتادة ومعنى يدعون يعبدون وهي
الأصنام فيسبوا الله أي فيسبوا من أمركم بعيبها فيعود ذلك إلى الله تعالى لا أنهم
كانوا يصرحون بسبب الله تعالى لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به
وقوله تعالى عدوا بغير علم أي ظلما بالجهل وقرأ يعقوب
عدوا
بضم العين والدال وتشديد الواو والعرب تقول في الظلم عدا فلان عدوا وعدوا وعدوانا
وعدا أي ظلم
قوله تعالى كذلك زينا لكل أمة عملهم أي كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام
وطاعة الشيطان كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر قال
المفسرون وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما
يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون
قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه لما نزل في الشعراء إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية قال المشركون
أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها فقال المسلمون يا رسول الله أنزلها عليهم لكي
يؤمنوا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن قريشا قالوا يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر فينفجر
منها اثنتا عشرة عينا وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فائتنا
بمثل هذه الآيات حتى نصدقك فقال أي شيء تحبون قالوا أن تجعل لنا الصفا ذهبا قال
فان فعلت تصدقوني فقالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله صلى
الله عليه و سلم يدعو فجاءه جبريل فقال إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكني لم أرسل آية
فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم اتركهم حتى يتوب تائبهم فنزلت هذه الآية إلى قوله يجهلون هذا قول
محمد
بن كعب القرظي وقد ذكرنا معنى جهد أيمانهم في المائدة وإنما حلفوا على ما اقترحوا
من الآيات كقولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
قوله تعالى قل إنما الآيات عند الله أي هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد
من خلقه وما يشعركم أنها أي يدريكم أنها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم
وخلف في اختياره بكسر الألف فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله يشعركم للمشركين
ويكون تمام الكلام عند قوله وما يشعركم ويكون المعنى وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا
جاءت وتكون إنها مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم وقال أبو علي التقدير وما
يشعركم إيمانهم فحذف المفعول والمعنى لو جاءت الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا فعلى
هذا يكون الخطاب للمؤمنين قال سيبويه سألت الخليل عن قوله وما يشعركم إنها فقلت ما
منعها أن تكون كقولك ما يدريك أنه لا يفعل فقال لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما
قال وما يشعركم ثم ابتدأ فأوجب فقال إنها إذا جاءت لا يؤمنون ولو قال وما يشعركم
أنها إذا جاءت لا يؤمنون كان ذلك عذرا لهم وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي
أنها بفتح الألف فعلى هذا المخاطب بقوله وما يشعركم رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأصحابه ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وفي قراءة أبي لعلها إذا
جاءت
لا يؤمنون والعرب تجعل أن بمعنى لعل يقولون ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا أي لعلك
قال عدي بن زيد ... أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد
...
أي لعل منيتي وإلى هذا المعنى ذهب الخليل وسيبويه والفراء في توجيه هذه القراءة
والثاني أن المعنى وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون وتكون لا صلة كقوله تعالى ما
منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وقوله تعالى وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون
ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول والأكثرون على قراءة يؤمنون بالياء منهم ابن
كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وحفص عن عاصم وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على
الخطاب للمشركين قال أبو علي من قرأ بالياء فلأن الذين أقسموا غيب ومن قرأ بالتاء
فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم التقليب تحويل الشيء عن وجهه وفي معنى الكلام
أربعة أقوال
أحدها لو أتيناهم بآية كما سألوا لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها
وحلنا
بينهم وبين الهدى فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها عقوبة لهم على ذلك وإلى
هذا المعنى ذهب ابن عباس ومجاهد وابن زيد
والثاني أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا فالمعنى لو ردوا لحلنا
بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا روى هذا المعنى ابن
أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث ونقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم من
الأمم الخالية بما رأوا من الآيات قاله مقاتل
والرابع أن ذلك التقليب في النار عقوبة لهم ذكره الماوردي وفي هاء به أربعة أقوال
أحدها أنها كناية عن القرآن والثاني عن النبي صلى الله عليه و سلم والثالث عما ظهر
من الآيات والرابع عن التقليب وفي المراد بأول مرة ثلاثة أقوال أحدها أن المرة
الأولى دار الدنيا والثاني أنها معجزات الأنبياء قبل محمد صلى الله عليهم وسلم
والثالث أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت والطغيان والعمه
مذكوران في سورة البقرة
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا
ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون
قوله تعالى ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة سبب نزولها أن المستهزئين أتوا رسول
الله صلى الله عليه و سلم في رهط من أهل مكة فقالوا له ابعث لنا بعض موتانا حتى
نسألهم أحق ما تقول أم باطل أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله أو ائتنا
بالله والملائكة قبيلا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس ومعنى الآية ولو
أننا نزلنا إليهم الملائكة كما سألوا وكلمهم
الموتى
فشهدوا لك بالنبوة وحشرنا أي جمعنا عليهم كل شيء في الدنيا قبلا ما كانوا ليؤمنوا
إلا أن يشاء الله فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا
ومتى شاؤوا لم يؤمنوا فأما قوله قبلا فقرأ ابن عامر ونافع بكسر القاف وفتح الباء
قال ابن قتيبة معناها معاينة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي قبلا
بضم القاف والباء وفي معناها ثلاثة أقوال
أحدها أنه جمع قبيل وهو الصنف فالمعنى وحشرنا عليهم كل شيء قبيلا قبيلا قاله مجاهد
واختاره أبو عبيدة وابن قتيبة
والثاني أنه جمع قبيل أيضا إلا أنه الكفيل فالمعنى وحشرنا عليهم كل شيء فكفل بصحة
ما تقول اختاره الفراء وعليه اعتراض وهو أن يقال إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة
وتكليم الموتى فلأن لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول أولى فالجواب أنه لو كفلت
الأشياء المحشورة فنطق ما لم ينطق كان ذلك آية بينة
والثالث أنه بمعنى المقابل فيكون المعنى وحشرنا عليهم كل شيء فقابلهم قاله ابن زيد
قال أبو زيد يقال لقيت فلانا قبلا وقبلا وقبلا وقبيلا وقبليا ومقابلة وكله واحد
وهو للمواجهة قال أبو علي فالمعنى في القرآن على ما قاله أبو زيد واحد وإن اختلفت
الألفاظ
قوله تعالى ولكن أكثرهم يجهلون فيه قولان
أحدهما يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى
والثاني أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا
وكذلك
جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو
شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون
قوله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا أي وكما جعلنا لك ولأمتك شياطين الإنس والجن
أعداء كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم والمعنى كما ابتليناك بالأعداء
ابتلينا من قبلك ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى قال الزجاج وعدو في معنى أعداء
وشياطين الإنس والجن منصوب على البدل من عدو ومفسر له ويجوز أن يكون عدوا منصوب
على أنه مفعول ثان المعنى وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لأممهم وفي شياطين
الإنس والجن ثلاثة أقوال
أحدها أنهم مردة الإنس والجن قاله الحسن وقتادة والثاني أن شياطين الإنس الذين مع
الإنس وشياطين الجن الذين مع الجن قاله عكرمة والسدي والثالث أن شياطين الإنس
والجن كفارهم قاله مجاهد
قوله تعالى يوحي أصل الوحي الإعلام والدلالة بستر وإخفاء
وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه يأمر والثاني يوسوس والثالث يشير
وأما زخرف القول فهو ما زين منه وحسن وموه وأصل الزخرف الذهب قال أبو عبيدة كل شيء
حسسته وزينته وهو باطل فهو زخرف وقال الزجاج الزخرف في اللغة الزينة فالمعنى أن
بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة وغرورا منصوب على المصدر وهذا المصدر
محمول
على المعنى لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غرورا
وقال ابن عباس زخرف القول غرورا الأماني بالباطل قال مقاتل وكل إبليس بالإنس
شياطين يضلونهم فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه إني أضللت
صاحبي بكذا وكذا فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا فذلك وحي بعضهم إلى بعض وقال غيره إن
المؤمن إذا أعيا شيطانه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن
ليفتنه وقال قتادة إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين وقال مالك بن دينار إن
شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن لأني إذا تعوذت من ذاك ذهب عني وهذا يجرني إلى
المعاصي عيانا
قوله تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه في هاء الكناية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الوسوسة والثاني ترجع إلى الكفر والثالث إلى الغرور وأذى
النبيين
قوله تعالى فذرهم وما يفترون قال مقاتل يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب وقال
غيره فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم وما يختلقون من كذب
وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف
ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون
قوله تعالى ولتصغي إليه أي ولتميل والهاء كناية عن الزخرف والغرور والأفئدة جمع
فؤاد مثل غراب وأغربة قال ابن الأنباري فعلنا بهم ذلك لكي تصغي إلى الباطل أفئدة
الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوا الباطل وليقترفوا أي ليكتسبوا وليعلموا ما هم
عاملون
افغير
الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون
أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين
قوله تعالى أفغير الله أبتغي حكما سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله
عليه و سلم اجعل بيننا وبينك حكما إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار
النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت هذه الآية ذكره الماوردي فأما
الحكم فهو بمعنى الحاكم والمعنى أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم والكتاب القرآن
والمفصل المبين الذي بان فيه الحق من الباطل والأمر من النهي والحلال من الحرام
والذين آتيناهم الكتاب فيهم قولان
أحدهما علماء أهل الكتابين قاله الجمهور والثاني رؤساء أصحاب النبي محمد صلى الله
عليه و سلم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم قاله عطاء
قوله تعالى يعلمون أنه منزل قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم منزل بالتشديد وخففها
الباقون
وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم
قوله تعالى وتمت كلمة ربك قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع كلمات على الجمع
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب كلمة على التوحيد وقد ذكرت العرب الكلمة وأرادت
الكثرة يقولون قال قس في كلمته أي في خطبته وزهير في كلمته أي في قصيدته
وفي
المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال
أحدها أنها القرآن قاله قتادة والثاني أقضيته وعداته والثالث وعده ووعيده وثوابه
وعقابه وفي قوله صدقا وعدلا قولان
أحدهما صدقا فيما أخبر وعدلا فيما قضى وقدر والثاني صدقا فيما وعد وأوعد وعدلا
فيما أمر ونهى وفي قوله لا مبدل لكلماته قولان أحدهما لا يقدر المفترون على
الزيادة فيها والنقصان منها
والثاني لا خلف لمواعيده ولا مغير لحكمه
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون
قوله تعالى وإن تطع أكثر من في الأرض سبب نزولها أن الكفار قالوا للمسلمين أتأكلون
ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم فنزلت هذه الآية ذكره الفراء والمراد ب أكثر من
في الأرض الكفار وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال
أحدها في أكل الميتة والثاني في أكل ما ذبحوا للأصنام والثالث في عبادة الأوثان
والرابع في اتباع ملل الآباء وسبيل الله دينه قال ابن قتيبة ومعنى يخرصون يحدسون
ويوقعون ومنه قيل للحازر خارص فان قيل كيف يجوز تعذيب من هو على ظن من شركه وليس
على يقين من كفره فالجواب انهم لما تركوا التماس الحجة واتبعوا أهواءهم واقتصروا
على الظن والجهل عذبوا ذكره الزجاج
إن
ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
قوله تعالى إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله قال الزجاج موضع من رفع بالابتداء
ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله وقرأ الحسن من
يضل بضم الياء وكسر الضاد وهي رواية ابن أبي شريح قال أبو سليمان ومقصود الآية لا
تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات فلن يؤمن إلا من سبق له القدر
بالإيمان
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين
قوله تعالى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه سبب نزولها أن الله تعالى لما حرم الميتة
قال المشركون للمؤمنين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتل الله لكم أحق أن
تأكلوه مما قتلتم أنتم يريدون الميتة فنزلت هذه الآية رواه ابو صالح عن ابن عباس
وما لكم إلا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما
اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين
قوله تعالى وما لكم ألا تأكلوا قال الزجاج المعنى وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا
وموضع أن نصب لأن في سقطت فوصل المعنى إلى أن فنصبها
قوله تعالى وقد فصل لكم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فصل لكم ما حرم عليكم
مرفوعتان وقرأ نافع وحفص عن عاصم
ويعقوب
والقزاز عن عبد الوارث فصل بفتح الفاء ما حرم بفتح الحاء وقرأ حمزة والكسائي وأبو
بكر عن عاصم فصل بفتح الفاء ما حرم بضم الحاء قال الزجاج أي فصل لكم الحلال من
الحرام وأحل لكم في الاضطرار ما حرم وقال سعيد بن جبير فصل لكم ما حرم عليكم يعني
ما بين في المائدة من الميتة والدم إلى آخر الآية وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم يعني
مشركي العرب يضلون في أمر الذبائح وغيره قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضلون وفي يونس
ربنا ليضلوا وفي ابراهيم أندادا ليضلوا وفي الحج ثاني عطفه ليضل وفي لقمان ليضل عن
سبيل الله بغير علم وفي الزمر أندادا ليضل بفتح الياء في هذه المواضع الستة وضمهن
عاصم وحمزة والكسائي وقرأ نافع وابن عامر ليضلون بأهوائهم وفي يونس ليضلوا بالفتح
وضما الأربعة الباقية فمن فتح أراد أنهم هم الذين ضلوا ومن ضم أراد أنهم أضلوا
غيرهم وذلك أبلغ في الضلال لأن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلا
وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون
قوله تعالى وذروا ظاهر الإثم وباطنه في الإثم هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه الزنا رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا في ظاهره وباطنه قولان أحدهما
أن ظاهره الإعلان به وباطنه الاستسرار قاله
الضحاك
والسدي قال الضحاك وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالا والثاني أن ظاهره نكاح
المحرمات كالأمهات والبنات وما نكح الآباء وباطنه الزنا قاله سعيد بن جبير
والثاني أنه عام في كل إثم والمعنى ذروا المعاصي سرها وعلانيتها وهذا مذهب أبي
العالية ومجاهد وقتادة والزجاج وقال ابن الأنباري المعنى ذروا الإثم من جميع جهاته
والثالث أن الإثم المعصية إلا أن المراد به هاهنا أمر خاص قال ابن زيد ظاهره هاهنا
نزع أثوابهم إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة وباطنه الزنا
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم
ليجادلوكم وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون
قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه سبب نزولها مجادلة المشركين
للمؤمنين في قولهم أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله على ما ذكرنا في سبب
قوله تعالى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه هذا قول ابن عباس وقال عكرمة كتبت فارس
إلى قريش إن محمدا وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم فكتب
المشركون إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فوقع في أنفس ناس من المسلمين
من ذلك شيء فنزلت هذه الآية
وفي
المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال
أحدها أنه الميتة رواه ابن جبير عن ابن عباس
والثاني أنه الميتة والمنخنقة إلى قوله وما ذبح على النصب روي عن ابن عباس
والثالث أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها قاله عطاء
والرابع أنه عام فيما لم يسم الله عند ذبحه وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله ابن يزيد
الخطمي ومحمد بن سيرين
فصل
فان تعمد ترك التسمية فهل يباح فيه عن أحمد روايتان وإن تركها ناسيا أبيحت وقال
الشافعي لا يحرم في الحالين جميعا وقال شيخنا علي بن عبيد الله فاذا قلنا إن ترك
التسمية عمدا يمنع الإباحة فقد نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم وعلى قول الشافعي الآية محكمة
قوله تعالى وإنه لفسق يعني وإن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله لفسق أي خروج عن الحق
والدين وفي المراد بالشياطين هاهنا قولان
أحدهما أنم شياطين الجن روي عن ابن عباس
والثاني قوم من أهل فارس وقد ذكرناه عن عكرمة فعلى الأول وحيهم الوسوسة وعلى
الثاني وحيهم الرسالة والمراد بأوليائهم الكفار الذين جادلوا رسول الله صلى الله
عليه و سلم في ترك أكل الميتة ثم فيهم قولان
أحدهما
أنهم مشركو قريش والثاني اليهود وإن أطعمتموهم في استحلال الميتة إنكم لمشركون
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون
قوله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه اختلفوا فيمن نزلت على خمسة اقوال
أحدها أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله
صلى الله عليه و سلم بفرث وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل فأقبل حتى
علا أبا جهل بالقوس فقال له أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا فقال حمزة
ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أنها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال
عكرمة
والثالث في عمر بن الخطاب وأبي جهل قاله زيد بن أسلم والضحاك
والرابع في النبي صلى الله عليه و سلم وابي جهل قاله مقاتل
والخامس أنها عامة في كل مؤمن وكافر قاله الحسن في آخرين
وفي قوله كان ميتا فأحييناه قولان
أحدهما كان ضالا فهديناه قاله مجاهد
والثاني
كان جاهلا فعلمناه قاله الماوردي وقرأ نافع ميتا بالتشديد قال أبو عبيدة الميتة
مخففة من ميتة والمعنى واحد وفي النور ثلاثة أقوال
أحدها أنه الهدى قاله ابن عباس والثاني القرآن قاله الحسن والثالث العلم وفي قوله
يمشي به في الناس ثلاثة أقوال
أحدها يهتدي به في الناس قاله مقاتل والثاني يمشي به بين الناس إلى الجنة والثالث
ينشر به دينه في الناس فيصير كالماشي ذكرهما الماوردي
قوله تعالى كمن مثله المثل صلة والمعنى كمن هو في الظلمات وقيل المعنى كمن لو شبه
بشيء كان شبيهه من في الظلمات وقيل المراد بالظلمات هاهنا الكفر
قوله تعالى وكذلك زين أي كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها كذلك زين للكافرين
ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي
وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما
يشعرون
قوله تعالى وكذلك جعلنا في كل قرية أي وكما زينا للكافرين عملهم فكذلك جعلنا في كل
قرية أكابر مجرميها وقيل معناه وكما جعلنا فساق مكة أكابرها فكذلك جعلنا فساق كل
قرية أكابرها وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من
الرياسة والسعة وقال ابن قتيبة تقدير الآية وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر
وأكابر لا ينصرف وهم العظماء
قوله تعالى ليمكروا فيها قال أبو عبيدة المكر والخديعة والحيلة
والفجور
والغدر والخلاف قال ابن عباس ليقولوا فيها الكذب قال مجاهد أجلسوا على كل طريق من
طرق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم يقولون للناس
هذا شاعر وكاهن
قوله تعالى وما يمكرون إلا بأنفسهم أي ذلك المكر بهم يحيق
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما آوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل
رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون
قوله تعالى وإذا جاءتهم آية سبب نزولها أن أبا جهل قال زاحمتنا بنو عبد مناف في
الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا
نتبعه أو أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية قاله مقاتل قال الزجاج الهاء
والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم وقال أبو سليمان تعود على المجادلين في
تحريم الميتة قال مقاتل والآية انشقاق القمر والدخان قال ابن عباس في قوله مثل ما
أوتي رسل الله قال حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فيخبرنا أن محمدا صادق قال الضحاك
سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي
قوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالاته وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم رسالته بنصب
التاء على التوحيد والمعنى أنهم ليسوا لها بأهل وذلك أن الوليد بن المغيرة قال
والله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا
فنزل قوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالاته وقال أهل المعاني الأبلغ في تصديق
الرسل أن لا يكونوا قبل
مبعثهم
مطاعين في قومهم لأن الطعن كان يتوجه عليهم فيقال إنما كانوا رؤسا فاتبعوا فكان
الله أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد وأكابر مكة
قوله تعالى سيصيب الذين أجرموا صغار قال أبو عبيدة الصغار أشد الذل وقال الزجاج
المعنى هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصبهم صغار عند الله أي صغار ثابت لهم عند
الله وجائز أن يكون المعنى سيصيبهم عند الله صغار وقال الفراء معناه صغار من عند
الله فحذفت من وقال ابو روق صغار في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون
قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه قال مقاتل نزلت في رسول الله صلى الله عليه و
سلم وابي جهل
قوله تعالى يشرح صدره قال ابن الاعرابي الشرح الفتح قال ابن قتيبة ومنه يقال شرحت
لك الأمر وشرحت اللحم إذا فتحته وقال ابن عباس يشرح صدره أي يوسع قلبه للتوحيد
والإيمان وقد روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ فمن يرد الله أن
يهديه يشرح صدره للإسلام فقيل له يا رسول الله وما هذا الشرح قال نور يقذفه الله
في القلب فينفتح القلب قالوا فهل لذلك من أمارة قال نعم قيل وما هي
قال
الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله
قوله تعالى ضيقا قرأ الأكثرون بالتشديد وقرأ ابن كثير ضيقا وفي الفرقان مكانا ضيقا
بتسكين الياء خفيفة قال أبو علي الضيق والضيق مثل الميت والميت
قوله تعالى حرجا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي حرجا بفتح الراء
وقرأ نافع وابو بكر عن عاصم بكسر الراء قال الفراء وهما لغتان وكذلك قال يونس بن
حبيب النحوي هما لغتان إلا أن الفتح أكثر من ألسنة العرب من الكسر ومجراهما مجرى
الدنف والدنف وقال الزجاج الحرج في اللغة أضيق الضيق
قوله تعالى كأنما يصاعد قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي يصعد بتشديد
الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف وقرأ أبو بكر عن عاصم يصاعد بتشديد الصاد
وبعدها ألف وقرأ ابن كثير يصعد بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة وقرأ
ابن مسعود وطلحة تصعد بتاء من غير ألف وقرأ أبي بن كعب يتصاعد بألف وتاء قال
الزجاج قوله كأنما يصاعد في السماء ويصعد اصله يتصاعد ويتصعد إلا أن التاء تدغم في
الصاد
لقربها
منها والمعنى كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه
ويجوز أن يكون المعنى كأن قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام والحكمة وقال
الفراء ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد في السماء وليس يقدر على ذلك وقال ابو
علي يصعد ويصاعد من المشقة وصعوبة الشيء ومنه قول عمر ما تصعدني شيء كما تصعدتني
خطبة النكاح أي ما شق علي شيء مشقتها
قوله تعالى كذلك أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس وفيه خمسة أقوال
أحدها أنه الشيطان رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أن الله يسلطه عليهم
والثاني أنه المأتم رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنه مالا خير فيه قاله مجاهد
والرابع أنه العذاب قاله عطاء وابن زيد وأبو عبيدة
والخامس أنه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة قاله الزجاج وهذه الآية تقطع كلام
القدرية إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلقة بارادة الله تعالى
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون
قوله تعالى وهذا صراط ربك فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه القرآن قاله ابن مسعود والثاني التوحيد قاله ابن عباس
والثالث
ما هو عليه من الدين قاله عطاء ومعنى استقامته أنه يؤدي بسالكه إلى الفوز قال مكي
بن أبي طالب ومستقيما نصب على الحال من صراط وهذه الحال يقال لها الحال المؤكدة
لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيما ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين إذ لا يتغير صراط
الله عن الاستقامة أبدا وليست هذه الحال كحال من قولك هذا زيد راكبا لأن زيدا قد
يخلو من الركوب
لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعلمون
قوله تعالى لهم دار السلام يعني الجنة وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال
أحدها أن السلام هو الله وهي داره قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي
والثاني أنها دار السلامة التي لا تنقطع قاله الزجاج
والثالث أن تحية أهلها فيها السلام ذكره أبو سليمان الدمشقي
والرابع أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام ففي ابتداء دخولهم ادخلوها بسلام وبعد
استقرارهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم وقوله إلا قيلا سلاما
سلاما وعند لقاء الله سلام قولا من رب رحيم وقوله تحيتهم يوم يلقونه سلام ومعنى
عند ربهم أي مضمونة لهم عنده وهو وليهم أي متولي إيصال المنافع إليهم ودفع المضار
عنهم بما كانوا يعملون من الطاعات
ويوم
يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا
استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا
ما شاء الله إن ربك حكيم عليم
قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا يعني الجن والإنس وقرأ حفص عن عاصم يحشرهم بالياء
قال أبو سليمان يعني المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم
فيما حرمه الله من الميتة
قوله تعالى يا معشر الجن فيه إضمار فيقال لهم يا معشر والمعشر الجماعة أمرهم واحد
والجمع المعاشر
وقوله قد استكثرتم من الإنس أي من إغوائهم وإضلالهم وقال أولياؤهم من الإنس يعني
الذين أضلهم الجن ربنا استمتع بعضنا ببعض فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن استمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا إذا سافروا فنزلوا واديا وأرادوا مبيتا
قال أحدهم أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله واستمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا
يفخرون على قومهم ويقولون قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا رواه أبو صالح عن
ابن عباس وبه قال مقاتل والفراء
والثاني أن استمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر
والمعاصي واستمتاع الإنس بالجن أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها وشهوها إليهم
حتى سهل عليهم فعلها روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس وبه قال محمد بن كعب والزجاج
والثالث
أن استمتاع الجن بالإنس إغواؤهم إياهم واستمتاع الإنس بالجن ما يتلقون منهم من
السحر والكهانة ونحو ذلك والمراد بالجن في هذه الآية الشياطين
قوله تعالى وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا فيه قولان
أحدهما الموت قاله الحسن والسدي والثاني الحشر ذكره الماوردي
قوله تعالى قال النار مثواكم قال الزجاج المثوى المقام وخالدين منصوب على الحال
المعنى النار مقامكم في حال خلود دائم إلا ما شاء الله هو استثناء من يوم القيامة
والمعنى خالدين فيها مذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومدتهم
في محاسبتهم ويجوز أن تكون إلا ما شاء الله أن يزيدهم من العذاب وقال بعضهم إلا ما
شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وقيل في هذا غير قول ستجدها مشروحة في هود
إن شاء الله
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون
قوله تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا في معناه أربعة اقوال
أحدها نجعل بعضهم أولياء بعض رواه سعيد عن قتادة
والثاني نتبع بعضهم بعضا في النار بأعمالهم من الموالاة وهي المتابعة رواه معمر عن
قتادة
والثالث نسلط بعضهم على بعض قاله ابن زيد
والرابع نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم ذكره الماوردي
قوله تعالى بما كانوا يكسبون أي من المعاصي
يا
معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا
قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين
قوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم قرأ الحسن وقتادة تأتكم بالتاء رسل منكم
واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال
أحدها أن الرسل كانت تبعث إلى الإنس خاصة وأن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه
و سلم إلى الإنس والجن رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رسل الجن هم الذين سمعوا القرآن فولوا إلى قومهم منذرين روي عن ابن
عباس أيضا وقال مجاهد الرسل من الإنس والنذر من الجن وهم قوم يسمعون كلام الرسل
فيبلغون الجن ما سمعوا
والثالث أن الله تعالى بعث إليهم رسلا منهم كما بعث إلى الإنس رسلا منه قاله
الضحاك ومقاتل وأبو سليمان وهو ظاهر الكلام
والرابع أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلا منهم وإنما جاءتهم رسل الإنس قاله ابن
جريج والفراء والزجاج قالوا ولا يكون الجمع في قوله ألم يأتكم رسل منكم مانعا أن
تكون الرسل من أحد الفريقين كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما هو خارج
من الملح وحده
وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان
أحدهما يدخلونها ويأكلون ويشربون قاله الضحاك
والثاني أن ثوابهم أن يجاروا من النار ويصيروا ترابا رواه سفيان عن ليث
قوله
تعالى يقصون عليكم آياتي أي يقرؤون عليكم كتابي وينذرونكم أي يخوفونكم بيوم
القيامة وفي قوله شهدنا على أنفسنا قولان
أحدهما أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا
والثاني شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم فقال
وغرتهم الحياة الدنيا أي يزينتها وإمهالهم فيها وشهدوا على أنفسهم أي أقروا أنهم
كانوا في الدنيا كافرين وقال مقاتل ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون
قوله تعالى ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم قال الزجاج ذلك الذي قصصنا عليك من
أمر الرسل وأمر عذاب من كذب لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم أي لا يهلككم حتى
يبعث إليهم رسولا قال ابن عباس بظلم أي بشرك وأهلها غافلون لم يأتهم رسول
ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون
قوله تعالى ولكل درجات مما عملوا أي لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات أي
منازل يبلغها بعمله إن كان خيرا فخيرا وإن كان شرا فشرا وإنما سميت درجات لتفاضلها
في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج
قوله تعالى عما يعملون قرأ الجمهور بالياء وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كما أنشأكم من ذرية
قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين
قوله
تعالى وربك الغني يريد الغني عن خلقه ذو الرحمة قال ابن عباس بأوليائه وأهل طاعته
وقال غيره بالكل ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين إن يشأ يذهبكم بالهلاك
وقيل هذا الوعيد لأهل مكة ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم أي ابتدأكم من ذرية
قوم آخرين يعني آباءهم الماضين إن ما توعدون به من مجيء الساعة والحشر لآت وما
أنتم بمعجزين أي بفائتين قال أبو عبيدة يقال أعجزني كذا أي فاتني وسبقني
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا
يفلح الظالمون
قوله تعالى على مكانتكم وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم على الجمع قال ابن قتيبة أي
على موضعكم يقال مكان ومكانة ومنزل ومنزلة وقال الزجاج اعملوا على تمكنكم قال
ويجوز أن يكون المعنى اعملوا على ما أنتم عليه تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على
حال كن على مكانتك
قوله تعالى إني عامل أي عامل ما أمرني به ربي فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم تكون بالتاء وقأ حمزة والكسائي
بالياء وكذلك خلافهم في القصص ووجه التأنيث اللفظ ووجه التذكير أنه ليس بتأنيث
حقيقي وعاقبة الدار الجنة والظالمون هاهنا المشركون فان قيل ظاهر هذه الآية أمرهم
بالاقامة على ما هم عليه وذلك لا يجوز فالجواب أن معنى هذا الأمر المبالغة في
الوعيد فكأنه قال أقيموا على ما أنتم عليه إن رضيتم بالعذاب قاله الزجاج
فصل
وفي هذه الآية قولان
أحدهما أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة
والثاني أن المراد بها ترك القتال فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا
فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون
قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ قال ابن قتيبة ذرأ بمعنى خلق من الحرث وهو الزرع
والأنعام الإبل والبقر والغنم وكانوا إذا زرعوا خطوا خطا فقالوا هذا لله وهذا
لآلهتنا فاذا حصدوا ما جعلوه لله فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم تركوه وقالوا هي
إليه محتاجة وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم فوقع منه شيء في مال الله أعادوه إلى
موضعه وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله فاذا ولدت إناثها ميتا أكلوه وإذا ولدت
أنعام آلهتهم ميتا عظموه فلم يأكلوه وقال الزجاج معنى الآية وجعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والانعام نصيبا وجعلوا لشركائهم نصيبا يدل عليه قوله تعالى فقالوا هذا لله
بزعمهم وهذا لشركائنا فدل بالإشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء وكانوا إذا زكا
ما لله ولم يزك ما لشركائهم ردوا الزاكي على أصنامهم وقالوا هذه أحوج والله غني
وإذا زكا ما للأصنام ولم يزك ما لله أقروه على ما به قال
المفسرون
وكانوا يصرفون ما جعلوا لله إلى الضيفان والمساكين فمعنى قوله فلا يصل إلى الله أي
إلى هؤلاء ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خدامها فأما نصيبها في
الأنعام ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان للنفقة عليها أيضا والثاني أنهم كانوا يتقربون به فيذبحونه لها
والثالث أنه البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقال الحسن كان إذا هلك ما لأ
وثانهم غرموه وإذا هلك مالله لم يغرموه وقال ابن زيد كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله
حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان فأما قوله
بزعمهم فقرأ الجمهور بفتح الزاي وقرأ الكسائي والأعمش بضمها وفي الزعم ثلاث لغات
ضم الزاي وفتحها وكسرها ومثله السقط والسقط والسقط والفتك والفتك والفتك والزعم
والزعم والزعم قال الفراء فتح الزاي في الزعم لأهل الحجاز وضمها لأسد وكسرها لبعض
قيس فيما يحكي الكسائي
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم
ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون
قوله تعالى وكذلك زين أي ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زين قال ابن
الأنباري ويجوز أن يكون وكذلك مستأنفا غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى وهكذا
زين وقرأه الجمهور زين بفتح الزاي والياء ونصب اللام من قتل وكسر الدال من أولادهم
ورفع الشركاء وجه هذه القراءة ظاهر وقرأ ابن عامر بضم زاي زين
ورفع
اللام من قتل ونصب الدال من أولادهم وخفض الشركاء قال أبو علي ومعناها قتل شركائهم
أولادهم ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به وهذا قبيح قليل في الاستعمال
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن زين بالرفع قتل بالرفع أيضا أولادهم بالجر
شركاؤهم رفعا قال الفراء رفع القتل إذ لم يسم فاعله ورفع الشركاء بفعل نواه كأنه
قال زينه لهم شركاؤهم وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة قال كأنه قيل من زينه فقال
شركاؤهم قال مكي بن أبي طالب وقد روي عن ابن عامر أيضا أنه قرأ بضم الزاي ورفع
اللام وخفض الأولاد والشركاء فيصير الشركاء اسما للأولاد لمشاركتهم للآباء في
النسب والميراث والدين
وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال
أحدها أنهم الشياطين قاله الحسن ومجاهد والسدي والثاني شركاؤهم في الشرك قاله
قتادة والثالث قوم كانوا يخدمون الاوثان قاله الفراء والزجاج والرابع أنهم الغواة
من الناس ذكره الماوردي وإنما أضيف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك
وزعموه
وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان
أحدهما أنه وأد البنات أحياء خيفة الفقر قاله مجاهد
والثاني أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاما أن ينحر أحدهم كما حلف
عبد المطلب في نحر عبد الله قاله ابن السائب ومقاتل
قوله تعالى ليردوهم أي ليهلكوهم وفي هذه اللام قولان
أحدهما أنها لام كي والثاني أنها لام العاقبة كقوله ليكون لهم عدوا أي آل أمرهم
إلى الردى لا أنهم قصدوا ذلك
قوله
تعالى وليلبسوا عليهم دينهم أي ليخلطوا قال ابن عباس ليدخلوا عليهم الشك في دينهم
وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بتزيين الشياطين
قوله تعالى فذرهم وما يفترون قال ابن عباس كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم
قالوا إن الله أمرنا بذلك فقال فذرهم وما يفترون أي يكذبون وهذا تهديد ووعيد فهو
محكم وقال قوم مقصوده ترك قتالهم فهو منسوخ بآية السيف
وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها
وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا ي يفترون
قوله تعالى وقالوا هذه أنعام وحرث وحجر الحرث الزرع والحجر الحرام والمعنى أنهم
حرموا أنعاما وحرثا جعلوه لأصنامهم قال ابن قتيبة وإنما قيل للحرام حجر لأنه حجر
على الناس أن يصيبوه وقرأ الحسن وقتادة حجر بضم الحاء قال الفراء يقال حجر وحجر
بكسر الحاء وضمها وهي في قراءة ابن مسعود حرج مثل جذب وجبذ وفي هذ الأنعام التي
جعلوها للأصنام قولان
أحدهما أنها البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
والثاني أنها الذبائح التي للأوثان وقد سبق ذكرهما
قوله تعالى لا يطعمها إلا من نشاء هو كقولك لا يذوقها إلا من نريد وفيمن أطلقوا له
تناولها قولان
أحدهما أنهم منعوا منها النساء وجعلوها للرجال قاله ابن السائب
والثاني
عكسه قاله ابن زيد قال الزجاج أعلم الله تعالى أن هذا التحريم زعم منهم لا حجة فيه
ولا برهان
وفي قوله وأنعام حرمت ظهورها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الحام قاله ابن عباس والثاني البحيرة كانوا لا يحجون عليها قاله أبو
وائل والثالث البحيرة والسائبة والحام قاله السدي
قوله تعالى وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها هي قربان آلهتهم يذكرون عليها اسم
الأوثان خاصة وقال أبو وائل هي التي كانوا لا يحجون عليها وقد ذكرنا هذا عنه في
قوله حرمت ظهورها فعلى قوله الصفتان لموصوف واحد وقال مجاهد كان من إبلهم طائفة لا
يذكرون اسم الله عليها في شيء لا إن ركبوا ولا إن حملوا ولا إن حابوا ولا إن نتجوا
وفي قوله افتراء على الله قولان
أحدهما أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله هو الافتراء
والثاني أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى هو الافتراء لأنهم كانوا يقولون هو حرم ذلك
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن لم يكن ميتة
فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم
قوله تعالى وقالوا ما في بطون هذه الأنعام يعني بالأنعام المحرمات عندهم من
البحيرة والسائبة والوصيلة وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال
أحدها أنه اللبن قاله ابن عباس وقتادة والثاني الأجنة قاله مجاهد
والثالث الولد واللبن قاله السدي ومقاتل
قوله
تعالى خالصة لذكورنا قرأ الجمهور خالصة على لفظ التأنيث وفيها أربعة أوجه
أحدها أنه إنما أنثت لأن الأنعام مؤنثة وما في بطونها مثلها قاله الفراء
والثاني أن معنى ما التأنيث لأنها في معنى الجماعة فكأنه قال جماعة ما في بطون هذه
الأنعام خالصة قاله الزجاج
والثالث أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف كما قالوا علامة ونسابة
والرابع أنه أجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكره كقولك
عطاؤك عافية والرخص نعمة ذكرهما ابن الأنباري وقرأ ابن مسعود وأبو العالية والضحاك
والأعمش وابن أبي عبلة خالص بالرفع من غير هاء قال الفراء وإنما ذكر لتذكير ما
وقرأ ابن عباس وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر خالصه برفع الصاد والهاء على ضمير مذكر
قال الزجاج والمعنى ما خلص حيا وقرأ قتادة خالصة بالنصب فأما الذكور فهم الرجال
والأزواج والنساء
قوله تعالى وإن يكن ميتة قرأ الأكثرون يكن بالياء ميتة بالنصب وذلك مردود على لفظ
ما المعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة وقرأ ابن كثير يكن بالياء ميتة
بالرفع وافقه ابن عامر في رفع الميتة غير أنه قرأ تكن بالتاء والمعنى وإن تحدث
وتقع فجعل كان تامة لا تحتاج إلى خبر وقرأ أبو بكر عن عاصم تكن بالتاء ميتة بالنصب
والمعنى وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة
قوله تعالى فهم فيه شركاء يعني الرجال والنساء سيجزيهم وصفهم قال الزجاج أراد جزاء
وصفهم الذي هو كذب
قد
خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد
ضلوا وما كانوا مهتدين
قوله تعالى قد خسر الذين قتلوا أولادهم وقرأ ابن كثير وابن عامر قتلوا بالتشديد
قال ابن عباس نزلت في ربيعة ومضر والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من
العرب وقال قتادة كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة ويغذو
كلبه وقال الزجاج وقوله سفها منصوب على معنى اللام تقديره للسفه تقول فعلت ذلك حذر
الشر وقرأ ابن السميفع والجحدري ومعاذ القارئ سفهاء برفع السين وفتح الفاء والهاء
وبالمد وبالنصب والهمز
قوله تعالى بغير علم أي كانوا يفعلوا ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك وحرموا
ما رزقهم الله من الأنعام والحرث وزعموا أن الله أمرهم بذلك
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون
والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره اذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا
تسرفوا إنه لا يحب المسرفين
قوله تعالى وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات فيه أربعة أقوال
أحدها أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرش كالكرم والقرع والبطيخ
وغير معروشات ما قام على ساق كالنخل والزرع وسائر الأشجار
والثاني أن المعروشات ما أنبته الناس وغير معروشات ما خرج في البراري والجبال من
الثمار رويا عن ابن عباس
والثالث
أن المعروشات وغير المعروشات الكرم منه ما عرش ومنه مالم يعرش قاله الضحاك
والرابع أن المعروشات الكروم التي قد عرش عنبها وغير المعروشات سائر الشجر التي لا
تعرش قاله أبو عبيدة والأكل الثمر والزيتون والرمان متشابها قد سبقة تفسيره
قوله تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر هذا أمر إباحة وقيل إنما قدم الأكل لينهي عن فعل
الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها
قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده قرأ ابن عامر وعاصم وأبو عمرو بفتح الحاء وهي لغة
أهل نجد وتميم وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي بكسرها وهي لغة أهل الحجاز ذكره
الفراء
وفي المراد بهذا الحق قولان
أحدهما أنه الزكاة روي عن أنس بن مالك وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن وطاووس
وجابر بن زيد وابن الحنفية وقتادة في آخرين فعلى هذا الآية محكمة
والثاني أنه حق غير الزكاة فرض يوم الحصاد وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع
والثمر قاله عطاء ومجاهد وهل نسخ ذلك أم لا إن قلنا إنه أمر وجوب فهو منسوخ
بالزكاة وإن قلنا إنه أمر استحباب فهو باقي الحكم
فان قيل هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد فالجواب إن قلنا إنه إطعام من حضر من
الفقراء فذلك يكون يوم الحصاد وإن قلنا إنه الزكاة فقد ذكرت عنه ثلاثة أجوبة
أحدها
أن الأمر بالإيتاء محمول على النخيل لأن صدقتها تجب يوم الحصاد فأما الزروع فالأمر
بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخر إلى
زمان التنقية ذكره بعض السلف
والثاني أن اليوم ظرف للحق لا للايتاء فكأنه قال وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد
التنقية
والثالث أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه إنما يجب يوم
حصوله في يد صاحبه وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه فأفادت
الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد دون ما يتلف ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى وفي
قوله ولا تسرفوا ستة اقوال
أحدها أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يجحف به قاله أبو العالية وابن جريج
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة ثم قسمها في
يوم واحد فأمسى ولم يترك لأهله شيئا فكره الله تعالى له ذلك فنزلت ولا تسرفوا إنه
لا يحب المسرفين
والثاني أن الإسراف منع الصدقة الواجبة قاله سعيد بن المسيب
والثالث أنه الإنفاق في المعصية قاله مجاهد والزهري
والرابع أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام قاله عطية العوفي وابن السائب
والخامس أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة قاله ابن زيد
والسادس أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزكاة قاله ابن بحر
ومن
الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو
مبين
قوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا هذا نسق على ما قبله والمعنى أنشأ جنات وأنشأ
حمولة وفرشا وفي ذلك خمسة أقوال
أحدها أن الحمولة ما حمل من الإبل والفرش صغارها قاله ابن مسعود والحسن ومجاهد
وابن قتيبة
والثاني أن الحموله ما انتفعت بظهورها والفرش الراعية رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أن الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم
رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع الحمولة من الإبل والفرش من الغنم قاله الضحاك
والخامس الحمولة الإبل والبقر والفرش الغنم وما لا يحمل عليه من الإبل قاله قتادة
وقرأ عكرمة وأبو المتوكل وأبو الجوزاء حمولة بضم الحاء
قوله تعالى كلوا مما رزقكم الله قال الزجاج المعنى لا تحرموا ما حرمتم مما جرى
ذكره ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي طرقه قال وقوله ثمانية أزواج بدل من قوله حمولة
وفرشا والزوج في اللغة الواحد الذي يكون معه آخر قال المصنف وهذا كلام يفتقر إلى
تمام وهو أن يقال الزوج ما كان معه آخر من جنسه فحينئذ يقال لكل واحد منهما زوج
ثمانية
أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه
أرحام الأنثيين نبؤني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل
آلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء أذ وصاكم
الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي
القوم الظالمين
قوله تعالى من الضأن اثنين الضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المعز بفتح العين وقرأ نافع وحمزة وعاصم والكسائي
بتسكين العين والمراد بالأنثيين الذكر والأنثى قل آلذكرين من الضأن والمعز حرم
الله عليكم أم الأنثيين منها المعنى فان كان ما حرم عليكم الذكرين فكل الذكور حرام
وإن كان حرم الأنثيين فكل الإناث حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين
فهي تشتمل على الذكور وتشتمل على الإناث وتشتمل على الذكور والإناث فيكون كل جنين
حراما وقال ابن الأنباري معنى الآية ألحقكم التحريم من جهة الذكرين أم من جهة الأثنين
فان قالوا من جهة الذكرين حرم عليهم كل ذكر وإن قالوا من جهة الأنثيين حرمت عليهم
كل أنثى وإن قالوا من جهة الرحم حرم عليهم الذكر والأنثى وقال ابن جرير الطبري إن
قالوا حرم الذكرين أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز وهم يستمتعون بلحوم بعض
الذكران منها وظهوره وفي ذلك فساد دعواهم وإن قالوا حرم الأنثيين أوجبوا تحريم
لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك
وظهوره
وإن قالوا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها
قال المفسرون فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها لأنهم كانوا يحرمون
أجناسا من النعم بعضها على الرجال والنساء وبعضها على النساء دون الرجال
وفي قوله آلذكرين حرام أم الأنثيين إبطال لما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة
والحام
وفي قوله أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين إبطال قولهم ما في بطون هذه الأنعام
خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا
قوله تعالى نبئوني بعلم قال الزجاج المعنى فسروا ما حرمتم بعلم أي أنتم لا علم لكن
لأنكم لا تؤمنون بكتاب أم كنتم شهداء أي هل شاهدتم الله قد حرم هذا إذا كنتم لا
تؤمنون برسول
قوله تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم قال ابن عباس
يريد عمرو بن لحي ومن جاء بعده والظالمون هاهنا المشركون
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو
لحم خنزير فانه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك
غفور رحيم
قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه نبههم بهذا على أن
التحريم والتحليل إنما يثبت بالوحي وقال طاووس ومجاهد معنى الآية لا أجد محرما مما
كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا والمراد بالطاعم
الآكل
إلا أن يكون ميتة أي إلا أن يكون المأكول ميتة قرأ ابن كثير وحمزة إلا أن يكون
بالياء ميتة نصبا وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء ميتة بالرفع على معنى إلا أن
تقع ميتة أو تحدث ميتة أو دما مسفوحا قال قتادة إنما حرم المسفوح فأما اللحم إذا
خالطه دم فلا بأس به قال الزجاج المسفوح المصبوب وكانوا إذا ذكوا يأكلون الدم كما
يأكلون اللحم والرجس اسم لما يستقذر وللعذاب أو فسقا المعنى أو أن يكون المأكول
فسقا أهل لغير الله به أي رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله فسمى ما ذكر عليه غير
اسم الله فسقا والفسق الخروج من الدين
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها محكمة ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال أحدها أنها خبر
والخبر لا يدخله النسخ والثاني أنها جاءت جوابا عن سؤال سألوه فكان الجواب بقدر
السؤال ثم حرم بعد ذلك ما حرم والثالث أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذكر فيها
والقول الثاني أنها منسوخة بما ذكر في المائدة من المنخنقة والموقوذة وفي السنة من
تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وقيل إن آية المائدة
داخلة في هذه الآية لأن تلك الأشياء كلها ميتة
وعلى
الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت
ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون
قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وقرأ الحسن والأعمش ظفر بسكون الفاء
وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة
وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال
أحدها أنه ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوز والبط قاله ابن عباس وابن
جبير ومجاهد وقتادة والسدي
والثاني الإبل فقط قاله ابن زيد
والثالث كل ذي حافر من الدواب ومخلب من الطير قاله ابن قتيبة قال وسمى الحافر ظفرا
على الإستعارة والعرب تجعل الحافر والإظلاف موضع القدم استعارة وأنشدوا ... سأمنعها
أو سوف أجعل أمرها ... إلى ملك أظلافه لم تشقق
أراد
قدميه وإنما الأظلاف للشاء والبقر قال ابن الانباري الظفر هاهنا يجري مجرى الظفر
للانسان وفيه ثلاث لغات أعلاهن ظفر ويقال ظفر وأظفور وقال الشاعر ... ألم تر أن
الموت أدرك من مضى ... فلم يبق منه ذا جناح وذا ظفر ...
وقال الآخر ... لقد كنت ذا ناب وظفر على العدى ... فأصبحت ما يخشون نابي ولا ظفري
...
وقال الآخر ... ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور ...
وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال
أحدها أنه إنما حرم من ذلك شحوم الثروب خاصة قاله قتادة
والثاني شحوم الثروب والكلى قاله السدي وابن زيد
والثالث كل شحم لم يكن مختلطا بعظم ولا على عظم قاله ابن جريج وفي قوله إلا ما
حملت ظهورهما ثلاثة أقوال
أحدها أنه ما علق بالظهر من الشحوم قاله ابن عباس والثاني الألية قاله أبو صالح
والسدي والثالث ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما
قاله
قتادة فأما الحوايا فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها قال ابن عباس والحسن وابن
جبير ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة هي المباعر وقال ابن زيد هي بنات اللبن وهي
المرابض التي تكون فيها الأمعاء وقال الفراء الحوايا هي المباعر وبنات اللبن وقال
الاصمعي هي بنات اللبن واحدها حاوياء وحاوية وحوية
قال الشاعر ... أقتلهم ولا أرى معاوية ... الجاحظ العين العظيم الحاوية ...
وقال الآخر ... كأن نقيق الحب في حاويائه ... فحيح الأفاعي أو نقيق العقارب ...
وقال أبو عبيدة الحوايا ما تحوي من البطن أي ما استدار منها وقال الزجاج الحوايا
اسم لجميع ما تحوي من البطن فاجتمع واستدار وهي بنات اللبن وهي المباعر وتسمى
المرابض وفيها الأمعاء
قوله تعالى أو ما اختلط بعظم فيه قولان
أحدهما أنه شحم البطن والالية لأنهما على عظم قاله السدي والثاني كل شحم في القوائم
والجنب والرأس والعينين والأذنين فهو مما اختلط بعظم قاله ابن جريج واتفقوا على أن
ما حملت ظهورها حلال
بالاستثناء
من التحريم فأما ما حملت الحوايا أو ما اختلط بعظم ففيه قولان
أحدهما أنه داخل في الاستثناء فهو مباح والمعنى وأبيح لهم ما حملت الحوايا من الشحم
وما اختلط بعظم هذا قول الأكثرين
والثاني أنه نسق على ما حرم لا على الاستثناء فالمعنى حرمنا عليهم شحومهما أو
الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فانه غير محرم قاله الزجاج فأما أو
المذكورة هاهنا فهي بمعنى الواو كقوله آثما أو كفورا
قوله تعالى ذلك جزيناهم أي ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم
وفي بغيهم قولان
أحدهما أنه قتلهم الأنبياء وأكلهم الربا والثاني أنه تحريم ما أحل لهم
فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين
قوله تعالى فان كذبوك قال ابن عباس لما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
للمشركين هذا ما أوحي إلي أنه محرم على المسلمين وعلى اليهود اليهود قالوا فانك لم
تصب فنزلت هذه الآية وفي المكذبين قولان
أحدهما المشركون قاله ابن عباس والثاني اليهود قاله مجاهد والمراد بذكر الرحمة
الواسعة أنه لا يعجل بالعقوبة والبأس العذاب
وفي المراد بالمجرمين قولان
أحدهما المشركون والثاني المكذبون
سيقول
الذين اشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين
من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن
أنتم إلا تخرصون
قوله تعالى سيقول الذين أشركوا أي إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه من
الشرك وتحريم مالم يحرمه الله لو شاء الله ما أشركنا فجعلوا هذا حجة لهم في
إقامتهم على الباطل فكأنهم قالوا لو لم يرض ما نحن عليه لحال بيننا وبينه وإنما
قالوا ذلك مستهزئين ودافعين للاحتجاج عليهم فيقال لهم لم تقولون عن مخالفيكم إنهم
ضالون وإنما هم على المشيئة ايضا فلا حجة لهم لأنهم تعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر
ومشيئة الله تعم جميع الكائنات وأمره لا يعم مراداته فعلى العبد اتباع الأمر وليس
له أن يتعلل بالمشيئة بعد ورود الأمر
قوله تعالى كذلك كذب الذين من قبلهم قال ابن عباس أي قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء
لك حتى ذاقوا بأسنا أي عذابنا قل هل عندكم من علم أي كتاب نزل من عند الله في
تحريم ما حرمتم إن تتبعون إلا الظن لا اليقين وإن بمعنى ما وتخرصون تكذبون
قل فلله الحجة البالغة فلوا شاء لهداكم أجمعين
قوله تعالى قل فلله الحجة البالغة قال الزجاج حجته البالغة تبيينه أنه الواحد
وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة قال السدي فلو شاء لهداكم أجمعين يوم أخذ الميثاق
قل
هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء
الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون
قوله تعالى قل هلم شهداءكم قال الزجاج زعم سيبويه أن هلم هاء ضمت إليها لم وجعلتا
كالكلمة الواحدة فأكثر اللغات أن قال هلم للواحد والاثنين والجماعة بذلك جاء
القرآن ومن العرب من يثني ويجمع ويؤنث فيقول للذكر هلم وللمرآة هلمي وللاثنين هلما
وللثنتين هلما وللجماعة هلموا وللنسوة هلممن وقال ابن قتيبة هلم بمعنى تعالى وأهل
الحجاز لا يثنونها ولا يجمعونها وأهل نجد يجعلونها من هلممت فيثنون ويجمعون
ويؤنثون وتوصل باللام فيقال هلم لك وهلم لكما قال وقال الخليل أصلها لم وزيدت
الهاء في أولها وخالفه الفراء فقال أصلها هل ضم إليها أم والرفعة التي في اللام من
همزة أم لما تركت انتقلت إلى ما قبلها وكذلك اللهم يرى أصلها يا ألله أمنا بخير
فكثرت في الكلام فاختلطت وتركت الهمزة وقال ابن الانباري معنى هلم أقبل وأصله أم
يا رجل أي اقصد فضموا هل إلى أم وجعلوهما حرفا واحدا وأزالوا أم عن التصرف وحولوا
ضمة الهمزة أم إلى اللام وأسقطوا الهمزة فاتصلت الميم باللام وإذا قال الرجل للرجل
هلم فأراد أن يقول لا أفعل قال لا أهلم ولا أهلم قال مجاهد هذه الآية جواب قولهم
إن الله حرم البحيرة والسائبة قال مقاتل الذين يشهدون أن الله حرم
هذا
الحرث والأنعام فان شهدوا أن الله حرمه فلا تشهد معهم أي لا تصدق قولهم
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا
أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون
قوله تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ما بمعنى الذي
وفي لا قولان
أحدهما أنها زائدة كقوله أن لا تسجد
والثاني أنها ليست زائدة وإنما هي نافية فعلى هذا القول في تقدير الكلام ثلاثة
أقوال
أحدها أن يكون قوله أن لا تشركوا محمولا على المعنى فتقديره أتل عليكم أن لا
تشركوا أي أتل تحريم الشرك
والثاني أن يكون المعنى أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله وبالوالدين إحسانا محمول على
معنى أوصيكم بالوالدين إحسانا ذكرهما الزجاج
والثالث أن الكلام تم عند قوله حرم ربكم ثم في قوله عليكم قولان
أحدهما أنها إغراء كقوله عليكم أنفسكم فالتقدير عليكم أن لا تشركوا ذكره ابن
الانباري
والثاني
أن يكون بمعنى فرض عليكم ووجب عليكم أن لا تشركوا وفي هذا الشرك قولان
أحدهما أنه ادعاء شريك مع الله عز و جل والثاني أنه طاعة غيره في معصيته
قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم يريد دفن البنات أحياء من إملاق أي من خوف فقر
قوله تعالى ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن فيه خمسة اقوال
أحدها أن الفواحش الزنا وما ظهر منه الإعلان به وما بطن الاستسرار به قاله ابن
عباس والحسن والسدي
والثاني أن ما ظهر الخمر ونكاح المحرمات وما بطن الزنا قاله سعيد بن جبير ومجاهد
والثالث أن ما ظهر الخمر وما بطن الزنا قاله الضحاك
والرابع أنه عام في الفواحش وظاهرها علانيتها وباطنها سرها قاله قتادة
والخامس أن ما ظهر أفعال الجوارح وما بطن اعتقاد القلوب ذكره الماوردي في تفسير
هذا الموضع وفي تفسير قوله وذروا ظاهر الإئم وباطنه والنفس التي حرم الله نفس مسلم
أو معاهد والمراد بالحق إذن الشرع
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان
بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم قاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله
أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون
قوله
تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده إنما خص مال اليتيم
لأن الطمع فيه لقلة مراعيه وضعف مالكه أقوى
وفي قوله إلا بالتي هي أحسن أربعة أقوال
أحدها أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته قاله ابن عباس وابن زيد
والثاني التجارة فيه قاله سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والسدي
والثالث أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه قاله ابن السائب
والرابع أنه حفظه عليه وتثميره له قاله الزجاج قال وحتى محمولة على المعنى فالمعنى
احفظوه عليه حتى يبلغ أشده فاذا بلغ أشده فادفعوه إليه فأما الأشد فهو استحكام قوة
الشباب والسن قال ابن قتيبة ومعنى الآية حتى يتناهى في النبات إلى حد الرجال يقال
بلغ أشده إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان وقال أبو عبيدة الأشد لا واحد
له منه فان أكرهوا على ذلك قالوا شد بمنزلة ضب والجمع أضب قال ابن الانباري وقال
جماعة من البصريين واحد الأشد شد بضم الشين وقال بعض البصريين واحد الأشد شدة
كقولهم نعمة وأنعم وقال بعض أهل اللغة الأشد اسم لا واحد له وللمفسرين في الأشد
ثمانية أقوال
أحدها أنه ثلاث وثلاثون سنة رواه ابن جبير عن ابن عباس
والثاني ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أربعون سنة روي عن عائشة عليها السلام
والرابع
ثماني عشرة سنة قاله سعيد بن جبير ومقاتل
والخامس خمس وعشرون سنة قاله عكرمة
والسادس أربع وثلاثون سنة قاله سفيان الثوري
والسابع ثلاثون سنة قاله السدي وقال ثم جاء بعد هذه الآية حتى بلغوا النكاح فكأنه
يشير إلى النسخ
والثامن بلوغ الحلم قاله زيد بن أسلم والشعبي ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك بن أنس
وهو الصحيح ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذكر
عنهم وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى
ولما بلغ أشده إلى هذا المكان وذلك نهاية الأشد وهذا ابتداء تمامه وليس هذا مثل
ذاك قال ابن جرير وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف لأن
المعنى حتى يبلغ أشده فإذا بلغ اشده فآنستم منه رشدا فادفعوا إليه ماله
قال المصنف إن أراد بما ظهر ما ظهر في هذه الآية فليس بصحيح وإنما استفيد إيناس
الرشد والإسلام من آية أخرى وإنما أطلق في هذه الآية ما قيد في غيرها فحمل المطلق
على المقيد
قوله تعالى وأوفوا الكيل أي أتموه ولا تنقصوا منه و الميزان أي وزن الميزان والقسط
العدل لا نكلف نفسا إلا وسعها أي ما يسعها ولا تضيق عنه قال القاضي أبو يعلى لما
كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل كلفنا الاجتهاد في التحري دون
تحقيق الكيل والوزن
قوله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا أي إذا تكلمتم أو شهدتم فقولوا الحق
ولو
كان المشهود له أو عليه ذا قرابة وعهد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم
به وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون أي
لتذكروه وتأخذوا به قرأ ابن كثير وأبو عمرو تذكرون ويذكرون ويذكر الإنسان وأن يذكر
وليذكروا مشددا ذلك كله وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا
قوله أولا يذكر الإنسان فانهم خففوه روى أبان وحفص عن عاصم يذكرون خفيفة الذال في
جميع القرآن قرأ حمزة والكسائي يذكرون مشددا إذا كان بالياء ومخففا إذا كان بالتاء
وأن هذه صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به
لعلكم تتقون
قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وأن بفتح
الألف مع تشديد النون قال الفراء إن شئت جعلت أن مفتوحة بوقوع أتل عليها وإن شئت
جعلتها خفضا على معنى ذلكم وصاكم به وبأن هذا صراطي مستقيما وقرأ ابن عامر بفتح
الألف أيضا إلا أنه خفف النون فجعلها مخففة من الثقيلة وحكم إعرابها حكم تلك وقرأ
حمزة والكسائي بتشديد النون مع كسر الألف قال الفراء وكسر الألف على الاستئناف وفي
الصراط قولان
أحدهما أنه القرآن والثاني الإسلام وقد بينا إعراب قوله مستقيما أيضا فأما السبل
فقال ابن عباس هي الضلالات وقال مجاهد
البدع
والشبهات وقال مقاتل أراد ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث فتفرق بكم عن
سبيله أي فتضلكم عن دينه
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء
ربهم يؤمنون
قوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب قال الزجاج ثم هاهنا للعطف على معنى التلاوة
فالمعنى أتل ما حرم ربكم ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى
وقال ابن الانباري الذي بعد ثم مقدم على الذي قبلها في النية والتقدير ثم كنا قد
آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى تماما على الذي أحسن في قوله تماما قولان
أحدهما أنها كلمة متصلة بما بعدها تقول أعطيتك كذا تماما على كذا وتماما لكذا وهذا
قول الجمهور
والثاني أن قوله تماما كلمة قائمة بنفسها غير متصلة بما بعدها
والتقدير
آتينا موسى الكتاب تماما أي في دفعة واحدة لم نفرق إنزاله كما فرق إنزال القرآن
ذكره أبو سليمان الدمشقي
وفي المشار إليه بقوله أحسن أربعة أقوال
أحدها أنه الله عز و جل ثم في معنى الكلام قولان أحدهما تماما على إحسان الله إلى
أنبيائه قاله ابن زيد والثاني تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى وعلى هذين
القولين يكون الذي بمعنى ما
والقول الثاني أنه إبراهيم الخليل عليه السلام فالمعنى تماما للنعمة على إبراهيم
الذي أحسن في طاعة الله وكانت نبوة موسى نعمة على إبراهيم لأنه من ولده ذكره
الماوردي
والقول الثالث أنه كل محسن من الانبياء وغيرهم وقال مجاهد تماما على المحسنين أي
تماما لكل محسن وعلى هذا القول يكون الذي بمعنى من وعلى بمعنى لام الجر ومن هذا
قول العرب أتم عليه وأتم له قال الراعي ... رعته أشهرا وخلا عليها ...
أي لها
قال ابن قتيبة ومثل هذا ان تقول أوصي بمالي للذي غزا وحج تريد للغازين والحاجين
والقول
الرابع أنه موسى ثم في معنى أحسن قولان
أحدهما أحسن في الدنيا بطاعة الله عز و جل قال الحسن وقتادة تماما لكرامته في
الجنة إلى إحسانه في الدنيا وقال الربيع هو إحسان موسى بطاعته وقال ابن جرير تماما
لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا
والثاني أحسن من العلم وكتب الله القديمة وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة ويكون
التمام بمعنى الزيادة ذكره ابن الانباري فعلى هذين القولين يكون الذي بمعنى ما
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والحسن وابن يعمر على الذي أحسن بالرفع قال
الزجاج منعاه على الذي هو أحسن الأشياء وقرأ عبد الله بن عمرو وأبو المتوكل وأبو
العالية على الذي أحسن برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون وهي تحتمل الإحسان
وتحتمل العلم
قوله تعالى وتفصيلا لكل شيء أي تبيانا لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى
علمه لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون
قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك يعني القرآن فاتبعوه واتقوا أن تخالفوه لعلكم
ترحمون قال الزجاج لتكونوا راجين للرحمة
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين
قوله تعالى أن تقولوا سبب نزولها أن كفار مكة قالوا قاتل الله
اليهود
والنصارى كيف كذبوا أنبيائهم فوالله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم فنزلت هذه
الآية قاله مقاتل قال الفراء أن في موضع نصب في مكانين أحدهما أنزلناه لئلا تقولوا
والآخر من قوله واتقوا أن تقولوا وذكر الزجاج عن البصريين أن معناه أنزلناه كراهة
أن تقولوا ولا يجيزون إضمار لا فأما الخطاب بهذه الآية فهو لأهل مكة والمراد إثبات
الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا
على اليهود والنصارى وكنا غافلين عما فيهما ودراستهم قراءتهم الكتب قال الكسائي
وإن كنا عن دراستهم لغافلين لا نعلم ما هي لأن كتبهم لم تكن بلغتنا فأنزل الله
كتابا بلغتهم لتنقطع حجتهم
أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جآءكم بينة من ربكم وهدى
ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء
العذاب بما كانوا يصدفون
قوله تعالى لكنا أهدى منهم قال الزجاج إنما كانوا يقولون هذا لأنهم مدلون بالأذهان
والأفهام وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم وهم أميون لا يكتبون فقد جاءكم بينة
أي ما فيه البيان وقطع الشبهات قال ابن عباس فقد جاءكم بينة أي حجة وهو النبي
والقرآن والهدى والبيان والرحمة والنعمة فمن أظلم أي أكفر ممن كذب بآيات الله يعني
محمدا والقرآن وصدف عنها أعرض فلم يؤمن بها وسوء العذاب قبيحه
هل
ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض
آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل
انتظروا إنا منتظرون
قوله تعالى هل ينظرون أي ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة قرأ ابن كثير ونافع وعاصم
وأبو عمرو وابن عامر تأتيهم بالتاء وقرأ حمزة والكسائي يأتيهم بالياء وهذا الإتيان
لقبض أرواحهم وقال مقاتل المراد بالملائكة ملك الموت وحده
قوله تعالى أو يأتي ربك قال الحسن أو يأتي أمر ربك وقال الزجاج أو يأتي إهلاكه
وانتقامه إما بعذاب عاجل أو بالقيامة
قوله تعالى أو يأتي بعض آيات ربك وروى عبد الوارث إلا القزاز بتسكين ياء أو يأتي
وفتحها الباقون وفي هذه الآية أربعة أقوال
أحدها أنه طلوع الشمس من مغربها رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و
سلم وبه قال ابن مسعود وفي رواية زرارة بن أوفى عنه وعبد الله ابن عمرو ومجاهد
وقتادة والسدي وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فاذا طلعت ورآها
الناس آمن من عليها فذلك حين لا ينفع نفسا
إيمانها
لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا وروى عبد الله ابن عمرو بن العاص عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من
مغربها فاذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل
والثاني أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما رواه مسروق عن ابن مسعود
والثالث أنه إحدى الآيات الثلاث طلوع الشمس من مغربها والدابة وفتح يأجوج ومأجوج
روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود
والرابع أنه طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض قاله أبو هريرة والأول أصح
والمراد بالخير هاهنا العمل الصالح وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ
لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان وقال الضحاك من أدركه بعض الآيات وهو على عمل
صالح مع إيمانه قبل منه كما يقبل منه قبل الآية وقيل إن الحكمة في طلوع الشمس من
مغربها أن الملحدة والمنجمين زعموا أن ذلك لا يكون فيريهم الله قدرته ويطلعها من
المغرب كما أطلعها من المشرق ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم فأت بها من
المغرب فبهت
فصل
وفي قوله قل انتظروا إنا منتظرون قولان
أحدهما أن المراد به التهديد فهو محكم
والثاني أنه أمر بالكف عن القتال فهو منسوخ بآية السيف
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم
بما كانوا يفعلون
قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو فرقوا مشددة وقرأ
حمزة والكسائي فارقوا بألف وكذلك قرؤوا في الروم فمن قرأ فرقوا أراد آمنوا ببعض
وكفروا ببعض ومن قرأ فارقوا أراد باينوا وفي المشار إليهم أربعة أقوال
أحدها أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة قاله أبو هريرة
والثاني أنهم اليهود والنصارى قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي
والثالث اليهود قاله مجاهد
والرابع جميع المشركين قاله الحسن فعلى هذا القول دينهم الكفر الذي يعتقدونه دينا
وعلى ما قبله دينهم الذي أمرهم الله به والشيع الفرق والأحزاب قال الزجاج ومعنى
شيعت في اللغة اتبعت والعرب تقول شاعكم السلام وأشاعكم أي تبعكم
قال
الشاعر ... ألا يا نخلة من ذات عرق ... برود الظل شاعكم السلام ...
وتقول أتيتك غدا أو شيعة أي أو اليوم الذي يتبعه فمعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم
بعضا وليس كلهم متفقين
وفي قوله تعالى لست منهم في شيء قولان
أحدهما لست من قتالهم في شيء ثم نسخ بآية السيف وهذا مذهب السدي
والثاني لست منهم أي أنت بريء منهم وهم منك برءاء إنما أمرهم إلى الله في جزائهم
فتكون الآية محكمة
ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا
يظلمون
قوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وقرأ يعقوب والقزاز عن عبد الوارث عشر
بالتنوين أمثالها بالرفع قال ابن عباس يريد من عملها كتبت له عشر حسنات ومن جاء
بالسيئة فلا يجزى إلا جزاء مثلها وفي الحسنة والسيئة هاهنا قولان
أحدهما أن الحسنة قول لا إله إلا الله والسيئة الشرك قاله ابن مسعود ومجاهد
والنخعي
والثاني أنه عام في كل حسنة وسيئة روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال يقول الله عز و جل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد
ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر فان قيل
إذا
كانت الحسنة كلمة التوحيد فأي مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها فالجواب
أن جزءا الحسنة معلوم القدر عند الله فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله وكذلك السيئة
وقد أشرنا إلى هذا في المائدة عند قوله فكأنما قتل الناس جميعا فان قيل المثل مذكر
فلم قال عشر أمثالها والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث فالجواب أن الأمثال خلقت
حسنات مؤنثة وتلخيص المعني فله عشر حسنات أمثالها فسقطت الهاء من عشر لأنها عدد
مؤنث كما تسقط عند قولك عشر نعال وعشر جباب
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين
قوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم قال الزجاج أي دلني على الدين الذي
هو دين الحق ثم فسر ذلك بقوله دينا قيما قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو قيما مفتوحة
القاف مشددة الياء والقيم المستقيم وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي قيما بكسر
القاف وتخفيف الياء قال الزجاج وهو مصدر كالصغر والكبر وقال مكي من خففه بناه على
فعل وكان أصله أن يأتي بالواو فيقول قوما كما قالوا عوض وحول ولكنه شذ عن القياس
قال الزجاج ونصب قوله دينا قيما محمول على المعنى لأنه لما قال هداني دل على عرفني
دينا ويجوز أن يكون على البدل من قوله إلى صراط مستقيم فالمعنى هداني صراطا
مستقيما دينا قيما وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم والمعنى هداني ملة إبراهيم
في حال حنيفيته
قل
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول
المسلمين
قوله تعالى قل إن صلاتي يريد الصلاة المشروعة والنسك جمع نسيكة وفي النسك هاهنا
أربعة أقوال
أحدها أنها الذبائح قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن قتيبة والثاني الدين
قاله الحسن والثالث العبادة
قال الزجاج النسك كل ما تقرب به إلى الله عز و جل إلا أن الغالب عليه أمر الذبح
والرابع أنه الدين والحج والذبائح رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى ومحياي ومماتي الجمهور على تحريك ياء محياي وتسكين ياء مماتي وقرأ نافع
بتسكين ياء محياي ونصب ياء مماتي ثم للمفسرين في معناه قولان
أحدهما أن معناه لا يملك حياتي ومماتي إلا الله
والثاني حياتي لله في طاعه ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه ومقصود الآية أنه أخبرهم
أن أفعالي وأحوالي لله وحده لا لغيره كما تشركون أنتم به
قوله تعالى وأنا أول المسلمين قال الحسن وقتادة أول المسلمين من هذه الأمة
قل
أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر
أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
قوله تعالى قل أغير الله أبغي ربا سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله
عليه و سلم ارجع عن هذا الأمر ونحن لك الكفلاء بما أصابك من تبعة فنزلت هذه الآية
قاله مقاتل
قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها أي لا يؤخذ سواها بعملها وقيل المعنى إلا
عليها عقاب معصيتها ولها ثواب طاعتها
ولا تزر وازرة وزر أخرى قال الزجاج لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى والمعنى لا يؤخذ
أحد بذنب غيره قال أبو سليمان ولما ادعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين
أنهم أولى بالله من غيرهم عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله فينبئكم بما كنتم فيه
تختلفون ونظيره إن الله يفصل بينهم يوم القيامة
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك
سريع العقاب وإنه لغفور رحيم
قوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض قال أبو عبيدة الخلائف جمع خليفة
قال الشماخ ... تصيبهم وتخطئني المنايا ... وأخلف في ربوع عن ربوع
وللمفسرين
فيمن خلفوه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض قاله ابن عباس
والثاني أن بعضهم يخلف بعضا قاله ابن قتيبة
والثالث أن أمة محمد خلفت سائر الأمم ذكره الزجاج
قوله تعالى ورفع بعضكم فوق بعض درجات أي في الرزق والعلم والشرف والقوة وغير ذلك
ليبلوكم أي ليختبركم فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب
قوله تعالى إن ربك سريع العقاب فيه قولان
أحدهما أنه سماه سريعا لأنه آت وكل آت قريب
والثاني أنه إذا شاء العقوبة أسرع عقابه
بسم
الله الرحمن الرحيم سورة الأعراف
فصل في نزولها
روى العوفي وابن أبي طلحة وأبو صالح عن ابن عباس أن سورة الأعراف من المكي وهذا
قول الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة وروي عن ابن عباس وقتادة أنها
مكية إلا خمس آيات أولها قوله تعالى واسألهم عن القرية وقال مقاتل كلها مكية إلا
قوله واسألهم عن القرية إلى قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم فانهن
مدنيات
آلمص
فأما التفسير فقوله تعالى المص قد ذكرنا في أول سورة البقرة كلاما مجملا في الحروف
المقطعة أوائل السور فهو يعم هذه أيضا فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال
أحدها أن معناه أنا الله أعلم وأفصل رواه أبو الضحى عن ابن عباس
والثاني
أنه قسم أقسم الله به رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنها اسم من أسماء الله تعالى رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أن الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد
والصاد مفتاح اسمه صادق قاله أبو العالية
والخامس أن المص اسم للسورة قاله الحسن
والسادس أنه اسم من أسماء القرآن قاله قتادة
والسابع أنها بعض كلمة ثم في تلك الكلمة قولان
أحدهما المصور قاله السدي والثاني المصير إلى كتاب أنزل إليك ذكره الماوردي
كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين
قوله تعالى كتاب أنزل إليك قال الأخفش رفع الكتاب بالابتداء ومذهب الفراء أن الله
اكتفى في مفتتح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها كما يقول القائل ا ب ت ث ثمانية
وعشرون حرفا فالمعنى حروف المعجم كتاب أنزلناه إليك قال ابن الانباري ويجوز أن
يرتفع الكتاب باضمار هذا الكتاب وفي الحرج قولان
أحدهما أنه الشك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة
والثاني أنه الضيق قاله الحسن والزجاج وفي هاء منه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الكتاب فعلى هذا في معنى الكلام قولان أحدهما لا يضيقن صدرك
بالإبلاغ ولا تخافن قاله الزجاج والثاني لا تشكن أنه من عند الله
والقول
الثاني أنها ترجع إلى مضمر وقد دل عليه الإنذار وهو التكذيب ذكره ابن الانباري قال
الفراء فمعنى الآية لا يضيقن صدرك إن كذبوك قال الزجاج وقوله تعالى لتنذر به مقدم
والمعنى أنزل إليه لتنذر به وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه وذكرى يصلح أن
يكون في موضع رفع ونصب وخفض فأما النصب فعلى قوله أنزل إليك لتنذر به وذكرى
للمؤمنين أي ولتذكر به ذكرى لان في الإنذار معنى التذكير ويجوز الرفع على أن يكون
وهو ذكرى كقولك وهو ذكرى للمؤمنين فأما الخفض فعلى معنى لتنذر لأن معنى لتنذر لأن
تنذر المعنى للانذار والذكرى وهو في موضع خفض
إتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون
قوله تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم إن قيل كيف خاطبه بالإفراد في الآية
الأولى ثم جمع بقوله اتبعوا فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته حسن الجمع لذلك المعنى
والثاني أن الخطاب الأول خاص له والثاني محمول على الإنذار والإنذار في طريق القول
فكأنه قال لتقول لهم منذرا اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ذكرهما ابن الانباري
والثالث أن الخطاب الثاني للمشركين ذكره جماعة من المفسرين قال والذي أنزل إليهم
القرآن وقال الزجاج الذي أنزل القرآن وما أتى عن النبي صلى الله عليه و سلم لأنه
مما أنزل عليه لقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه
وما
نهاكم عنه فانتهوا ولا تتبعوا من دونه أولياء أي لا تتولوا من عدل عن دين الحق وكل
من ارتضى مذهبا فهو ولي أهل المذهب وقوله تعالى قليلا ما تذكرون ما زائدة مؤكدة
والمعنى قليلا تتذكرون قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم تذكرون
مشددة الذال والكاف وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم تذكرون خفيفة الذال مشددة
الكاف قال أبو علي من قرأ تذكرون بالتشديد أراد تتذكرون فأدغم التاء في الذال
وإدغامها فيها حسن لأنها التاء مهموسة والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتا من
المهموس وأقوى فادغام الأنقص في الأزيد حسن وأما حمزة ومن وافقه فانهم حذفوا التاء
التي أدغمها هؤلاء وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة وقرأ ابن عامر يتذكرون
بياء وتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمعنى قليلا ما يتذكر هؤلاء
الذين ذكروا بهذا الخطاب
وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قائلون
قوله تعالى وكم من قرية أهلكناها كم تدل على الكثرة ورب موضوعة للقلة قال الزجاج
المعنى وكم من أهل قرية فحذف الأهل لأن في الكلام دليلا عليه
وقوله تعالى فجاءها بأسنا محمول على لفظ القرية والمعنى فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير
متوقعين له إما ليلا وهم نائمون أو نهارا وهم قائلون قال ابن قتيبة بأسنا عذابنا
وبياتا ليلا وقائلون من القائلة نصف النهار فان قيل إنما أتاها البأس قبل الإهلاك
فكيف يقدم الهلاك فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها
أن الهلاك والبأس يقعان معا كما تقول أعطيتني فأحسنت وليس الإحسان بعد الإعطاء ولا
قبله وإنما وقعا معا قاله الفراء
والثاني أن الكون مضمر في الآية تقديره أهلكناها وكان بأسنا قد جاءها فأضمر الكون
كما أضمر في قوله واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي ما كانت الشياطين تتلوه وقوله
تعالى إن يسرق أي إن يكن سرق
والثالث أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره وكم من قرية جاءها بأسنا بياتا أو هم
قائلون فأهلكناها كقوله تعالى إني متوفيك ورافعك إلي أي رافعك ومتوفيك ذكرهما ابن
الانباري
قوله تعالى أو هم قائلون قال الفراء فيه واو مضمرة والمعنى فجاءها بأسنا بياتا أو
وهم قائلون فاستثقلوا نسقا على نسق
فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين
قوله تعالى فما كان دعواهم قال اللغويون الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء والقول والمعنى
ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم قال ابن الانباري
وللدعوى في الكلام موضعان
أحدهما الإدعاء والثاني القول والدعاء
قال
الشاعر ... إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي ... بدعواك من مذل بها فيهون ...
فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين
قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم يعني الأمم يسألون هل بلغكم الرسل وماذا
أجبتم ويسأل الرسل هل بلغتم وماذا أجبتم فلنقصن عليهم أي فلنخبرنهم بما عملوا بعلم
منا وما كنا غائبين عن الرسل والأمم وقال ابن عباس يوضع الكتاب فيتكلم بما كانوا
يعملون
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك
الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون
قوله تعالى والوزن يومئذ الحق أي العدل وإنما قال موازينه لأن من في معنى جميع يدل
عليه قوله فأولئك وفي معنى يظلمون قولان
أحدهما يجحدون والثاني يكفرون
قال الفراء والمراد بموازينه وزنه والعرب تقول هل لك في درهم بميزان درهمك ووزن
درهمك ويقولون داري بميزان دارك ووزن دارك ويريدن حذاء دارك
قال
الشاعر ... قد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكم مخاصم ميزانه ...
يعني مثل كلامه ولفظه
فصل
والقول بالميزان مشهور في الحديث وظاهر القرآن ينطق به وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا
الأعمال أعراض فكيف توزن فالجواب أن الوزن يرجع إلى الصحائف بدليل حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله عز و جل يستخلص
رجلا من أمتي على رؤوس الناس يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد
البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول
ألك عذر أو حسنة فيبهت الرجل فيقول لا يا رب فيقول بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا
ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال فطاشت السجلات وثقلت البطاقة
أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه
قال يؤتى بالرجل الطويل الأكول
الشروب
فلا يزن جناح بعوضة فعلى هذا يوزن الإنسان قال ابن عباس توزن الحسنات والسيئات في
ميزان له لسان وكفتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان
فتثقل حسناته على سيئاته وأما الكافر فيؤتى بعمله في أقبح صورة فيوضع في كفة
الميزان فيخف وزنه وقال الحسن للميزان لسان وكفتان وجاء في الحديث أن داود عليه
السلام سأل ربه ان يريه الميزان فأراه إياه فقال يا إلهي من يقدر أن يملأ كفتيه
حسنات فقال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة وقال حذيفة جبريل صاحب
الميزان يوم القيامة فيقول له ربه زن بينهم ورد من بعضهم على بعض فيرد على المظلوم
من الظالم ما وجد له من حسنة فان لم تكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فرد على
سيئات الظالم فيرجع وعليه مثل الجبال
فان قيل أليس الله يعلم مقادير الأعمال فما الحكمة في وزنها فالجواب أن فيه خمسة
حكم
أحدها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا والثانية إظهار علامة السعادة
والشقاوة في الأخرى والثالثة تعريف العباد ما لهم من خير وشر والرابعة إقامة الحجة
عليهم والخامسة الإعلام بأن الله عادل لا يظلم ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب
واستنسخها من غير جواز النسيان عليه
ولقد
مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون
قوله تعالى ولقد مكناكم في الأرض فيه قولان
أحدهما مكناكم إياها والثاني سهلنا عليكم التصرف فيها
وفي المعايش قولان
أحدهما ما تعيشون به من المطاعم والمشارب
والثاني ما تتوصلون به إلى المعايش من زراعة وعمل وكسب وأكثر القراء على ترك الهمز
في معايش وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة قال الزجاج وجميع النحويين البصريين
يزعمون أن همزها خطأ لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة نحو صحيفة وصحائف
فصحيفة من الصحف والياء زائدة فأما معايش فمن العيش فالياء أصلية
قوله تعالى قليلا ما تشكرون أي شكركم قليل وقال ابن عباس يريد أنكم غير شاكرين
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من
الساجدين
قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم فيه ثمانية أقوال
أحدها ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم في الأرحام رواه عبد الله بن الحارث عن
ابن عباس
والثاني ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس وبه قال عكرمة
والثالث
ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني ذريته من بعده رواه العوفي عن ابن عباس
والرابع ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم في ظهره قاله مجاهد
والخامس خلقناكم نطفا في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صورناكم عند اجتماع النطف
في الأرحام قاله ابن السائب
والسادس خلقناكم في بطون أمهاتكم ثم صورناكم فيما بعد الخلق بشق السمع والبصر قاله
معمر
والسابع خلقناكم يعني آدم خلقناه من تراب ثم صورناكم أي صورناه قاله الزجاج وابن
قتيبة قال ابن قتيبة فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه فمن قاله عني بقوله خلقناكم آدم
فمعناه خلقنا أصلكم ومن قال صورنا ذريته في ظهره أراد إخراجهم يوم الميثاق كهيئة
الذر
والثامن ولقد خلقناكم يعني الأرواح ثم صورناكم يعني الأجساد حكاه القاضي أبو يعلى
في المعتمد وفي ثم المذكورة مرتين قولان
أحدهما أنها بمعنى الواو قاله الأخفش والثاني أنها للترتيب قاله الزجاج
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
قوله تعالى ما منعك ألا تسجد ما استفهام ومعناها الإنكار قال الكسائي لا هاهنا
زائدة والمعنى ما منعك أن تسجد وقال الزجاج موصع ما رفع والمعنى أي شيء منعك من
السجود ولا زائدة
مؤكدة
ومثله لئلا يعلم أهل الكتاب قال ابن قتيبة وقد تزاد لا في الكلام والمعنى طرحها
لإباء في الكلام أو جحد كهذه الآية وإنما زاد لا لأنه لم يسجد ومثله أنها إذا جاءت
لا يؤمنون على قراءة من فتح أنها فزاد لا لأنهم لم يؤمنوا ومثله وحرام على قرية
أهلكناها أنهم لا يرجعون وقال الفراء لا هاهنا جحد محض وليست بزائدة والمنع راجع
إلى تأويل القول والتأويل من قال لك لا تسجد فأحل المنع محل القول ودخلت بعده أن
ليدل على تأويل القول الذي لم يتصرح لفظه وقال ابن جرير في الكلام محذوف تقديره ما
منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد قال الزجاج وسؤال الله تعالى لإبليس ما منعك
توبيخ له وليظهر أنه معاند ولذلك لم يتب وأتى بشيء في معنى الجواب ولفظه غير
الجواب لأن قوله أنا خير منه إنما هو جواب أيكما خير ولكن المعنى منعني من السجود
فضلي عليه ومثله قولك للرجل كيف كنت فيقول أنا صالح وإنما الجواب كنت صالحا فيجيب
بما يحتاج إليه وزيادة قال العلماء وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص وخفي
عليه فضل الطين على النار وفضله من وجوه
أحدها أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة ومن طبع الطين الهدوء والرزانة
والثاني أن الطين سبب الإنبات والإيجاد والنار سبب الإعدام والإهلاك
والثالث أن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين
قوله
تعالى فاهبط منها في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى السماء لأنه كان فيها قاله الحسن
والثاني إلى الجنة قاله السدي
قوله تعالى فما يكون لك أن تتكبر فيها إن قيل فهل لأحد أن يتكبر في غيرها فالجواب
أن المعنى ما للمتكبر أن يكون فيها وإنما المتكبر في غيرها وأما الصاغر فهو الذليل
والصغار الذل قال الزجاج استكبر إبليس بابائه السجود فأعلمه الله أنه صاغر بذلك
قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين
قوله تعالى قال أنظرني أي أمهلني وأخرني إلى يوم يبعثون فأراد أن يعبر فنطرة الموت
وسأل الخلود فلم يجبه إلى ذلك وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم وقد
بين مدة إمهاله في الحجر بقوله إلى يوم الوقت المعلوم وفي ما سأل الإمهال له قولان
أحدهما الموت والثاني العقوبة فان قيل كيف قيل له إنك من المنظرين وليس أحد أنظر
سواه فالجواب أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم
قوله تعالى فبما أغويتني في معنى هذا الإغواء قولان
أحدهما أنه بمعنى الإضلال قاله ابن عباس والجمهور
والثاني أنه بمعنى الإهلاك ومنه قوله فسوف يلقون غيا أي هلاكا ذكره ابن الأنباري
وفي معنى فبما قولان
أحدهما
أنها بمعنى القسم أي فباغوائك لي
والثاني أنها بمعنى الجزاء أي فبأنك أغويتني ولأجل أنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك
المستقيم قال الفراء والزجاج أي على صراطك ومثله قولهم ضرب زيد الظهر والبطن وفي
المراد بالصراط هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه طريق مكة قاله ابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير كأن المراد صدهم عن الحج
والثاني أنه الأسلام قاله جابر بن عبد الله وابن الحنيفة ومقاتل
والثالث أنه الحق قاله مجاهد
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين
قوله تعالى ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فيه سبعة
أقوال
أحدها من بين أيديهم أشككهم في آخرتهم ومن خلفهم أرغبهم في دنياهم وعن أيمانهم أي
من قبل حسناتهم وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم قاله ابن عباس
والثاني مثله إلا أنهم جعلوا من بين أيديهم الدنيا ومن خلفهم الآخرة قاله النخعي
والحكم بن عتيبة
والثالث مثل الثاني إلا أنهم جعلوا وعن أيمانهم من قبل الحق أصدهم عنه وعن شمائلهم
من قبل الباطل أردهم إليه قاله مجاهد والسدي
والرابع من بين أيديهم من سبيل الحق ومن خلفهم من سبيل
الباطل
وعن أيمانهم من قبل آخرتهم وعن شمائلهم من أمر الدنيا قاله أبو صالح
والخامس من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم من حيث لا
يبصرون نقل عن مجاهد أيضا
والسادس أن المعنى لأتصرفن لهم في الإضلال من جميع جهاتهم قاله الزجاج وأبو سليمان
الدمشقي فعلى هذا يكون ذكر هذه الجهات للمبالغة في التأكيد
والسابع من بين أيديهم فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه على طاعة ومن خلفهم
فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون فيه من معصية وعن أيمانهم من قبل الغنى فلا
ينفقونه في مشكور وعن شمائلهم من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور قاله
الماوردي
قوله تعالى ولا تجد أكثرهم شاكرين فيه قولان
أحدهما موحدين قاله ابن عباس
والثاني شاكرين لنعمتك قاله مقاتل فان قيل من أين علم إبليس ذلك فقد أسلفنا الجواب
عنه في سورة النساء
قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن
أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين
قوله تعالى قال فاخرج منها مذؤوما قرأ الأعمش مذوما بضم الذال
من
غير همز قال الفراء الذأم الذم يقال ذأمت الرجل أذأمه ذأما وذممته أذمه ذما وذمته
أذيمه ذيما ويقال رجل مذؤوم ومذموم ومذيم بمعنى قال حسان بن ثابت ... واقاموا حتى
أبيروا جميعا ... في مقام وكلهم مذؤوم ...
قال ابن قتيبة المذؤوم المذموم بأبلغ الذم والمدحور المقصى المبعد وقال الزجاج
معنى المذؤوم كمعنى المذموم والمدحور المبعد من رحمة الله واللام من لأملأن لام
القسم والكلام بمعنى الشرط والجزاء كأنه قيل له من تبعك أعذبه فدخلت اللام
للمبالغة والتوكيد فلام لأملأن هي لام القسم ولام لمن تبعك توطئة لها فأما قوله
منهم فقال ابن الانباري الهاء والميم عائدتان على ولد آدم لانه حين قال ولقد
خلقناكم ثم صورناكم كان مخاطبا لولد آدم فرجع إليهم فقال لمن تبعك منهم فجعلهم
غائبين لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لبسا والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ومن
الغيبة إلى الخطاب ومن قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم خطاب لآدم قال أعاد الهاء
والميم على ولده لأن ذكره يكفي من ذكرهم والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد
إذا انكشف المعنى وزال اللبس قال الشاعر ... ارى الخطفى بذ الفرزدق شعره ... ولكن
خيرا من كليب مجاشع ...
أراد ارى ابن الخطفي فاكتفى بالخطفي من ابنه
قوله تعالى لأملأن جهنم منكم يعني أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشياطين
فوسوس
لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
قوله تعالى فوسوس لهما الشيطان قيل إن الوسوسة إخفاء الصوت قال ابن فارس الوسواس
صوت الحلي ومنه وسواس الشيطان ولهما بمعنى إليهما ليبدي لهما أي ليظهر لهما ماووري
عنهما أي ستر وقيل إن لام ليبدي لام العاقبة وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور
عورتهما ولم تكن الوسوسة لظهورها
قوله تعالى إلا أن تكونا ملكين قال الأخفش والزجاج معناه ما نهاكما إلا كراهة أن
تكونا ملكين وقال ابن الانباري المعنى إلا أن لا تكونا فاكتفى بأن من لا فأسقطها
فان قيل كيف انقاد آدم لإبليس مستشرفا إلى أن يكون ملكا وقد شاهد الملائكة ساجدة
له فعنه جوابان
أحدهما أنه عرف قربهم من الله واجتماع أكثرهم حول عرشه فاستشرف لذلك قاله ابن
الأنباري
والثاني أن المعنى إلا أن تكونا طويلي العمر مع الملائكة أو تكونا من الخالدين لا
تموتان أبدا قاله أبو سليمان الدمشقي وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير أن تكونا
ملكين بكسر اللام وهي قراءة الزهري
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما
وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة
وأقل
لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا
لنكونن من الخاسرين قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
قوله تعالى وقاسمهما قال الزجاج حلف لهما فدلاهما في المعصية بأن غرهما
قال ابن عباس غرهما باليمين وكان آدم لا يظن أن أحدا يحلف بالله كاذبا
قوله تعالى فلما ذاقا الشجرة أي فلما ذاقا ثمر الشجرة قال الزجاج وهذا يدل على
أنهما ذاقاها ذواقا ولم يبالغا في الأكل والسوأة كناية عن الفرج لا أصل له في
تسميته ومعنى طفقا أخذا في الفعل والأكثر طفق يطفق وقد رويت طفق يطفق بكسر الفاء
ومعنى يخصفان يجعلان ورقة على ورقة ومنه قيل للذي يرقع النعل خصاف
وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم ألا ترى إلى قوله ليبدي لهما
ما ووري عنهما من سوءاتهما فانهما بادرا يستتران لقبح التكشف وقيل إنما سميت
السوأة سوأة لأن كشفها يسوء صاحبها قال وهب بن منبه كان لباسهما نورا على فروجهما
لا يرى أحدهما عورة الآخر فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوءاتهما وقرأ الحسن
سوأتهما على التوحيد وكذلك قرأ سخصفان بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد وقرأ
الزهري بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد وفي الورق قولان
أحدهما ورق التين قاله ابن عباس
والثاني
ورق الموز ذكره المفسرون وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله قال فيها تحيون يعني
الأرض واختلف القراء في تاء تخرجون فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو بضم التاء وفتح
الراء هاهنا وفي الروم وكذلك تخرجون وفي الزخرف كذلك تخرجون وفي الجاثية لا يخرجون
منها وقرأهن حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء وفتح ابن عامر التاء في الاعراف
فقط فأما التي في الروم إذا أنتم تخرجون وفي سأل سائل يوم يخرجون فمفتوحتان من غير
خلاف
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من
آيات الله لعلهم يذكرون - قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا سبب نزولها
أن ناسا من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة فنزلت هذه الآية قاله مجاهد وقيل إنه
لما ذكر عري آدم من علينا باللباس وفي معنى أنزلنا عليكم ثلاثة اقوال
أحدها خلقنا لكم والثاني ألهمناكم كيفية صنعه والثالث أنزلنا المطر الذي هو سبب
نبات ما يتخذ لباس وأكثر القراء قرؤوا وريشا وقرأ ابن عباس والحسن وزر بن حبيش
وقتادة والمفضل وأبان عن عاصم ورياشا بألف قال الفراء يجوز أن تكون الرياش جميع
الريش ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما قالوا لبس ولباس
قال
الشاعر ... فلما كشفن اللبس عنه مسحنه ... بأطراف طفل زان غيلا موشما ...
قال ابن عباس ومجاهد الرياش المال وقال عطاء المال والنعيم وقال ابن زيد الريش
الجمال وقال معبد الجهني الريش الرزق وقال ابن قتيبة الريش والرياش ما ظهر من
اللباس وقال الزجاج الريش اللباس وكل ما ستر الإنسان في جسمه ومعيشته يقال تريش
فلان أي صار له ما يعيش به أنشد سيبويه ... رياشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت
زيارتكم لماما ...
وعلى قول الأكثرين الريش والرياش بمعنى قال قطرب الريش والرياش واحد وقال سفيان
الثوري الريش المال والرياش الثياب
قوله تعالى ولباس التقوى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ولباس التقوى بالرفع
وقرأ ابن عامر ونافع والكسائي بنصب اللباس قال الزجاج من نصب اللباس عطف به على
الريش ومن رفعه فيجوز أن يكون مبتدأ ويجوز أن يكون مرفوعا باضمار هو المعنى وهو
لباس التقوى أي وستر العورة لباس المتقين وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال
أحدها
أنه السمت الحسن قاله عثمان بن عفان ورواه الذيال بن عمرو عن ابن عباس والثاني
العمل الصالح رواه العوفي عن ابن عباس والثالث الإيمان قاله قتادة وابن جريج
والسدي فعلى هذا سمي لباس التقوى لأنه يقي العذاب والرابع خشية الله تعالى قاله
عروة بن الزبير والخامس الحياء قاله معبد الجهني وابن الانباري والسادس ستر العورة
للصلاة قاله ابن زيد والسابع انه الدرع وسائر آلات الحرب قاله زيد بن علي والثامن
العفاف قاله ابن السائب والتاسع أنه ما يتقى به الحر والبرد قاله ابن بحر والعاشر
أن المعنى ما يلبسه المتقون في الآخرة خير مما يلبسه أهل الدنيا رواه عثمان ابن
عطاء عن أبيه
قوله تعالى ذلك خير قاله ابن قتيبة المعنى ولباس التقوى خير من الثياب لأن الفاجر
وإن كان حسن الثوب فهو بادي العورة وذلك زائدة قال الشاعر في هذا المعنى ... إني
كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسط القوم عريانا ...
قال ابن الانباري ويقال لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده لما أخبر عنه
بأنه خير من التعري إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعري في الطواف
قوله تعالى ذلك من آيات الله قال مقاتل يعني الثياب والمال من آيات الله وصنعه لكي
يذكروا فيعتبروا في صنعه
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما
ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء
للذين لا يؤمنون
قوله
تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان قال المفسرون هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون
عراة والمعنى لا يخدعنكم ولا يضلنكم بغروره فيزين لكم كشف عوراتكم كما أخرج أبويكم
من الجنة بغروره وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه لأنه السبب وفي لباسهما أربعة
أقوال
أحدها أنه النور رواه أبو صالح عن ابن عباس وقد ذكرناه عن ابن منبه
والثاني أنه كان كالظفر فلما أكلا لم يبق عليهما منه إلا الظفر رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس وبه قال عكرمة وابن زيد
والثالث أنه التقوى قاله مجاهد
والرابع أنه كان من ثياب الجنة ذكره القاضي أبو يعلى
قوله تعالى ليريهما سوءاتهما أي ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه إنه يراكم هو
وقبيله قال مجاهد قبيله الجن والشياطين قال ابن عباس جعلهم الله يجرون من بني آدم
مجرى الدم وصدور بني آدم مساكن لهم فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم
قوله تعالى إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون قال الزجاج سلطناهم عليهم
يزيدون في غيهم وقال أبو سليمان جعلناهم موالين لهم
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر
بالفحشاء اتقولون على الله مالا تعلمون
قوله تعالى وإذا فعلوا الفاحشة فيمن عني بهذه الآية ثلاثة اقوال
أحدها أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة والفاحشة كشف العورة رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس وبه قال مجاهد وزيد بن أسلم والسدي
والثاني
أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام وتلك الفاحشة روى هذا المعنى أبو صالح
عن ابن عباس
والثالث أنهم المشركون والفاحشة الشرك قاله الحسن وعطاء قال الزجاج فأعلمهم عز و
جل أنه لا يأمر بالفحشاء لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن والقسط العدل
والعدل ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميز فكيف يأمر بالفحشاء وهي ما
عظم قبحه
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم
تعودون
قوله تعالى وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد فيه أربعة أقوال
أحدها إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي
قاله ابن عباس والضحاك واختاره ابن قتيبة
والثاني توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي وابن زيد
والثالث اجعلوا سجودكم خالصا لله تعالى دون غيره قاله الربيع بن أنس
والرابع اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمرا بالجماعة لها ذكره الماوردي وفي قوله
وادعوه قولان
أحدهما أنه العبادة والثاني الدعاء وفي قوله مخلصين له الدين قولان
أحدهما مفردين له العبادة والثاني موحدين غير مشركين
وفي قوله كما بدأكم تعودون ثلاثة أقوال
أحدها كما بدأكم سعداء وأشقياء كذلك تبعثون روى هذا المعنى
علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد والقرظي والسدي ومقاتل والفراء
والثاني كما خلقتم بقدرته كذلك يعيدكم روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس وبه قال
الحسن وابن زيد والزجاج وقال هذا الكلام متصل بقوله فيها تحيون وفيها تموتون
والثالث كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون ذكره الماوردي
فريقا هدى وقريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله
ويحسبون أنهم مهتدون
قوله تعالى فريقا هدى قال الفراء نصب الفريق ب تعودون وقال ابن الانباري نصب فريقا
وفريقا على الحال من الضمير الذي في تعودون يريد تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين
بعضكم سعداء وبعضكم أشقياء
قوله تعالى حق عليهم الضلالة أي بالكلمة القديمة والإرادة السابقة
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين
قوله تعالى يا بني آدم خذوا زينتكم سبب نزولها أن ناسا من الأعراب كانوا يطوفون
بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل وكانت المرأة تعلق على فرجها سيورا
وتقول ... اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فنزلت
هذه الآية قاله ابن عباس وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن كانوا إذا حجوا فأفاضوا من
منى لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه فيلقيهما حتى يقضي
طوافه فنزلت هذه الآية وقال الزهري كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس قريش
وأحلافها فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس فان لم يجد من يعيره من
الحمس ألقى ثيابه وطاف عريانا فان طاف في ثياب نفسه جعلها حراما عليه إذا قضى
الطواف فلذلك جاءت هذه الآية وفي هذه الزينة قولان
أحدهما أنها الثياب ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه ورد في ستر العورة في الطواف
قاله ابن عباس والحسن في جماعة والثاني أنه ورد في ستر العورة في الصلاة قاله
مجاهد والزجاج والثالث أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد ذكره
الماوردي
والثاني أن المراد بالزينة المشط قاله أبو رزين
قوله تعالى وكلوا واشربوا قال ابن السائب كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حجهم
دسما ولا ينالون من الطعام إلا قوتا تعظيما لحجتهم فنزل قوله وكلوا واشربوا وفي
قوله ولا تسرفوا أربعة اقوال
أحدها لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم قاله ابن عباس
والثاني لا تأكلوا حراما فذلك الإسراف قاله ابن زيد
والثالث
لا تشركوا فمعنى الإسراف هاهنا الإشراك قاله مقاتل
والرابع لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة قاله الزجاج
ونقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد ليس في
كتابكم من علم الطب شيء فقال علي قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا قال
ما هي قال قوله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا قال النصراني ولا يؤثر عن نبيكم
شيء من الطب فقال قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة قال وما هي قال المعدة
بيت الداء والحمية رأس الدواء وعودوا كل بدن ما اعتاد فقال النصراني ما ترك كتابكم
ولا نبيكم لجالينوس طبا
قال المصنف هكذا نقلت هذه الحكاية إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم لا يثبت وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب لقط
المنافع في الطب
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في
الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون
قوله تعالى قل من حرم زينة الله في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها
أن المشركين عيروا المسلمين إذ لبسوا الثياب في الطواف وأكلوا الطيبات فنزلت رواه
أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الزروع وغيرها فنزلت هذه الآية
رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث نزلت في طوافهم بالبيت عراة قاله طاووس وعطاء وفي زينة الله قولان
أحدهما أنها ستر العورة فالمعنى من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم
والثاني أنها زينة اللباس وفي الطيبات قولان
أحدهما أنها الحلال والثاني المستلذ ثم في ما عني بها ثلاثة اقوال
أحدها أنها البحائر والسوائب والوصائل والحوامي التي حرموها قاله ابن عباس وقتادة
والثاني أنها السمن والألبان واللحم وكانوا حرموه في الإحرام قاله ابن زيد والثالث
الحرث والأنعام والألبان قاله مقاتل
قوله تعالى قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة قال ابن الانباري خالصة نصب
على الحال من لام مضمرة تقديرها هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة وهي لهم
في الآخرة خالصة فحذفت اللام لوضوح معناها كما تحذف العرب أشياء لا يلبس سقوطها
قال الشاعر ... تقول ابنتي لما رأتني شاحبا ... كأنك يحميك الطعام طبيب ... تتابع
أحداث تخر من أخوتي ... فشيبن رأسي والخطوب تشيب
أراد
فقلت لها الذي اكسبني ما ترين تتابع أحداث فحذف لانكشاف المعنى قال المفسرون إن
المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات فأكلوا ولبسوا ونكحوا ثم يخلص الله الطيبات في
الآخرة للمؤمنين وليس للمشركين فيها شيء وقيل خالصة لهم من ضرر أو إثم وقرأ نافع
خالصة بالرفع قال الزجاج ورفعها على أنه خبر بعد خبر كما تقول زيد عاقل لبيب
والمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا خالصة يوم القيامة
قوله تعالى كذلك نفصل الآيات أي هكذا نبينها
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا
بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون
قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش قرأ حمزة ربي الفواحش باسكان الياء ما ظهر
منها وما بطن فيه ستة اقوال
أحدها أن المراد بها الزنا ما ظهر منها علانيته وما بطن سره رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
والثاني أن ما ظهر نكاح الأمهات وما بطن الزنا رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه
قال علي بن الحسين
والثالث أن ما ظهر نكاح الأبناء نساء الآباء والجمع بين الأختين وأن تنكح المرأة
على عمتها أو خالتها وما بطن الزنا روي عن ابن عباس أيضا
والرابع أن ما ظهر الزنا وما بطن العزل قاله شريح
والخامس أن ما ظهر طواف الجاهلية عراة وما بطن الزنا قاله مجاهد
والسادس
أنه عام في جميع المعاصي ثم في ما ظهر منها وما بطن قولان
أحدهما أن الظاهر العلانية والباطن السر قاله أبو سليمان الدمشقي
والثاني أن ما ظهر أفعال الجوارج والباطن اعتقاد القلوب قاله الماوردي وفي الإثم
ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذنب الذي لا يوجب الحد قاله ابن عباس والضحاك والفراء
والثاني المعاصي كلها قاله مجاهد
والثالث أنه الخمر قاله الحسن وعطاء قال ابن الانباري انشدنا رجل في مجلس ثعلب
بحضرته وزعم أن أبا عبيدة أنشده ... نشرب الإثم بالصواع جهارا ... ونرى المتك
بيننا مستعارا ...
فقال أبو العباس لا أعرفه ولا أعرف الإثم الخمر في كلام العرب وانشدنا رجل آخر ...
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول ...
قال أبو بكر وما هذا البيت معروفا أيضا في شعر من يحتج بشعره وما رأيت أحدا من
أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر ولا سمتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام
فان قيل إن الخمر تدخل تحت الإثم فصواب لا لأنه اسم لها
فان قيل كيف فصل الإثم عن الفواحش وفي كل الفواحش إثم فالجواب أن كل فاحشة إثم
وليس كل إثم فاحشة فكان لإثم كل فعل مذموم والفاحشة العظيمة فأما البغي فقال
الفراء هو الاستطالة على الناس
قوله
تعالى وأن تشركوا قال الزجاج موضع أن نصب فالمعنى حرم الفواحش وحرم الشرك والسلطان
الحجة
قوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون عام في تحريم القول في الدين من غير
يقين
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
قوله تعالى ولكل أمة أجل سبب نزولها أنهم سألوا النبي صلى الله عليه و سلم العذاب
فأنزلت قاله مقاتل وفي الأجل قولان
أحدهما أنه أجل العذاب والثاني أجل الحياة قال الزجاج الأجل الوقت المؤقت فاذا جاء
أجلهم لا يستأخرون ساعة المعنى ولا أقل من ساعة وإنما ذكر الساعة لأنها أقل أسماء
الأوقات
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى واصلح فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من
الكتاب حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا
ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين
قوله تعالى يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم قال الزجاج أضمر فأطيعوهم وقد سبق
معنى إما في سورة البقرة والباقي ظاهر إلى قوله ينالهم نصيبهم من الكتاب ففي معناه
سبعة اقوال
احدها
ما قدر لهم من خير وشر رواه مجاهد عن ابن عباس
والثاني نصيبهم من الأعمال فيجزون عليها رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث ما كتب عليهم من الضلالة والهدى قاله الحسن وقال مجاهد وابن جبير من
السعادة والشقاوة
والرابع ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والاعمال قاله الربيع والقرظي وابن زيد
والخامس ما كتب لهم من العذاب قاله عكرمة وأبو صالح والسدي
والسادس ما أخبر الله تعالى في الكتب كلها أنه من افترى على الله كذبا اسود وجهه
قاله مقاتل
والسابع ما أخبر في الكتاب من جزائهم نحو قوله فأنذرتكم نارا تلظى قاله الزجاج
فاذن في الكتاب خمسة أقوال
أحدها أنه اللوح الحفوظ والثاني كتب الله كلها والثالث القرآن والرابع كتاب
أعمالهم والخامس القضاء
قوله تعالى حتى إذا جاءتهم رسلنا فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أعوان ملك الموت قاله النخعي والثاني ملك الموت وحده قاله مقاتل
والثالث ملائكة العذاب يوم القيامة
وفي قوله يتوفونهم ثلاثة أقوال
أحدها يتوفونهم بالموت قاله الأكثرون والثاني يتوفونهم بالحشر
إلى
النار يوم القيامة قاله الحسن والثالث يتوفونهم عذابا كما تقول قتلت فلانا بالعذاب
وإن لم يمت قاله الزجاج
قوله تعالى أين ما كنتم تدعون أي تعبدون من دون الله وهذا سؤال تبكيت وتقريع قال
مقاتل المعنى فليمنعوكم من النار قال الزجاج ومعنى ضلوا عنا بطلوا وذهبوا فيعترفون
عند موتهم أنهم كانوا كافرين وقال غيره ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت
أختها حتى إذا أداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم
عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون
قوله تعالى قال ادخلوا إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة لأن الله تعالى
لا يكلم الكفار يوم القيامة قال ابن قتيبة وفي بمعنى مع
وفي قوله قد خلت من قبلكم قولان
أحدهما مضت إلى العذاب
والثاني مضت في الزمان يعني كفار الأمم الماضية
قوله تعالى كلما دخلت أمة لعنت أختها وهذه أخوة الدين والملة لا أخوة النسب قال
ابن عباس يلعنون من كان قبلهم قال مقاتل كلما دخل أهل ملة لعنوا أهل ملتهم فيلعن
اليهود اليهود والنصارى النصارى والمشركون المشركين والأتباع القادة ويقولون أنتم
ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم وقال الزجاج إنما تلاعنوا لأن بعضهم ضل باتباع
بعض
قوله
تعالى حتى إذا اداركوا قال ابن قتيبة أي تداركوا فأدغمت التاء في الدال وأدخلت
الألف ليسلم السكون لما بعدها يريد تتابعوا فيها واجتمعوا
قوله تعالى قالت أخراهم لأولاهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها آخر أمة لأول أمة قاله ابن عباس والثاني آخر أهل الزمان لأوليهم الذين شرعوا
له ذلك الدين قاله السدي والثالث آخرهم دخولا إلى النار وهم الأتباع لأولهم دخولا
وهم القادة قاله مقاتل
قوله تعالى هؤلاء أضلونا قال ابن عباس شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها
قوله تعالى فآتهم عذابا ضعفا قال الزجاج أي عذابا مضاعفا
قوله تعالى قال لكل ضعف أي عذاب مضاعف ولكن لا تعلمون
قرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم يعلمون بالياء قال الزجاج والمعنى لا يعلم كل فريق
مقدار عذاب الفريق الآخر وقرأ الباقون تعلمون بالتاء وفيها وجهان ذكرهما الزجاج
أحدهما لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب
والثاني لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك وقيل إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب
القادة ليكون أحد العذابين على الكفر والثاني على إغرائهم به فأجيبوا لكل ضعف أي
كما كان للقادة ذلك فلكم عذاب بالكفر وعذاب بالاتباع قوله فما كان لكم علينا من
فضل فيه قولان
أحدهما في الكفر نحن وأنتم فيه سواء قاله ابن عباس
والثاني في تخفيف العذاب قاله مجاهد
وقالت
أولهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون
قوله تعالى بما كنتم تكسبون قال مقاتل من الشرك والتكذيب
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة
حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين
قوله تعالى إن الذين كذبوا بآياتنا أي بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله
ونبوة الأنبياء وتكبروا عن الإيمان بها لا تفتح لهم ابواب السماء قرأ ابن كثير
ونافع وعاصم وابن عامر تفتح بالتاء وشددوا التاء الثانية وقرأ أبو عمرو لا تفتح
بالتاء خفيفة ساكنة الفاء وقرأ حمزة والكسائي لا يفتح بالياء مضمومة خفيفة وقرأ
اليزيدي عن اختياره لا تفتح بتاء مفتوحة أبواب السماء بنصب الباء فكأنه أشار إلى
أفعالهم وقرأ الحسن بياء مفتوحة مع نصب الأبواب كأنه يشير إلى الله عز و جل وفي
معنى الكلام أربعة أقوال
أحدها لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء رواه الضحاك عن ابن عباس وهو قول أبي موسى
الأشعري والسدي في آخرين والأحاديث تشهد به
والثاني لا تفتح لأعمالهم رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم رواه عطاء عن ابن عباس
والرابع لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم قاله ابن جريج ومقاتل
وفي
السماء قولان
أحدهما أنها السماء المعروفة وهو المشهور
والثاني أن لمعنى لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها لأن الجنة في السماء ذكره
الزجاج
قوله تعالى حتى يلج الجمل في سم الخياط الجمل هو الحيوان المعروف فان قال قائل كيف
خص الجمل دون سائر الدواب وفيها ما هو أعظم منه فعنه جوابان
أحدهما أن ضرب المثل بالجمل يحصل المقصود والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة كما لا
يدخل الجمل في ثقب الإبرة ولو ذكر أكبر منه أو اصغر منه جاز والناس يقولون فلان لا
يساوي درهما وهذا لا يغني عنك فتيلا وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل
والثاني أن الجمل أكبر شأنا عند العرب من سائر الدواب فانهم يقدمونه في القوة على
غيره لأنه يوقر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب ولهذا عجبهم من خلق الإبل فقال
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت فآثر الله ذكره على غيره لهذا المعنى ذكر الجوابين
ابن الانباري قال وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ حتى يلج الجمل بضم
الجيم وتشديد الميم وقال هو القلس الغليظ
قال المصنف وهي قراءة أبي رزين ومجاهد وابن محيصن وأبي مجلز وابن يعمر وأبان عن
عاصم قال وروى مجاهد عن ابن عباس حتى يلج الجمل بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها
قلت
وهي قراءة قتادة وقد رويت عن سعيد بن جبير وأنه قرأ حتى يلج الجمل بضم الجيم
وتسكين الميم قلت وهي قراءة عكرمة
قال ابن الانباري فالجمل يحتمل أمرين يجوز أن يكون بمعنى الجمل ويجوز أن يكون
بمعنى جملة من الجمال قيل في جمعها جمل كما قال حجرة وحجر وظلمة وظلم وكذلك من قرأ
الجمل يسوغ له أن يقول الجمل بمعنى الجمل وأن يقول الجمل جمع جملة مثل بسرة وبسر
وأصحاب هذه القراءات يقولون الحبل والحبال أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال وروى
عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ الجمل بضم الجيم والميم وبالتخفيف وهي قراءة
الضحاك والجحدري وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء الجمل بفتح الجيم وبسكون الميم
خفيفة
قوله تعالى في سم الخياط السم في اللغة الثقب وفيها ثلاث لغات فتح السين وبها قرأ
الأكثرون وضمها وبه قرأ ابن مسعود وأبو رزين وقتادة وابن محيصن وطلحة بن مصرف
وكسرها وبه قرأ أبو عمران الجوني وأبو نهيك والأصمعي عن نافع قال ابن القاسم
والخياط المخيط بمنزلة اللحاف والملحف والقرام والمقرم وقد قرأ ابن مسعود وأبو
رزين وأبو مجلز في سم المخيط وقال الزجاج الخياط الإبرة وسمها ثقبها والمعنى أنهم
لا يدخلون الجنة أبدا قال ابن قتيبة هذا كما يقال لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب
ويبيض القار
قوله تعالى وكذلك نجزي المجرمين أي مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنة
لهم
من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا
نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
قوله تعالى لهم من جهنم مهاد المهاد الفراش
وفي المراد بالغواشي ثلاثة اقوال
أحدها اللحف قاله ابن عباس والقرظي وابن زيد والثاني ما يغشاهم من فوقهم من الدخان
قاله عكرمة والثالث غاشية فوق غاشية من النار قاله الزجاج قال ابن عباس والظالمون
هاهنا الكافرون
ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا
لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم
الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون
قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال
أحدها أهل بدر روى الحسن عن علي رضي الله عنه أنه قال فينا والله أهل بدر نزلت
ونزعنا ما في صدورهم من غل وروى عمرو بن الشريد عن علي أنه قال إني لأرجو أن أكون
أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله ونزعنا ما في صدورهم من غل
والثاني أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا روى كثير النواء عن أبي جعفر
قال نزلت هذه الآية في علي وأبي بكر وعمر قلت لأبي جعفر فأي غل هو قال غل الجاهلية
كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في
الجاهلية
شيء فلما أسلم هؤلاء تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي يسخن يده ويكمد بها
خاصرو أبي بكر فنزلت هذه الآية
والثالث أنهم عشرة من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن
بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود قاله أبو صالح
والرابع أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله
عليه تعالى وسلم أنه قال يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة
والنار حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى
بمنزلة في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا وقال ابن عباس أول ما يدخل أهل الجنة
الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل
وغيره مما كان في الدنيا ثم يدخلون إلى العين الأخرى فيغتسلون منها فتشرق ألوانهم
وتصفوا وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم
فأما
النزع فهو قلع الشيء من مكانه والغل الحقد الكامن في الصدر
وقال ابن قتيبة الغل الحسد والعداوة
قوله تعالى الحمد لله الذي هدانا لهذا قال الزجاج معناه هدانا لما صيرنا إلى هذا
قال ابن عباس يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته وروى عاصم بن ضمرة عن علي
كرم الله وجهه قال تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور فيطوفون بهم كاطافتهم
بالحميم جاء من الغيبة ويبشرونهم بما أعد الله لهم ويذهبون إلى أزواجهم فيبشرونهم فيستخفهن
الفرح فيقمن على أسكفة الباب فيقلن أنت رأيته أنت رأيته قال فيجيء إلى منزله فينظر
في أساسه فاذا صخر من لؤلؤ ثم يرفع بصره فلولا أن الله ذلله لذهب بصره ثم ينظر
اسفل من ذلك فاذا هو بالسرر الموضونة والفرش المرفوعة والذرابي المبثوثة فعند ذلك
قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله كلهم قرأ وما
كنا باثبات الواو غير ابن عامر فانه قرأ ما كنا لنهتدي بغير واو وكذلك هي في مصاحف
أهل الشام قال أبو علي وجه الاستغناء عن الواو أن القصة ملتبسة بما قبلها فأغنى
التباسها به عن حرف العطف ومثله رابعهم كلبهم
قوله تعالى لقد جاءت رسل ربنا بالحق هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل
عيانا ونودوا أن تلك الجنة قال الزجاج إنما قال تلكم لأنهم وعدوا بها في الدنيا
فكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل
دخولهم إليها قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر أورثتموها غير مدغمة وقرأ ابو
عمرو وحمزة والكسائي أورتموها مدغمة وكذلك قرؤوا في الزخرف قال
ابو
علي من ترك الادغام فلتباين مخرج الحرفين ومن أدغم فلأن التاء والثاء مهموستان
متقاربتان وفي معنى أورثتموها أربعة أقوال
أحدها ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما من أحد إلا وله
منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فانه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن
يرث الكافر منزله من الجنة فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون وقال بعضهم لما
سمي الكفار أمواتا بقوله أموات غير احياء وسمى المؤمنين أحياء بقوله لتنذر من كان
حيا أورث الأحياء الموتى
والثاني أنهم أورثوها عن الأعمال لأنها جعلت جزاء لأعمالها وثوابا عليها إذ هي
عواقبها حكاه أبو سليمان الدمشقي
والثالث أن دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال فلما كان يفسر نيلها
لا عن عوض سميت ميراثا والميراث ما أخذته عن غير عوض
والرابع أن معنى الميراث هاهنا أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث
ونادى
أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا
قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله
ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون
قوله تعالى 6فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا أي من العذاب وهذا سؤال تقرير وتعيير قالوا
نعم قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن وكان الكسائي يكسرها قال الأخفش هما
لغتان
قوله تعالى فأذن مؤذن بينهم أي نادى مناد ان لعنة الله قرأ ابن كثير في رواية قنبل
ونافع وأبو عمرو وعاصم أن لعنة الله خفيفة النون ساكنة وقرأ ابن عامر وحمزة
والكسائي أن بالتشديد لعنة الله بالنصب قال الأخفش وأن في قوله أن تلكم الجنة
وقوله أن لعنة الله وقوله أن الحمد لله و أن قد وجدنا هي أن الثقيلة خففت
قال الشاعر ... في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وأنشد
أيضا ... أكاشرة وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص ...
ومعناه أنه كلانا وتكون أن قد وجدنا في معنى أي قال ابن عباس والظالمون هاهنا الكافرون
قوله تعالى الذين يصدون عن سبيل الله أي أذن المؤذن ان لعنة الله على الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله وهو الإسلام ويبغونها عوجا مفسر في آل عمران وهم بالآخرة أي
وهم بكون الآخرة كافرون
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام
عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون
قوله تعالى وبينهما حجاب أي بين الجنة والنار حاجز وهو السور الذي ذكره الله تعالى
في قوله فضرب بينهم بسور له باب فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه قال ابن عباس
الأعراف هو السور الذي بين الجنة والنار له عرف كعرف الديك وقال أبو هريرة الأعراف
جبال بين الجنة والنار فهم على أعرافها يعني على ذراها خلقتها كخلقة عرف الديك قال
اللغويون الأعراف عند العرب كل ما ارتفع من الأرض وعلا يقال لكل عال عرف وجمعه
أعراف
قال
الشاعر ... كل كناز لحمه نياف ... كالعلم الموفي على الأعراف ...
وقال الآخر ... ورثت بناء آباء كرام ... علوا بالمجد أعراف البناء ...
وفي أصحاب الأعراف قولان
أحدهما أنهم من بني آدم قاله الجمهور وزعم مقاتل أنهم من أمة محمد صلى الله عليه و
سلم خاصة وفي أعمالهم تسعة أقوال
أحدها أنهم قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية
آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه
و سلم
والثاني أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلم تبلغ حسناتهم دخول الجنة ولا سيئاتهم
دخول النار قاله ابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة والشعبي وقتادة
والثالث أنهم أولاد الزنا رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس
والرابع أنهم قوم صالحون فقهاء علماء قاله الحسن ومجاهد فعلى هذا يكون لبثهم على
الأعراف على سبيل النزهة
والخامس
أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو أمهاتهم دون أبائهم رواه عبد الوهاب بن
مجاهد عن إبراهيم
والسادس أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم قاله عبد العزيز بن يحيى
والسابع أنهم أنبياء حكاه ابن الانباري
والثامن أنهم أولاد المشركين ذكره المنجوفي في تفسيرة
والتاسع أنهم قوم عملوا لله لكنهم راؤوا في عملهم ذكره بعض العلماء
والقول الثاني أنهم ملائكة قاله أبو مجلز واعترض عليه فقيل إنهم رجال فكيف تقول
ملائكة فقال إنهم ذكور وليسوا باناث وقيل معنى قوله وعلى الأعراف رجال أي على
معرفة أهل الجنة من أهل النار ذكره الزجاج وابن الانباري وفيه بعد وخلاف للمفسرين
قوله تعالى يعرفون كلا بسيماهم أي يعرف أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار وسيما
أهل الجنة بياض الوجوه وسيما أهل النار سواد الوجوه وزرقة العيون والسيما العلامة
وإنما عرفوا الناس لأنهم على مكان عال يشرفون فيه على أهل الجنة والنار ونادوا
يعني أصحاب الأعراف أصحاب الجنة أن سلام عليكم وفي قوله لم يدخلوها وهم يطمعون
قولان
أحدهما أنه إخبار من الله تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون
في دخولها قاله الجمهور
والثاني أنه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يذهب بها إلى الجنة
أن هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها هذا قول السدي
وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين
قوله
تعالى وإذا صرفت أبصارهم يعني أصحاب الأعراف والتلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة
وقال أبو عبيدة تلقاء أصحاب النار أي حيالهم
ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما آغنى عنكم جمعكم وما كنتم
تستكبرون
قوله تعالى ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم روى ابو صالح عن ابن عباس
قال ينادون يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا عاص بن وائل يا أمية بن خلف
يا أبي بن خلف يا سائر رؤساء الكفار ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والولد
وما كنتم تستكبرون أي تتعظمون عن الإيمان
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم
تحزنون
قوله تعالى أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة فيه قولان
أحدهما أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا وأن الله لن يدخلهم
الجنة فيقول الله لأهل النار أهؤلاء يعني أهل الأعراف الذين اقسمتم لا ينالهم الله
برحمة ادخلوا الجنة رواه وهب بن منبه عن ابن عباس قال حذيفة بينا أصحاب الأعراف
هنالك اطلع عليهم ربهم فقال لهم ادخلوا الجنة فاني قد غفرت لكم
والثاني أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفار
يستهزؤون بهم كسلمان وصهيب وخباب فينادون الكفار أهؤلاء
الذين
أقسمتم وأنتم في الدنيا لا ينالهم الله برحمة قاله ابن السائب فعلى هذا ينقطع كلام
أهل الأعراف عند قوله برحمة ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنة وقد ذكر
المفسرون في قوله ادخلوا الجنة ثلاثة اقوال
أحدها أن يكون خطابا من الله لأهل الأعراف وقد ذكرناه
والثاني أن يكون خطابا من الله لأهل الجنة
والثالث أن يكون خطابا من أهل الأعراف لأهل الجنة ذكرهما الزجاج فعلى هذا الوجه
الأخير يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنة ادخلوا الجنة اعلوا إلى القصور
المشرفة وارتفعوا إلى المنازل المنيفة لأنهم قد رأوهم في الجنة وروى مجاهد عن عبد
الله بن الحارث قال يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له الحياة عليه قضبان الذهب
مكللة باللؤلؤ فيغمسون فيه فيخرجون فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ويقال
لهم تمنوا ما شئتم ولكم سبعون ضعفا فهم مساكين أهل الجنة
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا
إن الله حرمهما على الكافرين
قوله تعالى ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة قال ابن عباس لما صار أصحاب الأعراف إلى
الجنة طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس فقالوا يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة
فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر
أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر
فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخاه يا
أخي قد احترقت فأغثني
فيقول
إن الله حرمهما على الكافرين قال السدي عني بقوله أو مما رزقكم الله الطعام قال
الزجاج أعلم الله عز و جل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان معذبا
الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيواة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء
يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون
قوله تعالى الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا قال ابن عباس هم المستهزئون والمعنى
أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم وقال أبو روق دينهم عيدهم وقال قتادة لهوا ولعبا
أي أكلا وشربا وقال غيره هو ما زينه الشيطان لهم من تحريم البحيرة والسائبة
والوصيلة والحام والمكاء والتصدية ونحو ذلك من خصال الجاهلية
قوله تعالى فاليوم ننساهم قال الزجاج أي نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء
يومهم هذا وما نسق على كما في موضع جر والمعنى وكجحدهم قال ابن الانباري ويجوز أن
يكون المعنى فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناس غافل كما استعملوا في
الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغفل
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون
قوله تعالى ولقد جئناهم بكتاب يعني القرآن فصلناه أي بيناه
بايضاح
الحق من الباطل وقيل فصلناه فصولا مرة بتعريف الحلال ومرة بتعريف الحرام ومرة
بالوعد ومرة بالوعيد ومرة بحديث الأمم
وفي قوله على علم قولان
أحدهما على علم منا بما فصلناه والثاني على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه
وقرأ ابن السميفع وابن محيصن وعاصم والجحدري ومعاذ القارئ فضلناه بضاد معجمة
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا
بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا
أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى هل ينظرون إلا تأويله قال ابن عباس تصديق ما وعدوا في القرآن يوم يأتي
تأويله وهو يوم القيامة يقول الذين نسوه أي تركوه من قبل في الدنيا قد جاءت رسل
ربنا بالحق أي بالبعث بعد الموت
قوله تعالى أو نرد قال الزجاج المعنى أو هل نرد وقوله فنعمل منصوب على جواب الفاء
للاستفهام
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل
النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك
الله رب العالمين
قوله
تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام اختلفوا أي يوم بدأ
بالخلق على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم السبت روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى
الله عليه و سلم بيدي فقال خلق الله عز و جل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها
يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم
الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر
الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل وهذا اختيار محمد بن
إسحاق قال ابن الانباري وهذا إجماع أهل العلم
والثاني يوم الأحد قاله عبد الله بن سلام وكعب والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير
الطبري وبه يقول أهل التوراة
والثالث يوم الاثنين قاله ابن إسحاق وبهذا يقول أهل الإنجيل ومعنى قوله في ستة
ايام أي في مقدار ذلك لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها ولم تكن الشمسي حينئذ
قال ابن عباس مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة وبه قال كعب ومجاهد والضحاك ولا
نعلم خلافا في ذلك ولو قال قائل إنها كأيام الدنيا كان قوله بعيدا من وجهين
أحدهما خلاف الآثار والثاني أن الذي يتوهمه المتوهم من الإبطاء في
ستة
آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون فان قيل فهلا خلقها في لحظة فانه قادر فعنه خمسة أجوبة
أحدها أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده ذكره ابن
الانباري
والثاني أن التثبت في تمهيد ما خلق لآدم وذريته قبل وجوده أبلغ في تعظيمه عند
الملائكة
والثالث أن التعجيل أبلغ في القدرة والتثبيت أبلغ في الحكمة فأراد إظهار حكمته في
ذلك كما يظهر قدرته في قوله كن فيكون
والرابع أنه علم عباده التثبت فاذا تثبت من لا يزل كان ذو الزلل أول بالتثبت
والخامس أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء ابعد من أن يظن أن ذلك وقع بالطبع أو
بالاتفاق
قوله تعالى ثم استوى على العرش قال الخليل بن أحمد العرش السرير وكل سرير لملك
يسمى عرشا وقلما يجمع العرش إلا في اضطرار واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في
الجاهلية والإسلام قال أمية بن أبي الصلت ... مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا
في السماء أمسى كبيرا ... بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء
سريرا ... شرجعا لا يناله ناظر العي ... ن ترى دونه الملائك صورا ...
وقال كعب إن السموات في العرش كالقنديل معلق بين السماء والأرض
وروى
إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال العرش ياقوتة حمراء وإجماع السلف منعقد على
أن لا يزيدوا على قراءة الآية وقد شذ قوم فقالوا العرش بمعنى الملك وهذا عدول عن
الحقيقة الى التجوز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى وكان عروشه على الماء
أتراه كان الملك على الماء وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء وبعضهم يقول استوى بمعنى
استولى ويحتج بقول الشاعر ... حتى استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
...
ويقول الشاعر أيضا ... هما استويا بفضلهما جميعا ... على عرش الملوك بغير زور ...
وهذا منكر عند اللغويين قال ابن الاعرابي العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ومن
قال ذلك فقد أعظم قالوا وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا كان بعيدا عنه غير
متمكن منه ثم تمكن منه والله عز و جل لم يزل مستوليا على الأشياء والبيتان لا يعرف
قائلهما كذا قال ابن فارس اللغوي ولو صحا فلا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم
يكن مستوليا نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة
قوله تعالى يغشي الليل النهار قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر يغشي ساكنة
الغين خفيفة وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يغشي مفتوحة الغين مشددة وكذلك
قرؤوا في الرعد قال الزجاج المعنى أن الليل يأتي على النهار فيغطيه وإنما لم يقل
ويغشي النهار الليل لأن في الكلام دليلا عليه وقد قال ف موضع خر يكور الليل على
النهار ويكور النهار على الليل وقال أبو علي إنما لم يقل يغشي
النهار
الليل لأنه معلوم من فحوى الكلام كقوله سرابيل تقيكم الحر وانتصب الليل والنهار
لأن كل واحد منهما مفعول به فأما الحثيث فهو السريع
قوله تعالى والشمس والقمر والنجوم مسخرات قرأ الأكثرون بالنصب فيهن وهو على معنى
خلق السموات والشمس وقرأ ابن عامر والشمس والقمر والنجوم مسخرات بالرفع فيهن هاهنا
وفي النحل تابعه حفص في قوله تعالى والنجوم مسخرات وفي النحل فحسب والرفع على
الاستئناف والمسخرات المذللات لما يراد منهن من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة
المدبر لهن
قوله تعالى ألا له الخلق لأنه خلقهم والأمر فله أن يأمر بما يشاء وقيل الأمر
القضاء
قوله تعالى تبارك الله فيه أربعة أقوال
أحدها تفاعل من البركة رواه الضحاك عن ابن عباس وكذلك قال القتيبي والزجاج وقال
أبو مالك افتعل من البركة وقال الحسن تجيء البركة من قبله وقال الفراء تبارك من
البركة وهو في العربية كقوله تقدس ربنا
والثاني أن تبارك بمعنى تعالى رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال أبو العباس
تبارك ارتفع والمتبارك المرتفع
والثالث أن المعنى باسمه يتبرك في كل شيء قاله ابن الانباري
والرابع أن معنى تبارك تقدس أي تطهر ذكره ابن الانباري أيضا
ادعوا
ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين
قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا التضرع التذلل والخضوع والخفية خلاف العلانية قال الحسن
كانوا يجتهدون في الدعاء ولا تسمع إلا همسا ومن هذا حديث أبي موسى اربعوا على
أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وفي الاعتداء المذكور هاهنا قولان
أحدهما أنه الاعتداء في الدعاء ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يدعو على المؤمنين
بالشر كالخزي واللعنة قاله سعيد بن جبير ومقاتل والثاني أن يسأل مالا يستحقه من
منازل الانبياء قاله أبو مجلز والثالث أنه الجهر في الدعاء قاله ابن السائب
والثاني أنه مجاوزة المأمور به قاله الزجاج
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين
قوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فيه ستة أقوال
أحدها لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان والثاني لا تفسدوها بالظلم بعد
إصلاحها بالعدل والثالث لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة والرابع لا تعصوا
فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها
بالمطر
والخصب والخامس لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه والسادس لا تفسدوها
بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي
وفي قوله وادعوه خوفا وطمعا قولان أحدهما خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه والثاني
خوفا من الرد وطمعا في الإجابة
قوله تعالى ان رحمة الله قريب من المحسنين قال الفراء رأيت العرب تؤنث القريبة في
النسب لا يختلفون في ذلك فاذا قالوا دارك منا قريب أو فلانة منا قريب من القرب
والبعد ذكروا وأنثوا وذلك أنهم جعلوا القريب خلفا من المكان كقوله وما هي من
الظالمين ببعيد وقوله تعالى وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ولو أنث ذلك لكان
صوابا قال عروة ... عشية لا عفراء منك قريبة ... فتدنو ولا عفراء منك بعيد ...
وقال الزجاج إنما قيل قريب لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد وكذلك كل تأنيث
ليس بحقيقي وقال الأخفش جائز أن تكون الرحمة هاهنا في معنى المطر
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت
فأنزلنا به الماء
فأخرجنا
به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون
قوله تعالى وهو الذي يرسل الرياح قرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم الرياح على
الجمع وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على التوحيد وقد يأتي لفظ التوحيد ويراد
به الكثرة كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس ومثله إن الإنسان لفي خسر
قوله تعالى نشرا قرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع نشرا بضم النون والشين أرادوا جمع
نشور وهي الريح الطيبة الهبوب تهب من كل ناحية وجانب قال أبو عبيدة النشر المتفرقة
من كل جانب وقال أبو علي يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر وبمعنى المنتشر وبمعنى
الناشر يقال أنشر الله الريح مثل أحياها فنشرت أي حييت والدليل على أن إنشار الربح
إحياؤها قول الفقعسي ... وهبت له ريح الجنوب وأحييت ... له ريدة يحيي المياه
نسيمها ...
ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت
قال الشاعر ... إني لأرجو أن تموت الريح ... فأقعد اليوم وأستريح ...
والريدة والريدانة الريح وقرأ ابن عامر وعبد الوارث والحسن البصري نشرا بالنون
مضمومة وسكون الشين وهي في معنى نشرا يقال كتب وكتب ورسل ورسل وقرأ حمزة والكسائي
وخلف والمفضل
عن
عاصم نشرا بفتح النون وسكون الشين قال الفراء النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ
السحاب وقال ابن الانباري النشر المنتشرة الواسعة الهبوب وقال أبو علي يحتمل النشر
أن يكون خلاف الطي كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية ويحتمل أن يكون معناها ما قاله
أبو عبيدة في النشر أنها المتفرقة في الوجوه ويحتمل أن يكون معناها النشر الذي هو
الحياة كقول الشاعر ... حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر ...
قال وهذا هو الوجه وقرأ أبو رجاء العطاردي وإبراهيم النخعي ومسروق ومورق العجلي
نشرا بفتح النون والشين قال ابن القاسم وفي النشر وجهان
أحدهما أن يكون جمعا للنشور كما قالوا عمود وعمد وإهاب وأهب
والثاني أن يكون جمعا واحده ناشر يجري مجرى قوله غائب وغيب وحافد وحفد وكل القراء
نون الكلمة وكذلك اختلافهم في الفرقان والنمل هذه قراءات من قرأ بالنون وقد قرأ
آخرون بالباء فقرأ عاصم إلا المفضل بشرى بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فعلى قال
ابن الانباري وهي جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والأصل ضم الشين إلا أنهم
استثقلوا الضمتين وقرأ ابن خثيم وابن جذلم مثله إلا أنهما نونا الراء وقرأ ابو
الجوزاء وأبو عمران وابن أبي عبلة بضم الباء والشين وهذا على أنها جمع بشيرة
والرحمة هاهنا المطر سماه رحمة لأنه كان بالرحمة وأقلت بمعنى حملت قال الزجاج جمع
سحابة السحاب قال ابن فارس سمي السحاب لانسحابه في الهواء
قوله
تعالى ثقالا أي الماء وقوله تعالى سقناه رد الكناية إلى لفظ السحاب ولفظه لفظ واحد
وفي قوله لبلد قولان
أحدهما إلى بلد والثاني لإحياء بلد والميت الذي لا ينبت فيه فهو محتاج إلى المطر
وفي قوله فأنزلنا به ثلاثة أقوال
أحدها أن الكناية ترجع إلى السحاب والثاني إلى المطر ذكرهما الزجاج والثالث إلى
البلد ذكره ابن الانباري فأما هاء فأخرجنا به فتحتمل الأقوال الثلاثة
قوله تعالى كذلك نخرج الموتى أي كما أحيينا هذا البلد وقال مجاهد نحيي الموتى
بالمطر كما أحيينا البلد الميت به قال ابن عباس يرسل الله تعالى بين النفختين مطرا
كمني الرجال فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أمهاتهم
قوله تعالى لعلكم تذكرون قال الزجاج لعل ترج وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم
من بعض والمعنى لعلكم بما بيناه لكم تستدلون على توحيد الله وأنه يبعث الموتى
والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا نصرف الآيات لقوم
يشكرون
قوله تعالى والبلد الطيب يعني الأرض الطيبة التربة يخرج نباته وقرأ ابن أبي عبلة
يخرج بضم الياء وكسر الراء نباته بنصب التاء والذي خبث لا يخرج كذلك أيضا وقد روى
ابان عن عاصم لا يخرج بضم الياء وكسر الراء والمراد بالذي خبث الأرض السبخة
قوله تعالى إلا نكدا قرأ الجمهور بفتح النون وكسر الكاف وقرأ
أبو
جعفر نكدا بفتح الكاف وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن نكدا باسكان الكاف قال أبو
عبيدة قليلا عسيرا في شدة وأنشد ... لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت
تافها نكدا ...
قال المفسرون هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله
انتفع به وبان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه
وعكسه الكافر
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف
عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي
ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا
تعلمون
قوله تعالى اعبدوا الله قال مقاتل وحدوه وكذلك في سائر القصص بعدها
قوله تعالى مالكم من إله غيره قرأ الكسائي غيره بالخفض قال أبو علي جعل غيرا صفة ل
آله على اللفظ
قوله تعالى أبلغكم قرأ أبو عمرو أبلغكم ساكنة الباء خفيفة اللام وقرأ الباقون
أبلغكم مفتوحة الباء مشددة اللام
قوله تعالى وأنصح لكم يقال نصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له
قوله تعالى وأعلم من الله مالا تعلمون أي من مغفرته لمن تاب وعقوبته
لمن
أصر وقال مقاتل أعلم من نزول العذاب مالا تعلمونه وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم
عذبوا قبلهم
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه
فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين
قوله تعالى أو عجبتم قال الزجاج هذه واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت
مفتوحة وفي الذكر قولان أحدهما الموعظة والثاني البيان
وفي قوله على رجل منكم قولان أحدهما أن على بمعنى مع قاله الفراء والثاني أن
المعنى على لسان رجل منكم قاله ابن قتيبة
قوله تعالى قوما عمين قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون قال
الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم
ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أو
عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد
قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد
الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين
قوله
تعالى وإلى عاد المعنى وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا قال الزجاج وإنما قيل أخوهم
لأنه بشر مثلها من ولد أبيهم آدم ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم وقال أبو
سليمان الدمشقي وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح وإنما سماه أخاهم لأنه كان نسيبا لهم
وهو وهم من ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام
قوله تعالى إنا لنراك في سفاهة قال ابن قتيبة السفاهة الجهل وقال الزجاج السفاهة
خفة الحلم والرأي يقال ثوب سفيه إذا كان خفيفا وإنا لنظنك من الكاذبين فكفروا به
ظانين لا مستيقنين قال يا قوم ليس بي سفاهة هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة
فانه دفع ما سبوه به من السفاهة بنفيه فقط
قوله تعالى وأنا لكم ناصح أمين قال الضحاك أمين على الرسالة وقال ابن السائب كنت
فيكم أمينا قبل اليوم
قوله تعالى واذكروا إذ جعلكم خلفاء ذكرهم النعمة حيث أهلك من كان قبلهم وأسكنهم
مساكنهم وزادكم في الخلق بسطة أي طولا وقوة وقال ابن عباس كان أطولهم مائة ذراع
وأقصرهم ستين ذراعا قال الزجاج وآلاء الله نعمه واحدها إلى قال الشاعر ... أبيض لا
يرهب الهزال ولا ... يقطع رحما ولا خون إلى ...
ويجوز أن يكون واحدها إليا وإلى
قوله تعالى فائتنا بما تعدنا أي من نزول العذاب إن كنت من الصادقين في أن العذاب
نازل بنا وقال عطاء في نبوتك وإرسالك إلينا
قال
قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل
الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا
وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين
قوله تعالى قال قد وقع أي وجب عليكم من ربكم رجس وغضب قال ابن عباس عذاب وسخط وقال
أبو عمرو بن العلاء الرجز بالزاي والرجس بالسين بمعنى واحد قلبن السين زايا
قوله تعالى أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم يعني الأصنام
وفي تسميتهم لها قولان أحدهما أنهم سموها آلهة والثاني أنهم سموها بأسماء مختلفة
والسلطان الحجة فانتظروا نزول العذاب إني معكم من المنتظرين الذي يأتيكم من العذاب
في تكذيبكم إياي
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة
من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم
عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها
قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين
قوله تعالى وإلى ثمود قال أبو عمرو بن العلاء سميت ثمود لقلة مائها قال ابن فارس
الثمد الماء القليل الذي لا مادة له
قوله
تعالى هذه ناقة الله في إضافتها إليه قولان أحدهما أن ذلك للتخصيص والتفضيل كما
يقال بيت الله والثاني لأنها كانت بتكوينه من غير سبب
قوله تعالى لكم اية أي علامة تدل على قدرة الله وإنما قال لكم لأنهم هم الذين اقترحوها
وإن كانت آية لهم ولغيرهم
وفي وجه كونها آية قولان
احدهما أنها خرجت من صخرة ملساء فتمخضت بها تمخض الحامل ثم انفلقت عنها على الصفة
التي طلبوها
والثاني أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم وتسقيهم اللبن مكانه
قوله تعالى فذروها تأكل في أرض الله قال ابن الانباري ليس عليكم مؤنتها وعلفها
وتأكل مجزوم على جواي الشرط المقدر أي إن تذروها تأكل
قوله تعالى ولا تمسوها بسوء أي لا تصيبوها بعقر
قوله تعالى وبوأكم في الأرض أي أنزلكم يقال تبوأ فلان منزلا إذا نزله وبوأته
أنزلته قال الشاعر ... وبوئت في صميم معشرها ... فتم في قومها مبوؤوها ...
أي أنزلت من الكريم في صميم النسب قاله الزجاج
قوله تعالى تتخذون من سهولها قصورا السهل ضد الحزن والقصر
ما
شيد وعلا من المنازل قال ابن عباس اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف وثقبوا في
الجبال للشتاء قال وهب بن منبه كان الرجل منهم يبني البنيان فتمر عليه مائة سنة
فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب
فأضجرهم ذلك فأخذوا من الجبال بيوتا
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا
مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به
كافرون
قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه وقرأ ابن عامر وقال الملأ بزيادة واو
وكذلك هي في مصاحفهم ومعنى الآية تكبروا عن عبادة الله للذين استضعفوا يريد
المساكين لمن آمن منهم بدل من قوله للذين استضعفوا لأنهم المؤمنون أتعلمون أن
صالحا مرسل هذا استفهام إنكار
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من
المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين
قوله تعالى فعقروا الناقة أي قتلوها قال ابن قتيبة والعقر يكون بمعنى القتل ومنه
قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء من عقر جواده وقال ابن إسحاق كمن لها قاتلها في
أصل شجرة فرماها بسهم فانتظم به عضلة
ساقها
ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها ثم نحرها قال الازهري العقر عند العرب قطع عرقوب
البعير ثم جعل العقر نحرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره
قوله تعالى وعتوا قال الزجاج جاوزوا المقدار في الكفر قال أبو سليمان عتوا عن
اتباع أمر ربهم
قوله تعالى بما تعدنا أي من العذاب
قوله تعالى فأخذتهم الرجفة قال الزجاج الرجفة الزلزلة الشديدة
قوله تعالى فأصبحوا في دارهم أي في مدينتهم فان قيل كيف وحد الدار هاهنا وجمعها في
موضع آخر فقال في ديارهم فعنه جوابان ذكرهما ابن الانباري
أحدهما أنه أراد بالدار المعسكر أي فأصبحوا في معسكرهم وأراد بقوله في ديارهم
المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل
والثاني أنه أراد بالدار الديار فاكتفى بالواحد من الجميع كقول الشاعر ... كلوا في
نصف بطنكم تعيشوا ...
وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب
قوله تعالى جاثمين قال الفراء أصبحوا رمادا جاثما وقال أبو عبيدة أي بعضهم على بعض
جثوم والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل
وقال ابن قتيبة الجثوم البروك على الركب وقال غيره كأنهم أصبحوا موتى على هذه
الحال وقال الزجاج أصبحوا أجساما ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم قال المفسرون معنى
جاثمين بعضهم على بعض أي إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب
فتولى
عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ولوطا
إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال
شهوة دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من
قريتكم إنهم أناس يتطهرون
قوله تعالى فتولى عنهم يقول انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة لأن الله تعالى أوحى
إليه أن أخرج من بين أظهرهم فاني مهلكهم وقال قتادة ذكر لنا أن صالحا أسمع قومه
كما أسمع نبيكم قومه يعني بعد موتهم
قوله تعالى أتأتون الفاحشة يعني إتيان الرجال ما سبقكم بها من أحد قال عمرو بن
دينار ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط وقال بعض اللغويين لوط مشتق
من لطت الحوض إذا ملسته بالطين قال الزجاج وهذا غلط لأنه اسم أعجمي كاسحاق ولا
يقال إنه مشتق من السحق وهو البعد
قوله تعالى إنكم لتأتون الرجال هذا استفهام إنكار والمسرف المجاوز ما أمر به وقوله
تعالى أخرجوهم من قريتكم يعني لوطا وأتباعه المؤمنين إنهم أناس يتطهرون قال ابن
عباس يتنزهون عن أدبار الرجال وأدبار النساء
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان
عاقبة المجرمين
قوله
تعالى فأنجيناه وأهله في أهله قولان
أحدهما ابنتاه والثاني المؤمنون به إلا امرأته كانت من الغابرين أي الباقين في عذاب
الله تعالى قال أبو عبيدة وإنما قال من الغابرين لأن صفة النساء مع صفة الرجال
تذكر إذا أشرك بينهما
قوله تعالى وأمطرنا عليهم مطرا قال ابن عباس يعني الحجارة قال مجاهد نزل جبريل
فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ورفعها ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة
من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد
إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى وإلى مدين قال قتادة مدين ماء كان عليه قوم شعيب وكذلك قال الزجاج وقال
لا ينصرف لأنه اسم البقعة وقال مقاتل مدين هو ابن ابراهيم الخليل لصلبه وقال أبو
سليمان الدمشقي مدين هو ابن مديان بن ابراهيم والمعنى أرسلنا إلى ولد مدين فعلى
هذا هو اسم قبيلة وقال بعضهم هو اسم للمدينة فالمعنى وإلى أهل مدين قال شيخنا أبو
منصور اللغوي مدين أسم أعجمي فان كان عربيا فالياء زائدة من قولهم مدن بالمكان إذا
أقام به
قوله تعالى ولا تبخسوا الناس أشيائهم قال الزجاج البخس النقص والقلة يقال بخست
أبخس بالسين وبخصت عينه بالصاد لا غير
ولا
تفسدوا في الأرض أي لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل
وإرسال الرسل
قوله تعالى إن كنتم مؤمنين أي مصدقين بما أخبرتكم عن الله
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا
إذ كنتم قليلا فكثركتم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين
قوله تعالى ولا تقعدوا بكل صراط أي بكل طريق توعدون من آمن بشعيب بالشر وتخوفونهم
بالعذاب والقتل فان قيل كيف أفرد الفعل وأخلاه من المفعول فهلا قال توعدون بكذا
فالجواب أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول لم يدل إلا على شر يقولون أوعدت
فلانا وكذلك إذا أفردوا وعدت من مفعول لم يدل إلا على الخبر قال الفراء يقولون
وعدته خيرا وأوعدته شرا فاذا أسقطوا الخير والشر قالوا وعدته في الخير وأوعدته في
الشر فاذا جاؤوا بالباء قالوا وعدته والشر وقال الراجز ... اوعدني بالسجن والأداهم
...
قال المصنف وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال إذا أرادوا أن يذكروا ما تهددوا
به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا أوعدته بالضرب ولا يقولون أوعدته الضرب قال السدي
كانوا عشارين وقال ابن زيد كانوا يقطعون الطريق
قوله تعالى وتصدون عن سبيل الله أي تصرفون عن دين الله من آمن به وتبغونها عوجا
مفسر في آل عمران
قوله
تعالى واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم قال الزجاج جائز أن يكون المعنى جعلكم أغنياء
بعد أن كنتم فقراء وجائز أن يكون كثر عددكم بعد أن كنتم قليلا وجائز أن يكونوا غير
ذوي مقدرة وأقدار فكثرهم
وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله
بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين
آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين
قوله تعالى وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به طائفة لم يؤمنوا أي إن
أختلفتم في رسالتي فصرتم فريقين مصدقين ومكذبين فاصبروا حتى يحكم الله بيننا
بتعذيب المكذبين وإنجاء المصدقين وهو خير الحاكمين لأنه العدل الذي لا يجور
قوله تعالى أو لتعودن في ملتنا يعنون ديننا وهو الشرك قال الفراء جعل في قوله
لتعودن لاما كجواب اليمين وهو في معنى شرط ومثله في الكلام والله لأضربنك أو تقر
لي فيكون معناه معنى إلا أو معنى حتى قال أو لو كنا كارهين أي أو تجبروننا على
ملتكم إن كرهناها والألف للاستفهام فان قيل كيف قالوا لتعودن وشعيب لم يكن في كفر
قط فيعود إليه فعنه جوابان
أحدهما أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافرا ثم آمن خاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه
وغلبوا لفظهم على لفظه لكثرتهم وانفراده
والثاني
أن المعنى لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود على معنى الابتداء كما يقال قد عاد علي من
فلان مكروه أي قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن سبق منه مكروه قال الشاعر ... فان تكن
الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب ...
وقد شرحنا هذا في قوله وإلى الله ترجع الأمور في سورة البقرة وقد ذكر معنى
الجوابين الزجاج وابن الانباري
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا
أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا
افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال الملأ الذين كفروا من قومه
لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين
كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم
وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين
قوله تعالى قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم وذلك أن القوم كانوا يدعون
أن الله أمرهم بما هم عليه فلذلك سموه ملة وما يكون لنا أن نعود فيها أي في الملة
إلا أن يشاء الله أي إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها وسع
ربنا كل شيء علما قال ابن عباس يعلم ما يكون قبل أن يكون
قوله
تعالى على الله توكلنا أي فيما توعدتمونا به وفي حراستنا عن الضلال ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق قال أبو عبيدة احكم بيننا وأنشد ... ابلغ بني عصم رسولا
... بأني عن فتاحتكم غني ... قال الفراء وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح
قال الزجاج وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف فجائز أن
يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم
قوله تعالى كأن لم يغنوا فيها فيه أربعة أقوال
أحدها كأن لم يعيشوا في دارهم قاله ابن عباس والأخفش قال حاتم طيئ ... غنينا زمانا
بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر ... فما زادنا بغيا على ذي قرابة
... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر ...
قال الزجاج منى غنينا عشنا والتصعلك الفقر والعرب تقول للفقير الصعلوك
والثاني كأن لم يتنعموا فيها قاله قتادة
والثالث كأن لم يكونوا فيها قاله ابن زيد ومقاتل
والرابع
كأن لم ينزلوا فيها قاله الزجاج قال الأصمعي المغاني المنازل يقال غنينا بمكان كذا
أي نزلنا بمكان كذا أي نزلنا به وقال ابن قتيبة كأن لم يقيموا فيها ومعنى غنينا
بمكان كذا أقمنا قال ابن الانباري وإنما كرر قوله الذين كذبوا شعيبا للمبالغة في
ذمهم كما تقول أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي شتم أعراضنا
قوله تعالى فتولى عنهم فيه قولان
أحدهما أعرض والثاني انصرف وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي قال قتادة أسمع
شعيب قومه وأسمع صالح قومه كما أسمع نبيكم قومه يوم بدر يعني أنه خاطبهم بعد
الهلاك فكيف آسى أي أحزن وقال ابن اسحاق أصاب شعيبا على قومه حزن شديد ثم عاتب
نفسه فقال كيف آسى على قوم كافرين
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون
قوله تعالى وما أرسلنا في قرية قال الزجاج يقال لكل مدينة قرية لاجتماع الناس فيها
وقال غيره في الآية اختصار تقديره فكذبوه إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء وقد
سبق تفسير البأساء والضراء في الأنعام وتفسير التضرع في هذه السورة ومقصود الآية
إعلام النبي صلى الله عليه و سلم بسنة الله في المكذبين وتهديد قريش
ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء
فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون
ولو
أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركان من السماء والأرض ولكن كذبوا
فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون
قوله تعالى ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة فيه قولان
أحدهما أن السيئة الشدة والحسنة الرخاء قاله ابن عباس
والثاني السيئة الشر والحسنة الخير قاله مجاهد
قوله تعالى حتى عفوا قال ابن عباس كثروا وكثرت أموالهم وقالوا قد مس آباءنا الضراء
والسراء فنحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم يعني أنهم ارادوا أن هذا دأب الدهر وليس
بعقوبة فأخذناهم بغتة أي فجأة بنزول العذاب وهم لايشعرون بنزوله حتى أهلكهم الله
قوله تعالى لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض قال الزجاج المعنى أتاهم الغيث من
السماء والنبات من الأرض وجعل ذلك زاكيا كثيرا
أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر
الله إلا القوم الخاسرون
قوله تعالى أو أمن أهل القرى قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع أو أمن أهل باسكان
الواو وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي أو أمن بتحريك الواو وروى ورش عن نافع
أوامن يدغم الهمزة ويلقي حركتها على الساكن
أو لم يهد للذي يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على
قلوبهم فهم لا يسمعون
تلك
القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما
كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين
قوله تعالى أو لم يهد للذين وقرأ يعقوب نهد بالنون وكذلك في طه والسجدة قال الزجاج
من قرأ بالياء فالمعنى أو لم يبين الله لهم ومن قرأ بالنون فالمعنى أو لم نبين
وقوله تعالى ونطبع ليس بمحمول على أصبناهم لأنه لو حمل على أصبناهم لكان ولطبعنا
وإنما المعنى ونحن نطبع على قلوبهم ويجوز أن يكون محمولا على الماضي ولفظه لفظ
المستقبل كما قال ان لو نشاء والمعنى لو شئنا وقال ابن الانباري يجوز أن يكون
معطوفا على أصبنا إذ كان بمعنى نصيب فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى
الاستقبال كما قال تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك أي إن يشأ يدل عليه قوله
ويجعل لك قصورا قال الشاعر ... إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... مني وما سمعوا
من صالح دفنوا ...
أي يدفنوا
قوله تعالى فهم لا يسمعون أي لا يقبلون ومنه سمع الله لمن حمده قال الشاعر ... دعوت
الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول
قوله
تعالى فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل فيه خمسة أقوال
أحدها فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم
أقروا به بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم هذا قول أبي بن كعب
والثاني فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين
أخرجهم من صلب آدم فآمنوا كرها حيث أقروا بالألسن وأضمروا التكذيب قاله ابن عباس
والسدي
والثالث فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل
هلاكهم هذا قول مجاهد
والرابع فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية بل شاركوهم في
التكذيب قاله يمان بن رباب
والخامس فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا قبل رؤيتها
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أثرهم لفاسقين
قوله تعالى وما وجدنا لأكثرهم قال مجاهد يعني القرون الماضية من عهد قال أبو عبيدة
أي وفاء قال ابن عباس يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم وقال
الحسن العهد هاهنا ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا
قوله تعالى وإن وجدنا قال أبو عبيدة وما وجدنا أكثرهم إلا الفاسقين
ثم
بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة
المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على
الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية
فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين
قوله تعالى ثم بعثنا من بعدهم يعني الأنبياء المذكورين
قوله تعالى فظلموا بها قال ابن عباس فكذبوا بها وقال غيره فجحدوا بها
قوله تعالى حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق على بمعنى الباء قال الفراء
العرب تجعل الباء في موضع على تقول رميت بالقوس وعلى القوس وجئت بحال حسنة وعلى
حال حسنة وقال أبو عبيدة حقيق بمعنى حريص وقرأ نافع وأبان عن عاصم حقيق علي بتشديد
الياء وفتحها على الاضافة والمعنى واجب علي
قوله تعالى قد جئتكم ببينة قال ابن عباس يعني العصا فأرسل معي بني إسرائيل أي أطلق
عنهم وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة فاذا هي ثعبان مبين قال أبو عبيدة أي حية
ظاهرة قال الفراء الثعبان أعظم الحيات وهو الذكر وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس
الثعبان الحية الذكر
ونزع
يده فاذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن
يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل
ساحر عليم وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم
وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما نكون نحن المقلين قال ألقوا
فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق
عصاك فاذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك
وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون
قوله تعالى ونزع يده قال ابن عباس أدخل يده في جيبه ثم أخرجها فاذا هي تبرق مثل
البرق لها شعاع غلب نور الشمس فخروا على وجوههم ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت قال
مجاهد بيضاء من غير برص
قوله تعالى فماذا تأمرون قال ابن عباس ما الذي تشيرون به علي وهذا يدل على أنه من
قول فرعون وأن كلام الملأ انقطع عند قوله من أرضكم قال الزجاج يجوز أن يكون من قول
الملأ كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه أو خاطبوه وحده لأنه قد يقال للرئيس المطاع
ماذا ترون
قوله تعالى أرجئه قرأ ابن كثير أرجهؤ مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ وقرأ أبو عمرو
مثله غير أنه يضم الهاء ضمة من غير أن يبلغ بها الواو وكانا يهمزان مرجؤن و ترجئ
وقرأ
قالوا والمسيبي عن نافع أرجه بكسر الهاء ولا يبلغ بها الياء ولا يهمز وروى عنه ورش
أرجهي يصلها بياء ولا يهمز بين الجيم والهاء وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع
وهي قراءة الكسائي وقرأ حمزة أرجه ساكنة الهاء غير مهموز وكذلك قرأ عاصم في غير
رواية المفضل وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز وهي قراءة أبي
جعفر وكذلك اختلافهم في سورة الشعراء قال ابن قتيبة أرجه أخره وقد يهمز يقال أرجأت
الشيء وأرجيته ومنه قوله ترجي من تشاء منهن قال الفراء بنو أسد تقول أرجيت الأمر
بغير همز وكذلك عامة قيس وبعض بني تميم يقولون أرجأت الأمر بالهمز والقراء مولعون
بهمزها وترك الهمز أجود
قوله تعالى وارسل في المدائن يعني مدائن مصر حاشرين أي من يحشر السحرة إليك
ويجمعهم وقال ابن عباس هم الشرط
قوله تعالى يأتوك بكل ساحر قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم وابن عامر ساحر وفي
يونس بكل ساحر وقرأ حمزة والكسائي سحار في الموضعين ولا خلاف في الشعراء أنها سحار
قوله تعالى إن لنا لأجرا قرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم إن لنا لأجرا مكسورة
الألف على الخبر وفي الشعراء آين ممدودة مفتوحة الألف غير أن حفصا روى عن عاصم في
الشعراء أإن بهمزتين وقرأ أبو عمرو آين لنا ممدودة في السورتين وقرأ ابن عامر
وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بهمزتين في الموضعين
قال
أبو علي الاستفهام أشبه بهذا الموضع لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر وإنما
استفهموا عنه
قوله تعالى وإنكم لمن المقربين أي ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي
قوله تعالى سحروا أعين الناس قال أبو عبيدة عشوا أعين الناس وأخذوها واسترهبوهم أي
خوفوهم وقال الزجاج استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس
قوله تعالى فاذا هي تلقف وقرأ عاصم تلقف ساكنة اللام خفيفة القاف هاهنا وفي طه
والشعراء وروى البزي وابن فليح عن ابن كثير تلقف بتشديد التاء قال الفراء يقال
لقفت الشيء فأنا ألقفه لقفا ولقفانا والمعنى تبتلع
قوله تعالى ما يأفكون أي يكذبون لأنهم زعموا أنها حيات
قوله تعالى فوقع الحق قال ابن عباس استبان وبطل ما كانوا يعملون من السحر
الإشارة إلى قصتهم
اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولا أحدها اثنان وسبعون رواه أبو صالح عن
ابن عباس والثاني اثنان وسبعون ألفا روي عن ابن عباس أيضا وبه قال مقاتل والثالث
سبعون روي عن ابن عباس أيضا والرابع اثنا عشر ألفا قاله كعب والخامس سبعون ألفا
قاله عطاء
وكذلك قال وهب في رواية ألا أنه قال فاختار منهم سبعة آلاف والسادس سبعمائة وروى عبد المنعم بن إدريس عن ابيه عن وهب أنه قال كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفا متخيرين من سبعمائة ألف ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة ولاسابع خمسة وعشرون ألفا قاله الحسن والثامن تسعمائة قاله عكرمة والتاسع ثمانون ألفا قاله محمد بن المنكدر والعاشر بضعة وثلاثون ألفا قاله السدي والحادي عشر خمسة عشر ألفا قاله اب اسحاق والثاني عشر تسعة عشر ألفا رواه أبو سليمان الدمشقي والثالث عشر أربع مائة حكاه الثعلبي فأما أسماء رؤسائهم فقال ابن اسحاق رؤوس السحرة سانور وعاذور وحطحط ووصفى وهم الذين آمنوا كذا حكاه ابن ماكولا ورأيت عن غير ابن اسحاق سابورا وعازورا وقال مقاتل اسم أكبرهم شمعون قال ابن عباس ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فكانت ميلا في مثل فألقى موسى عصاه فاذا هي أعظم من حبالهم وعصيهم قد سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة والناس ينظرون وفرعون يضحك تجلدا فأقبلت الحية نحو فرعون فصاح يا موسى يا موسى فأخذها موسى وعرفت السحرة أن هذا من السماء وليس هذا بسحر فخروا سجدا وقالوا آمنا برب العالمين فقال فرعون إياي تمنون فقالوا رب موسى وهارون فأصبحوا سحرة وأمسوا شهداء وقال وهب بن منبه لما صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها فقتل بعضهم بعضا فمات منهم خمسة وعشرون ألفا وقال السدي لقي موسى أمير السحرة فقال أرأيت إن غلبتك
غدا
أتؤمن بي فقال الساحر لآتين غدا بسحر لا يغلبه السحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك
فان قيل كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء وفعل السحر كفر فعنه ثلاثة أجوبة أحدها
أن مضمون أمره إن كنتم محقين فألقوا والثاني ألقوا على ما يصح لا على ما يفسد
ويستحيل ذكرهما الماوردي والثالث إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر لأنهم إذا
ألقوا ألقى عصاه فابتلعت ذلك ذكره الواحدي فان قيل كيف قال وألقي السحرة ساجدين
وإنما سجدوا باختيارهم فالجواب أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره
اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحا
وتعظيما لشأن ما رأوا من الآيات ذكره ابن الانباري قال ابن عباس لما آمنت السحرة
اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل
قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها
أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا
إلى ربنا منقلبون
قوله تعالى آمنتم به قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو ءآمنتم به بهمزة ومدة على
الاستفهام وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أآمنتم به فاستفهموا بهمزتين
الثانية ممدودة وقرأ حفص عن عاصم آمنتم به على الخبر وروى ابن الإخريط عن ابن كثير
قال فرعون وأمنتم به فقلب همزة الاستفهام واوا وجعل الثانية ملينة بين بين وروى
قنبل عن القواس مثل رواية ابن الإخريط غير أنه كان يهمز بعد الواو وقال أبو علي
همز بعد الواو
لأن
هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام وبعد همزة الاستفهام أفعلتم فحققها ولم يخففها
قوله تعالى إن هذا لمكر مكرتموه قال ابن السائب لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين
موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها فسوف
تعلمون عاقبة ما صنعتم لأقطعن أيديكم أرجلكم من خلاف وهو قطع اليد اليمنى والرجل
اليسر قال ابن عباس أول من فعل ذلك وأول من صلب فرعون
وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جآءتنا ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا
مسلمين وقال الملأ من قوم فرعون أنذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك
قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا
بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين
قوله تعالى وما تنقم منا أي وما تكره منا شيئا ولا تعطن علينا إلا لأنا آمنا ربنا
أفرغ علينا صبرا قال مجاهد على القطع والصلب حتى لا نرجع كفارا وتوفنا مسلمين أي
مخلصين على دين موسى
قوله تعالى وأنذر موسى وقومه هذا إغراء من الملأ لفرعون وفيما أرادوا بالفساد في
الأرض قولان أحدهما قتل أبناء القبط واستحياء نسائهم كما فعلوا ببني اسرائيل قاله
مقاتل والثاني دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته
قوله
تعالى ويذرك جمهور القراء على نصب الراء وقرأ الحسن برفعها قاله الزجاج من نصب
ويذرك نصبه على جواب الاستفهام بالواو والمعنى أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك ومن
رفعه جعله مستأنفا فيكون المعنى أتذر موسى وقومه وهو يذرك وآلهتك والأجود أن يكون
معطوفا على أنذر فيكون المعنى أتذر موسى وأيذرك موسى أي أتطلق له هذا
قوله تعالى وآلهتك قال ابن عباس كان فرعون قد صنع لقومه أصناما صغارا وأمرهم
بعبادتها وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام فذلك قوله أنا ربكم الأعلى وقال غيره كان
قومه يعبدون تلك الأصنام تقربا إليه وقال الحسن كان يعبد تيسا في السر وقيل كان
يعبد البقر سرا وقيل كان يجعل في عنقه شيئا يعبده وقرأ ابن مسعود وابن عباس والحسن
وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية وابن محيصن والإهتك بكسر الهمزة وقصرها وفتح
اللام وبألف بعدها قال الزجاج المعنى ويذرك وربوبيتك وقال ابن الانباري قال
اللغويون الإلاهة العبادة فالمعنى ويذرك وعبادة الناس إياك قال ابن قتيبة من قرأ
وإلاهتك أراد ويذرك والشمس التي تعبد وقد كانف ي العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها
آلهة قال الأعشى ... فما أذكر الرهبه حتى انقلبت ... قبيل الإلهة منها قريبا ...
يعني الشمس والرهب ناقته يقول اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت
قوله تعالى سنقتل أبناءهم قرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي سنقتل
ويقتلون ابناءكم بالتشديد
وخفضهما
نافع وقرأ ابن كثير سنقتل خفيفة ويقتلون مشددة وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل
الابناء لعلمه أنه لا يقدر عليه وإنا فوقهم قاهرون أي عالون بالملك والسلطان فشكا
بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم فقال موسى استعينوا بالله واصبروا على ما
يفعل بكم إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده وقرأ الحسن وهبيرة عن حفص عن عاصم
يورثها بالتشديد فأطعمهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم
قوله تعالى والعاقبة للمتقين فيها قولان أحدهما الجنة والثاني النصر والظفر
قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم
ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات
لعلهم يذكرون
قوله تعالى قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا في هذا الأذى ستة
اقوال
أحدها أن الأذى الاول والثاني أخذ الجزية قاله الحسن
والثاني أن الأول ذبح الأبناء والثاني إدراك فرعون يوم طلبهم قاله السدي
والثالث أن الأول أنهم كانوا يسخرون في الأعمال إلى نصف النهار ويرسلون في بقيته
يكتسبون والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب قاله جويبر
والرابع
أن الأول تسخيرهم في ضرب اللبن وكانوا يعطونهم التبن الذي يخلطونه في الطين
والثاني أنهم كلفوا ضرب اللبن وجعل التبن عليهم قاله ابن السائب
والخامس أن الأول قتل الأبناء واستحياء البنات والثاني تكليف فرعون إياهم مالا
يطيقونه قاله مقاتل
والسادس أن الأول استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم والثاني إعادة ذلك
العذاب
وفي قوله من قبل أن تأتينا قولان
أحدهما تأتينا بالرسالة ومن بعد ما جئنا بها قاله ابن عباس
والثاني تأتينا بعهد الله أنه سيخلصنا ومن بعد ما جئتنا به ذكره الماوردي
قوله تعالى عسى ربكم أن يهلك عدوكم قال الزجاج عسى طمع وإشفاق إلا أن ما يطمع الله
فيه فهو واجب
قوله تعالى ويستخلفكم في الأرض في هذا الاستخلاف قولان
أحدهما أنه استخلاف من فرعون وقومه والثاني استخلاف عن الله تعالى لأن المؤمنين
خلفاء الله في أرضه وفي الأرض قولان
أحدهما أرض مصر قاله ابن عباس والثاني أرض الشام ذكره الماوردي
قوله تعالى فينظر كيف تعملون قال الزجاج أي يراه بوقوعه منكم لأنه إنما يجازيهم
على ما وقع منهم لا على ما علم أنه سيقع
قوله تعالى ولقد اخذنا آل فرعون بالسنين قال أبو عبيدة مجازه ابتليناهم بالجدوب
وآل فرعون أهل دينه وقومه وقال مقاتل هم أهل مصر
قال
الفراء بالسنين أي بالقحط والجدوب عاما بعد عام وقال الزجاج السنون في كلام العرب
الجدوب يقال مستهم السنة ومعناه جدب السنة وشدة السنة وإنما أخذهم بالضراء لأن
أحوال الشدة ترق القلوب وترغب فيما عند الله وفي الرجوع اليه قال قتادة أما السنون
فكانت في بواديهم ومواشيهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وقراهم وروى الضحاك
عن ابن عباس قال يبس لهم كل شيء وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون
فقالوا له إن كنت ربا كما تزعم فاملأ لنا نيل مصر فقال غدوة يصبحكم الماء فلما
خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح
فيكذبوني فلما كان جوف الليل اغتسل ثم لبس مدرعة من صوف ثم خرج حافيا حتى اتى بطن
نيل مصر فقام في بطنه فقال اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء
فاملأه فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة قلت وهذا الحديث بعيد
الصحة لأن الرجل كان دهريا لا يثبت آلها ولو صح كان إقراره بذلك كاقرار ابليس
وتبقى مخالفته عنادا
فاذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما
طآئرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون
قوله تعالى فاذا جاءتهم الحسنة وهي الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة قالوا لنا
هذه أي نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق ولم يعلموا أنه من
الله فيشكروا عليه وإن تصبهم سيئة وهي القحط والجدب والبلاء يطيروا بموسى ومن معه
أي يتشاءموا بهم وكانت العرب تزجر
الطير
فتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من جهة
اليمين
قوله تعالى ألا إنما طائرهم عند الله قال أبو عبيدة ألا تنبيه وتوكيد ومجاز طائرهم
حظهم ونصيبهم وقال ابن عباس ألا إنما طائرهم عند الله أي إن الذي أصابهم من الله
وقال الزجاج المعنى ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما
ينالهم في الدنيا
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين
قوله تعالى وقالوا مهما قال الزجاج زعم النحويون أن أصل مهما ماما ولكن أبدل من
الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ف ما الأولى هي ما الجزاء وما الثانية هي التي
تزاد تأكيدا للجزاء ودليل النحويين على ذلك أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلا وما
تزاد فيه قال الله تعالى فاما تثقفنهم كقولك إن تثقفنهم وقال وإما تعرضن عنهم
وتكون ما الثانية للشرط والجزاء والتفسير الأول هو الكلام وعليه استعمال الناس قال
ابن الانباري فعلى قول من قال إن معنى مه الكف يحسن الوقف على مه والاختيار أن لا
يوقف عليها دون ما لأنها في المصحف حرف واحد وفي الطوفان ثلاثة أقوال
أحدها أنه الماء قال ابن عباس أرسل عليهم مطر دائم الليل والنهار ثمانية أيام وإلى
هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير وقتادة والضحاك وأبو مالك ومقاتل واختاره الفراء وابن
قتيبة
والثاني
أنه الموت روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال مجاهد
وعطاء ووهب بن منبه وابن كثير
والثالث أنه الطاعون نقل عن مجاهد ووهب أيضا وفي القمل سبعة أقوال
أحدها أنه السوس الذي يقع في الحنطة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وقال به
والثاني أنه الدبى رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء وقال قتادة القمل
أولاد الجراد وقال ابن فارس الدبى الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته
والثالث أنه دواب سود صغار قاله الحسن وسعيد بن جبير وقيل هذه الدواب هي السوس
والرابع أنه الجعلان قاله حبيب بن أبي ثابت
والخامس أنه القمل ذكره عطاء الخراساني وزيد بن أسلم
والسادس أنه البراغيث حكاه ابن زيد
والسابع أنه الحمنان واحدتها حمنانة وهي ضرب من القردان قاله أبو عبيدة وقرأ الحسن
وعكرمة وابن يعمر القمل برفع القاف وسكون الميم
وفي
الدم قولان أحدهما أن ماءهم صار دما قاله الجمهور والثاني أنه رعاف أصابهم قاله
زيد بن اسلم
الإشارة إلى شرح القصة
قال ابن عباس جاءهم الطوفان فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته حتى خافوا الغرق
فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا ونؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا لهم
فكشفه الله عنهم وأنبت لهم شيئا لم ينبته قبل ذلك فقالوا هذا ما كنا نتمنى فأرسل
الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض فقالوا ادع لنا ربك فدعا فكشف الله عنهم
فأحرزوا زروعهم في البيوت فأرسل الله عليهم القمل فكان الرجل يخرج بطحين عشرة
أجربة إلى الرحى فلا يرى منها ثلاثة أقفزة فسألوه فدعا لهم فكشف عنهم فلم يؤمنوا
فأرسل الله عليهم الضفادع ولم يكن شيء أشد منها كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي
وتفور فتلقي أنفسها فيها فتفسد طعامهم وتطفئ نيرانهم وكانت الضفادع برية فأورثها
الله تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة فسألوه فدعا لهم فلم يؤمنوا فأرسل
الله عليهم الدم فجرت أنهارهم وقلبهم دما فلم يقدروا على الماء العذب وبنو إسرائيل
في الماء العذب فاذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه
دما والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر عليه فقال فرعون أقسم بالهي يا
موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى فذهب الدم
وعذب ماؤهم فقالوا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل
قوله
تعالى آيات مفصلات قال ابن قتيبة بين الآية والآية فصل قال المفسرون كانت الآية
تمكث من السبت إلى السبت ثم يبقون عقيب رفعها شهرا في عافية ثم تأتي الآية الأخرى
قال وهب بن منبه بين كل آيتين أربعون يوما وروى عكرمة عن ابن عباس قال مكث موسى في
آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل والضفادع والدم
وفي قوله فاستكبروا قولان أحدهما عن الإيمان والثاني عن الانزجار
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز
لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا
هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين
قوله تعالى ولما وقع عليهم الرجز أي نزل بهم العذاب وفي هذا العذاب قولان
أحدهما أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير
والثاني أنه العذاب الذي سلطه الله عليهم من الجراد والقمل وغير ذلك قاله ابن زيد
قال الزجاج الرجز العذاب أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب ومعنى الرجز في العذاب أنه
المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة وأصل الرجز في اللغة تتابع الحركات فمن ذلك
قولهم ناقة رجزاء إذا كانت
ترتعد
قوائمها عند قيامها ومنه رجز الشعر لأنه أقصر أبيات الشعر والانتقال من بيت إلى
بيت سريع نحو قوله ... يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع ...
وزعم الخليل أن الرجز ليس بشعر وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث
قوله تعالى بما عهد عندك فيه أربعة أقوال
أحدها أن معناه بما أوصاك أن تدعوه به والثاني بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك
والثالث بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن والرابع أن ذلك منهم على معنى القسم
كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم
قوله تعالى إلى أجل هم بالغوه أي إلى وقت غرقهم إذا هم ينكثون أي ينقضون العهد
قوله تعالى فانتقمنا منهم قال أبو سليمان الدمشقي انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم
وتلك النقمة تغريقنا إياهم في اليم قال ابن قتيبة اليم البحر بالسريانية
قوله تعالى وكانوا عنها غافلين فيه قولان
أحدهما عن الآيات وغفلتهم تركهم الاعتبار بها والثاني عن النقمة
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت
كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما
كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم
قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون
قوله
تعالى وأورثنا القوم يعني بني إسرائيل الذين كانوا يستضعفون أي يستذلون بذبح
الأبناء واستخدام النساء وتسخير الرجال مشارق الأرض ومغاربها فيه ثلاثة أقوال
أحدها مشارق الشام ومغاربها قاله الحسن والثاني مشارق أرض الشام ومصر والثالث أنه
على إطلاقه في شرق الأرض وغربها
قوله تعالى التي باركنا فيها قال ابن عباس بالماء والشجر
قوله تعالى وتمت كلمة ربك الحسنى وهي وعد الله لبني إسرائيل باهلاك عدوهم
واستخلافهم في الأرض وذلك في قوله ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وقد
بينا علة تسمية ذلك كله في آل عمران
قوله تعالى بما صبروا فيه قولان
أحدهما على طاعة الله تعالى والثاني على أذى فرعون
قوله تعالى ودمرنا أي أهلكنا ما كان يصنع فرعون وقومه من العمارات والمزارع
والدمار الهلاك وما كانوا يعرشون أي يبنون قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة
والكسائي وحفص عن عاصم يعرشون بكسر الراء هاهنا وفي النحل وقرأ ابن عامر وأبو بكر
عن عاصم بضم الراء فيهما وقرأ ابن أبي عبلة يعرشون بالتشديد قال الزجاج يقال عرش
يعرش ويعرش إذا بنى
قوله تعالى يعكفون قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ويعقوب يعكفون
بضم الكاف وقرأ حمزة والكسائي
والمفضل
بكسر الكاف وقرأ ابن أبي عبلة بضم الياء وتشديد الكاف قال الزجاج ومعنى يعكفون على
اصنام لهم يواظبون عليها ويلازمونها يقال لكل من لزم شيئا وواظب عليه عكف يعكف
ويعكف قال قتادة كان أولئك القوم نزولا بالرقة وكانوا من لخم وقال غيره كانت
أصنامهم تماثيل البقر وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله
بعدما رأوا الآيات
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون
قوله تعالى إن هؤلاء متبر ما هم فيه قال ابن قتيبة مهلك والتبار الهلاك
قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين
قوله تعالى قال أغير الله أبغيكم إلها أي أطلب لكم وهذا استفهام إنكار قال
المفسرون منهم ابن عباس ومجاهد العالمون هاهنا عالمو زمانهم
وإذا أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم
وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم
قوله تعالى وإذ أنجيناكم قرأ ابن عامر وإذا أنجاكم على لفظ الغائب المفرد
وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى
لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين
قوله
تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة المعنى وعدناه انقضاء الثلاثين ليلة قال ابن عباس
قال موسى لقومه إن ربي وعدني ثلاثين ليلة فلما فصل إلى ربه زاده عشرا فكانت فتنتهم
في ذلك العشر فان قيل لم زيد هذا العشر فالجواب أن ابن عباس قال صام تلك الثلاثين
ليلهن ونهارهن فلما انسلخ الشهر كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول
شيئا من نبات الأرض فمضغه فأوحى الله تعالى إليه لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان
عليه أما علمت أن رائحة فم الصائم إحب إلي من ريح المسك وأمره بصيام عشرة أيام
وقال أبو العالية مكث موسى على الطور أربعين ليلة فبلغنا أنه لم يحدث حتى هبط منه
فان قيل ما معنى فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقد علم ذلك عند انضمام العشر إلى
الثلاثين
فالجواب من وجوه أحدها أنه للتأكيد والثاني ليدل أن العشر ليال لا ساعات والثالث
لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم
أنها كانت عشرين ليلة فأتمت بعشر وقد بينا في سورة البقرة لماذا كان هذا الوعد
قوله تعالى وأصلح قال ابن عباس مرهم بالإصلاح وقال مقاتل ارفق
ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمة ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر
إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا
فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول
المؤمنين
قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين
قوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا قال الزجاج أي للوقت الذي وقتنا له وكلمه ربه
أسمعه كلامه ولم يكن فيما بينه وبين الله عز و جل فيما سمع أحد قال رب أرني أنظر
إليك أي أرني نفسك
قوله تعالى قال لن تراني تعلق بهذا نفاة الرؤية وقالوا لن لنفي الأبد وذلك غلط
لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ثم
أخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله يا مالك ليقض علينا ربك ولأن ابن عباس قال في
تفسيرها لن تراني في الدنيا وقال غيره هذا جواب لقول موسى أرني ولم يرد أرني في
الآخرة وإنما أراد في الدنيا فأجيب عما سأل وقال بعضهم لن تراني بسؤالك وفي هذه
الآية دلالة على جواز الرؤية لأن موسى مع علمه بالله تعالى سألها ولو كانت مما
يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك لأن معرفة الأنبياء
بالله ليس فيها نقص ولأن الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية
ولو استحالت عليه لقال لا أرى ألا ترى أن نوحا لما قال إن ابني من أهلي أنكر عليه
بقوله إنه ليس من أهلك ومما يدل على جواز الرؤية أنه علقها باستقرار الجبل وذلك
جائز غير مستحيل فدل على أنها جائزة ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علقه
بمستحيل فقال حتى يلج الجمل في سم الخياط
قوله تعالى فان استقر مكانه أي ثبت ولم يتضعضع
قوله
تعالى فلما تجلى ربه قال الزجاج ظهر وبان جعله دكا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو
وابن عامر دكا منونة مقصورة هاهنا وفي الكهف وقرأ عاصم دكا ها هنا منونة مقصورة
وفي الكهف دكاء ممدودة غير منونة وقرأ حمزة والكسائي دكاء ممدودة غير منونة في
الموضعين قال أبو عبيدة جعله دكا أي مندكا والدك المستوي والمعنى مستويا مع وجه
الأرض يقال ناقة دكاء أي ذاهبة السنام مستو ظهرها قال ابن قتيبة كأن سنامها دك أي
التصق قال ويقال إن اصل دككت دققت فأبدلت القاف كافا لتقارب المخرجين وقال أنس بن
مالك في قوله جعله دكا ساخ الجبل قال ابن عباس واسم الجبل زبير وهو أعظم جبل بمدين
وإن الجبال تطاولت ليتجلى لها وتواضع زبير فتجلى له
قوله تعالى وخر موسى صعقا فيه قولان
أحدهما مغشيا عليه قاله ابن عباس والحسن وابن زيد
والثاني ميتا قاله قتادة ومقاتل والأول أصح لقوله فلما أفاق وذلك لا يقال للميت
وقيل بقي في غشيته يوما وليلة
قوله تعالى سبحانك تبت إليك فيما تاب منه ثلاثة أقوال
أحدها سؤاله الرؤية قاله ابن عباس ومجاهد والثاني من الإقدام على المسألة قبل
الإذن فيها والثالث اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا
وفي قوله وأنا أول المؤمنين قولان
أحدهما
أنك لن ترى في الدنيا رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أول المؤمنين من بني إسرائيل رواه عكرمة عن ابن عباس
قوله تعالى إني اصطفيتك فتح ياء إني ابن كثير وأبو عمرو وقرأ ابن كثير ونافع
برسالتي قال الزجاج المعنى اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي ولو كان إنما
سمع كلام غير الله لما قال برسالاتي وبكلامي لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام
الله
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وامر قومك
يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين
قوله تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء في ماهية الألواح سبعة أقوال
أحدها أنها زبرجد قاله ابن عباس والثاني ياقوت قاله سعيد بن جبير والثالث زمرد
أخضر قاله مجاهد والرابع برد قاله أبو العالية والخامس خشب قاله الحسن والسادس صخر
قاله وهب بن منبه والسابع زمرد وياقوت قاله مقاتل وفي عددها أربعة اقوال
أحدها سبعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني لوحان قاله أبو صالح عن ابن
عباس واختاره الفراء قال وإنما سماها الله تعالى ألواحا على مذهب العرب في إيقاع
الجمع على التثنية كقوله وكنا لحكمهم شاهدين يريد داود وسليمان وقوله فقد صغت
قلوبكما والثالث عشرة قاله وهب والرابع تسعة قاله مقاتل
وفي قوله من كل شيء قولان أحدهما من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام
والواجب وغيره والثاني من الحكم والعبر
قوله
تعالى موعظة أي نهيا عن الجهل وتفصيلا أي تبيينا لكل شيء من الأمر والنهي والحدود
والأحكام
قوله تعالى فخذها بقوة فيه ثلاثة أقوال
أحدها بجد وحزم قاله ابن عباس والثاني بطاعة قاله أبو العالية والثالث بشكر قاله
جويبر
قوله تعالى وأمر قومك يأخذوا بأحسنها إن قيل كأن فيها ما ليس بحسن فعنه جوابان
أحدهما أن المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن قاله قطرب وقال ابن الانباري ناب أحسن
عن حسن كما قال الفرزدق ... إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
...
أي عزيزة طويلة وقال غير الأحسن هاهنا صلة والمعنى يأخذوا بها
والثاني أن بعض ما فيها أحسن من بعض ثم في ذلك خمسة أقوال
أحدها أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ففعل الخير هو الأحسن
والثاني أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض كالقصاص والعفو والانتصار
والصبر فأمروا أن يأخذوا بالأحسن ذكر القولين الزجاج فعلى هذا القول يكون المعنى
انهم يتبعون العزائم والفضائل وعلى الذي قبله يكون المعنى أنهم يتبعون الموصوف
بالحسن وهو الطاعة ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية
والثالث أحسنها الفرائض والنوافل وأدونها في الحسن المباح
والرابع
أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة فتصرف إلى الاشبه بالحق
والخامس أن أحسنها الجمع بين الفرائض والنوافل
قوله تعالى سأريكم دار الفاسقين فيها أربعة أقوال
أحدها أنها جهنم قاله الحسن ومجاهد والثاني انها دار فرعون وقومه وهي مصر قاله
عطية العوفي والثالث أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة يريهم إياها عند
دخولهم الشام قاله قتادة والرابع أنها مصارع الفاسقين قاله السدي ومعنى الكلام
سأريكم عاقبة من خالف أمري وهذا تهديد للمخالف وتحذير للموافق
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها
وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم
كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم
هل يجزون إلا ما كانوا يعملون
قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق في هذه الآية قولان
أحدهما أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات والثاني أنها عامة وهو أصح وفي
الآيات قولان
أحدهما أنها آيات الكتب المتلوة ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال أحدها أمنعهم فهمها
والثاني أمنعهم من الإيمان بها والثالث أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال
والثاني
أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها فيكون المعنى أصرفهم عن
التفكر والاعتبار بما خلقت وفي معنى يتكبرون قولان
أحدهما يتكبرون عن الإيمان واتباع الرسول
والثاني يحقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم
قوله تعالى وإن يروا سبيل الرشد قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم
سبيل الرشد بضم الراء خفيفة وقرأ حمزة والكسائي سبيل الرشد بفتح الراء والشين
مثقلة
قوله تعالى ذلك بأنهم قال الزجاج فعل الله بهم ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا
عنها غافلين أي كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين ويجوز أن
يكون المعنى وكانوا عن جزائها غافلين
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا
يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين
قوله تعالى واتخذ قوم موسى من بعده أي من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات من حليهم
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر من حليهم بضم الحاء وقرأ حمزة
والكسائي حليهم بكسر الحاء وقرأ يعقوب بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء والحلي جمع
حلي مثل ثدي وثدي وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة قال الزجاج ومن كسر الحاء
من حليهم أتبع الحاء كسر اللام والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما هو بمعنى
الجثة فقط قال ابن الانباري ذكر الجسد دلالة على
عدم
الروح منه وأن شخصه شخص مثال وصورة غير منضم إليهما روح ولا نفس فأما الخوار فهو
صوت البقرة يقال خارت البقرة تخور وجأرت تجأر وقد نقل عن العرب انهم يقولون في مثل
صوت الإنسان من البهائم رغا البعير وجرجر وهدر وقبقب وصهل الفرس وحمحم وشهق الحمار
ونهق وشحج البغل وثغت الشاة ويعرت وثأجت النعجة وبغم الظبي ونزب وزأر الأسد ونهت
ونأت ووعوع الذئب ونهم الفيل وزقح القرد وضبح الثعلب وعوى الكلب ونبح وماءت السنور
وصأت الفأرة ونغق الغراب معجمة الغين وزقأ الديك وسقع وصفر النسر وهدر الحمام وهدل
ونقضت الضفادع ونقت وعزفت الجن قال ابن عباس كان العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت
رفعوا رؤوسهم وفي رواية أبي صالح عنه أنه خار خورة واحدة ولم يتبعها مثلها وبهذا
قال وهب ومقاتل وكان مجاهد يقول خواره حفيف الريح فيه وهذا يدل على أنه لم يكن فيه
روح وقرأ أبو رزين العقيلي وابو مجلز له جوار بجيم مرفوعة
قوله تعالى ألم يروا أنه لا يكلمهم أي لا يستطيع كلامهم ولا يهديهم سبيلا أي لا
يبين لهم طريقا إلى حجة اتخذوه يعني اتخذوه إلها وكانوا ظالمين قال ابن عباس
مشركين
ولما
سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من
الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم
أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي
ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من
ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذلك نجزي المفترين
قوله تعالى ولما سقط في أيديهم أي ندموا قال الزجاج يقال للرجل النادم على ما فعل
المتحسر على ما فرط قد سقط في يده وأسقط في يده وقرأ ابن السميفع وأبو عمران
الجوني سقط بفتح السين قال الزجاج والمعنى ولما سقط الندم في أيديهم يشبه ما يحصل
في القلب وفي النفس بما يرى بالعين قال المفسرون هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع
موسى
قوله تعالى لئن لم يرحمنا ربنا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم
يرحمنا ربنا ويغفر لنا بالياء والرفع وقرأ حمزة والكسائي ترحمنا وتغفر لنا بالتاء
ربنا بالنصب
قوله تعالى غضبان اسفا في الاسف ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحزين قاله ابن عباس والحسن والسدي والثاني الجزع قاله مجاهد والثالث
أنه الشديد الغضب قاله ابن قتيبة والزجاج وقال أبو الدرداء الأسف منزلة وراء الغضب
أشد منه
قوله
تعالى قال أي لقومه بئسما خلفتموني من بعدي فتح ياء بعدي أهل الحجاز وأبو عمرو
والمعنى بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل أعجلتم أمر ربكم قال الفراء يقال
عجلت الأمر والشيء سبقته ومنه هذه الآية وأعجلته استحثثته قال ابن عباس أعجلتم
ميعاد ربكم فلم تصبروا له قال الحسن يعني وعد الأربعين ليلة
قوله تعالى وألقى الألواح التي فيها التوراة وفي سبب ألقائه إياها قولان
أحدهما أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل قاله ابن عباس
والثاني أنه لما رأى فضائل غير أمته من أمة محمد صلى الله عليه و سلم اشتد عليه
فألقاها قاله قتادة وفيه بعد قال ابن عباس لما رمى بالألواح فتحطمت رفع منها ستة
أسباع وبقي سبع
قوله تعالى وأخذ برأس أخيه في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال
أحدها لحيته وذؤابته والثاني شعر رأسه والثالث أذنه وقيل إنما فعل به ذلك لأنه
توهم أنه عصى الله بمقامه بينهم وترك اللحوق به وتعريفه ما أحدثوا بعده ليرجع
إليهم فيتلافاهم ويردهم إلى الحق وذلك قوله ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن
قوله تعالى ابن أم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم قال ابن أم نصبا
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم وكذلك في طه قال الزجاج
من فتح الميم فلكثرة استعمال هذا الاسم ومن كسر أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسما
واحدا ومن العرب من يقول يا ابن أمي باثبات الياء قال الشاعر
يا
ابن أمي ويا شقيق نفسي ... أنت خليفتي لدهر شديد ...
وقال أبو علي يحتمل أن يريد من فتح يا ابن أم أما ويحذف الألف ومن كسر ابن أمي
فيحذف الياء فان قيل لم قال يا ابن أم ولم يقل يا ابن أب فالجواب أن ابن عباس قال
كان أخاه لأبيه وأمه وإنما قال له ذلك ليرفقه عليه قال أبو سليمان الدمشقي
والإنسان عند ذكر الوالدة أرق منه عند ذكر الوالد وقيل كان لأمه دون أبيه حكاه
الثعلبي
قوله تعالى إن القوم يعني عبدة العجل استضعفوني أي استذلوني فلا تشمت بي الأعداء
قرأ عبد الله بن عباس ومالك بن دينار وابن عاصم فلا تشمت بتاء مفتوحة مع فتح الميم
الاعداء بالرفع وقرأ مجاهد وأبو العالية والضحاك وأبو رجاء فلا تشمت بفتح التاء
وكسر الميم الأعداء بالنصب وقرأ أبو الجوزاء وابن أبي عبلة مثل ذلك إلا أنهما رفعا
الأعداء ويعني بالاعداء عبدة العجل ولا تجعلني في موجدتك وعقوبتك لي مع القوم الظالمين
وهم عبدة العجل فلما تبين له عذر أخيه قال رب اغفر لي
قوله تعالى وذلة في الحياة الدنيا فيها قولان
أحدهما أنها الجزية قاله ابن عباس والثاني ما أمروا به من قتل أنفسهم قاله الزجاج
فعلى الأول يكون ما أضيف إليهم من الجزية في حق أولادهم لأن
أولئك
قتلوا ولم يؤدوا جزية قال عطية وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنضير من القتل
والجلاء لتوليهم متخذي العجل ورضاهم به
قوله تعالى وكذلك نجزي المفترين قال ابن عباس كذلك أعاقب من اتخذ إلها دوني وقال
مالك بن أنس ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة وقرأ هذه الاية وقال سفيان بن
عيينة ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه قال وهي في كتاب الله تعالى
قالوا وأين هي قال أوما سمعتم قوله إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم
وذلة في الحياة الدنيا قالوا يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة قال كلا أتلوا ما
بعدها وكذلك نجزي المفترين فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم
قوله تعالى والذين عملوا السيئات فيها قولان
أحدهما أنها الشرك والثاني الشرك وغيره من الذنوب ثم تابوا من بعدها يعني السيئات
وفي قوله وآمنوا قولان
أحدهما آمنوا بالله وهو يخرج على قول من قال هي الشرك
والثاني آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة إن ربك من بعدها يعني السيئات
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون
قوله تعالى ولما سكت عن موسى الغضب وقرأ ابن عباس وأبو عمران
سكت
بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها الغضب بالنصب وقرأ سعيد بن جبير وابن يعمر
والجحدري سكت بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها وقرأ ابن مسعود وعكرمة وطلحة سكن
بنون قال الزجاج سكت بمعنى سكن يقال سكت يسكت سكتا إذا سكن وسكت يسكت سكتا وسكوتا
إذا قطع الكلام قال وقال بعضهم المعنى ولما سكت موسى عن الغضب على القلب كما قالوا
أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة والأولى هو قول أهل
العربية
قوله تعالى أخذ الألواح يعني التي كان ألقاها وفي قوله وفي نسختها قولان
أحدهما وفيما بقي منها قاله ابن عباس والثاني وفيما نسخ فيهما قاله ابن قتيبة
قوله تعالى للذين هم لربهم يرهبون فيهم قولان
أحدهما أنه عام في الذين يخافون الله وهو معنى قول ابن عباس
والثاني أنهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم خاصة وهو معنى قول قتادة
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم
من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي
بها من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين
قوله تعالى واختار موسى قومه المعنى اختار من قومه فحذف
من
تقول العرب اخترتك القوم أي اخترتك من القوم وأنشدوا ... منا الذي اختير الرجال
سماحة ... وجودا إذا هب الرياح الزعازع ...
هذا قول ابن قتيبة والفراء والزجاج وفي هذا الميقات أربعة أقوال
أحدها أنه الميقات الذي وقته الله لموسى ليأخذ التوراة أمر أن يأتي معه بسبعين
رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال نوف البكالي
والثاني أنه ميقات وقته الله تعالى لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعو
ربهم فدعوا فقالوا اللهم أعطنا مالم تعط أحدا قبلنا ولا تعطيه أحدا بعدنا فكره
الله ذلك وأخذتهم الرجفة رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنه ميقات وقته الله لموسى لأن بني إسرائيل قالوا له إن طائفة تزعم أن
الله لا يكلمك فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة فأوحى الله
إليه أن اختر من خيارهم سبعين ثم ارتق بهم على الجبل انت وهارون واستخلف يوشع بن
نون ففعل ذلك قاله وهب بن منبه
والرابع أنه ميقات وقته الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل فيعتذر إليه من
فعل عبدة العجل قاله السدي وقال ابن السائب كان موسى لا يأتي إلا بإذن منه
فأما الرجفة فهي الحركة الشديدة وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال
أحدها أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون قاله علي بن أبي طالب
والثاني
اعتداؤهم في الدعاء وقد ذكرناه في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنهم لم ينهوا عبدة العجل ولم يرضوا نقل عن ابن عباس وقال قتادة وابن جريج
لم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر ولم يزايلوهم
والرابع أنهم طلبوا استماع الكلام من الله تعالى فلما سمعوه قالوا لن نؤمن لك حتى
نرى الله جهرة قاله السدي وابن إسحاق
قوله تعالى قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قال السدي قام موسى يبكي ويقول رب
ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
قال الزجاج لو شئت أمتهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة وقيل لو شئت
أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني
قوله تعالى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا قال المبرد هذا استفهام استعطاف أي لا
تهلكنا وقال ابن الانباري هذا استفهام على تأويل الجحد أراد لست تفعل ذلك والسفهاء
هاهنا عبدة العجل وقال الفراء ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل وإنما
أهلكوا بقولهم أرنا الله جهرة
قوله تعالى إن هي إلا فتنتك فيها قولان
أحدهما أنها الابتلاء رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وأبو
العالية
والثاني العذاب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة
قوله تعالى أنت ولينا أي ناصرنا وحافظنا
واكتب
لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من اشاء
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع
عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور
الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي
له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي
الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون
قوله تعالى واكتب لنا أي حقق لنا وأوجب في هذه الدنيا حسنة وهي الأعمال الصالحة
وفي الآخرة المغفرة والجنة إنا هدنا إليك أي تبنا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير
ومجاهد وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدي وقال ابن قتيبة ومنه الذين هادوا كأنهم
رجعوا من شيء إلى شيء وقرأ أبو وجزة السعدي إنا هدنا بكسر الهاء قال ابن الانباري
المعنى لا تتغير يقال هاد يهود ويهيد
قوله تعالى قال عذابي أصيب به من أشاء وقرأ الحسن البصري والأعمش وأبو العالية من
اساء بسين غير معجمة مع النصب
قوله
تعالى ورحمتي وسعت كل شيء في هذا الكلام أربعة اقوال
أحدها أن مخرجه عام ومعناه خاص وتأويله ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة محمد صلى الله
عليه و سلم لقوله تعالى فسأكتبها للذين يتقون قاله ابن عباس
والثاني أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا والخصوص في الآخرة وتأويلها ورحمتي
وسعت كل شيء في الدنيا البر والفاجر وفي الآخرة وفي الآخرة هي للمتقين خاصة قاله
الحسن وقتادة فعلى هذا معنى الرحمة في الدنيا للكافر أنه يرزق ويدفع عنه كقوله في
حق قارون وأحسن كما أحسن إليك
والثالث أن الرحمة التوبة فهي على العموم قاله ابن زيد
والرابع أن الرحمة تسع كل الخلق إلا أن أهل الكفر خارجون منها فلو قدر دخولهم فيها
لو سعتهم قاله ابن الانباري قال الزجاج وسعت كل شيء في الدنيا فسأكتبها للذين
يتقون في الآخرة قال المفسرون معنى فسأكتبها فسأوجبها وفي الذين يتقون قولان
أحدهما أنهم المتقون للشرك قاله ابن عباس والثاني للمعاصي قاله قتادة وفي قوله
ويؤتون الزكاة قولان أ حدهما أنها زكاة الأموال قاله الجمهور
والثاني أن المراد بها طاعة الله ورسوله قاله ابن عباس والحسن ذهبا
إلى
أنها العمل بما يزكي النفس ويطهرها وقال ابن عباس وقتادة لما نزلت ورحمتي وسعت كل
شيء قال إبليس أنا من ذلك الشيء فنزعها الله من إبليس فقال فسأكتبها للذين يتقون
ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون فقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن
بآيات ربنا فنزعها الله منهم وجعلها لهذه الأمة فقال الذين يتبعون الرسول النبي
الأمي وقال نوف قال الله تعالى لموسى أجعل لكم الأرض طهورا ومسجدا وأجعل السكينة
معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم يقرؤها الرجل منكم والمرأة
والحر والعبد والصغير والكبير فأخبر موسى قومه بذلك فقالوا لا نريد أن نصلي إلا في
الكنائس والبيع ولا أن تكون السكينة إلا في التابوت ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرا
فقال الله تعالى فسأكتبها للذين يتقون إلى قوله المفلحون وفي هؤلاء المذكورين في
قوله للذين يتقون ويؤتون الزكاة إلى قوله المفلحون قولان
أحدهما أنهم كل من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم وتبعه قاله ابن عباس
والثاني أنه محمد صلى الله عليه و سلم قاله السدي وقتادة وفي تسميته بالأمي قولان
أحدهما لا يكتب والثاني لأنه من أم القرى
قوله تعالى الذي يجدونه مكتوبا عندهم أي يجدون نعته ونبوته
قوله تعالى يأمرهم بالمعروف قال الزجاج يجوز أن يكون مستأنفا ويجوز أن يكون يجدونه
مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف قال ابن عباس المعروف مكارم الأخلاق وصلة
الارحام والمنكر عبادة الأوثان وقطع الأرحام وقال مقاتل المعروف الإيمان والمنكر
الشر وقال غيره المعروف الحق لأن العقول تعرف صحته والمنكر الباطل لأن العقول تنكر
صحته
وفي
الطيبات أربعة أقوال
أحدها أنها الحلال والمعنى يحل لهم الحلال والثاني أنها ما كانت العرب تستطيبه
والثالث أنها الشحوم المحرمة على بني إسرائيل والرابع ما كانت العرب تحرمه من
البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
وفي الخبائث ثلاثة أقوال
أحدها أنها الحرام والمعنى ويحرم عليهم الحرام
والثاني أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله كالحيات والحشرات
والثالث ما كانوا يستحلونه من الميتة والدم ولحم الخنزير
قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي
إصرهم وقرأ ابن عامر آصارهم ممدودة الألف على الجمع وفي هذا الإصر قولان
أحدهما أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة قاله
ابن عباس
والثاني التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت وأكل الشحوم والعروق وغير ذلك من
الأمور الشاقة قاله قتادة وقال مسروق لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب
فيصبح وقد كتب على باب بيته إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما
قوله تعالى والأغلال التي كانت عليهم قال الزجاج ذكر الأغلال تمثيل ألا ترى أنك
تقول جعلت هذا طوقا في عنقك وليس هناك طوق
إنما
جعلت لزومه كالطوق والأغلال أنه كان عليهم أن لا يقبل منهم في القتل دية وأن لا
يعملوا في السبت وأن يقرضوا ما أصاب جلودهم من البول
قوله تعالى فالذين آمنوا به يعني بمحمد صلى الله عليه و سلم وعزروه وروى أبان
وعزروه بتخفيف الزاي وفي المعنى قولان
أحدهما نصروه وأعانوه قاله مقاتل
والثاني عظموه قاله ابن قتيبة والنور الذي أنزل معه القرآن سماه نورا لأن بيانه في
القلوب كبيان النور في العيون وفي قوله معه قولان
أحدهما أنها بمعنى عليه
والثاني بمعنى أنزل في زمانه قال قتادة أما نصره فقد سبقتم إليه ولكن خيركم من آمن
به واتبع النور الذي أنزل معه
قوله تعالى الذي يؤمن بالله وكلماته في الكلمات قولان
أحدهما أنها القرآن قاله ابن عباس وقال قتادة كلماته آياته
والثاني أنها عيسى بن مريم قاله مجاهد والسدي
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
قوله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق فيه قولان
أحدهما يدعون إلى الحق والثاني يعملون به
قوله تعالى وبه يعدلون قال الزجاج وبالحق يحكمون وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة
أقوال
أحدها أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام قاله ابن عباس والسدي والثاني
أنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم مثل ابن سلام وأصحابه قاله
ابن
السائب والثالث أنهم الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم ذكره الماوردي
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك
الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام
وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا
أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولو ا حطة
وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيآتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا
غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون
قوله تعالى وقطعناهم يعني قوم موسى يقول فرقناهم اثنتي عشرة أسباطا يعني أولاد
يعقوب وكانوا اثنى عشر ولدا فولد كل واحد منهم سبطا قال الفراء وإنما قال اثنتي
عشرة والسبط ذكر لأن بعده أمما فذهب بالتأنيث إلى الأمم ولو كان اثني عشر لتذكير
السبط كان جائزا وقال الزجاج المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا نعت فرقة
كأنه يقول جعلناهم أسباطا وفرقناهم أسباطا فيكون أسباطا بدلا من اثنتي عشرة وأمما
من نعت أسباط والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليفصل بين ولد إسماعيل وبين
ولد إسحاق وقال أبو عبيدة الأسباط قبائل بني إسرائيل واحدهم سبط ويقال من أي سبط
أنت أي من أي قبيلة وجنس
قوله تعالى فانبجست منه قال ابن قتيبة انفجرت يقال تبجس الماء كما يقال تفجر
والقصة مذكورة في سورة البقرة
قوله
تعالى نغفر لكم خطاياكم قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي نغفر لكم خطيئاتكم
بالتاء مهموزة على الجمع وقرأ أبو عمرو نغفر لكم خطاياكم مثل قضاياكم ولا تاء فيها
وقرأ نافع تغفر بالتاء مضمومة خطيئاتكم بالهمز وضم التاء على الجمع وافقه ابن عامر
في تغفر بالتاء المضمومة لكنه قرأ خطيئتكم على التوحيد
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم
سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون
قوله تعالى واسألهم يعني أسباط اليهود وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقررهم على قديم
كفرهم ومخالفة أسلافهم الأنبياء ويخبرهم بما لا يعلم إلا بوحي وفي القرية خمسة
اقوال
أحدها أنها أيلة رواه مرة عن ابن مسعود وأبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن وسعيد
بن جبير وقتادة والسدي
والثاني أنها مدين رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أنها ساحل مدين روي عن قتادة
والرابع أنها طبرية قاله الزهري
والخامس أنها قرية يقال لها مقنا بين مدين وعينونا قاله ابن زيد ومعنى حاضرة البحر
مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه إذ يعدون قال الزجاج أي يظلمون يقال عدا فلان يعدو
عدوانا وعداء وعدوا وعدوا إذا ظلم وموضع إذ نصب والمعنى سلهم عن وقت عدوهم في
السبت إذ تأتيهم حيتانهم في موضع نصب أيضا ب يعدون والمعنى سلهم إذ عدوا
في
وقت الإتيان شرعا أي ظاهرة كذلك نبلوهم أي مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم بفسقهم
ويحتمل على بعد أن يكون المعنى ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شرعا ويكون
نبلوهم مستأنفا وقرأ الحسن والأعمش وأبان والمفضل عن عاصم يسبتون بضم الياء
وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة
إلى ربكم ولعلهم يتقون
قوله تعالى وإذ قالت أمة منهم قال المفسرون افترق أهل القرية ثلاث فرق فرقة صادت
وأكلت وفرقة نهت وزجرت وفرقة أمسكت عن الصيد وقالت للفرقة الناهية لم تعظون قوما
الله مهلكهم لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين فقالت الفرقة الناهية
معذرة إلى ربكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي معذرة رفعا
أي موعظتنا إياهم معذرة والمعنى أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء
عذرا إلى الله وقرأ حفص عن عاصم معذرة نصبا وذلك على معنى نعتذر معذرة ولعلهم
يتقون أي وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية
فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس
بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن
ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه
لغفور رحيم
قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به يعني تركوا ما وعظوا به أنجينا
الذين
ينهون عن السوء وهم الناهون عن المنكر والذين ظلموا هم المعتدون في السبت
قوله تعالى بعذاب بئيس قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بئيس على وزن فعيل
فالهمزة بين الباء والياء وقرأ نافع بيس بكسر الباء من غير همز وقرأ ابن عامر كذلك
إلا أنه همز وروى خارجة عن نافع بيس بفتح الباء من غير همز على وزن فعل وروى أبو
بكر عن عاصم بيأس على وزن فيعل وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأيوب بيآس على وزن فيعال
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومعاذ القارئ بئس بفتح الباء وكسر الهمزة من غير ياء
على وزن نعس وقرأ الضحاك وعكرمة بيس بتشديد الياء مثل قيم وقرأ أبو العالية وأبو
مجلز بئس بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير ياء ولا ألف على وزن فعل وقرأ
أبو المتوكل وأبو رجاء بائس بألف ومدة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن فاعل قال أبو
عبيدة البئيس الشديد وأنشد ... حنقا علي وما ترى ... لي فيهم أثرا بئيسا ...
وقال الزجاج يقال بئس يبأس بأسا والعاتي الشديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا
يقبل موعظة وقال ابن جرير فلما عتوا أي تمردوا فيما نهوا عنه وقد ذكرنا في سورة
البقرة قصة مسخهم وكان الحسن البصري يقول والله ما لحوم هذه الحيتان بأعظم عند
الله من دماء قوم مسلمين
قوله تعالى وإذ تأذن ربك فيه أربعة أقوال
أحدها
أعلم قاله الحسن وابن قتيبة وقال هو من آذنتك بالأمر
وقال ابن الانباري تأذن بمعنى آذن كما يقال تعلم أن فلانا قائم أي اعلم وقال أبو
سليمان الدمشقي أي أعلم أنبياء بني إسرائيل والثاني حتم قاله عطاء والثالث وعد قاله
قطرب والرابع تألى قاله الزجاج
قوله تعالى ليبعثن عليهم أي على اليهود وقال مجاهد على اليهود والنصارى بمعاصيهم
من يسومهم أي يوليهم سوء العذاب وفي المبعوث عليهم قولان أحدهما أنه محمد صلى الله
عليه و سلم وأمته قاله ابن عباس والثاني العرب كانو يجبونهم الخراج قاله سعيد بن
جبير قال ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى جباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك إلى النبي
صلى الله عليه و سلم وقال السدي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية
ويقتلونهم وفي سوء العذاب أربعة أقوال
أحدها أخذ الجزية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثاني المسكنة والجزية رواه
العوفي عن ابن عباس والثالث الخراج رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
والرابع أنه القتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيآت
لعلهم يرجعون
قوله تعالى وقطعناهم في الأرض أمما قال أبو عبيدة فرقناهم فرقا قال ابن عباس هم
اليهود ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة وقال مقاتل هم بنو إسرائيل وقيل معناه شتات
أمرهم وافتراق كلمتهم منهم الصالحون وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام ومنهم
دون ذلك وهم الكفار وقال ابن جرير إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن يبعث عيسى وقبل
ارتدادهم
قوله
تعالى وبلوناهم أي اختبرناهم بالحسنات وهي الخير والخصب والعافية والسيئات وهي
الجدب والشر والشدائد فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة أما النعم فطلب الازدياد
منها وخوف زوالها والنقم فلكشفها والسلامة منها لعلهم يرجعون أي لكي يتوبوا
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن
يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا
الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون
قوله تعالى فخلف من بعدهم أي من بعد الذين وصفناهم خلف وقرأ الجوني والجحدري خلف
بفتح اللام قال أبو عبيدة الخلف والخلف واحد وقوم يجعلون المحرك اللام للصالح
والمسكن لغير الصالح وقال ابن قتيبة الخلف الرديء من الناس ومن الكلام يقال هذا
خلف من القول وقال ابن الانباري أكثر ما تستعمل العرب الخلف باسكان اللام في
الرديء المذموم وتفتح اللام في الفاضل الممدوح وقد يوقع الخلف على الممدوح والخلف
على المذموم غير أن المختار ما ذكرناه وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود قاله ابن عباس وابن زيد والثاني النصارى والثالث أن الخلف من
أمة محمد صلى الله عليه و سلم والقولان عن مجاهد
فان قيل الخلف واحد فكيف قال يأخذون وكذلك قال في مريم أضاعوا فقد ذكر ابن
الانباري عنه جوابين
أحدهما
أن الخلف جمع خالف كما أن الركب جمع راكب والشرب جمع شارب
والثاني أن الخلف مصدر يكون للاثنين والجميع والمذكر والمؤنث
قوله تعالى ورثوا الكتاب أي انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف فيخرج في
الكتاب ثلاثة أقوال
أحدها أنه التوراة والثاني الإنجيل والثالث القرآن
قوله تعالى يأخذون عرض هذا الأدنى أي هذه الدنيا وهو ما يعرض لهم منها وقيل سماه
عرضا لقلة بقائه قال ابن عباس يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام وقيل هو الرشوة في
الحكم وفي وصفه بالأدنى قولان
أحدهما أنه من الدنو والثاني أنه من الدناءة
قوله تعالى سيغفر لنا فيه قولان
أحدهما أن المعنى إنا لا نؤاخذ تمنيا على الله الباطل
والثاني أنه ذنب يغفره الله لنا تأميلا لرحمة الله تعالى
وفي قوله وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه قولان
أحدهما أن المعنى لا يشبعهم شيء فهم يأخذون لغير حاجة قاله الحسن
والثاني أنهم أهل إصرار على الذنوب قاله مجاهد
قوله تعالى ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق قال ابن
عباس وكد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الحق فقالوا الباطل وهو
ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها وليس في التوراة ميعاد
المغفرة مع الإصرار
قوله
تعالى ودرسوا ما فيه معطوف على ورثوا ومعنى درسوا ما فيه قرؤوه فكأنه قال خالفوا
على علم والدار الآخرة أي ما فيها من الثواب خير للذين يتقون أفلا يعقلون أن
الباقي خير من الفاني قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم بالتاء والباقون بالياء
والذين يمسكون بالكتاب واقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين
قوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي
وحفص عن عاصم يمسكون مشددة وقرؤوا ولا تمسكوا بعصم الكوافر مخففة وقرأهما أبو عمرو
بالتشديد وروى أبو بكر عن عاصم أنه خففهما ويقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت
به وامتسكت به وهذه الآية نزلت في مؤمني اهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يحرفوه
منهم عبد الله بن سلام واصحابه قال ابن الانباري وخبر الذين إنا وما بعده وله ضمير
مقدر بعد المصلحين تأويله والذين يمسكون بالكتاب أنا لا نضيع أجر المصلحين منهم
ولهذه العلة وعدهم حفظ الأجر بشرط إذ كان منهم من لم يصلح قال وقال بعض النحويين المصلحون
يرجعون على الذين وتلخيص المعنى عنده والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا
نضيع أجرهم فأظهرت كنايتهم بالمصلحين كما يقال علي لقيت الكسائي وأبو سعيد رويت عن
الخدري يراد لقيته ورويت عنه قال الشاعر
فيارب
ليلى أنت في كل موطن ... وأنت الذي في رحمة الله أطمع ...
أراد في رحمته فأظهر ضمير الهاء
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا
ما فيه لعلكم تتقون
قوله تعالى وإذ نتقنا الجبل فوقهم أي واذكر لهم إذ نتقنا الجبل أي رفعناه قال
مجاهد أخرج الجبل من الأرض ورفع فوقهم كالظلة فقيل لهم لتؤمنن أو ليقعن عليكم وقال
قتادة نزلوا في أصل الجبل فرفع فوقهم فقال لتأخذن أمري أو لأرمينكم به
قوله تعالى وظنوا أنه واقع بهم فيه قولان
أحدهما أنه الظن المعروف والثاني أنه بمعنى اليقين وباقي الآية مفسر في سورة
البقرة
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ونعمان قريب من عرفة ذكره ابن قتيبة فأخرج من
صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا وقال ألست بربكم قالوا
بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا
عن
هذا غافلين ومعنى الآية وإذا أخذ ربكم من ظهور بني آدم فقوله من ظهورهم بدل من بني
آدم وقيل إنما قال من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم لأنه أخرج بعضهم من ظهور بعض
فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه وقد أخرجوا من ظهره وقوله تعالى
ذرياتهم قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ذريتهم على التوحيد وقرأ نافع وأبو
عمرو وابن عامر ذرياتهم على الجمع قال أبو علي الذرية تكون جمعا وتكون واحدا
وفي قوله وأشهدهم على أنفسهم ثلاثة أقوال
أحدها أشهدهم على أنفسهم باقرارهم قاله مقاتل
والثاني دلهم بخلقه على توحيده قاله الزجاج
والثالث أنه أشهد بعضهم على بعض باقرارهم بذلك قاله ابن جرير
قوله تعالى ألست بربكم والمعنى وقال لهم ألست بربكم وهذا سؤال تقرير قالوا بلى
شهدنا أنك ربنا قال السدي قوله شهدنا خبر
من
الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم ويحسن الوقف على قوله
بلى لأن كلام الذرية قد انقطع وزعم الكلبي ان الذرية لما قالت بلى قال الله
للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال جمعهم جميعا
فجعلهم أزواجا ثم صورهم ثم استنطقهم ثم قال ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك آلهنا
قال فاني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن
تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين لم نعلم بهذا وقال السدي أجابته طائفة
طائعين وطائفة كارهين تقية
قوله تعالى ان يقولوا قرأ أبو عمرو أن يقولوا أو يقولوا بالياء فيهما وقرأ الباقون
بالتاء فيهما قال أبو علي حجة أبي عمرو قوله وإذ أخذ ربك وقوله قالوا بلى وحجة من
قرأ بالتاء أنه قد جرى في الكلام خطاب ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ومعنى قوله
يقولوا لئلا يقولوا مثله أن تميد بكم وفي قوله إنا كنا قولان
أحدهما أنه إشارة إلى الميثاق والإقرار
والثاني أنه إشارة إلى معرفة أنه الخالق قال المفسرون وهذه الآية تذكير من الله
تعالى بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار إنا
كنا على هذا الميثاق غافلين لم نذكره ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله
تعالى بذلك على لسان النبي صلى الله عليه و سلم الصادق وإذا ثبت هذا بقول الصادق
قام في النفوس مقام الذكر فالاحتجاج به قائم
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون
قوله
تعالى أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاتبعنا منهاجهم على
جهل منا بآلهيتك افتهلكنا بما فعل المبطلون في دعواهم أن معك إلها فقطع الله
احتجاجهم بمثل هذا إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم وجماعة أهل العلم على
ما شرحنا من أنه استنطق الذر وركب فيهم عقولا وأفهاما عرفوا بها ما عرض عليهم وقد
ذكر بعضهم أن معنى أخذ الذرية إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفا ومعنى إشهادهم
على أنفسهم اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين ولما
عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق كانوا بمنزلة الشاهدين
والمشهدين على أنفسهم بصحته كما قال شاهدين على أنفسهم بالكفر يريدهم بمنزلة
الشاهدين وإن لم يقولوا نحن كفرة كما يقول الرجل قد شهدت جوارحي بصدقك أي قد عرفته
ومن هذا الباب قوله شهد الله أي بين وأعلم وقد حكى نحو هذا القول ابن الانباري
والأول أصح لموافقة الآثار
وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون
قوله تعالى وكذلك نفصل الآيات أي كما بينا في أخذ الميثاق الآيات ليتدبرها العباد
فيعملوا بموجبها ولعلهم يرجعون أي ولكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر إلى التوحيد
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين
قوله تعالى واتل عليهم قال الزجاج هذا نسق على ما قبله والمعنى
أتل
عليهم إذ أخذ ربك واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا وفيه ستة أقوال
أحدها أنه رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن أبر قاله ابن مسعود وقال ابن عباس
بلعم بن باعوراء وروي عنه أنه بلعام بن باعور وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي وروى
العوفي عن ابن عباس أن بلعما من أهل اليمن وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة
الجبارين
والثاني أنه أمية بن أبي الصلت قاله عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب
وأبو روق وزيد بن أسلم وكان أمية قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا ورجا أن
يكون هو فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم حسده وكفر
والثالث أنه أبو عامر الراهب روى الشعبي عن ابن عباس قال الأنصار تقول هو الراهب
الذي بني له مسجد الشقاق وروي عن ابن المسيب نحوه
والرابع أنه رجل كان في بني اسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن وكانت له
امرأة له منها ولد وكانت سمجة دميمة فقالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني
إسرائيل فدعا الله لها فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل مثلها رغبت عن زوجها
وأرادت غيره فلما رغبت عنه دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة فذهبت منه فيها دعوتان
فجاء بنوها وقالوا ليس بنا على هذا صبر أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها فادع
الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها أولا فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت
فيها الدعوات الثلاث رواه عكرمة عن ابن عباس والذي روي لنا في هذا الحديث وكانت
سمجة بكسر الميم وقد روى سيبويه عن العرب أنهم يقولون رجل سمج بتسكين الميم ولم
يقولوا سمج بكسرها
والخامس أنه المنافق قاله الحسن
والسادس
أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء قاله عكرمة وفي
الآيات خمسة أقوال
أحدها أنه اسم الله الأعظم رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال ابن جبير
والثاني أنها كتاب من كتب الله عز و جل روى عكرمة عن ابن عباس قال هو بلعام أوتي
كتابا فانسلخ منه
والثالث أنه أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه قاله
مجاهد وفيه بعد لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوما عن مثل هذه الحال
والرابع أنها حجج التوحيد وفهم أدلته
والخامس أنها العلم بكتب الله عز و جل والمشهور في التفسير أنه بلعام وكان من أمره
على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه وكانوا كفارا
وكان هو مجاب الدعوة فقال ملكهم ادع على موسى فقال إنه من أهل ديني ولا ينبغي لي
أن أدعو عليه فأمر الملك أن تنحت خشبة لصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو
على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت الأتان فضربها فقالت لم تضربني وهذه نار تتوقد قد
منعتني أن أمشي فارجع فرجع إلى الملك فأخبره فقال إما أن تدعو عليهم وإما أن أصلبك
فدعا على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة فاستجاب الله له فوقع موسى
وقومه في التيه بدعائه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه فقال بدعاء بلعم
فقال يا رب فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه فدعا الله أن ينزع منه الاسم
الأعظم فنزع منه وقيل إن بلعام أمر قومه أن
يزينوا
النساء ويرسلوهن في العسكر ليفشوا الزنا فيهم فينصروا عليهم وقيل إن موسى قتله بعد
ذلك وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرعا فقال لا ترهبوا بني إسرائيل
فانكم إذا خرجتم لقتالهم دعوت عليهم فهلكوا فكان فيما شاء عندهم من الدنيا وذلك بعد
مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها وكان نبيهم يوشع لا موسى
قوله تعالى فانسلخ منها أي خرج من العلم بها
قوله تعالى فأتبعه الشيطان قال ابن قتيبة أدركه يقال اتبعت القوم إذا لحقتهم
وتبعتهم سرت في أثرهم وقرأ طلحة بن مصرف فاتبعه بالتشديد وقال اليزيدي أتبعه واتبعه
لغتان وكأن اتبعه خفيفة بمعنى قفاه واتبعه مشددة حذا حذوه ولا يجوز أن تقول
أتبعناك وأنت تريد اتبعناك لأن معناها اقتدينا بك وقال الزجاج يقال تبع الرجل
الشيء واتبعه بمعنى واحد قال الله تعالى فمن تبع هداي وقال فاتبعهم فرعون
قوله تعالى فكان من الغاوين فيه قولان
أحدهما من الضالين قاله مقاتل والثاني من الهالكين الفاسدين قاله الزجاج
ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل
عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم
يتفكرون
قوله تعالى ولو شئنا لرفعناه بها في هاء الكناية في رفعناه قولان
أحدهما
أنها تعود إلى الإنسان المذكور وهو قول الجمهور فيكون المعنى ولو شئنا لرفعنا
منزلة هذا الإنسان بما علمناه
والثاني أنها تعود إلى الكفر بالآيات فيكون المعنى لو شئنا لرفعنا عنه الكفر
بآياتنا وهذا المعنى مروي عن مجاهد وقال الزجاج لو شئنا لحلنا بينه وبين المعصية
قوله تعالى ولكنه أخلد إلى الأرض أي ركن إلى الدنيا وسكن قال الزجاج يقال أخلد
وخلد والأول أكثر في اللغة والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا لأن الدنيا هي الأرض بما
عليها وفي معنى الكلام قولان
أحدهما أنه ركن إلى أهل الدنيا ويقال إنه أرضى امرأته بذلك لأنها حملته عليه وقيل
أرضي بني عمه وقومه
والثاني أنه ركن إلى شهوات الدنيا وقد بين ذلك بقوله واتبع هواه والمعنى أنه انقاد
لما دعاه إليه الهوى قال ابن زيد كان هواه مع قومه وهذه الآية من أشد الآيات على
أهل العلم إذ مالوا عن العلم إلى الهوى
قوله تعالى فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث معناه أن هذا الكافر
إن زجرته لم ينزجر وإن تركته لم يهتد فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب فانه إن
طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا وإن ترك وربض كان أيضا لاهثا والتشبيه بالكلب
اللاهث خاصة فالمعنى فمثله كمثل الكلب لاهثا وإنما شبهه بالكلب اللاهث لأنه أخس
الأمثال على أخس الحالات وأبشعها وقال ابن قتيبة كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو
عطش إلا الكلب فانه يلهث في حال راحته وحال كلاله فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته
فقال إن
وعظته
فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث أو تركته على حاله
رابضا لهث قال المفسرون زجر في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر وخاطبته
أتانه فلم ينته فضرب له هذا المثل ولسائر الكفار فذلك قوله ذلك مثل القوم الذين
كذبوا بآياتنا لأن الكافر إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال وهو مع إرسال الرسل
إليه كمن لم يأته رسول ولا بينة
قولا تعالى فاقصص القصص قال عطاء قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون من يهد الله فهو المهتدي
ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون
قوله تعالى ساء مثلا يقال ساء الشيء يسوء إذا قبح والمعنى ساء مثلا مثل القوم فحذف
المضاف فنصب مثلا على التمييز
قوله تعالى وأنفسهم كانوا يظلمون أي يضرون بالمعصية
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا
يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون
قوله تعالى ولقد ذرأنا أي خلقنا قال ابن قتيبة ومنه ذرية الرجل إنما هي الخلق منه
ولكن همزها يتركه أكثر العرب
قوله
تعالى لجهنم هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة كقوله ليكون لهم عدوا
وحزنا ومثله قول الشاعر ... أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر
نبنيها ...
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزيه بموت ابنه فقال ... تعز أمير المؤمنين فإنه
... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد ...
وقد أخبر الله عز و جل في هذه الآية بنفاذ علمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم
قوله تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها لما أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه كانوا
بمنزلة من لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع وقال محمد بن القاسم النحوي أراد بهذا كله
أمر الآخرة فانهم يعقلون أمر الدنيا
قوله تعالى أولئك كالأنعام شبههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر ولا تعتبر ثم قال بل
هم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره وهؤلاء يعلم أكثرهم
أنه معاند فيقدم على النار أولئك هم الغافلون عن أمر الآخرة
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا
يعملون
قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى سبب نزولها أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن
فقال أبو جهل أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو
اثنين فأنزل الله هذه الآية قاله مقاتل فأما الحسنى فهي تأنيث الأحسن ومعنى الآية
أن أسماء الله حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس
بحسن
وذكر الماوردي أن المراد بذلك ما مالت إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون
السخط والنقمة وقوله فادعوه بها أي نادوه بها كقولك يا الله يا رحمن
قوله تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن
عامر يلحدون بضم الياء وكذلك في النحل والسجدة وقرأ حمزة يلحدون بفتح الحاء والياء
فيهن ووافقه الكسائي وخلف في النحل قال الاخفش ألحد ولحد لغتان فمن قرأ بهما أراد
الأخذ باللغتين فكأن الإلحاد العدول عن الاستقامة وقال ابن قتيبة يجورون عن الحق
ويعدلون فيقولون اللات والعزى ومناة وأشباه ذلك ومنه لحد القبر لأنه في جانب قال
الزجاج ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسم به نفسه فيقول يا جواد ولا يقول يا سخي
ويقول يا قوي ولا يقول يا جلد ويقول يا رحيم ولا يقول يا رفيق لأنه لم يصف نفسه
بذلك قال أبو سليمان الخطابي ودليل هذه الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ عنها
إلحاد ومما يسمع على ألسنة العامة قولهم يا سبحان يا برهان وهذا مهجور مستهجن لا
قدوة فيه وربما قال بعضهم يا رب طه ويس وقد أنكر ابن عباس على رجل قال يا رب
القرآن وروي عن ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سموا بها أوثانهم وزادوا فيها
ونقصوا منها فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان
فصل
والجمهور على أن هذه الآية محكمة لأنها خارجة مخرج التهديد كقوله ذرني
ومن
خلقت وحيدا وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال لأن قوله وذروا الذين
يلحدون في أسمائه يقتضي الإعراض عن الكفار وهذا قول ابن زيد
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
قوله تعالى وممن خلقنا أمة يهدون بالحق أي يعملون به وبه يعدلون أي وبالعمل به
يعدلون وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال
أحدها أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون باحسان من هذه الأمة قاله ابن عباس وكان
ابن جريج يقول ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال هذه أمتي بالحق يأخذون
ويعطون ويقضون وقال قتادة بلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا تلا هذه
الآية قال هذه لكم وقد أعطي القوم مثلها ثم يقرأ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه
يعدلون
والثاني أنهم من جميع الخلق قاله ابن السائب
والثالث أنهم الأنبياء والرابع أنهم العلماء ذكر القولين الماوردي
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين
قوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا قال أبو صالح عن ابن عباس هم أهل مكة وقال مقاتل
نزلت في المستهزئين من قريش
قوله تعالى سنستدرجهم قال الخليل بن أحمد سنطوي أعمارهم في اغترار
منهم
وقال أبو عبيدة الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ولا يهجم عليه
وأصله من الدرجة وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ومنه درج الكتاب إذا
طواه شيئا بعد شيء ودرج القوم إذا ماتوا بعضهم في أثر بعض وقال اليزيدي الاستدراج
أن يأتيه من حيث لا يعلم وقال ابن قتيبة هو ان يذيقهم من بأسه قليلا قليلا من حيث
لا يعلمون ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم وقال الأزهري سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا
يحتسبون وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغتبطهم به ويركنون إليه ثم
يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون قال الضحاك كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة
وفي قوله من حيث لا يعلمون قولان
أحدهما من حيث لا يعلمون بالاستدراج والثاني بالهلكة
قوله تعالى وأملي لهم الإملاء الإمهال والتأخير
قوله تعالى إن كيدي متين قال ابن عباس إن مكري شديد وقال ابن فارس الكيد المكر فكل
شيء عالجته فأنت تكيده قال المفسرون مكر الله وكيده مجازاة أهل المكر والكيد على
نحو ما بينا في سورة البقرة وآل عمران من ذكر الاستهزاء والخداع والمكر
أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت
السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث
بعده يؤمنون من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون
قوله
تعالى أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم علا على الصفا ليلة ودعا قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان يا بني فلان
فحذرهم بأس الله وعقابه فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى الصباح
فنزلت هذه الآية قاله الحسن وقتادة ومعنى الآية أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم
من جنة أي جنون فحثهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون إن هو أي ما
هو إلا نذير أي مخوف مبين يبين طريق الهدى ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم
فقال أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ليستدلوا على أن لها صانعا مدبرا وقد
سبق بيان الملكوت في سورة الأنعام
قوله تعالى وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم قرأ ابن مسعود
وأبي والجحدري آجالهم ومعنى الآية أولم ينظروا في الملكوت وفيما خلق الله من
الأشياء كلها وفي أن عسى أن تكون آجالهم قد قربت فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى
النار فبأي حديث بعده يؤمنون يعني القرآن وما فيه من البيان ثم ذكر سبب إعراضهم عن
الإيمان فقال من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر
ونذرهم بالنون والرفع وقرأ أبو عمرو بالياء والرفع وقرأ حمزة والكسائي ويذرهم
بالياء مع الجزم خفيفة فمن قرأ بالرفع استأنف ومن جزم ويذرهم عطف على موضع الفاء
قال سيبويه وموضعها جزم فالمعنى من يضلل الله يذره وقد سبق في سورة البقرة معنى
الطغيان والعمه
يسئلونك
عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في
السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله
ولكن أكثر الناس لا يعلمون
قوله تعالى يسألونك عن الساعة في سبب نزولها قولان
أحدهما أن قوما من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى الساعة فنزلت هذه الآية قاله
ابن عباس
والثاني أن قريشا قالت يا محمد بيننا وبينك قرابة فبين لنا متى الساعة فنزلت هذه
الآية قاله قتادة وقال عروة الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة والمراد بالساعة
هاهنا التي يموت فيها الخلق
قوله تعالى أيان مرساها قال أبو عبيدة اى متى مرساها أي منتهاها ومرسا السفينة حيث
تنتهي وقال ابن قتيبة أيان بمعنى متى ومتى بمعنى أي حين ونرى أن أصلها أي أوان
فحذفت الهمزة والواو وجعل الحرفان واحدا ومعنى الآية متى ثبوتها يقال رسا في الأرض
أي ثبت ومنه قيل للجبال رواسي قال الزجاج ومعنى الكلام متى وقوعها
قوله تعالى قل إنما علمها عند ربي أي قد استأثر بعلمها لا يجليها أي لا يظهرها في
وقتها إلا هو
قوله تعالى ثقلت في السموات والأرض فيه أربعة أقوال
أحدها
ثقل وقوعها على أهل السموات والأرض قاله ابن عباس ووجهه أن الكل يخافونها محسنهم
ومسيئهم
والثاني عظم شأنها في السموات والأرض قاله عكرمة ومجاهد وابن جريج
والثالث خفي أمرها فلم يعلم متى كونها قاله السدي
والرابع أن في بمعنى على فالمعنى ثقلت على السموات والأرض قاله قتادة
قوله تعالى لا تأتيكم إلا بغتة أي فجأة
قوله تعالى كأنك حفي عنها فيه أربعة أقوال
أحدها أنه من المقدم والمؤخر فتقديره يسألونك عنها كأنك حفي أي بر بهم كقولهم إنه
كان بي حفيا قال العوفي عن ابن عباس وأسباط عن السدي كأنك صديق لهم
والثاني كأنك حفي بسؤالهم مجيب لهم قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس كأنك يعجبك
سؤالهم وقال خصيف عن مجاهد كأنك تحب أن يسألوك عنها وقال الزجاج كأنك فرح بسؤالهم
والثالث كأنك عالم بها قاله الضحاك عن ابن عباس وهو قول ابن زيد والفراء
والرابع
كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها قاله ابن ابي نجيح عن مجاهد وقال عكرمة كأنك
سؤول عنها وقال ابن قتيبة كأنك معني بطلب علمها وقال ابن الانباري فيه تقديم
وتأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بها والحفي في كلام العرب المعني
قوله تعالى قل إنما علمها عند الله أي لا يعلمها إلا هو ولكن أكثر الناس لا يعلمون
قال مقاتل في آخرين المراد بالناس هاهنا أهل مكة وفي قوله لا يعلمون قولان أحدهما
لا يعلمون أنها كائنة قاله مقاتل والثاني لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه
قاله أبو سليمان الدمشقي
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من
الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون
قوله تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا سبب نزولها أن أهل مكة قالوا يا محمد
ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح وبالأرض التي تريد أن تجدب
فترتحل عنها إلى ما قد أخصب فنزلت هذه الآية روي عن ابن عباس وفي المراد بالنفع
والضر قولان
أحدهما أنه عام في جميع ما ينفع ويضر قاله الجمهور
والثاني أن النفع الهدى والضر الضلالة قاله ابن جريج
قوله تعالى إلا ما شاء الله أي إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي ومن هو على هذه
الصفة فكيف يعلم علم الساعة
قوله تعالى ولو كنت أعلم الغيب فيه أربعة أقوال
أحدها
لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيأت لسنة الجدب ما يكفيها قاله
أبو صالح عن ابن عباس
والثاني لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير قاله الضحاك عن
ابن عباس
والثالث لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح قاله مجاهد
والرابع لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأجبت عنه وما مسني السوء أي لم يلحقني
تكذيب قاله الزجاج فأما الغيب فهو كل ما غاب عنك ويخرج في المراد بالخير هاهنا
ثلاثة أقوال
أحدها أنه العمل الصالح والثاني المال والثالث الرزق
قوله تعالى وما مسني السوء فيه أربعة اقوال
أحدها أنه الفقر قاله ابن عباس والثاني أنه كل ما يسوء قاله ابن زيد والثالث
الجنون قاله الحسن والرابع التكذيب قاله الزجاج فعلى قول الحسن يكون هذا الكلام
مبتدأ والمعنى وما بي من جنون إنما أنا نذير وعلى باقي الأقوال يكون متعلقا بما
قبله
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا
خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين
فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون
قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة يعني بالنفس آدم
وبزوجها
حواء ومعنى ليسكن إليها ليأنس بها ويأوي إليها فلما تغشاها أي جامعها قال الزجاج
وهذا أحسن كناية عن الجماع والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو أخرجته شجرة والحمل
بكسر الحاء ما يحمل والمراد بالحمل الخفيف الماء
قوله تعالى فمرت به أي استمرت به قعدت وقامت ولم يثقلها وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن
مسعود وابن عباس والضحاك فاستمرت به وقرأ أبي بن كعب والجوني استمارت به بزيادة
ألف وقرأ عبد الله ابن عمرو والجحدري فمارت به بألف وتشديد الراء وقرأ أبو العالية
وايوب ويحيى بن يعمر فمرت به خفيفة الراء أي شكت وتمارت أحملت أم لا فلما أثقلت أي
صار حملها ثقيلا وقال الأخفش صارت ذا ثقل يقال أثمرنا أي صرنا ذوي ثمر
قوله تعالى دعوا الله ربهما يعني آدم وحواء لئن آتيتنا صالحا وفي المراد بالصالح
قولان
أحدهما أنه الإنسان المشابه لهما وخافا أن يكون بهيمة هذا قول الأكثرين
والثاني أنه الغلام قاله الحسن وقتادة
شرح السبب في دعائهما
ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء فقال ما يدريك ما في بطنك لعله كلب أو خنزير أو
حمار وما يدريك من أين يخرج ايشق بطنك أم يخرج من فيك أو من منخريك فأحزنها ذلك
فدعوا الله حينئذ فجاء إبليس
فقال كيف تجدينك قالت ما أستطيع القيام إذا قعدت قال أفرأيت إن دعوت الله فجعله إنسانا مثلك ومثل آدم أتسمينه باسمي قالت نعم فلما ودلته سويا جاءها إبليس فقال لم لا تسمينه بي كما وعدتني فقالت وما اسمك قال الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فسمته عبد الحارث وقيل عبد شمس برضى آدم فذلك قوله فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم شركاء بضم الشين والمد جمع شريك وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم شركا مكسورة الشين على المصدر لا على الجمع قال أبو علي من قرأ شركا حذف المضاف كأنه أراد جعلا له ذا شرك وذوي شريك فيكون المعنى جعلا لغيره شركا لأنه إذا كان التقدير جعلا له ذوي شرك فالمعنى جعلا لغيره شركا وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ شركاء وقال غيره معنى شركاء شريكا فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم والمراد بالشريك إبليس لأنهما أطاعاه في الاسم فكان الشرك في الطاعة لا في العبادة ولم
يقصدا
أن الحارث ربهما لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما وقد يطلق العبد على من ليس بمملوك
قال الشاعر ... وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد
...
وقال مجاهد كان لا يعيش لآدم ولد فقال الشيطان إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحارث
فأطاعاه في الاسم فذلك قوله جعلا له شركاء فيما آتاهما هذا قول الجمهور وفيه قول
ثان رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما أشرك آدم إن أول الآية لشكر وآخرها مثل
ضربه الله لمن يعبده في قوله جعلا له شركاء فيما آتاهما وروى قتادة عن الحسن قال
هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوهم ونصروهم وروي عن الحسن وقتادة قالا
الضمير في قوله جعلا له شركاء عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم لا إلى آدم وحواء
وقيل الضمير راجع إلى الولد الصالح وهو السليم الخلق فالمعنى جعل له ذلك الولد
شركاء وإنما قيل جعلا لأن حواء كانت تلد في كل
بطن
ذكرا وأنثى قال ابن الانباري الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من
الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء فتأويل الآية فلما آتاهما صالحا جعل أولادهما له
شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال واسأل القرية وذهب السدي إلى أن قوله
فتعالى الله عما يشركون في مشركي العرب خاصة وأنها مفصولة عن قصة آدم وحواء
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون
قوله تعالى أيشركون مالا يخلق شيئا قال ابن زيد هذه لآدم وحواء حيث سميا ولدهما
عبد شمس والشمس لا تخلق شيئا وقال غيره هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله
الاصنام وهي لا تخلق شيئا وقوله وهم يخلقون أي وهي مخلوقة قال ابن الانباري وإنما
قال ما ثم قال وهم يخلقون لأن ما تقع على الواحد والاثنين والجميع وإنما قال وهم
وهو يعني الأصنام لأن عابديها أدعوا أنها تعقل وتميز فأجريت مجرى الناس فهو كقوله
رأيتهم لي ساجدين وقوله يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم وقوله وكل في فلك يسبحون قال
الشاعر ... تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا ...
وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب ... إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... لدى الصباح وهم
قوم معازيل
لما
جعله يدعو جعل الديكة قوما وجعلهم معازيل وهم الذين لا سلاح معهم وجعلهم أسرة
وأسرة الرجل رهطه وقومه
ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون
قوله تعالى ولا يستطيعون لهم نصرا يقول إن الاصنام لا تستطيع نصر من عبدها ولا
تمنع من نفسها
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعونكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون
قوله تعالى وإن تدعوهم فيه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الأصنام فالمعنى وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى سبيل
رشاد لا يتبعوكم لأنهم لا يعقلون
والثاني أنها ترجع إلى الكفار فالمعنى وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى الهدى
لا يتبعوكم فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء لأنهم لا ينقادون إلى الحق وقرأ نافع لا
يتبعوكم بسكون التاء
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان
يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو
يتولى الصالحين
قوله
تعالى إن الذين تدعون من دون الله يعني الأصنام عباد أمثالكم في أنهم مسخرون
مذللون لأمر الله وإنما قال عباد وقال فادعوهم وإن كانت الأصنام جمادا لما بينا
عند قوله وهم يخلقون
قوله تعالى فليستجيبوا لكم أي فليجيبوكم إن كنتم صادقين أن لكن عندهم نفعا وثوابا
ألهم أرجل يمشون بها في المصالح أم لهم أيد يبطشون بها في دفع ما يؤذي وقرأ أبو
جعفر يبطشون بضم الطاء هاهنا وفي القصص والدخان أم لهم أعين يبصرون بها المنافع من
المضار أم لهم آذان يسمعون بها تضرعكم ودعاءكم وفي هذا تنبيه على تفضيل العابدين على
المعبودين وتوبيخ لهم حيث عبدوا من هم أفضل منه قل ادعوا شركاءكم قال الحسن كانوا
يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني أنتم وهم فلا تنظرون
أي لا تؤخروا ذلك وكان ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يقرؤون ثم كيدون
بغير ياء في الوصل والوقف وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ابن حماد بالياء في الوصل
وروى ورش وقالون والمسيبي بغير ياء في الوصل ولا وقف فأما تنظرون فأثبت فيها الياء
يعقوب في الوصل والوقف إن وليي الله أي ناصري الذي نزل الكتاب وهو القرآن أي كما
أيدني بانزال الكتاب ينصرني
والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون
قوله تعالى والذين تدعون من دونه يعني الأصنام لا يستطيعون نصركم أي لا يقدرون على
منعكم ممن أرادكم بسوء ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم
وإن
تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
قوله تعالى وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا في المراد بهؤلاء قولان
أحدهما أنهم الأصنام ثم في قوله وتراهم ينظرون إليك قولان أحدهما يواجهونك تقول
العرب داري تنظر إلى دارك وهم لا يبصرون لأنه ليس فيهم أرواح والثاني وتراهم كأنهم
ينظرون إليك لأن لهم أعينا مصنوعة فأسقط كاف التشبيه كقوله وترى الناس سكارى أي
كأنهم سكارى وهم لا يبصرون في الحقيقة وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم لأنهم على
هيئة بني آدم
والقول الثاني أنهم المشركون فالمعنى وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون
بقلوبهم
خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
قوله تعالى خذ العفو العفو الميسور وقد سبق شرحه في سورة البقرة وفي الذي أمر بأخذ
العفو منه ثلاثة اقوال
أحدها أخلاق الناس قاله ابن الزبير والحسن ومجاهد فيكون
المعنى
إقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء
والثاني أنه المال وفيه قولان أحدهما أن المراد بعفو المال الزكاة قاله مجاهد في
رواية الضحاك والثاني أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة ثم نسخت بالزكاة روي عن
ابن عباس
والثالث أن المراد به مساهلة المشركين والعفو عنهم ثم نسخ بآية السيف قاله ابن زيد
قوله تعالى وامر بالعرف أي بالمعروف
وفي قوله وأعرض عن الجاهلين قولان
أحدهما أنهم المشركون أمر بالإعراض عنهم ثم نسخ ذلك بآية السيف
والثاني أنه عام فيمن جهل أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم وإن وجب عليه
الإنكار عليهم وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة وعند بعضهم أن وسطها محكم
وطرفيها منسوخان على ما بينا
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم
طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون
قوله
تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ قال ابن زيد لما نزلت خذ العفو قال النبي صلى
الله عليه و سلم يا رب كيف بالغضب فنزلت هذه الآية فأما قوله وإما فقد سبق بيانه
في سورة البقرة في قوله فأما يأتينكم مني هدي وقال أبو عبيدة ومجاز الكلام وإما
تستخفنك منه خفة وغضب وعجلة وقال السدي النزغ الوسوسة وحديث النفس قال الزجاج
النزغ أدنى حركة تكون تقول قد نزغته إذا حركته وقد سبق معنى الاستعاذة
قوله تعالى إذا مسهم طيف قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي طيف بغير ألف وقرأ نافع
وعاصم وابن عامر وحمزة طائف بألف ممدودا مهموزا وقرأ ابن عباس وابن جبير والجحدري
والضحاك طيف بتشديد الياء من غير ألف وهل الطائف والطيف بمعنى واحد أم يختلفان فيه
قولان
أحدهما أنهما بمعنى واحد وهما ما كان كالخيال والشيء يلم بك حكي عن الفراء وقال
الأخفش الطيف أكثر في كلام العرب من الطائف قال الشاعر ... الا بالقوم لطيف الخيال
... أرق من نازح ذي دلال ...
والثاني أن الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة
والخطرة
حكي عن أبي عمرو وروي عن ابن عباس أنه قال الطائف اللمة من الشيطان والطيف الغضب
وقال ابن الانباري الطائف الفاعل من الطيف والطيف عند أهل اللغة اللمم من الشيطان
وزعم مجاهد أنه الغضب
قوله تعالى تذكروا فيه ثلاثة أقوال
أحدها تذكروا الله إذا هموا بالمعاصي فتركوها قاله مجاهد
والثاني تفكروا فيما أوضح الله لهم من الحجة قاله الزجاج
والثالث تذكروا غضب الله والمعنى إذا جرأهم الشيطان على مالا يحل تذكروا غضب الله
فأمسكوا فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتفكر
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون
قوله تعالى وإخوانهم في هذه الهاء والميم قولان
أحدهما أنها عائدة على المشركين فتكون هذه الآية مقدمة على التي قبلها والتقدير
وأعرض عن الجاهلين وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدونهم في الغي قرأ نافع يمدونهم
بضم الياء وكسر الميم والباقون بفتح الياء وضم الميم قال أبو علي عامة ما جاء في
التنزيل فيما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله أتمدونن بمال أنما نمدهم به من
مال وأمددناهم بفاكهة وما كان على خلافه يجيء على مددت كقوله ويمدهم في طغيانهم
فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء إلا أن وجه قراءة نافع بمنزلة فبشرهم بعذاب أليم
قال المفسرون يمدونهم في الغي أي يزينونه لهم
ويريدون
منهم لزومه فيكون معنى الكلام أن الذين اتقوا إذا جرهم الشيطان إلى خطيئة تابوا
منها وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدونهم في الغي هذا قول الأكثرين من العلماء
وقال بعضهم الهاء والميم ترجع إلى الشياطين وقد جرى ذكرهم لقوله من الشيطان فالمعنى
وإخوان الشياطين يمدونهم
والثاني أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين فالمعنى وإخوان المتقين من المشركين
وقيل من الشياطين يمدونهم في الغي أي يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر
ذكر هذا القول جماعة منهم ابن الانباري فان قيل كيف قال وإخوانهم وليسوا على دينهم
فالجواب أنا إن قلنا إنهم المشركون فجائز أن يكونوا إخوانهم في النسب أو في كونهم
من بني آدم أو لكونهم يظهرون النصح كالإخوان وإن قلنا إنهم الشياطين فجائز أن
يكونوا لكونهم مصاحبين لهم والقول الأول أصح
قوله تعالى ثم لا يقصرون وقرأ الزهري وابن أبي عبلة لا يقصرون بالتشديد قال الزجاج
يقال أقصر يقصر وقصر يقصر قال ابن عباس لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا
الشياطين تقصر عنهم فعلى هذا يكون قوله يقصرون من فعل الفريقين وهذا على القول
المشهور ويخرج على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للاخوان فقط
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا
بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
قوله تعالى وإذا لم تأتهم بآية يعني به المشركين وفي معنى الكلام قولان
أحدهما إذا لم تأتهم بآية سألوها تعنتا قاله ابن السائب
والثاني
إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي قاله مقاتل
وفي قوله لولا اجتبيتها قولان
أحدهما هلا افتعلتها من تلقاء نفسك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد
والفراء والزجاج وابن قتيبة في آخرين وحكي عن الفراء أنه قال العرب تقول اجتبيت
الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك
والثاني هلا طلبتها لنا قبل مسألتك ذكره الماوردي والأول أصح
قوله تعالى قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي أي ليس الأمر لي
قوله تعالى هذا بصائر من ربكم يعني القرآن قال أبو عبيدة البصائر بمعنى الحجج
والبرهان والبيان واحدتها بصيرة وقال الزجاج معنى البصائر ظهور الشيء وبيانه
وأذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون
قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ في الصلاة المكتوبة فقرأ أصحابه وراءه
رافعين أصواتهم فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني أن المشركين كانوا يأتون رسول الله إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا
لهذا القرآن والغوا فيه فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن المسيب
والثالث
أن فتى من الأنصار كان كلما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم شيئا قرأ هو فنزلت هذه
الآية قاله الزهري
والرابع أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فرضت فيجيء الرجل فيقول لصاحبه كم
صليتم فيقول كذا وكذا فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والخامس أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة روي عن عائشة وسعيد
بن جبير وعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار في آخرين
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من
الغافلين
قوله تعالى واذكر ربك في نفسك في هذا الذكر أربعة اقوال
أحدها أنه القراءة في الصلاة قاله ابن عباس فعلى هذا أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة
الإسرار
والثاني أنه القراءة خلف الإمام سرا في نفسه قاله قتادة
والثالث أنه ذكر الله باللسان
والرابع أنه ذكر الله باستدامة الفكر لا يغفل عن الله تعالى ذكر القولين الماوردي
وفي المخاطب بهذا الذكر قولان
أحدهما أنه المستمع للقرآن إما في الصلاة وإما من الخطيب قاله ابن زيد
والثاني أنه خطاب النبي صلى الله عليه و سلم ومعناه عام في جميع المكلفين
قوله
تعالى تضرعا وخيفة التضرع الخشوع في تواضع والخيفة الحذر من عقابه
قوله تعالى ودون الجهر من القول الجهر الإعلان بالشيء ورجل جهير الصوت إذا كان
صوته عاليا وفي هذا نص على أنه الذكر باللسان ويحتمل وجهين
أحدهما قراءة القرآن والثاني الدعاء وكلاهما مندوب إلى إخفائه إلا أن صلاة الجهر
قد بين أدبها في قوله ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها فأما الغدو فهو جمع غدوة
والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع والآصال العشيات وقال أبو
عبيدة هي ما بين العصر إلى المغرب وأنشد ... لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد
في أفيائه بالأصائل ...
وروي عن ابن عباس أنه قال يعني بالغدو صلاة الفجر والآصال صلاة العصر
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون
قوله تعالى إن الذين عند ربك يعني الملائكة لا يستكبرون أي لا يتكبرون ويتعظمون عن
عبادته وفي هذه العبادة قولان
أحدهما
الطاعة والثاني الصلاة والخضوع فيها
وفي قوله ويسبحونه قولان
أحدهما ينزهونه عن السوء والثاني يقولون سبحان الله
قوله تعالى وله يسجدون أي يصلون وقيل سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا أنسجد
لما تأمرنا فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأنا منكم لا يتكبرون عن
عبادة الله وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا قرأ ابن
آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة
وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار
بسم
الله الرحمن الرحيم سورة الأنفال
وهي مدنية باجماعهم وحكى الماوردي عن ابن عباس أن فيها سبع آيات مكيات أولها وإذ
يمكر بك الذين كفروا
يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا
الله ورسوله إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى يسألونك عن الأنفال في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر من قتل قتيلا فله كذا وكذا
ومن اسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فسارعوا
إلى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان أشركونا معكم فانا كنا لكم ردءا فأبوا
فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت سورة الأنفال رواه عكرمة عن ابن
عباس
والثاني
أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفا يوم بدر فقال يا رسول الله هبه لي فنزلت هذه الآية
رواه مصعب بن سعد عن أبيه وفي رواية أخرى عن سعد قال قتلت سعد بن العاص وأخذت سيفه
فأتيت به رسول الله فقال اذهب فاطرحه في القبض فرجعت وبي مالا يعلمه إلا الله فما
جاوزت إلا قريبا حتى نزلت سورة الأنفال فقال اذهب فخذ سيفك
وقال السدي اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السيف فسألوا النبي صلى الله عليه و سلم
فأخذه النبي صلى الله عليه و سلم منهم فنزلت هذه الآية
والثالث أن الأنفال كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لأحد منها شيء
فسالوه أن يعطيهم منها شيئا فنزلت هذه الآية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وفي
المراد بالأنفال ستة أقوال
أحدها
أنها الغنائم رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء وعكرمة والضحاك
وأبو عبيدة والزجاج وابن قتيبة في آخرين وواحد الانفال نفل قال لبيد ... إن تقوى
ربنا خير نفل ... وباذن الله ريثي وعجل ...
والثاني أنها ما نفله رسول الله صلى الله عليه و سلم القاتل من سلب قتيله
والثالث أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابة بغير قتال قاله عطاء
وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس ايضا
والرابع أنه الخمس الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الغنائم قاله مجاهد
والخامس أنه أنفال السرايا قاله علي بن صالح بن حي وحكي عن الحسن قال هي السرايا
التي تتقدم أمام الجيوش
والسادس أنها زيادات يؤثر بها الإمام بعض الجيش لما يراه من المصلحة ذكره الماوردي
وفي عن قولان
أحدهما أنها زائدة والمعنى يسألونك الأنفال وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود
وأبي بن كعب وابو العالية يسألونك الأنفال بحذف عن
والثاني أنها أصل والمعنى يسألونك عن الأنفال لمن هي أو عن حكم الأنفال وقد ذكرنا
في سبب نزولها ما يتعلق بالقولين وذكر أنهم إنما سألوا عن حكمها لأنها كانت حراما
على الأمم قبلهم
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فقال بعضهم إنها ناسخة من وجه منسوخة
من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدمين فنسخ الله ذلك
بهذه الآية وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول صلى الله عليه و سلم ثم نسخ
ذلك بقوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وقال آخرون المراد بالأنفال
شيئان
أحدهما ما يجعله الرسول صلى الله عليه و سلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدميه
يستخرج به نصحهم ويحرضهم على القتال
والثاني ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها كما روي عن ابن عمر قال بعثنا رسول الله
صلى الله عليه و سلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثنا عشر بعيرا ونفلنا
بعيرا بعيرا فعلى هذا هي محكمة لأن هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا
فصل
ويجوز النفل قبل إحراز الغنيمة وهو أن يقول الإمام من أصاب شيئا فهو له وبه قال
الجمهور فأما بعد إحرازها ففيه عن أحمد روايتان وهل يستحق القاتل سلب المقتول إذا
لم يشرطه له الإمام فيه قولان
أحدهما يستحقه وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي
والثاني لا يستحقه ويكون غنيمة للجيش وبه قال أبو حنيفة ومالك وعن أحمد روايتان
كالقولين
قوله
تعالى قل الأنفال لله والرسول يحكمان فيها ما أرادا فاتقوا الله بترك مخالفته
وأصلحوا ذات بينكم قال الزجاج معنى ذات بينكم حقيقة وصلكم والبين الوصل كقوله لقد
تقطع بينكم
ثم في المراد بالكلام قولان أحدهما أن يرد القوي على الضعيف قاله عطاء والثاني ترك
المنازعة تسليما لله ورسوله
قوله تعالى وأطيعوا الله ورسوله أي اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم
إيمانا وعلى ربهم يتوكلون
قوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله قال الزجاج إذا ذكرت عظمته وقدرته
وما خوف به من عصاه فزعت قلوبهم قال الشاعر ... لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على
أينا تعدو المنية أول ...
يقال وجل يوجل وياجل وييجل وييجل هذه أربع لغات حكاها سيبويه وأجودها يوجل وقال
السدي هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فينزع عنها
قوله تعالى وإذا تليت عليهم آياته أي آيات القرآن
وفي قوله زادتهم إيمانا ثلاثة أقوال
أحدها تصديقا قاله ابن عباس والمعنى أنهم كلما جاءهم شيء عن الله آمنوا به
فيزدادوا إيمانا بزيادة الآيات
والثاني يقينا قاله الضحاك
والثالث
خشية الله قاله الربيع بن أنس وقد ذكرنا معنى التوكل في آل عمران
الذين يقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون
قوله تعالى الذين يقيمون الصلاة قال ابن عباس يعني الصلوات الخمس ومما رزقناهم
ينفقون يعني الزكاة
أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم
قوله تعالى أولئك هم المؤمنون حقا قال الزجاج حقا منصوب بمعنى دلت عليه الجملة
والجملة أولئك هم المؤمنون فالمعنى أحق ذلك حقا وقال مقاتل المعنى أولئك هم
المؤمنون لا شك في إيمانهم كشك المنافقين
قوله تعالى لهم درجات عند ربهم قال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم والرزق
الكريم ما أعد لهم فيها
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد
ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون
قوله تعالى كما أخرجك ربك في متعلق هذه الكاف خمسة أقوال
أحدها أنها متعلقة بالأنفال ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال أحدها أن تأويله امض
لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا كما مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون قاله الفراء
والثاني أن الانفال لله والرسول صلى الله عليه و سلم بالحق الواجب كما
أخرجك
ربك بالحق وإن كرهوا ذلك قاله الزجاج والثالث أن المعنى يسألوك عن الأنفال مجادلة
كما جادلوك في خروجك حكاه جماعة من المفسرين
والثاني أنها متعلقة بقوله فاتقوا الله وأصلحوا والمعنى إن التقوى والاصلاح خير
لكم كما كان إخراج الله نبيه محمدا خير لكم وإن كرهه بعضكم هذا قول عكرمة
والثالث أنها متعلقة بقوله يجادلونك فالمعنى مجادلتهم إياك في الغنائم كاخراج الله
إياك إلى بدر وهم كارهون قاله الكسائي
والرابع أنها متعلقة بقوله أولئك هم المؤمنون والمعنى وهم المؤمنون حقا كما أخرجك
ربك من بيتك بالحق ذكره بعض ناقلي التفسير
والخامس أن كما في موضع قسم معناها والذي أخرجك من بيتك قاله أبو عبيدة واحتج بأن
ما في موضع الذي ومنه قوله وما خلق الذكر والأنثى قال ابن الانباري وفي هذا القول
بعد لأن الكاف ليست من حروف الاقسام وفي هذا الخروج قولان
أحدهما أنه خروجه إلى بدر وكره ذلك طائفة من أصحابه لأنهم علموا أنهم لا يظفرون
بالغنيمة إلا بالقتال
والثاني أنه خروجه من مكة إلى المدينة للهجرة
وفي معنى قوله بالحق قولان أحدهما أنك خرجت ومعك الحق
والثاني أنك خرجت بالحق الذي وجب عليك
وفي قوله وإن فريقا من المؤمنين لكارهون قولان
أحدهما كارهون خروجك
والثاني
كارهون صرف الغنيمة عنهم وهذه كراهة الطبع لمشقة السفر والقتال وليست كراهة لأمر
الله تعالى
قوله تعالى يجادلونك في الحق يعني في القتال يوم بدر لأنهم خرجوا بغير عدة فقالوا
هلا أخبرتنا بالقتال لنأخذ العدة فجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال وفي قوله بعد
ما تبين ثلاثة أقوال
أحدها تبين لهم فرضه والثاني تبين لهم صوابه والثالث تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما
أمرت به وفي المجادلين قولان
أحدهما أنهم طائفة من المسلمين قاله ابن عباس والجمهور
والثاني أنهم المشركون قاله ابن زيد فعلى هذا يكون جدالهم في الحق الذي هو التوحيد
لا في القتال فعلى الأول يكون معنى قوله كأنما يساقون إلى الموت أي في لقاء العدو
وهم ينظرون لأن أشد حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظرا إليه وعالما به وعلى قول
ابن زيد كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهتهم إياه
وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد
الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره
المجرمون
قوله تعالى وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين قال أهل التفسير أقبل أبو سفيان من
الشام في عير لقريش حتى إذا دنا من بدر نزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم
بذلك فخرج في جماعة من اصحابه يريدهم فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو ابن ضمضم الغفاري إلى
مكة مستغيثا فخرجت قريش للمنع عنها ولحق أبو سفيان
بساحل
البحر ففات رسول الله ونزل جبريل بهذه الآية وإذ يعدكم الله والمعنى اذكروا إذ
يعدكم الله إحدى الطائفتين والطائفتان أبو سفيان وما معه من المال وأبو جهل ومن
معه من قريش فلما سبق أبو سفيان بما معه كتب إلى قريش إن كنتم خرجتم لتحرزوا
ركائبكم فقد أحرزتها لكم فقال أبو جهل والله لا نرجع وسار رسول الله صلى الله عليه
و سلم يريد القوم فكره أصحابه ذلك وودوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة
دون القتال فذلك قوله وتودون أن غير ذات الشوكة أي ذات السلاح يقال فلان شاكي
السلاح بالتخفيف وشاك في السلاح بالتشديد وشائك قال أبو عبيدة ومجاز الشوكة الحد
يقال ما أشد شوكة بني فلان أي حدهم وقال الأخفش إنما لبثت ذات الشوكة لأنه يعني
الطائفة
قوله تعالى ويريد الله أن يحق الحق في المراد بالحق قولان
أحدهما أنه الإسلام قاله ابن عباس في آخرين
والثاني أنه القرآن والمعنى يحق ما أنزل إليك من القرآن
قوله تعالى بكلماته أي بعداته التي سبقت من إعزاز الدين كقوله ليظهره على الدين
كله
قوله تعالى ويقطع دابر الكافرين أي يجتث أصلهم وقد بينا ذلك في الأنعام
قوله تعالى ليحق الحق المعنى ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحق الحق وفي هذا
الحق القولان المتقدمان فأما الباطل فهو الشرك والمجرمون هاهنا المشركون
إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا
بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم - قوله تعالى
إذ تستغيثون ربكم سبب نزولها ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يوم بدر
نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف ونظر إلى المشركين
وهم ألف وزيادة فاستقبل القبلة ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره ثم قال اللهم أنجز
ما وعدتني اللهم أنجز ما وعدتني اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض
أبدا فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر الصديق فأخذ رداءه
فرداه به ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك فانه سينجز لك ما
وعدك وأنزل الله تعالى هذه الآية
قوله تعالى إذ قال ابن جرير هي من صلة يبطل وفي قوله تستغيثون قولان
أحدهما تستنصرون والثاني تستجيرون والفرق بينهما أن المستنصر يطلب الظفر والمستجير
يطلب الخلاص وفي المستغيثين قولان
أحدهما أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون قاله الزهري
والثاني أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله السدي فأما الإمداد فقد سبق في
آل
عمران وقوله بألف قرأ الضحاك وابو رجاء بآلاف بهمزة ممدودة وبألف على الجمع وقرأ
أبوالعالية وأبو المتوكل بألوف برفع الهمزة واللام وبواو بعدها على الجمع وقرأ ابن
حذلم والجحدري بألف بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف وقرأ أبو الجوزاء وأبو
عمران بيلف بياء مفتوحة وسكون اللام من غير واو ولا ألف فأما قوله مردفين فقرأ ابن
كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي مردفين بكسر الدال قال ابن عباس
وقتادة والضحاك وابن زيد والفراء هم المتتابعون وقال أبو علي يحتمل وجهين
أحدهما أن يكونوا مردفين مثلهم تقول أردفت زيدا دابتي فيكون المفعول الثاني محذوفا
في الآية
والثاني أن يكونوا جاؤوا بعدهم تقول العرب بنو فلان مردوفونا أي هم يجيؤون بعدنا
قال أبو عبيدة مردفين جاؤوا بعد وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم مردفين بفتح الدال قال
الفراء أراد فعل ذلك بهم أي إن الله أردف المسلمين بهم وقرأ معاذ القارئ وأبو
المتوكل الناجي وأبو مجلز مردفين بفتح الراء والدال مع التشديد وقرأ أبو الجوزاء
وأبو عمران مردفين برفع الراء وكسر الدال وقال الزجاج يقال ردفت الرجل إذا ركبت
خلفه وأردفته إذا أركبته خلفي ويقال هذه دابة لا ترادف ولا يقال لا تردف ويقال
أردفت الرجل إذا جئت بعده فمعنى مردفين يأتون فرقة بعد فرقة ويجوز في اللغة مردفين
ومردفين ومردفين فالدال مكسورة مشددة على كل حال والراء يجوز فيها الفتح والضم
والكسر قال
سيبويه
الأصل مرتدفين فأدغمت التاء في الدال فصارت مردفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء
وإن شئت لم تطرح حركة التاء وكسرت الراء لالتقاء الساكنين والذين ضموا الراء
جعلوها تابعة لضمة الميم وقد سبق في آل عمران تفسير قوله وما جعله الله إلا بشرى
وكان مجاهد يقول ما أمد الله النبي صلى الله عليه و سلم بأكثر من هذه الألف التي
ذكرت في الأنفال وما ذكر الثلاثة والخمسة إلا بشرى ولم يمدوا بها والجمهور على
خلافه وقد ذكرنا اختلافهم في عدد الملائكة في آل عمران
إذ يغشيكم النعاس أمنة وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز
الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام
قوله تعالى إذ يغشاكم النعاس أمنة منه قال الزجاج إذ موضعها نصب على معنى وما جعله
الله إلا بشرى في ذلك الوقت ويجوز أن يكون المعنى اذكروا إذ يغشاكم النعاس قرأ ابن
كثير وأبو عمرو إذ يغشاكم بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف النعاس بالرفع
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يغشيكم بضم الياء وفتح الغين مشددة الشين
مكسورة النعاس بالنصب وقرأ نافع يغشيكم بضم الياء وجزم الغين وكسر الشين النعاس
بالنصب وقال أبو سليمان الدمشقي الكلام راجع على قوله ولتطمئن به قلوبكم إذ يغشاكم
النعاس قال الزجاج وأمنة منصوب مفعول له كقولك فعلت ذلك حذر الشر يقال أمنت آمن
أمنا وأمانا وأمنة وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل وأبو العالية وابن
يعمر وابن محيصن أمنة منه بسكون الميم
قوله
تعالى وينزل عليكم من السماء ماء قال ابن عباس نزل النبي صلى الله عليه و سلم يوم
بدر وبينه وبين الماء رملة وغلبهم المشركون على الماء فأصاب المسلمين الظمأ وجعلوا
يصلون محدثين وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة يقول تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم
رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين فأنزل الله عليهم مطرا
فشربوا وتطهروا واشتد الرمل حين اصابه المطر وأزال الله رجز الشيطان وهو وسواسه
حيث قال قد غلبكم المشركون على الماء وقال ابن زيد رجز الشيطان كيده حيث أوقع في
قلوبهم أنه ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة وقال ابن الانباري ساءهم عدم الماء عند
فقرهم إليه فأرسل الله السماء فزالت وسوسة الشيطان التي تكسب عذاب الله وغضبه إذ
الرجز العذاب
قوله تعالى وليربط على قلوبكم الربط الشد وعلى في قول بعضهم صلة فالمعنى وليربط
قلوبكم وفي الذي ربط به قلوبهم وقواها ثلاثة اقوال
أحدها أنه الصبر قاله ابو صالح عن ابن عباس والثاني أنه الإيمان قاله مقاتل
والثالث أنه المطر الذي أرسله يثبت به قلوبهم بعد اضطرابها بالوسوسة التي تقدم
ذكرها
قوله تعالى ويثبت به الأقدام في هاء به قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الماء فان الأرض كانت رملة فاشتدت بالمطر وثبتت عليها
الأقدام قاله ابن عباس ومجاهد والسدي في آخرين
والثاني انها ترجع إلى الربط فالمعنى ويثبت بالربط الأقدام ذكره الزجاج
إذ
يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا
الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن
يشاقق الله ورسوله فان الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وإن للكافرين عذاب النار
قوله تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم قال الزجاج إذ في موضع نصب والمعنى
وليربط إذ يوحي ويجوز أن يكون المعنى واذكروا إذ يوحي قال ابن عباس وهذا الوحي
إلهام
قوله تعالى إلى الملائكة وهم الذين أمد بهم المسلمين أني معكم بالعون والنصرة
فثبتوا الذين آمنوا فيه أربعة اقوال
أحدها قاتلوا معهم قاله الحسن
والثاني بشروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول أبشروا فان
الله ناصركم قاله مقاتل
والثالث ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم تقوى بها ذكره الزجاج
والرابع صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ذكره الثعلبي فأما الرعب فهو الخوف قال
السائب بن يسار كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السوائي عن الرعب الذي ألقاه الله في
قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصى فيرمي به الطست فيطن فيقول كما نجد في أجوافنا
مثل هذا
قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق في المخاطب بهذا قولان
أحدهما أنهم الملائكة قال ابن الانباري لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضرب من الناس
فعلمهم الله تعالى ذلك
والثاني
أنهم المؤمنون ذكره جماعة من المفسرين وفي معنى الكلام قولان
أحدهما فاضربوا الأعناق وفوق صلة وهذا قول عطية والضحاك والأخفش وابن قتيبة وقال
أبو عبيدة فوق بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وضربته على الرأس
والثاني اضربوا الرؤوس لانها فوق الأعناق وبه قال عكرمة
وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوال
أحدها أنه الأطراف قاله ابن عباس والضحاك وقال الفراء علمهم مواضع الضرب فقال
اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل وقال أبو عبيدة وابن قتيبة البنان أطراف الأصابع
قال ابن الانباري واكتفى بهذا من جملة اليد والرجل
والثاني أنه كل مفصل قاله عطية والسدي
والثالث أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء والمعنى أنه أباحهم قتلهم بكل نوع هذا
قول الزجاج قال واشتقاق البنان من قولهم أبن بالمكان إذا أقام به فالبنان به يعتمل
كل ما يكون للاقامة والحياة
قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ذلك إشارة إلى الضرب وشاقوا بمعنى جانبوا فصاروا
في شق غير شق المؤمنين
قوله تعالى ذلكم فذوقوه خطاب للمشركين والمعنى ذوقوا هذا في عاجل الدنيا وفي فتح
أن قولان
أحدهما باضمار فعل تقديره ذلكم فذوقوه واعلموا أن للكافرين
والثاني أن يكون المعنى ذلك بأن للكافرين عذاب النار فاذا ألقيت
الباء
نصبت وإن شئت جعلت أن في موضع رفع يريد ذلكم فذوقوه وذلكم أن للكافرين عذاب النار
هذا معنى قول الفراء
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب الله ومأواه جهنم
وبئس المصير
قوله تعالى إذا لقيتم الذين كفروا زحفا الزحف جماعة يزحفون إلى عدوهم قاله الليث
والتزاحف التداني والتقارب قال الأعشى ... لمن الظعائن سيرهن تزحف ...
قال الزجاج ومعنى الكلام إذا واقفتموهم للقتال فلا تدبروا ومن يولهم يوم حربهم
دبره إلا أن يتحرف ليقاتل أو يتحيز إلى فئة ف متحرفا ومتحيزا منصوبان على الحال
ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء فيكون المعنى إلا رجلا متحرفا أو متحيزا وأصل
متحيز متحيوز فأدغمت الياء في الواو
قوله تعالى ومأواه جهنم أي مرجعه إليها ولا يدل ذلك على التخليد
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هذه خاصة في أهل بدر وهو مروي عن ابن
عباس وأبي سعيد الخدري والحسن وابن جبير وقتادة والضحاك وقال آخرون هي على عمومها
في كل منهزم وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وقال آخرون هي على عمومها غير أنها نسخت
بقوله فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين فلس للمسلمين أن يفروا من مثليهم وبه
قال
عطاء
بن أبي رباح وروى أبو طالب عن أحمد أنه سئل عن الفراء من الزحف فقال لا يفر رجل من
رجلين فان كانوا ثلاثة فلا بأس وقد نقل نحو هذا عن ابن عباس وقال محمد بن الحسن
إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفا فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم ونقل نحو
هذا عن مالك ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما هزم قوم إذا
بلغوا اثني عشر ألفا من قلة إذا صبروا وصدقوا
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه
بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين
قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا عاصما ولكن
الله قتلهم ولكن الله رمى بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما وسبب نزول هذا الكلام
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رجعوا عن بدر جعلوا يقولون قتلنا
وقتلنا هذا معنى قول مجاهد
فأما قوله تعالى وما رميت إذ رميت ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي ناولني كفا من حصباء فناوله فرمى به
في وجوه القوم فما بقي منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة وقيل أخذ قبضة من تراب فرمى
بها وقال شاهت الوجوه فما بقي مشرك إلا شغل بعينه يعالج التراب الذي فيها فنزلت
وما رميت إذ رميت ولكن الله
رمى
وذلك يوم بدر هذا قول الأكثرين وقال ابن الانباري وتأويل شاهت قبحت يقال شاه وجهه
يشوه شوها وشوهة ويقال رجل أشوه وامرأة شوهاء إذا كانا قبيحين
والثاني أن أبي بن خلف أقبل يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه و سلم يريده فاعترض
له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فخلوا سبيله وطعنه
النبي صلى الله عليه و سلم بحرتبه فسقط أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فأتاه
أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا إنما هو خدش فقال والذي نفسي بيده لو كان الذي
بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون فمات قبل أن يقدم مكة فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن
المسيب عن أبيه
والثالث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رمى يوم خيبر بسهم فأقبل السهم يهوي حتى
قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه فنزلت هذه الآية ذكره أبو سليمان الدمشقي في
آخرين
قوله تعالى ولكن الله قتلهم اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة اقوال
أحدها أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم والثاني أنه أضاف القتل إليه لأنه تولى
نصرهم والثالث لأنه ساقهم إلى المؤمنين وأمكنهم منهم والرابع لأنه ألقى الرعب في
قلوبهم وفي قوله وما رميت إذ رميت ثلاثة اقوال
أحدها أن المعنى وما ظفرت أنت ولا أصبت ولكن الله اظفرك وايدك قاله أبو عبيدة
والثاني
وما بلغ رميك كفا من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير إنما الله تولى
ذلك قاله الزجاج
والثالث وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ذكره ابن الانباري
قوله تعالى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا أي لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر
والأجر إن الله سميع لدعائهم عليم بنياتهم
قوله تعالى ذلكم قال الزجاج موضعه رفع والمعنى الأمر ذلكم وقال غيره ذلكم إشارة
إلى القتل والرمي والبلاء الحسن وأن الله أي واعلموا أن الله والذي ذكرناه في فتح
أن في قوله وأن للكافرين عذاب النار هو مذكور في فتح أن هذه
قوله تعالى موهن قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر موهن بفتح الواو وتشديد الهاء منونة
كيد بالنصب وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم موهن ساكنة الواو كيد
بالنصب وروى حفص عن عاصم موهن كيد مضاف والموهن المضعف والكيد المكر
إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم
فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله
ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون
قوله تعالى إن تستفتحوا في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم استنصروا الله وسألوه الفتح فنزلت
هذه الآية وهذا المعنى مروي عن أبي بن كعب وعطاء الخراساني
والثاني
أن أبا جهل قال اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم فنزلت هذه الآية
قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أن المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر فقالوا اللهم انصر
أعلى الجندين وأكرم القبيلتين فنزلت هذه الآية قاله السدي
والرابع أن المشركين قالوا اللهم إنا لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه
بالحق فنزلت هذه الآية قاله عكرمة
والخامس أنهم قالوا بمكة اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء الآية فعذبوا يوم بدر قاله ابن زيد فخرج من هذه الأقوال أن في المخاطبين
بقوله إن تستفتحوا قولان
أحدهما أنهم المؤمنون والثاني المشركون وهو الأشهر
وفي الاستفتاح قولان
أحدهما انه الاستنصار قاله ابن عباس والزجاج في آخرين فان قلنا إنهم المسلمون كان
المعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر بالملائكة وإن قلنا إنهم المشركون احتمل وجهين
أحدهما إن تستنصروا فقد جاء النصر عليكم والثاني إن تستنصروا لأحب الفريقين إلى
الله فقد جاء النصر لأحب الفريقين
والثاني أن الاستفتاح طلب الحكم والمعنى إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين فقد
جاءكم الحكم وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة ومجاهد وقتادة فأما قوله وإن تنتهوا فهو
خير لكم فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة
وفي معناه قولان
أحدهما إن تنتهوا عن قتال محمد صلى الله عليه و سلم والكفر قاله أبو صالح عن ابن
عباس
والثاني
إن تنتهوا عن استفتاحكم فهو خير لكم لأنه كان عليهم لا لهم ذكره الماوردي
وفي قوله وإن تعودوا نعد قولان
أحدهما وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى هزيمتكم قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني
وإن تعودوا إلى الاستفتاح نعد إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه و سلم قاله السدي
قوله تعالى ولن تغني عنكم فئتكم شيئا أي جماعتكم وإن كثرت وأن الله مع المؤمنين
بالعون والنصر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وإن الله بكسر
الألف وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأن بفتح الألف فمن قرأ بكسر أن استأنف
قال الفراء وهو أحب إلي من فتحها ومن فتحها أراد ولأن الله مع المؤمنين
قوله تعالى ولا تولوا عنه فيه قولان
أحدهما لا تولوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني لا تولوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنتم تسمعون ما نزل من
القرآن روي القولان عن ابن عباس
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم
الذين لا يعقلون
قوله تعالى ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها
أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصي قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني في اليهود قريظة والنضير روي عن ابن عباس أيضا
والثالث في المنافقين قاله ابن إسحاق والواقدي ومقاتل
وفي معنى الكلام قولان
أحدهما أنهم قالوا سمعنا ولم يتفكروا فيما سمعوا فكانوا كمن لم يسمع قاله الزجاج
والثاني أنهم قالوا سمعنا سماع من يقبل وليسوا كذلك حكي عن مقاتل
قوله تعالى إن شر الدواب عند الله الصم البكم اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصي قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني في المنافقين قاله ابن إسحاق والواقدي والدواب اسم كل حيوان يدب وقد بينا
في سورة البقرة معنى الصم والبكم ولم سماهم بذلك
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا فيه أربعة أقوال
أحدها ولو علم فيهم صدقا وإسلاما والثاني لو علم فيهم خيرا في سابق القضاء والثالث
لو علم أنهم يصلحون والرابع لو علم أنهم يصغون
وفي قوله لأسمعهم ثلاثة اقوال
أحدها
لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه قاله الزجاج والثاني لرزقهم الفهم قاله أبو سليمان
الدمشقي والثالث لأسمعهم كلام الموتي يشهدون بنبوتك حكاه الماوردي وفي قوله وهم
معرضون قولان
أحدهما مكذبون قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني وهم معرضون عما أسمعهم لمعاندتهم قاله الزجاج
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله
يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون
قوله تعالى استجيبوا أي أجيبوا
قوله تعالى إذا دعاكم يعني الرسول لما يحييكم وفيه ستة أقوال
أحدها أن الذي يحييكم كل ما يدعو الرسول إليه وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس
وفي أفراد البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول
الله صلى الله عليه و سلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال
ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قلت بلى ولا أعود إن شاء
الله
والثاني أنه الحق رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
والثالث أنه الإيمان رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال السدي
والرابع
أنه اتباع القرآن قاله قتادة وابن زيد
والخامس أنه الجهاد قاله ابن إسحاق وقال ابن قتيبة هو الجهاد الذي يحيي دينهم
ويعليهم
والسادس أنه إحياء أمورهم قاله الفراء فيخرج في إحيائهم خمسة اقوال
أحدها أنه إصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة
والثاني بقاء الذكر الجميل لهم في الدنيا وحياة الأبد في الآخرة
والثالث أنه دوام نعيمهم في الآخرة
والرابع أنه كونهم مؤمنين لأن الكافر كالميت
والخامس أنه يحييهم بعد موتهم وهو على قول من قال هو الجهاد لأن الشهداء أحياء
ولأن الجهاد يعزهم بعد ذلهم فكأنهم صاروا به أحياء
قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وفيه عشرة أقوال
أحدها يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
والثاني يحول بين المؤمن وبين معصيته وبين الكافر وبين طاعته رواه العوفي عن ابن
عباس وبه قال الضحاك والفراء
والثالث يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل قاله مجاهد قال ابن الانباري
المعنى يحول بين المرء وعقله فبادروا الأعمال فانكم لاتأمنون زوال العقول فتحصلون
على ما قدمتم
والرابع أن المعنى هو قريب من المرء لا يخفى عليه شيء من سره كقوله ونحن أقرب إليه
من حبل الوريد وهذا معنى قول قتادة
والخامس
يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع إيمانا ولا كفرا إلا بإذنه قاله السدي
والسادس يحول بين المرء وبين هواه ذكره ابن قتيبة
والسابع يحول بين المرء وبين ما يتمنى بقلبه من طول العمر والنصر وغيره
والثامن يحول بين المر وقلبه بالموت فبادروا الأعمال قبل وقوعه
والتاسع يحول بين المرء وقلبه بعمله فلا يضمر العبد شيئا في نفسه إلا والله عالم
به لا يقدر على تغييبه عنه
والعاشر يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن فيأمن بعد خوفه ويخاف بعد أمنه
ذكر معنى هذه الأقوال ابن الانباري
وحكى الزجاج أنهم لما فكروا في كثرة عدوهم وقلة عددهم فدخل الخوف قلوبهم أعلمه
الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوف الأمن ويبدل عدوة بالقوة
الضعف وقد أعلمت هذه الآية أن الله تعالى هو المقلب للقلوب المتصرف فيها
قوله تعالى وأنه إليه تحشرون أي للجزاء على أعمالكم
واتقوا
فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب
قوله تعالى واتقوا فتنة اختلفوا فيمن نزلت على أربعة اقوال
أحدها أنها نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خاصة قاله ابن عباس والضحاك
وقال الزبير بن العوام لقد قرأناها زمانا وما نرى أنا من أهلها فاذا نحن المعنيون
بها
والثاني أنها نزلت في رجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمهما
والثالث أنها عامة قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية أمر الله المؤمنين
أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب وقال مجاهد هذه الآية لكم أيضا
والرابع أنها نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير قاله الحسن وقال السدي نزلت في أهل
بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل
وفي الفتنة هاهنا سبعة أقوال
أحدها القتال والثاني الضلالة والثالث السكوت عن إنكار المنكر والرابع الاختبار
والخامس الفتنة بالأموال والأولاد والسادس البلاء والسابع ظهور البدع فأما قوله لا
تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فقال الفراء أمرهم ثم نهاهم وفيه طرف من الجزاء وإن
كان نهيا كقوله يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان أمرهم ثم نهاهم
وفيه تأويل الجزاء وقال الأخفش لا تصيبن ليس بجواب وإنما هو نهي
بعد
نهي ولو كان جوابا ما دخلت النون وذكر ابن الانباري فيها قولين
أحدهما أن الكلام تأويله تأويل الخبر إذ كان المعنى إن لا يتقوها تصب الذين ظلموا
أي وغيرهم أي لا تقع بالظالمين دون غيرهم لكنها تقع بالصالحين والطالحين فلما ظهر
الفعل ظهور النهي والنهي راجع إلى معنى الأمر إذ القائل يقول لا تقم يريد دع
القيام ووقع مع هذا جوابا للأمر أو كالجواب له فأكد له شبه النهي فدخلت النون
المعروف دخولها في النهي وما يضارعه
والثاني أنها نهي محض معناه لا يقصدن الظالمون هذه الفتنة فيهلكوا فدخلت النون
لتوكيد الاستقبال كقوله لا يحطمنكم وللمفسرين في معنى الكلام قولان
أحدهما لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا
والثاني لا يصيبن عقاب الفتنة فان قيل فما ذنب من لم يظلم فالجواب أنه بموافقته
للأشرار أو بسكوته عن الإنكار أو بتركه للفرار استحق العقوبة وقد قرأ علي وابن
مسعود وأبي بن كعب لتصيبن الذين ظلموا بغير ألف
واذركوا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم
بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون
قوله
تعالى واذكروا إذ أنتم قليل قال ابن عباس نزلت في المهاجرين خاصة كانت عدتهم قليلة
وهم مقهورون في أرض مكة يخافون أن يستلبهم المشركون وفي المراد بالناس ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أهل مكة قاله ابن عباس والثاني فارس والروم قاله وهب بن منبه والثالث
أنهم المشركون الذين حضروا بدرا والمسلمون قليلون يومئذ قاله قتادة
قوله تعالى فآواكم فيه قولان
أحدهما فآواكم إلى المدينة بالهجرة قاله ابن عباس والأكثرون
والثاني جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين ذكره الماوردي
وفي قوله وأيدكم بنصره قولان
أحدهما قواكم بالملائكة يوم بدر قاله الجمهور والثاني عضدكم بنصره في بدر وغيرها
قاله أبو سليمان الدمشقي وفي قوله ورزقكم من الطيبات قولان
أحدهما أنها الغنائم التي أحلها لهم قاله السدي
والثاني أنها الخيرات التي مكنهم منها ذكره الماوردي
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون
قوله تعالى لا تخونوا الله والرسول اختلفوا فيمن نزلت على أربعة اقوال
أحدها أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر وذاك أن النبي صلى الله عليه و سلم
لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير على أن يسيروا إلى
أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا
وقالوا
أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن ولده وأهله كانوا عندهم فبعثه إليهم
فقالوا ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح
فلا تفعلوا فأطاعوه فكانت تلك خيانته قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى عرفت أني
قد خنت الله ورسوله ونزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس والأكثرين وروي أن أبا لبابة
ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد وقال والله لا أذوق طعاما
ولا شرابا حتى أموت أويتوب الله علي فمكث سبعة أيام كذلك ثم تاب الله عليه فقال
والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي يحلني فجاء
فحله بيده فقال أبو لبابة إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب
وأن أنخلع من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجزئك الثلث
والثاني أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن أبا سفيان في مكان
كذا وكذا فقال رسول النبي الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه اخرجوا إليه واكتموا
فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فنزلت هذه الآية قاله
جابر بن عبد الله
والثالث أنها نزلت في قتل عثمان بن عفان قاله المغيرة بن شعبة
والرابع أن قوما كانوا يسمعو الحديث من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيفشونه حتى
يبلغ المشركين فنزلت هذه الآية قاله السدي وفي خيانة الله قولان
أحدهما
ترك فرائضه والثاني معصية رسوله وفي خيانة الرسول قولان أحدهما مخالفته في السر
بعد طاعته في الظاهر والثاني ترك سنته
وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال
أخذها أنها الفرائض قاله ابن عباس وفي خيا تنقيصها والثاني تركها
والثاني أنها الدين قاله ابن زيد فيكون المعنى لا تظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر
والثالث أنها عامة في خيانة كل مؤتمن ويؤكده نزولها في ما جرى لأبي لبابة
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيآتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة قال ابن عباس هذا خطاب لأبي لبابة
لأنه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة فأما الفتنة فالمراد بها الابتلاء
والامتحان الذي يظهر ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه وأن الله عنده أجر عظيم
خير من الأموال والأولاد
قوله
تعالى إن تتقوا الله أي بترك معصيته واجتناب الخيانة لله ورسوله
قوله تعالى يجعل لكم فرقانا فيه أربعة أقوال
أحدها أنه المخرج رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك
وابن قتيبة والمعنى يجعل لكم مخرجا في الدين من الضلال
والثاني أنه النجاة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة والسدي
والثالث أنه النصر رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال الفراء
والرابع أنه هدى في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل قاله ابن زيد وابن إسحاق
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله
خير الماكرين
قوله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا هذه الآية متعلقة بقوله واذكروا إذ أنتم قليل
فالمعنى أذكر المؤمنين ما من الله به عليهم واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا
الإشارة إلى كيفية مكرهم
قال أهل التفسير لما بويع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة وأمر أصحابه
أن يلحقوا بالمدينة اشفقت قريش أن يعلو أمره وقالوا والله لكأنكم به قد كر عليكم
بالرجال فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره فاعترضهم
إبليس في صورة شيخ كبير فقالوا من أنت قال أنا شيخ من
أهل نجد سمعت ما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأيي نصحا فقالوا ادخل فدخل معهم فقالوا انظروا في أمر هذا الرجل فقال بعضهم احبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون فقال إبليس ما هذا برأي يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم فقال قائل أخرجوه من بين أظهركم فقال ما هذا برأي يوشك أن يجمع عليكم ثم يسير إليكم فقال أبو جهل نأخذ من كل قبيلة غلاما ثم نعطي كل غلام سيفا فيضربوه به ضربة رجل واحد فيفرق دمه في القبائل فما ظن هذا الحي من قريش يقوى على ضرب قريش كلها فيقبلون العقل ونستريح فقال إبليس هذا والله الرأي فتفرقوا عن ذلك وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه وأخبره بمكر القوم فلم يبت في مضجعه تلك الليلة وأمر عليا فبات في مكانه وبات المشركون يحرسونه فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن له الله في الخروج إلى المدينة وجاء المشركون لما أصبحوا فرأوا عليا فقالوا أين صاحبك قال لا أدري فاقتصوا أثره حتى بلغوا الجبل فمروا بالغار فرأوا نسج العنكبوت فقالوا لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت فأما قوله ليثبتوك فقال ابن قتيبة معناه ليحبسوك يقال فلان مثبت وجعا إذا لم يقدر على الحركة وللمفسرين فيه قولان
أحدهما
ليثبتوك في الوثاق قاله ابن عباس والحسن في آخرين
والثاني ليثبتوك في الحبس قاله عطاء والسدي في آخرين وكان القوم أرادوا أن يحبسوه
في بيت ويشدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب وقد سبق بيان المكر في آل
عمران
وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير
الأولين
قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا ذكر أهل التفسير أن هذه الآيه نزلت في النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة وأنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر قصص
القرون الماضية قال لو شئت لقلت مثل هذا وفي قوله قد سمعنا قولان
أحدهما قد سمعنا منك ولا نطيعك
والثاني قد سمعنا قبل هذا مثله وكان النضر يختلف إلى فارس تاجرا فيسمع العباد
يقرؤون الإنجيل وقد بين التحدي كذب من قال لو نشاء لقلنا مثل هذا وقد سبق معنى
الأساطير في الأنعام
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم
قوله تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك اختلفوا فيمن نزلت على
ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في النضر أيضا رواه جماعة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
ومجاهد وعطاء والسدي
والثاني
أنها نزلت في أبي جهل فهو القائل لهذا قاله أنس بن مالك وهو مخرج في الصحيحين
والثالث أنها نزلت في قريش قالوا هذا ثم ندموا فقالوا غفرانك اللهم فأنزل الله وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون رواه أبو معشر عن يزيد ابن رومان ومحمد بن قيس وفي
المشار إليه بقوله إن كان هذا ثلاثة أقوال
أحدها أنه القرآن والثاني كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأمر
بالتوحيد وغيره والثالث أنه إكرام محمد صلى الله عليه و سلم بالنبوة من بين قريش
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم في المشار إليه قولان
أحدهما أهل مكة وفي معنى الكلام قولان أحدهما وما كان الله ليعذبهم وأنت مقيم بين
أظهرهم قال ابن عباس لم تعذب قرية حتى يخرج نبيها والمؤمنون معه والثاني وما كان
الله ليعذبهم وأنت حي قاله أبو سليمان
والثاني أن المشار إليهم المؤمنون والمعنى وما كان الله ليعذب المؤمنين بضرب من
العذاب الذي أهلك به من قبلهم وأنت حي ذكره أبو سليمان الدمشقي
فصل
قال الحسن وعكرمة هذه الآية منسوخة بقوله وما لهم ألا يعذبهم
الله
وفيه بعد لأن النسخ لا يدخل على الأخبار وقال ابن أبزى كان النبي صلى الله عليه و
سلم بمكة فأنزل الله عز و جل وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فخرج إلى المدينة
فأنزل الله وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وكان أولئك البقية من المسلمين بمكة
يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله وما لهم ألا يعذبهم الله وجميع أقوال المفسرين تدل
على أن قوله وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون كلام مبتدأ من إخبار الله عز و جل وقد
روي عن محمد بن إسحاق أنه قال هذه الآية من قول المشركين قالوا والله إن الله لا
يعذبنا ونحن نستغفر فرد الله عليهم ذلك بقوله وما لهم ألا يعذبهم الله
قوله تعالى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال
أحدها وما كان الله معذب المشركين وفيهم من قد سبق له أن يؤمن رواه ابن أبي طلحة
عن ابن عباس واختاره الزجاج
والثاني وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الله فانهم كانوا يلبون ويقولون غفرانك
وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وفيه ضعف لأن استغفار المشرك لا أثر له في القبول
والثالث وما كان الله معذبهم يعني المشركين وهم يعني المؤمنين الذين بينهم
يستغفرون روي عن ابن عباس أيضا وبه قال الضحاك وأبو مالك قال ابن الانباري وصفوا
بصفة بعضهم لأن المؤمنين بين أظهرهم فأوقع
العموم
على الخصوص كما يقال قتل أهل المسجد رجلا وأخذ أهل البصرة فلانا ولعله لم يفعل ذلك
إلا رجل واحد
والرابع وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله قاله مجاهد قال ابن
الانباري فيكون معنى تعذيبهم إهلاكهم فالمعنى وما كان الله مهلكهم وقد سبق في علمه
أنه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه فوصفهم بصفة ذراريهم وغلبوا عليهم كما
غلب بعضهم على كلهم في الجواب الذي قبله
والخامس أن المعنى لو استغفروا لما عذبهم الله ولكنهم لم يستغفروا فاستحقوا العذاب
وهذا كما تقول العرب ما كنت لأهينك وأنت تكرمني يريدون ما كنت لأهينك لو أكرمتني
فأما إذا لست تكرمني فانك مستحق لإهانتي وإلى هذا القول ذهب قتادة والسدي قال ابن
الانباري وهو اختيار اللغويين وذكر المفسرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال
أحدها أنه الاستغفار المعروف وقد ذكرناه عن ابن عباس
والثاني أنه بمعنى الصلاة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ومنصور عن مجاهد وبه قال
الضحاك
والثالث أنه بمعنى الإسلام رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال عكرمة وما لهم ألا
يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون
ولكن أكثرهم لا يعلمون
قوله تعالى وما لهم ألا يعذبهم الله هذه الآية أجازت تعذيبهم والأولى
نفت
ذلك وهل المراد بهذا العذاب الاول أم لا فيه قولان
أحدهما أنه هو الأول إلا أن الأول امتنع بشيئين أحدهما كون النبي صلى الله عليه و
سلم فيهم والثاني كون المؤمنين المستغفرين بينهم فلما وقع التمييز بالهجرة وقع
العذاب بالباقين يوم بدر وقيل بل وقع بفتح مكة
والثاني أنهما مختلفان وفي ذلك قولان أحدهما أن العذاب الثاني قتل بعضهم يوم بدر
والأول استئصال الكل فلم يقع الأول لما قد علم من إيمان بعضهم وإسلام بعض ذراريهم
ووقع الثاني والثاني أن العذاب الأول عذاب الدنيا والثاني عذاب الآخرة قاله ابن
عباس فيكون المعنى وما كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهم ألا
يعذبهم الله في الآخرة
قوله تعالى وهم يصدون قال الزجاج المعنى وهم يصدون عن المسجد الحرام أولياءه وفي
هاء الكناية في قوله وما كانوا أولياؤه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى المسجد وهو قول الجمهور قال الحسن إن المشركين قالوا نحن
أولياء المسجد الحرام فرد الله عليهم بهذا
والثاني أنها تعود إلى الله عز و جل ذكره أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى إن أولياؤه أي ما أولياؤه إلا المتقون للشرك والمعاصي ولكن أكثر أهل
مكة لا يعلمون من الأولى ببيت الله
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
قوله تعالى وما كان صلاتهم عند البيت سبب نزولها أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفقون
ويصفرون ويضعون خدودهم بالأرض فنزلت هذه الآية قاله ابن عمر فأما المكاء ففيه
قولان
أحدهما
أنه الصفير قاله ابن عمر وابن عباس وابن جبير وقتادة وأبو عبيدة والزجاج وابن
قتيبة قال ابن فارس يقال مكا الطائر يمكو مكاء إذا صفر ويقال مكيت يده تمكى مكى
مقصور أي غلظت وخشنت ويقال تمكى إذا توضأ وأنشدوا ... إنك والجور على سبيل ...
كالمتمكي بدم القتيل ...
وسئل أبو سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء فجمع كفيه وجعل يصفر فيهما
والثاني أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتصدية على محمد صلى الله عليه
و سلم صلاته قاله مجاهد قال ابن الانباري أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخال
الأصابع في الأفواه وقالوا لا يكون إلا الصفير وفي التصدية قولان
أحدهما أنها التصفيق قاله ابن عمر وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والجمهور قال
ابن قتيبة يقال صدى إذا صفق بيديه قال الراجز ... ضنت بخد وجلت عن خد ... وأنا من
غرو الهوى أصدي ...
الغرو العجب يقال لا غرو من كذا أي لا عجب
والثاني أن التصدية صدهم الناس عن البيت الحرام قاله سعيد بن جبير وقال ابن زيد هو
صدهم عن سبيل الله ودينه وزعم مقاتل أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى في
المسجد الحرام قام رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن
يمينه
فيصفران ورجلان عن يساره فيصفقان فتختلط على النبي صلى الله عليه و سلم صلاته
وقراءته فقتلهم الله ببدر فذلك قوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون بتوحيد الله
فان قيل كيف سمى المكاء والتصدية صلاة
فعنه جوابان ذكرهما ابن الانباري
أحدهما أنهم جعلوا ذلك مكان الصلاة ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل زرت عبد
الله فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة قال الشاعر ... قلت له اطعمني
عميم تمرا ... فكان تمري كهرة وزبرا ...
أي أقام الصياح علي مقام التمر
والثاني أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كما تقول العر ب ما لفلات
عيب إلا السخاء يريدون من السخاء عيبه فلا عيب له قال الشاعر ... فتى كملت خيراته
غير أنه ... جواد فلا يبقى من المال باقيا ...
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة
ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون
قوله تعالى إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله اختلفوا فيمن نزلت
على ثلاثة أقوال
أحدها
أنها نزلت في المطعمين ببدر وكانوا اثني عشر رجلا يطعمون الناس الطعام كل رجل يطعم
يوما وهم عتبة وشيبة ومنبه ونبية ابنا الحجاج وأبو البختري والنضر بن الحارث وأبو
جهل وأخوه الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر ابن
نوفل هذا قول أبي صالح عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش لقتال
رسول الله صلى الله عليه و سلم سوى من استجاش من العرب قاله سعيد بن جبير وقال
مجاهد نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد
والثالث أنها نزلت في أهل بدر وبه قال الضحاك فأما سبيل الله فهو دين الله
قوله تعالى ثم تكون عليهم حسرة أي تكون عاقبة نفقتهم ندامة لأنهم لم يظفروا
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في
جهنم أولئك هم الخاسرون
قوله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن
عامر ليميز خفيفة وقرأ حمزة والكسائي ليميز بالتشديد وهما لغتان مزته وميزته وفي
لام ليميز قولان
أحدهما
أنها متعقلة بقوله فسينفقونها قاله ابن الانباري
والثاني أنها متعقلة بقوله إلى جهنم يحشرون قاله ابن جرير الطبري وفي معنى الآية
ثلاثة اقوال
أحدها ليميز أهل السعادة من أهل الشقاء رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال السدي
ومقاتل يميز المؤمن من الكافر
والثاني ليميز العمل الطيب من العمل الخبيث قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث ليميز الإنفاق الطيب في سبيله من الانفاق الخبيث في سبيل الشيطان قاله ابن
زيد والزجاج
قوله تعالى ويجعل الخبيث بعضه على بعض أي يجمع بعضه فوق بعض وهو قوله فيركمه قال
الزجاج الركم أن يجعل بعض الشيء على بعض يقال ركمت الشيء أركمه ركما والركام الاسم
فمن قال المراد بالخبيث الكفار فانهم في النار بعضهم على بعض ومن قال أموالهم فله
في ذلك قولان
أحدهما أنها ألقيت في النار ليعذب بها أربابها كما قال تعالى فتكوى بها جباههم
والثاني أنهم لما عظموها في الدنيا أراهم هوانها بالقائها في النار كما تلقى الشمس
والقمر في النار ليرى من عبدهما ذلهما
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين
قوله تعالى قل للذين كفروا نزلت في أبي سفيان وأصحابه قاله أبو صالح عن ابن عباس
وفي معنى الآية قولان
أحدهما
إن ينتهوا عن المحاربة يغفر لهم ما قد سلف من حربهم فلا يؤاخذون به وإن يعودوا إلى
المحاربة فقد مضت سنة الاولين في نصر الله أولياءه وقيل في قتل من قتل يوم بدر
وأسر
والثاني إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم ما قد سلف من الإثم وإن يعودوا إليه فقد مضت
سنة الأولين من الأمم السالفة حين أخذوا بالعذاب المستأصل قال يحيى بن معاذ في هذه
الآية إن توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فان انتهوا فان الله بما يعملون
بصير
قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك وقال الزجاج حتى لا يفتن الناس فتنة
كفر ويدل عليه قوله ويكون الدين كله لله
قوله تعالى فان انتهوا أي عن الكفر والقتال فان الله بما يعملون بصير وقرأ يعقوب
إلا روحا بما تعملون بالتاء
وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير
قوله تعالى وإن تولوا أي أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال
فاعلموا
أن الله مولاكم أي وليكم وناصركم قال ابن قتيبة نعم المولى أي نعم الولي ونعم
النصير أي الناصر مثل قدير وقادر وسميع وسامع
واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان والله على كل شيء قدير
قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء اختلفوا هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد أم
يختلفان على قولين
أحدهما أنهما يختلفان ثم في ذلك قولان أحدهما أن الغنيمة ما طهر عليه من أموال
المشركين والفيء ما ظهر عليه من الأرضين قاله عطاء بن السائب والثاني أن الغنيمة
ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ عن صلح قاله سفيان الثوري وقيل بل الفيء ما لم يوجف
عليه بخيل ولا ركاب كالعشور والجزية وأموال المهادنة والصلح وما هربوا عنه
والثاني أنهما واحد وهما كل ما نيل من المشركين ذكره الماوردي وقال الزجاج الأموال
ثلاثة اصناف فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب فقد سماه الله تعالى
أنفالا وغنائم وما صار من المشركين من خراج أو جزية مما لم يؤخذ في الحرب فقد سماه
فيئا وما خرج من أموال المسلمين كالزكاة والنذر والقرب سماه صدقة وأما قوله من شيء
فالمراد به كل ما وقع عليه اسم الشيء قال مجاهد المخيط من الشيء
قوله تعالى فإن لله خمسه وروى عبد الوارث خمسه بسكون الميم وفي المراد بالكلام
قولان
أحدهما
أن نصيب الله مستحق يصرف إلى بيته قال أبو العالية كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول
الله صلى الله عليه و سلم على خمسة أسهم فيقسم أربعة بين الناس ثم يجعل من السهم
الخامس للكعبة وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال
والثاني أن ذكر الله هاهنا لأحد وجهين أحدهما لأنه المتحكم فيه والمالك له والمعنى
فان للرسول خمسة ولذي القربى كقوله يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
والثاني أن يكون المعنى إن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى وهذ قول
الجمهور فعلى هذا تكون الواو زائدة كقوله فلما أسلما وتله للجبين وناديناه المعنى
ناديناه ومثله كثير
فصل
أجمع العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصة فأما الخمس الخامس فكيف
يقسم فيه ثلاثة أقوال
أحدها يقسم منه لله وللرسول ولمن ذكر في الآية وقد ذكرنا أن هذا مما انفرد به أبو
العالية وهو يقتضي أن يقسم على ستة أسهم
والثاني أنه مقسوم على خمسة أسهم سهم للرسول وسهم لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم
للمساكين وسهم لأبناء السبيل على ظاهر الآية وبه قال الجمهور
والثالث أنه يقسم على أربعة اسهم فسهم الله عز و جل وسهم رسوله عائد على ذوي
القربى لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يأخذ منه شيئا وهذا المعنى رواه
ابن أبي طلحة عن ابن عباس
فصل
فأما سهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فانه كان يصنع فيه ما بينا وهل سقط بموته
أم لا فيه قولان
أحدهما لم يسقط بموته وبه قال أحمد والشافعي في آخرين وفيما يصنع به قولان أحدهما
أنه للخليفة بعده قاله قتادة والثاني أنه يصرف في المصالح وبه قال أحمد والشافعي
والثاني أنه يسقط بموته كما يسقط الصفي فيرجع إلى جملة الغنيمة وبه قال أبو حنيفة
وأما ذوو القربى ففيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم جميع قريش قال ابن عباس كنا نقول نحن هم فأبى علينا قومنا وقالوا قريش
كلها ذوو قربى
والثاني بنو هاشم وبنو المطلب و به قال أحمد و الشافعي و الثالث أنهم بنو هاشم فقط
قاله أبو حنفية و بماذا يستحقون فيه قولان
أحدهما بالقرابة وإن كانوا أغنياء وبه قال أحمد والشافعي
والثاني بالفقر لا بالاسم وبه قال أبو حنيفة وقد سبق في البقرة معنى اليتامى
والمساكين وابن السبيل وينبغي أن تعتبر في اليتيم أربعة أوصاف موت الأب وإن كانت
الأم باقية والصغر لقوله عليه السلام لا يتم بعد حلم والإسلام لأنه مال للمسلمين
والحاجة لأنه معد للمصالح
قوله
تعالى وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان هو يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل بنصر
المؤمنين والذي أنزل عليه يومئذ قوله يسألونك عن الأنفال نزلت حين اختلفوا فيها
فالمعنى إن كنتم آمنتم بذلك فاصدروا عن أمر الرسول في هذا أيضا
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم
في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن
بينة وإن الله لسميع عليم
قوله تعالى إذ أنتم بالعدوة الدنيا قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعدوة والعدوة العين
فيهما مكسورة وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بضم العين فيهما قال
الأخفش لم يسمع من العرب إلا الكسر وقال ثعلب بل الضم أكثر اللغتين قال ابن السكيت
عدوة الوادي وعدوته جانبه والجمع عدى وعدى والدنيا تأنيث الأدنى وضدها القصوى وهي
تأنيث الأقصى وما كان من النعوت على فعلى من ذوات الواو فان العرب تحوله إلى الياء
نحو الدنيا من دنوت والعليا من علوت لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول وليس في هذا
اختلاف إلا أن
أهل
الحجاز قالوا القصوى فأظهروا الواو وهو نادر وغيرهم يقول القصيا قال المفسرون إذ
أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة وعدوكم بشفيره الأقصى من مكة وكان الجمعان قد
نزلا وادي بدر على هذه الصفة والركب أبو سفيان وأصحابه قال الزجاج من نصب أسفل
اراد والركب مكانا أسفل منكم ويجوز الرفع على المعنى والركب أشد تسفلا منكم قال
قتادة وكان المسلمون أعلى الوادي والمشركون أسفله
وفي قوله ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد قولان
أحدهما لو تواعدتم ثم بلغكم كثرتهم لتأخرتم عن الميعاد قاله ابن اسحاق
والثاني لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عدوتي وادي بدر
لاختلفتم في الميعاد قاله أبو سليمان وقال الماوردي كانت تقع الزيادة والنقصان أو
التقدم والتأخر من غير قصد لذلك
قوله تعالى ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا وهو إعزاز الإسلام وإذلال الشرك
قوله تعالى ليهلك من هلك عن بينة وروى خلف عن يحيى ليهلك بضم الياء وفتح اللام
قوله تعالى ويحيى من حي عن بينة قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي من حي بياء
واحدة مشددة وهذه رواية حفص عن عاصم وقنبل عن ابن كثير وروى شبل عن ابن كثير وابو
بكر عن عاصم حيي بياءين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وهي قراءة نافع فمن قرأ
بياءين بين ولم يدغم ومن أدغم ياء حيي فلاجتماع حرفين من جنس واحد وفي معنى الكلام
قولان
أحدهما
ليقتل من قتل من المشركين عن حجة ويبقى من بقي منهم عن حجة
والثاني ليكفر من كفر بعد حجة ويؤمن من آمن عن حجة
إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن
الله سلم إنه عليم بذات الصدور
قوله تعالى إذ يريكهم الله في منامك قليلا فيه قولان
أحدهما أن نبي الله صلى الله عليه و سلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم
في قلة قاله أبو صالح عن ابن عباس قال مجاهد لما أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام
قليلا كان ذلك تثبيتا لهم قال أبو سليمان الدمشقي والكلام متعلق بما قبله فالمعنى
وإن الله لسميع لما يقوله أصحابك عليم بما يضمرونه إذ حدثتهم بما رأيت في منامك
والثاني إذ يريكهم الله بعينك التي تنام بها قاله الحسن قال الزجاج وكثير من
النحويين يذهبون إلى هذا المذهب ومعناه عندهم إذ يريكهم الله في موضع منامك أي
بعينك ثم حذف الموضع واقام المنام مقامه
قوله تعالى لفشلتم أي لجبنتم وتأخرتم عن حربهم وقال مجاهد لفشل اصحابك ولرأوا ذلك
في وجهك
قوله تعالى ولتنازعتم في الأمر أي لاختلفتم في حربهم فكان ذلك من دواعي هزيمتكم
ولكن الله سلم من المخالفة والفشل
وإذ
يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان
مفعولا وإلى الله ترجع الأمور
قوله تعالى وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا قال مقاتل صدق الله رؤيا
رسوله التي أخبر بها المؤمنين عن قلة عدوهم قبل لقائهم بأن قللهم وقت اللقاء في
أعينهم وقال ابن مسعود لقد قلوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي أتراهم سبعين
قال أراهم مائة حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال كنا ألفا قال أبو صالح عن ابن
عباس استقل المسلمون المشركين والمشركون المسلمين فاجترأ بعضهم على بعض
فان قيل ما فائدة تكرير الرؤية هاهنا وقد ذكرت في قوله إذ يريكهم الله فعنه جوابان
أحدهما أن الأولى كانت في المنام والثانية في اليقظة
والثاني أن الأولى للنبي صلى الله عليه و سلم خاصة والثانية له ولأصحابه فان قيل
تكثير المؤمنين في أعين الكافرين أولى لمكان إعزازهم فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنهم لو كثروا في أعينهم لم يقدموا عليهم فلم يكن قتال والقتال سبب النصر
فقللهم لذلك
والثاني أنه قللهم لئلا يتأهب المشركون كل التأهب فاذا تحقق القتال وجدهم المسلمون
غير مستعدين فظفروا بهم
والثالث أنه قللهم ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم فيغلبهم المسلمون فيكون ذلك آية
للمشركين ومنبها على نصرة الحق
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
كثيرا
لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن
الله مع الصابرين
قوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا الفئة الجماعة واذكروا الله كثيرا فيه قولان
أحدهما أنه الدعاء والنصر والثاني ذكر الله على الإطلاق
قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا قد سبق ذكر التنازع والفشل آنفا
قوله تعالى وتذهب ريحكم وروى أبان ويذهب بالياء والجزم وفيه أربعة أقوال
أحدها تذهب شدتكم قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال السدي حدتكم وجدكم وقال الزجاج
صولتكم وقوتكم
والثاني يذهب نصركم قاله مجاهد وقتادة
والثالث تتقطع دولتكم قاله أبو عبيدة وقال ابن قتيبة يقال هبت له ريح النصر إذا
كانت له الدولة ويقال له الريح اليوم أي الدولة
والرابع أنها ريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله فتضرب وجوه العدو
ومنه قوله عليه السلام نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وهذا قول ابن زيد ومقاحل
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس يصدون عن سبيل الله والله بما
يعملون محيط
قوله
تعالى ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا قال المفسرون هم أبو جهل ومن خرج
معه من مكة خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف
وهم يشربون الخمور فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز ما معه كتب إليهم إني قد أحرزت
أموالكم فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نفعل حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا وننحر الجزر
ونطعم الطعام وسقى الخمور وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابونا فساروا إلى بدر
فكانت الوقعة فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فأما
البطر فهو الطغيان في النعم وترك شكرها والرياء العمل من أجل رؤية الناس وسبيل
الله هاهنا دينه
وإذا زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما
ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون إني أخاف الله
والله شديد العقاب
قوله تعالى وإذا زين لهم الشيطان أعمالهم قال عروة بن الزبير لما أجمعت قريش
المسير إلى بدر ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة
بن مالك المدلجي وكان من اشراف بني كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس
وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا وفي المراد بأعمالهم
هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها شركهم والثاني مسيرهم إلى بدر والثالث قتالهم لرسول الله صلى الله عليه و
سلم
قوله تعالى فلما تراءت الفئتان أي صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى
وفي
المراد بالفئتين قولان
أحدهما فئة المسلمين وفئة المشركين وهو قول الجمهور
والثاني فئة المسلمين وفئة الملائكة ذكره الماوردي
قوله تعالى نكص على عقبيه قال أبو عبيدة رجع من حيث جاء وقال ابن قتيبة رجع
القهقري قال ابن السائب كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذا بيد الحارث
بن هشام فرأى الملائكة فنكص على عقبيه فقال له الحارث أفرارا من غير قتال فقال إني
أرى مالا ترون فلما هزم المشركون قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال والله ما
شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم قال قتادة صدق عدة الله في قوله إني أرى مالا
ترون ذكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة فعلم أنه لا يد له بالملائكة وكذب عدو
الله في قوله إني أخاف الله الله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له بهم
وقال عطاء معناه إني أخاف الله أن يهلكني وقال ابن الانباري لما رأى نزول الملائكة
خاف أن تكون القيامة فيكون انتهاء إنظاره فيقع به العذاب ومعنى نكص رجع هاربا بخزي
وذل واختلفوا في قوله والله شديد العقاب هل هو ابتداء كلام أو تمام الحكاية عن إبليس
على قولين
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن
الله عزيز حكيم
قوله تعالى إذ يقول المنافقون قال ابن عباس هم قوم من أهل المدينة من الأوس
والخزرج فأما الذين في قلوبهم مرض ففيهم ثلاثة اقوال
أحدها أنهم قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام بمكة فأخرجهم المشركون
معهم
يوم بدر كرها فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين ارتابوا ونافقوا وقالوا غر
هؤلاء دينهم قاله أبو صالح عن ابن عباس وإليه ذهب الشعبي في آخرين وعدهم مقاتل
فقال كانوا سبعة قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث
بن زمعة وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منية بن الحجاج والوليد بن الوليد بن
المغيرة والوليد بن عتبة ابن ربيعة
والثاني أنهم المشركون لما رأوا قلة المسلمين قالوا غر هؤلاء دينهم رواه ابن أبي
طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن
والثالث أنهم قوم مرتابون لم يظهروا عداوة النبي صلى الله عليه و سلم ذكره
الماوردي والمرض هاهنا الشك والإشارة بقوله هؤلاء إلى المسلمين وإنما قالوا هذا
لأنهم رأوا قلة المسلمين فلم يشكوا في أن قريشا تغلبهم
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق
قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة قرأ الجمهور يتوفى بالياء وقرأ
ابن عامر تتوفى بتاءين قال المفسرون نزلت في الرهط الذين قالوا غر هؤلاء دينهم وفي
المراد بالملائكة ثلاثة أقوال
أحدها ملك الموت وحده قاله مقاتل والثاني ملائكة العذاب قاله أبو سليمان الدمشقي
والثالث الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر ذكره الماوردي
وفي قوله يضربون وجوههم وأدبارهم أربعة أقوال
أحدها يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا وأدبارهم لما انهزموا
والثاني
أنهم جاؤوهم من بين أيديهم ومن خلفهم فالذين أمامهم ضربوا وجوههم والذين وراءهم
ضربوا أدبارهم
والثالث يضربون وجوههم يوم القيامة إذا لقوهم وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار
والرابع أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار وهل المراد نفس
الوجوه والأدبار أم المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر فيه قولان
وفي قوله وذوقوا عذاب الحريق قولان
أحدهما أنه في الدنيا وفيه إضمار يقولون فالمعنى يضربون ويقولون كقوله وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا أي ويقولان قال النابغة ... كأنك من جمال
بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن ...
والمعنى كأنك جمل من جمال لبني أقيش هذا قول الفراء وأبي عبيدة
والثاني أن الضرب لهم في الدنيا فاذا وردوا يوم القيامة إلى النار قال خزنتها
ذوقوا عذاب الحريق هذا قول مقاتل
ذلك
بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد
قوله تعالى ذلك بما قدمت أيديكم أي بما كسبتم من قبائح أعمالكم وأن الله ليس بظلام
للعبيد لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر وإن كان كفرهم بقضائه لأنه مالك فله
التصرف في ملكه كما يشاء فيستحيل نسبة الظلم إليه
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي
شديد العقاب
قوله تعالى كدأب آل فرعون أي كعادتهم والمعنى كذب هؤلاء كما كذب أولئك فنزل بهم
العذاب كما نزل بأولئك قال ابن عباس أيقن آل فرعون أن موسى نبي الله فكذبوه فكذلك
هؤلاء في حق محمد صلى الله عليه و سلم
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله
سميع عليم
قوله تعالى ذلك بأن الله أي ذلك الأخذ والعقاب بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها
على قوم حتى يغيروا بالكفران وترك الشكر قال مقاتل والمراد بالقوم هاهنا أهل مكة
أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ثم بعث فيهم محمدا صلى الله عليه و سلم فلم يعرفوا
المنعم عليهم فغير الله ما بهم وقال السدي كذبوا بمحمد فنقله الله إلى الأنصار قال
أبو سليمان الخطابي والقوي يكون بمعنى القادر فمن قوي على شيء فقد قدر عليه وقد
يكون معناه التام القوة
الذي
لا يستولي عليه العجز في حال والمخلوق وإن وصف بالقوة فقوته متناهية وعن بعض
الأمور قاصرة
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل
فرعون وكل كانوا ظالمين
قوله تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم أي كذب أهل مكة بمحمد والقرآن كما كذب
آل فرعون بموسى والتوراة وكذب من قبلهم بأنبيائهم قال مكي بن أبي طالب الكاف من
كدأب في موضع نصب نعت لمحذوف تقديره غيرنا بهم لما غيروا تغييرا مثل عادتنا في آل
فرعون ومثلها الآية الأولى إلا أن الأولى للعادة في العذاب تقديره فعلنا بهم ذلك
فعلا مثل عادتنا في آل فرعون
قوله تعالى فأهلكناهم يعني الأمم المتقدمة بعضهم بالرجفة وبعضهم بالريح فكذلك
أهلكنا كفار مكة ببدر وقال بعضهم يعني بقوله فأهلكناهم الذين أهلكوا ببدر
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون
قوله تعالى إن شر الدواب عند الله الذين كفروا قال أبو صالح عن ابن عباس نزلت في
بني قريظة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وأصحابه
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون
قوله تعالى الذين عاهدت منهم في من أربعة أقوال
أحدها أنها صلة والمعنى الذين عاهدتم
الثاني
أنها للتبعيض فالمعنى إن شر الدواب الكفار وشرهم الذين عاهدت ونقضوا
والثالث أنها بمعنى مع والمعنى عاهدت معهم
والرابع أنها دخلت لأن العهد أخذ منهم
قوله تعالى ثم ينقضون عهدهم في كل مرة أي كلما عاهدتهم نقضوا
وفي قوله وهم لا يتقون قولان
أحدهما لا يتقون نقض العهد والثاني لا يتقون الله في نقض العهد
قال المفسرون كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه
ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح ثم قالوا نسينا
وأخطأنا ثم عاهدوه الثانية فنقضوا ومالؤوا الكفار يوم الخندق وكتب كعب ابن الأشرف
إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يتذكرون
قوله تعالى فاما تثقفنهم قال أبو عبيدة مجازه فان تثقفنهم فعلى قوله تكون ما زائدة
وقد سبق بيان فاما في البقرة قال ابن قتيبة فمعنى تثقفنهم تظفر بهم فشرد بهم من
خلفهم أي افعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يتفرق به من وراءهم من أعدائك قال
ويقال شرد بهم أي سمع بهم بلغة قريش قال الشاعر ... أطوف في الأباطح كل يوم ...
مخافة أن يشرد بي حكيم
وقال
ابن عباس نكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد لعلهم يذكرون النكال فلا
ينقضون العهد
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين
قوله تعالى وإما تخافن من قوم خيانة قال المفسرون الخوف هاهنا بمعنى العلم والمعنى
إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة وهي نقض عهد وقال مجاهد نزلت في بني قريظة
وفي قوله فانبذ إليهم على سواء أربعة أقوال
أحدها فألق إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنقض سواء هذا قول الأكثرين
واختاره الفراء وابن قتيبة وأبو عبيدة
والثاني فانبذ إليهم جهرا غير سر ذكره الفراء أيضا في آخرين
والثالث فانبذ إليهم على مهل قاله الوليد بن مسلم
والرابع فانبذ إليهم على عدل من غير حيف وأنشدوا ... فاضرب وجوه الغدر الأعداء ...
حتى يجيبوك إلى السواء ...
ذكره أبو سليمان الدمشقي
ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون
قوله تعالى ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي
وأبو بكر عن عاصم ولا تحسبن بالتاء وكسر السين إلا أن عاصما فتح السين وقرأ ابن
عامر وحمزة وحفص عن عاصم بالياء وفتح السين وفي الكافرين هاهنا قولان
أحدهما
جميع الكفار قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم الذين انهزموا يوم بدر ذكره محمد بن القاسم النحوي وغيره وسبقوا
بمعنى فاتوا قال ابن الانباري وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات
فلما سلموا منها قيل لا تحسبن أنهم فاتوا بسلامتهم الآن فانهم لا يعجزونا أي لا
يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات
قوله تعالى إنهم لا يعجزون قرأ الجمهور بكسر الألف وقرأ ابن عامر بفتحها وعلى
قراءته اعتراض لقائل أن يقول إذا كان قد قرأ يحسبن بالياء وقرأ أنهم بالفتح فقد
أقرهم على أنهم لا يعجزون ومتى علموا أنهم لا يعجزون لم يلاموا فقد أجاب عنه ابن
الانباري فقال المعنى لا يحسبن الذين كفروا سبقوا لا يحسبن أنهم يعجزون ولا زائدة
مؤكدة وقال أبو علي المعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا وآباءهم سبقوا لأنهم
لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من
دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل يوف إليكم وأنتم لا
تظلمون
قوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة في المراد بالقوة أربعة اقوال
أحدها أنها الرمي رواه عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال
الحكم
بن أبان هي النبل والثاني ذكور الخيل قاله عكرمة والثالث السلاح قاله السدي وابن
قتيبة والرابع أنه كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد
قوله تعالى ومن رباط الخيل يعني ربطها واقتناءها للغزو وهو عام في الذكور والإناث
في قول الجمهور وكان عكرمة يقول المراد بقوله ومن رباط الخيل إناثها
قوله تعالى ترهبون به روى رويس وعبد الوارث ترهبون بفتح الراء وتشديد الهاء أي
تخيفون وترعبون به عدو الله وعدوكم وهم مشركو مكة وكفار العرب
قوله تعالى وآخرين من دونهم أي من دون كفار العرب واختلفوا فيهم على خمسة أقوال
أحدها أنهم الجن روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال هم الجن وإن
الشيطان لا يخبل أحدا في داره فرس عتيق والثاني أنهم بنو قريظة قاله مجاهد والثالث
أهل فارس قاله السدي والرابع المنافقون قاله ابن زيد والخامس اليهود قاله مقاتل
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم
قوله
تعالى وإن جنحوا للسلم قرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين قال الزجاج السلم
الصلح والمسالمة يقال سلم وسلم وسلم في معنى واحد أي إن مالوا إلى الصلح فمل إليه
قال الفراء إن شئت جعلت لها كناية عن السلم لأنها تؤنث وإن شئت جعلتها للفعلة
كقوله إن ربك من بعدها لغفور رحيم
فان قيل لم قال لها ولم يقل إليها
فالجواب أن اللام وإلى تنوب كل واحدة منهما عن الأخرى وفيمن أريد بهذه الآية قولان
أحدهما المشركون وأنها نسخت بآية السيف والثاني أهل الكتاب
فان قيل إنها نزلت في ترك حربهم إذ بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة فهي محكمة
وإن قيل نزلت في موادعتهم على غير جزية توجه النسخ لها بآية الجزية
وإن يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين
قلوبهم لو انفقت ما في الأرض ما جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه
عزيز حكيم
قوله تعالى وإن يريدوا قال مقاتل يعني يهود قريظة أن يخدعوك بالصلح لتكف عنهم حتى
إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك فان حسبك الله قال الزجاج فان الذي يتولى كفايتك
الله هو الذي أيدك أي قواك وقال مقاتل قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر
قوله
تعالى وألف بين قلوبهم يعني الأوس والخزرج وهم الأنصار كانت بينهم عداوة في
الجاهلية فألف الله بينهم بالإسلام وهذا من أعجب الآيات لأنهم كانوا ذوي أنفة
شديدة فلو أن رجلا لطم رجلا لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره فآل بهم الإسلام إلى
أن يقتل الرجل ابنه وأباه
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين
قوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك فيه قولان
أحدهما حسبك الله وحسب من اتبعك هذا قول أبي صالح عن ابن عباس وبه قال ابن زيد
ومقاتل والأكثرون
والثاني حسبك الله ومتبعوك قاله مجاهد وعن الشعبي كالقولين
وأجاز الفراء والزجاج الوجهين وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أسلم مع رسول
الله صلى الله عليه و سلم تسعة وثلاثون ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فنزلت هذه الآية
قال أبو سليمان الدمشقي هذا لا يحفظ والسورة مدنية باجماع والقول الأول أصح
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين
وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله
عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف
يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين
قوله تعالى حرض المؤمنين على القتال قال الزجاج تأويله حثهم
وتأويل
التحريض في اللغة أن يحث الإنسان على الشيء حثا يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه
والحارض الذي قد قارب الهلاك
قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين لفظ هذا الكلام لفظ الخبر
ومعناه الأمر والمراد يقاتلوا مائتين وكان هذا فرضا في أول الأمر ثم نسخ بقوله لان
خفف الله عنكم ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين فان زادوا جاز له الفرار قال مجاهد
وهذا التشديد كان في يوم بدر واتفق القراء على قوله إن يكن منكم فقرؤوا يكن بالياء
واختلفوا في قوله وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا وفي قوله فان تكن منكم مائة صابرة
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بالتاء فيهما وقرأهما عاصم وحمزة والكسائي بالياء
وقرأ أبو عمرو يكن منكم مائة يغلبوا بالياء فان تكن منكم مائة صابرة بالتاء قال
الزجاج من أنث فللفظ المائة ومن ذكر فلأن المائة وقعت على عدد مذكر وقال أبو علي
من قرأ بالياء فلأنه أريد منه المذكر بدليل قوله يغلبوا وكذلك المائة الصابرة هم
رجال فقرؤوها بالياء لموضع التذكير فأما أبو عمرو فانه لما رأى صفة المائة مؤنثة
بقوله صابرة أنث الفعل ولما رأى يغلبوا مذكرا ذكر ومعنى الكلام إن يكن منكم عشرون
صابرون يثبتون عند اللقاء يغلبوا مائتين لأن المؤمنين يحتسبون أفعالهم وأهل الشرك
يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب فاذا صدقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا وذلك
معنى قوله لا يفقهون
قوله تعالى وعلم وروى المفضل وعلم بضم العين أن فيكم ضعفا بضم الضاد وقرأ عاصم
وحمزة بفتح الضاد وكذلك خلافهم في الروم قال الفراء الضم لغة قريش والفتح لغة تميم
قال الزجاج والمعنى في القراءتين
واحد
يقال هو الضعف والضعف والمكث والمكث والفقر والفقر وفي اللغة كثير من باب فعل وفعل
والمعنى واحد وقرأ أبو جعفر وعلم أن فيكم ضعفاء على فعلاء فأما قوله باذن الله فهو
إعلام بأن الغلبة لا تقع إلا بارادته
ما كان لنبي أن يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد
الآخرة والله عزيز حكيم
قوله تعالى ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض روى مسلم في افراده من
حديث عمر بن الخطاب قال لما هزم الله المشركين يوم بدر وقتل منهم سبعون واسر منهم
سبعون استشار النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر وعمر وعليا فقال أبو بكر يا نبي
الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما
أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا فقال رسول
الله ما ترى ياابن الخطاب قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من
فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من أخيه فلان
فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين هؤلاء صناديدهم
وأئمتهم وقادتهم فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء
فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا هو قاعد وأبو بكر
الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فان وجدت بكاء
بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال النبي صلى الله عليه و سلم أبكي للذي عرض علي
أصحابك من الفداء لقد عرض علي عذابكم
أدنى
من هذه الشجرة لشجرة قريبة فأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى إلى قوله عظيم
وروي عن ابن عمر قال لما أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
أنزل الله تعالى ما كان لنبي إلى قوله حلالا طيبا فلقي النبي صلى الله عليه و سلم
عمر فقال كاد يصيبنا في خلافك بلاء فأما الأسرى فهو جمع أسير وقد ذكرناه في البقرة
والجمهور قرؤوا أن يكون بالياء لأن الاسراء مذكرون وقرأ أبو عمرو أن تكون قال أبو
علي أنث على لفظ الاسرى لأن الاسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنث
اللفظ والأكثرون قرؤوا أسرى وكذلك لمن في أيديكم من الأسرى وقرأ أبو جعفر والمفضل
أسارى في الموضعين ووافقهما أبو عمرو وأبان في الثاني قال الزجاج والإثخان في كل
شيء قوة الشيء وشدته يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه والمعنى حتى يبالغ
في قتل أعدائه ويجوز أن يكون المعنى حتى يتمكن في الأرض قال المفسرون معنى الآية
ما كان لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء أو المن قبل الإثخان في الارض وكانت
غزاة
بدر
أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد
تريدون عرض الدنيا وهو المال وكان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قد فادوا يومئذ
بأربعة آلاف أربعة آلاف وفي قوله والله يريد الآخرة قولان
أحدهما يريد لكم الجنة قاله ابن عباس
والثاني يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة ذكره الماوردي
فصل
وقد روي عن ابن عباس و مجاهد في آ خرين أن هذه الآية منسوخة بقوله فاما منا ب فداء
وليس للنسخ وجه لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلة فلما كثروا واشتد سلطانهم نزلت
الآية الأخرى ويبين هذا قوله حتى يثخن في الأرض
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم
قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق في معناه خمسة أقوال
أحدها لولا أن الله كتب في أم الكتاب أنه سيحل لكم الغنائم لمسكم فيما تعجلتم من
المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذاب عظيم روى هذا المعنى علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس وبه قال مقاتل وقال أبو هريرة تعجل ناس من المسلمين فأصابوا
الغنائم فنزلت الآية
والثاني لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب من أتى ذنبا على جهالة
لعوقبتم
روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس وابن جريج عن مجاهد وقال ابن اسحاق سبق أن لا
أعذب إلا بعد النهي ولم يكن نهاهم
والثالث لولا ما سبق لأهل بدر أن الله لا يعذبهم لعذبتم قاله الحسن وابن جبير وابن
أبي نجيح عن مجاهد
والرابع لولا كتاب من الله سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ثم علم ما عليه فتاب
ذكره الزجاج
والخامس لولا القرآن الذي اقتضى غفران الصغائر لعذبتم ذكره الماوردي فيخرج في
الكتاب قولان
أحدهما أنه كتاب مكتوب حقيقة ثم فيه قولان أحدهما أنه ما كتبه الله في اللوح
والمحفوظ والثاني أنه القرآن
والثاني أنه بمعنى القضاء
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم يا أيها النبي قل لمن
في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر
لكم والله غفور رحيم
قوله تعالى فكلوا مما غنمتم قال الزجاج الفاء للجزاء والمعنى قد أحللت لكم الفداء
فكلوا والحلال منصوب على الحال قال مقاتل إن الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل
حلها رحيم بكم إذ أحلها لكم فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب
وخباب بن الأرت يوم بدر على القبض وقسمها
النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة وانطلق بالأسارى فيهم العباس وعقيل ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب فلم تحسب له من فدائه وكلف أن يفدي ابني أخيه فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب وقال النبي صلى الله عليه و سلم أضعفوا على العباس الفداء فأخذوا منه ثمانين أوقية وكان فداء كل أسير أربعين أوقية فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه و سلم لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي فقال له أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل فقال أي الذهب فقال إنك قلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فان حدث بي حدث فهو لك ولولدك فقال ابن أخي من أخبرك فقال الله أخبرني فقال العباس أشهد أنك صادق وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم وأمر ابني أخيه فأسلما وفيهم نزلت قل لمن في أيديكم من الأسارى الآية وروى العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في جميع من اسر يوم بدر وقال ابن زيد لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه رجال فقالوا لولا أنا نخاف هؤلاء القوم لأسلمنا ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فلما كان يوم بدر قال المشركون لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله فخرج أولئك القوم فقتلت طائفة منهم واسرت طائفة فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله فيهم الذين تتوفاهم الملائكة ظالمين أنفسهم وأما الذين أسروا فقالوا يا رسول الله أنت تعلم أنا كنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وإنما خرجنا مع هؤلاء خوفا منهم فذلك قوله قل لمن في أيديكم من الأسارى إلى قوله عليم حكيم فأما قوله إن يعلم الله في قلوبكم خيرا فمعناه إسلاما وصدقا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء وفيه قولان
أحدهما
أكثر مما أخذ منكم والثاني أحل وأطيب وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة وابن أبي عبلة مما
أخذ منكم بفتح الخاء يشيرون إلى الله تعالى وفي قوله ويغفر لكم قولان
أحدهما يغفر لكم كفركم وقتالكم رسول الله قاله الزجاج
والثاني يغفر لكم خروجكم مع المشركين قاله ابن زيد في تمام كلامه الأول
وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم
قوله تعالى وإن يريدوا خيانتك يعني إن أراد الأسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام فقد
خانوا الله من قبل إذ كفروا به قبل أسرهم وقال ابن زيد فقد خانوا بخروجهم مع
المشركين وقد ذكرنا عنه أنها نزلت في قوم تكلموا بالإسلام وقال مقاتل المعنى إن
خانوك أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتك ببدر قال الزجاج والله عليم بخيانة
إن خانوها حكيم في تدبيره عليهم ومجازاته إياهم
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا
أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى
يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق
والله بما تعملون بصير
قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله يعني
المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في نصرة الدين
والذين
آووا ونصروا يعني الأنصار آووا رسول الله وأسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم على
أعدائهم اولئك بعضهم أولياء بعض فيه قولان
أحدهما في النصرة والثاني في الميراث
قال المفسرون كانوا يتوارثون بالهجرة وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه
المهاجر وهو معنى قوله مالكم من ولايتهم من شيء قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن
عامر وعاصم والكسائي ولايتهم بفتح الواو وقرأ حمزة بكسر الواو قال الزجاج المعنى
ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا ومن كسر واو الولاية فهي بمنزلة الإمارة وإذا
فتحت فهي من النصرة وقال يونس النحوي الولاية بالفتح لله عز و جل والولاية بالكسر
من وليت الأمر وقال أبو عبيدة الولاية بالفتح للخالق والولاية للمخلوق قال ابن
الانباري الولاية بالفتح مصدر الولي والولاية مصدر الوالي يقال ولي بين الولاية
ووال بين الولاية فهذا هو الاختيار ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا وقال ابن فارس
الولاية بالفتح النصرة وقد تكسر والولاية بالكسر السلطان
فصل
وذهب قوم إلى أن المراد بهذه الولاية موالاة النصر والمودة قالوا ونسخ هذا الحكم
بقوله والمؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض فأما القائلون بأنها ولاية الميراث
فقالوا نسخت بقوله وأولو الأحام بعضهم أولى ببعض
قوله
تعالى وإن استنصروكم في الدين أي إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم
إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تغدروا بأرباب العهد وقال بعضهم لم
يكن على المهاجر أن ينصر من لم يهاجر إلا أن يستنصره
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين
آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم
مغفرة ورزق كريم
قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض فيه قولان
أحدهما في الميراث قاله ابن عباس
والثاني في النصرة قاله قتادة
وفي قوله إلا تفعلوه قولان
أحدهما أنه يرجع إلى الميراث فالمعنى إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم قاله ابن
عباس
والثاني أنه يرجع إلى التناصر فالمعنى إلا تتعانوا وتتناصروا في الدين قاله ابن
جريج وبيانه أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا حقا ويتبرأ من الكافر جدا أدى
ذلك إلى الضلال والفساد في الدين فاذا هجر المسلم أقاربه الكفار ونصر المسلمين كان
ذلك أدعى لأقاربه الكفار إلى الإسلام وترك الشرك
قوله تعالى وفساد كبير قرأ أبو هريرة وابن سيرين وابن السميفع كثير بالثاء
قوله
تعالى أولئك هم المؤمنون حقا أي هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة
والنصرة بخلاف من أقام بدار الشرك والرزق الكريم هو الحسن وذلك في الجنة
والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم
قوله تعالى والذين آمنوا من بعد أي من بعد المهاجرين الأولين قال ابن عباس هم
الذين هاجروا بعد الحديبية
قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض أي في المواريث بالهجرة قال ابن عباس
آخى رسول النبي الله صلى الله عليه و سلم بين أصحابه وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء
حتى نزلت هذه الآية فتوارثوا بالنسب
قوله تعالى في كتاب الله فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه اللوح المحفوظ
والثاني أنه القرآن وقد بين لهم قسمة الميراث في سورة النساء
والثالث أنه حكم الله ذكره الزجاج
سورة
التوبة
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين
فصل في نزولها
هي مدنية باجماعهم سوى الآيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فانها نزلت بمكة
روى البخاري في صحيحه من حديث البراء قال آخر سورة نزلت براءة وقد نقل عن بعض
العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السورة فقال الأعرابي إني لأحسب هذه من آخر ما نزل
من القرآن قيل له ومن أين علمت فقال إني لأسمع عهودا تنبذ ووصايا تنفذ
فصل
واختلفوا في أول ما نزل من براءة على ثلاثة اقوال
أحدها أن أول ما نزل منها قوله لقد نصركم الله في مواطن كثيرة قاله مجاهد
والثاني
انفروا خفافا وثقالا قاله أبو الضحى وأبو مالك
والثالث إلا تنصروه قاله مقاتل وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة
فانهم قد قالوا نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة
فصل
ولها تسعة أسماء أحدها سورة التوبة والثاني براءة وهذان مشهوران بين الناس والثالث
سورة العذاب قاله حذيفة والرابع المقشقشة قاله ابن عمر والخامس سورة البحوث لأنها
بحثت عن سرائر المنافقين قاله المقداد بن الأسود والسادس الفاضحة لأنها فضحت
المنافقين قاله ابن عباس والسابع المبعثرة لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن
سرائرهم قاله الحاث بن يزيد وابن إسحاق والثامن المثيرة لأنها أثارت مخازي
المنافقين ومثالبهم قاله قتادة والتاسع الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين قاله
الزجاج
فصل
وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال
أحدها رواه ابن عباس قال قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال
وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم
الله الرحمن الرحيم فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا
أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب فيقول ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا
وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها
شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبين لنا أنها منها فظننا
أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم وذكر نحو
هذا المعنى عن أبي بن كعب قال الزجاج والشبه الذي بينهما أن في الأنفال ذكر العهود
وفي براءة نقضها وكان قتادة يقول هما سورة واحدة
والثاني رواه محمد بن الحنفية قال قلت لأبي لم لم تكتبوا في براءة بسم الله الرحمن
الرحيم فقال يا بني إن براءة نزلت بالسيف وإن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وسئل
سفيان بن عيينة عن هذا فقال لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في
المنافقين
والثالث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كتب في صلح الحديبية بسم الله
الرحمن الرحيم لم يقبلوها وردوها فما ردها الله عليهم قاله عبد العزيز بن يحيى
المكي
فصل
فأما سبب نزولها فقال المفسرون أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع
رسول
الله صلى الله عليه و سلم فأمره الله تعالى بالقاء عهودهم إليهم فأنزل براءة في
سنة تسع فبعث رسول الله أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة
وبعث معه صدرا من براءة ليقرأها على أهل الموسم فلما سار دعا رسول الله صلى الله
عليه و سلم عليا فقال اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن في الناس بذلك فخرج علي
على ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم العضباء حتى أدرك أبا بكر فرجع أبو بكر
فقال يا رسول الله أنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني أما ترضى
أنك كنت صاحبي في الغار وأنك صاحبى على الحوض قال بلى يا رسول الله فسار أبو بكر
أميرا على الحج وسار علي ليؤذن ب براءة
فصل
وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى الله عليه و سلم من أول براءة خمسة أقوال
أحدها أربعون آية قاله علي عليه السلام والثاني ثلاثون آية قاله أبو هريرة والثالث
عشر آيات قاله أبو صالح عن ابن عباس والرابع سبع آيات رواه ابن جريج عن عطاء
والخامس تسع آيات قاله مقاتل
فصل
فان توهم متوهم أن في أخذ براءة من أبي بكر وتسليمها إلى علي تفضيلا لعلي على أبي
بكر فقد جهل لأن النبي صلى الله عليه و سلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم قال
الزجاج وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها أن
يتولى
ذلك على القبيلة رجل منها وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من
رهط النبي صلى الله عليه و سلم هذا خلاف ما نعراف فينا في نقض العهود فأزاح النبي
صلى الله عليه و سلم العلة بما فعل وقال عمرو بن بحر ليس هذا بتفضيل لعلي على أبي
بكر وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حل العقد وكان لا يتولى ذلك إلا السيد منهم
أو رجل من رهطه دنيا كأخ أو عم وقد كان أبو بكر في تلك الحجة الإمام وعلي ياتم به
وأبو بكر الخطيب وعلي يسمع وقال أبو هريرة بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذنين
الذين بعثهم يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فأذن
معنا علي ب براءة وبذلك الكلام وقال الشعبي بعث رسول الله عليا يؤذن بأربع كلمات
ألا لا يحج بعد العام مشرك ألا ولا يطوف بالبيت عريان ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم
ألا ومن كانت بينه وبين محمد مدة فأجله إلى مدته والله بريء من المشركين ورسوله
فصل
فأما التفسير فقوله تعالى براءة قال الفراء هي مرفوعة باضمار هذه ومثله سورة
أنزلناها وقال الزجاج يقال برئت من الرجل والدين براءة وبرئت من المرض وبرأت أيضا
أبرأ برءا وقد رووا برأت أبرؤ بروءا ولم نجد في مالامه همزة فعلت أفعل إلا هذا
الحرف ويقال بريت القلم وكل شيء نحته أبريه بريا غير مهموز وقرأ أبو رجاء ومورق
وابن يعمر براءة بالنصب قال المفسرون والبراءة هاهنا قطع الموالاة
وارتفاع
العصمة وزوال الأمان والخطاب في قوله إلى الذين عاهدتم لأصحاب رسول الله صلى الله
عليه و سلم والمراد رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه هو الذي كان يتولى
المعاهدة وأصحابه راضون فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضا وهذا عام في كل من عاهد رسول
الله صلى الله عليه و سلم وقال مقاتل هم ثلاثة أحياء من العرب خزاعة وبنو مدلج
وبنو خزيمة
فسيحوا في الأرض أربعة اشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين
قوله تعالى فسيحوا في الأرض أي انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم منا مكروه
إن قال قائل هذه مخاطبة شاهد والآية الأولى إخبار عن غائب فعنه جوابان
أحدهما أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب قال عنترة ... شطت مزار
العاشقين فأصبحت ... عسرا علي طلابك ابنة مخرم ...
هذا قول أبي عبيدة
والثاني أن في الكلام إضمارا تقديره فقل لهم سيحوا في الارض أي اذهبوا فيها
وأقبلوا وأدبروا وهذا قول الزجاج
واختلفوا فيمن جعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال
أحدها
أنها أمان لأصحاب العهد فمن كان عهده أكثر منها حط إليها ومن كان عهده أقل منها
رفع إليها ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاح المحرم خمسون ليلة قاله ابن عباس وقتادة
والضحاك
والثاني أنها للمشركين كافة من له عهد ومن ليس له عهد قاله مجاهد والزهري والقرظي
والثالث أنها أجل لمن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد آمنه أقل من أربعة
أشهر أو كان أمانه غير محدود فأما من لا أمان له فهو حرب قاله ابن اسحاق
والرابع أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد فأما أرباب العهود فهم على عهودهم
إلى حين انقضاء مددهم قاله ابن السائب ويؤكده ما روي أن عليا نادى يومئذ ومن كان
بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته وفي بعض الألفاظ فأجله أربعة أشهر
واختلفوا في مدة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال
أحدها أنها الأشهر الحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم قاله ابن عباس
والثاني أن أولها يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر وآخرها العاشر من ربيع الآخر قاله
مجاهد والسدي والقرظي
والثالث أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال قاله
الزهري قال أبو سليمان الدمشقي وهذا أضعف الأقوال لأنه لو كان كذلك لم يجز تأخير
إعلامهم به إلى ذي الحجة إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام
والرابع أن أولها العاشر من ذي القعدة وآخرها العاشر من ربيع الأول لأن الحج في
تلك السنة كان في ذلك اليوم ثم صار في السنة الثانية في العشر
من
ذي الحجة وفيها حج رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال إن الزمان قد استدار ذكره
الماوردي
قوله تعالى واعلموا أنكم غير معجزي الله أي وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر فلن
تفوتوا الله
قوله تعالى وأن الله مخزي الكافرين قال الزجاج الأجود فتح أن على معنى اعلموا أن
ويجوز كسرها على الاستئناف وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله
فان تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا
بعذاب أليم
قوله
تعالى وأذان من الله ورسوله أي إعلام ومنه أذان الصلاة وقرأ الضحاك وأبو المتوكل
وعكرمة والجحدري وابن يعمر وإذن بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف
قوله تعالى إلى الناس أي للناس يقال هذا إعلام لك وإليك والناس هاهنا عام في
المؤمنين والمشركين وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم عرفة قاله عمر بن الخطاب وابن الزبير وأبو جحيفة وطاووس وعطاء
والثاني يوم النحر قاله أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وعبد الله ابن أبي أوفى
وابن المسيب وابن جبير وعكرمة والشعبي والنخعي والزهري وابن زيد والسدي في آخرين
وعن علي وابن عباس كالقولين
والثالث أنه أيام الحج كلها فعبر عن الأيام باليوم قاله سفيان الثوري قال سفيان
كما يقال يوم بعاث ويوم الجمل ويوم صفين يراد به أيام ذلك لا كل حرب من هذه الحروب
دامت أياما وعن مجاهد كالأقوال الثلاثة
وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال
أحدها أنه سماه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون ووافق ذلك عيد
اليهود والنصارى قاله الحسن
والثاني أن الحج الأكبر هو الحج والأصغر هو العمرة قاله عطاء والشعبي
والثالث أن الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد قاله مجاهد
قوله تعالى إن الله بريء وقرأ الحسن ومجاهد وابن يعمر إن الله بكسر الهمزة من المشركين
أي من عهد المشركين فحذف المضاف
ورسوله
رفع على الابتداء وخبره مضمر على معنى ورسوله أيضا بريء وقرأ أبو رزين وأبو مجلز
وأبو رجاء ومجاهد وابن يعمر وزيد عن يعقوب ورسوله بالنصب ثم رجع إلى خطاب المشركين
بقوله فان تبتم أي رجعتم عن الشرك وإن توليتم عن الإيمان
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا
إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين
قوله تعالى إلا الذين عاهدتم من المشركين قال أبو صالح عن ابن عباس فلما قرأ علي
براءة قالت بنو ضمرة ونحن مثلهم أيضا قال لا لأن الله تعالى قد استثناكم ثم قرأ
هذه الآية وقال مجاهد هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد
ومدة فأمر أن يفي لهم قال الزجاج معنى الكلام وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين
للعهود إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم فليسوا داخلين في البراءة مالم ينقضوا العهد
قال القاضي أبو يعلى وفصل الخطاب في هذا الباب أنه قد كان بين رسول الله صلى الله
عليه و سلم وبين جميع المشركين عهد عام وهو أن لا يصد أحد عن البيت ولا يخاف أحد
في الشهر الحرام فجعل الله عهدهم أربعة اشهر وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى
آجال مسماة فأمر بالوفاء لهم وإتمام مدتهم إذا لم يخش غدرهم
فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا
لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلواة وآتوا الزكواة فخلوا سبيلهم إن الله غفور
رحيم
قوله
تعالى فاذا انسلخ الأشهر الحرم فيها قولان
أحدهما أنها رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم قاله الأكثرون
والثاني أنها الأربعة الأشهر التي جعلت لهم فيها السياحة قاله الحسن في آخرين فعلى
هذا سميت حرما لأن دماء المشركين حرمت فيها
قوله تعالى فاقتلوا المشركين أي من لم يكن له عهد حيث وجدتموهم قال ابن عباس في الحل
والحرم والأشهر الحرم
قوله تعالى وخذوهم أي ائسروهم والأخيذ الأسير واحصروهم أي احبسوهم والحصر الحبس
قال ابن عباس إن تحصنوا فاحصروهم
قوله تعالى واقعدوا لهم كل مرصد قال الأخفش أي على كل مرصد فألقى على واعمل الفعل
قال الشاعر ... نغالي اللحم للأضياف نيئا ... ونرخصه إذا نضج القدور ...
المعنى نغالي باللحم فحذف الباء كما حذف على وقال الزجاج كل مرصد ظرف كقولك ذهبت
مذهبا فلست تحتاج أن تقول في هذه الآية إلا ما تقوله في الظروف مثل خلف وقدام
قوله تعالى فان تابوا أي من شركهم
وفي قوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة قولان
أحدهما اعترفوا بذلك والثاني فعلوه
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها
أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ثم نسخ بقوله فاما منا بعد وإما فداء قاله الحسن
وعطاء في آخرين
والثاني بالعكس وأنه كان الحكم في الأسارى أنه لا يجوز قتلهم صبرا وإنما يجوز المن
أو الفداء بقوله فاما منا بعد وإما فداء ثم نسخ بقوله فاقتلوا المشركين قاله مجاهد
وقتادة
والثالث أن الآيتين محكمتان والأسير إذا حصل في يد الإمام فهو مخير إن شاء من عليه
وإن شاء فاداه وإن شاء قتله صبرا أي ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعل هذا قول
جابر بن زيد وعليه عامة الفقهاء وهو قول الإمام أحمد
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم
قوم لا يعلمون
قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك قال المفسرون وإن أحد من المشركين الذين
أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أمر به ونهي عنه فأجره ثم
أبلغه الموضع الذي يأمن فيه
وفي قوله ذلك بأنهم قوم لا يعلمون قولان
أحدهما أن المعنى ذلك الذي أمرناك به من أن يعرفوا ويجاروا لجهلهم بالعلم
والثاني ذلك الذي أمرناك به من رده إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان لأنهم قوم جهلة
بخطاب الله
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام
فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين
قوله
تعالى كيف يكون للمشركين عهد أي لا يكون لهم ذلك إلا الذين عاهدتم عند المسجد
الحرام وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم بنو ضمرة قاله ابن عباس
والثاني أنهم قريش قاله ابن عباس أيضا وقال قتادة هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي
الله صلى الله عليه و سلم زمن الحديبية فنكثوا وظاهروا المشركين
والثالث أنهم خزاعة قاله مجاهد وذكر أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه
و سلم لما صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية كتب بينه وبينه هذا ما اصطلح عليه
محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس
ويكف بعضهم عن بعض على أنه لا إسلال ولا إغلال وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه من أحب
أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل وأنه من
أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده إليه وأنه من أتى قريشا من اصحاب محمد لم يردوه
وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا وأصحابه ويدخل علينا في قابل في أصحابه فيقيم بها
ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القرب فوثبت خزاعة فقالوا
نحن ندخل في عهد محمد وعقده ووثبت بنو بكر فقالوا نحن ندخل في عهد قريش وعقدها ثم
إن قريشا أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيتوا خزاعة ليلا فقتلوا منهم
عشرين رجلا ثم إن قريشا ندمت على ما صنعت وعلموا أن هذا نقض للعهد والمدة التي
بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم فأخبروه بما أصابهم فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح قال أبو عبيدة
الإسلال السرقة والإغلال الخيانة قال ابن الأعرابي وقوله وأن بيننا عيبة مكفوفة
مثل أراد أن صلحنا
محكم
مستوثق منه كأنه عيبة مشرجة وزعم بعض المفسرين أن قوله إلا الذين عاهدتم عند
المسجد الحرام نسخ بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم
وأكثرهم فاسقون
قوله تعالى كيف وإن يظهروا عليكم قال الزجاج المعنى كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا
عليكم فحذف ذلك لأنه قد سبق قال الشاعر ... وخبرتماني أنما الموت بالقرى ... فكيف
وهذي هضبة وقليب ...
أي فكيف مات وليس بقرية ومثله قول الحطيئة ... فكيف ولم أعلمهم خذلوكم ... على
معظم ولا أديمكم قدوا ...
أي فكيف تلومونني على مدح قوم واستغني عن ذكر ذلك لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل
على ما أضمر وقوله يظهروا يعني يقدروا ويظفروا
وفي قوله لا يرقبوا ثلاثة اقوال
أحدها لا يحفظوا والثاني لا يخافوا قاله السدي والثالث لا يراعوا قاله قطرب
وفي الإل خمسة أقوال
أحدها
أنه القرابة رواه جماعة عن ابن عباس وبه قال الضحاك والسدي ومقاتل والفراء وأنشدوا
إن الوشاة كثير إن أطعتهم ... لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما ...
وقال الآخر ... لعمرك إن إلك من قريش ... كإل السقب من رأل النعام ...
والثاني أنه الجوار قاله الحسن
والثالث أنه الله تعالى رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال عكرمة
والرابع أنه العهد رواه خصيف عن مجاهد وبه قال ابن زيد وأبو عبيدة
والخامس أنه الحلف قاله قتادة وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن
مصرف إيلا بياء بعد الهمزة وقرأ ابن السميفع والجحدري ألا بفتح الهمزة وتشديد
اللام وفي المراد بالذمة ثلاثة اقوال
أحدها أنها العهد قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك في آخرين
والثاني التذمم ممن لا عهد له قاله أبو عبيدة وأنشد ... لا يرقبون بنا إلا ولا
ذمما ...
والثالث الأمان قاله اليزيدي واستشهد بقوله ويسعى بذمتهم أدناهم
قوله
تعالى يرضونكم بأفواههم فيه ثلاثة أقوال
أحدها يرضونكم بأفواههم في الوفاء وتأبى قلوبهم إلا الغدر
والثاني يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان وتأبى قلوبهم إلا الشرك
والثالث يرضونكم بأفواههم في الطاعة وتأبى قلوبهم إلا المعصية ذكرهن الماوردي
قوله تعالى وأكثرهم فاسقون قال ابن عباس خارجون عن الصدق ناكثون للعهد
إشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون
في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فاخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون
قوله تعالى اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا في المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه قاله مجاهد
والثاني أنهم قوم من اليهود قاله أبو صالح فعلى الأول آيات الله حججه وعلى الثاني
هي آيات التوراة والثمن القليل ما حصلوه بدلا من الآيات وفي وصفه بالقليل وجهان
أحدهما لأنه حرام والحرام قليل والثاني لأنه من عرض الدنيا الذي بقاؤه قليل وفي
قوله فصدوا عن سبيله ثلاثة اقوال
أحدها عن بيته وذلك حين منعوا النبي صلى الله عليه و سلم بالحديبية دخول مكة
والثاني عن دينه يمنع الناس منه والثالث عن طاعته في الوفاء بالعهد
وإن
نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم
لعلهم ينتهون
قوله تعالى وإن نكثوا أيمانهم قال ابن عباس نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن
هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين
أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن
يسير إليهم فينصر خزاعة وهم الذين هموا باخراج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما
النكث فمعناه النقض والإيمان هاهنا العهود والطعن في الدين أن يعاب وهذا يوجب قتل
الذمي إذا طعن في الإسلام لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه
قوله تعالى فقاتلوا أئمة الكفر قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي أئمة بتحقيق
الهمزتين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتليين الثانية والمراد
بأئمة الكفر رؤوس المشركين وقادتهم أنهم لا أيمان لهم أي لا عهود لهم صادقة هذا
على قراءة من فتح الألف وهم الأكثرون وقرأ ابن عامر لا إيمان لهم بالكسر وفيها
وجهان ذكرهما الزجاج
أحدهما أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان والثاني لا أمان لهم تقول آمنته إيمانا
والمعنى فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم
وفي
قوله لعلهم ينتهون قولان
أحدهما عن الشرك والثاني عن نقض العهود
وفي لعل قولان
احدهما أنها بمعنى الترجي المعنى ليرجى منهم الانتهاء قاله الزجاج
والثاني أنها بمعنى كي قاله أبو سليمان الدمشقي
الا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم
فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم
عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم
حكيم
قوله تعالى ألا تقاتلون قوما قال الزجاج هذا على وجه التوبيخ ومعناه الحض على
قتالهم قال المفسرون وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي
عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة
وفي قوله وهموا باخراج الرسول قولان
أحدهما أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش كانوا فيمن هم باخراج النبي صلى الله عليه
و سلم من مكة
والثاني انهم قوم من اليهود غدروا برسول الله صلى الله عليه و سلم ونقضوا عهده
وهموا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة
قوله تعالى وهم بدؤوكم أول مرة فيه قولان
أحدهما بدؤوكم باعانتهم على حلفائكم قاله ابن عباس
والثاني بالقتال يوم بدر قاله مقاتل
قوله
تعالى أتخشونهم قال الزجاج أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه فمكروه عذاب الله أحق
أن يخشى إن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه
قوله تعالى ويشف صدور قوم مؤمنين قال ابن عباس ومجاهد يعني خزاعة
قوله تعالى ويذهب غيظ قلوبهم أي كربها ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليها
قوله تعالى ويتوب الله على من يشاء قال الزجاج هو مستأنف وليس بجواب قاتلوهم وفيمن
عني به قولان
أحدهما بنو خزاعة والمعنى ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة قاله عكرمة
والثاني أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان وعكرمة وسهيل والله عليم بنيات
المؤمنين حكيم فيما قضى
أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا
رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون
قوله تعالى أم حسبتم أن تتركوا في المخاطب بهذا قولان
أحدهما أنهم المؤمنون خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال قاله الأكثرون
والثاني أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم الخروج
معه إلى الجهاد تعذيرا قاله ابن عباس وإنما دخلت الميم في الاستفهام لأنه استفهام
معترض
في وسط الكلام فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ قال الفراء ولو أريد به
الابتداء لكان إما بالألف أو ب هل ومعنى الكلام أن تتركوا بغير امتحان يبين به
الصادق من الكاذب ولما يعلم الله أي ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم وقد كان
يعلم ذلك غيبا فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل
فأما الوليجة فقال ابن قتيبة هي البطانة من غير المسلمين وهو أن يتخذ الرجل من
المسلمين دخيلا من المشركين وخليطا ووادا وأصله من الولوج قال أبو عبيدة وكل شيء
أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على انفسهم بالكفر أولئك حبطت
أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر
واقام الصلواة وآتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين
قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله قرأ ابن كثير وأبو عمرو مسجد الله
على التوحيد إنما يعمر مساجد الله على الجمع وقرأ عاصم ونافع وابن عامر وحمزة
والكسائي على الجمع فيهما وسبب نزولها أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر فيهم
العباس بن عبد المطلب فأقبل عليهم نفر من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
فعيروهم بالشرك وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه و
سلم وقطيعة الرحم فقال العباس مالكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا فقالوا وهل
لكم من محاسن قالوا
نعم
لنحن أفضل منكم أجرا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك
العاني فنزلت هذه الآية قاله مقاتل في جماعة
وفي المراد بالعمارة قولان
أحدهما دخوله والجلوس فيه والثاني البناء له وإصلاحه فكلاهما محظور على الكافر
والمراد من قوله ما كان للمشركين أي يجب على المسلمين منعهم من ذلك قال الزجاج
وقوله شاهدين حال المعنى ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر أولئك حبطت
أعمالهم لأن كفرهم اذهب ثوابها
فان قيل كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر وهم يعتقدون أنهم على الصواب فعنه ثلاثة
أجوبة
أحدها أنه قول اليهودي أنا يهودي وقول النصراني أنا نصراني قاله السدي
والثاني أنهم ثبتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبي صلى الله عليه و سلم وهو
حق لا يخفى على مميز فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه
والثالث أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمد صلى الله عليه و سلم بالتصديق وحرضوا على
اتباعه فلما آمنوا بهم وكذبوه دلوا على كفرهم وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم
بالكفر لأن الشهادة هي تبيين وإظهار ذكرهما ابن الانباري
فان قيل ما وجه قوله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ولم يذكر
الرسول والإيمان لا يتم إلا به فالجواب أن فيه دليلا على الرسول لقوله واقام
الصلاة أي الصلاة التي جاء بها الرسول قاله الزجاج فان قيل فعسى ترج وفاعل هذه
الخصال مهتد بلا شك فالجواب أن عسى
من
الله واجبة قاله ابن عباس فان قيل قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات
فالجواب أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة كان من أهل عمارتها وليس
المراد أن من عمرها كان بهذه الصفة
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في
سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا
وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله
عنده أجر عظيم
قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج في سبب نزولها ستة اقوال
أحدها رواه مسلم في صحيحه من حديث النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج
وقال الآخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال
آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند مبز
رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يوم الجمعة ولكني إذا صليت الجمعة دخلت
فاستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فنزلت هذه الآية
والثاني
أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد
لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الآية رواه علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أن المشركين قالوا عمارة بيت الله الحرام والقيام على السقاية خير ممن آمن
وجاهد وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله فنزلت هذه الآية رواه عطية العوفي
عن ابن عباس
والرابع أن عليا والعباس وطلحة يعني سادن الكعبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت
بيدي مفتاحه ولوأشاء بت فيه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء
بت في المسجد وقال علي ما أدري ما تقولون لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب
الجهاد فنزلت هذه الآية قاله الحسن والشعبي والقرظي
والخامس أنهم لما أمروا بالهجرة قال العباس أنا أسقي الحاج وقال طلحة أنا صاحب
الكعبة فلا نهاجر فنزلت هذه الآية والتي بعدها قاله مجاهد هكذا ذكر مجاهد وإنما
الصواب عثمان بن طلحة لأن طلحة هذا لم يسلم
والسادس أن عليا قال للعباس ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه و سلم فقال ألست في
أفضل من الهجرة ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام فنزلت هذه الآية والتي
بعدها قاله المرة الهمداني وابن سيرين قال الزجاج ومعنى الآية أجعلتم أهل سقاية
الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله فحذف المضاف واقام المضاف إليه
مقامه قال الحسن كان ينبذ زبيب فيسقون
الحاج
في الموسم وقال ابن عباس عمارة المسجد تجميره وتخليقه فأخبر الله أن أفعالهم تلك
لا تنفعهم مع الشرك وسماهم ظالمين لشركهم
قوله تعالى أعظم درجة قال الزجاج هو منصوب على التمييز والمعنى أعظم من غيرهم درجة
والفائز الذي يظفر بأمنيته من الخير فأما النعيم فهو لين العيش والمقيم الدائم
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على
الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون
قوله تعالى لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أنه لما أمر المسلمون بالهجرة جعل الرجل يقول لأهله إنا قد أمرنا بالهجرة
فمنهم من يسرع إلى ذلك ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته فيقولون ننشدك الله أن
تدعنا إلى غير شيء فيرق قلبه فيجلس معهم فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن
عباس
والثاني أنه لما أمر الله المؤمنين بالهجرة قال المسلمون يا نبي الله إن نحن
اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت ديارنا فنزلت
هذه الآية قاله الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنه لما قال العباس أنا أسقي الحاج وقال طلحة أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر
نزلت هذه الآية والتي قبلها هذا قول قتادة وقد ذكرناه عن مجاهد
والرابع أن نفرا ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله عن ولايتهم وأنزل هذه الآية
قاله مقاتل
والخامس
أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش قال أبو
بكر الصديق يا رسول الله نعاونهم على قومنا فنزلت هذه الآية ذكره أبو سليمان
الدمشقي
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة
تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى
يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين
قوله تعالى قل إن كان آباؤكم الآية في سبب نزولها ثلاثة اقوال
أحدها أنها نزلت في الذين تخلفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا قاله أبو صالح عن ابن
عباس
والثاني أن علي بن أبي طالب قدم مكة فقال لقوم ألا تهاجرون فقالوا نقيم مع إخواننا
وعشائرنا ومساكننا فنزلت هذه الآية قاله ابن سيرين
والثالث أنه لما نزلت الآية التي قبلها قالوا يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من
خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وعشيرتنا وذهبت تجارتنا وخربت ديارنا فنزلت هذه
الآية ذكره بعض المفسرين في هذه الآية وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن
ابن عباس فأما العشيرة فهم الأقارب الأدنون وروى أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم على
الجمع قال أبو علي وجهه أن كل واحد من المخاطبين له عشيرة فاذا جمعت قلت عشيراتكم
وحجة من افرد أن العشيرة واقعة على الجمع فاستغنى بذلك عن جمعها وقال الأخفش لا
تكاد
العرب
تجمع عشيرة عشيرات إنما يجمعونها على عشائر والاقتراف بمعنى الاكتساب والتربص
الانتظار
وفي قوله حتى يأتي الله بأمره قولان
أحدهما أنه فتح مكة قاله مجاهد والأكثرون ومعنى الآية إن كان المقام في أهاليكم
وكانت الأموال التي اكتسبتموها وتجارة تخشون كسادها لفراقكم بلدكم ومساكن ترضونها
أحب إليكم من الهجرة فأقيموا غير مثابين حتى تفتح مكة فيسقط فرض الهجرة
والثاني أنه العقاب قاله الحسن
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا
وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
قوله تعالى لقد نصركم الله في مواطن كثيرة أي في أماكن قال الفراء وكل جمع كانت
فيه الف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يجر مثل صوامع ومساجد وجرى حنين لأنه اسم
لمذكر وهو واد بين مكة والطائف وإذا سميت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكر لا علة
فيه أجريته من ذلك حنين وبدر وحراء وثبير ودابق ومعنى الآية أن الله عز و جل
أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال
أحدها أنهم كانوا ستة عشر ألفا رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني عشرة آلاف رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث
كانوا اثني عشر ألفا قاله قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي
والرابع أحد عشر ألفا وخمسمائة قاله مقاتل قال ابن عباس فقال ذلك اليوم سلمة بن
سلامة بن وقش وقد عجب لكثرة الناس لن تغلب اليوم من قلة فساء رسول الله صلى الله
عليه و سلم كلامه ووكلوا إلى كلمة الرجل فذلك قوله إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم
شيئا وقال سعيد بن المسيب القائل لذلك أبو بكر الصديق وحكى ابن جرير أن القائل
لذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل بل العباس وقيل رجل من بني بكر
قوله تعالى وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي برحبها قال الفراء والباء هاهنا بمنزلة
في كما تقول ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها
الإشارة إلى القصة
قال أهل العلم بالسيرة لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة تآمر عليه أشراف
هوازن وثقيف فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس وأجمعوا المسير إليه فخرج إليهم رسول الله صلى
الله عليه و سلم فلما التقوا أعجبتهم كثرتهم فهزموا
وقال البراء بن عازب لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فأقبلوا بالسهام
فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعضهم يقول
ثبت
مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي
والعباس وأبو سفيان بن الحارث
وبعضهم يقول لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان فجعل النبي يقول للعباس ناد يا معشر
الأنصار يا أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة فنادى وكان صيتا فأقبلوا كأنهم
الإبل إذا حنت إلى أولادها يقولون يا لبيك فنظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى
قتالهم فقال الآن حمي الوطيس أنا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب ثم قال للعباس
ناولني الحصيات فناوله فقال شاهت الوجوه ورمى بها وقال انهزموا ورب الكعبة فقذف
الله في قلوبهم الرعب فانهزموا وقيل أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم كفا من
تراب فرماهم به فانهزموا وكانوا يقولون ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتراب
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين
كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم
قوله تعالى ثم أنزل الله سكينته أي بعد الهزيمة قال أبو عبيدة هي فعليه من السكون
وأنشد
لله
قبر غالها ماذا يجن ... لقد أجن سكينة ووقارا ...
وكذلك قال المفسرون الأمن والطمأنينة
قوله تعالى وأنزل جنودا لم تروها قال ابن عباس يعني الملائكة وفي عددهم يومئذ
ثلاثة أقوال
أحدها ستة عشر ألفا قاله الحسن والثاني خمسة آلاف قاله سعيد ابن جبير والثالث
ثمانية قاله مجاهد يعني ثمانية آلاف وهل قاتلت الملائكة يومئذ أم لا فيه قولان
وفي قوله وعذب الذين كفروا أربعة أقوال
أحدها بالقتل قاله ابن عباس والسدي والثاني بالقتل والهزيمة قاله ابن أبزى ومقاتل
والثالث بالخوف والحذر ذكره الماوردي والرابع بالقتل والأسر وسبي الأولاد وأخذ
الأموال ذكره بعض ناقلي التفسير
قوله تعالى ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء أي يوفقه للتوبة من الشرك
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم
قوله تعالى إنما المشركون نجس قال أبو عبيدة معناه قذر قال الزجاج يقال لكل شيء
مستقذر نجس وقال الفراء لا تكاد العرب تقول نجس إلا وقبلها رجس فاذا أفردوها قالوا
نجس
وفي
المراد بكونهم نجسا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أنجاس الأبدان كالكلب والخنزير حكاه الماوردي عن الحسن وعمر بن عبد
العزيز وروى ابن جرير عن الحسن قال من صافحهم فليتوضأ
والثاني أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة وإن لم تكن أبدانهم
أنجاسا قاله قتادة
والثالث أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس صاروا بحكم الاجتناب
كالأنجاس وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح
قوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام قال أهل التفسير يريد جميع الحرم بعد عامهم
هذا وهو سنة تسع من الهجرة وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقرئت براءة وقد أخذ
أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية وأنه يحرم عليهم دخول الحرم وهو قول مالك والشافعي
واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد فروي عنه المنع أيضا
إلا لحاجة كالحرم وهو قول مالك وروي عنه جواز ذلك وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة
يجوز لهم دخول المسجد الحرام وسائر المساجد
قوله تعالى وإن خفتم عيلة وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود والشعبي وابن السميفع
عايلة قال سعيد بن جبير لما نزلت إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا شق على المسلمين وقالوا من يأتينا بطعامنا وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة
فنزلت وإن خفتم عيلة الآية قال الأخفش العيلة الفقر يقال عال يعيل عيلة إذا افتقر
وأعال إعالة فهو
يعيل
إذا صار صاحب عيال وقال أبو عبيدة العيلة هاهنا مصدر عال فلان إذا افتقر وأنشد ...
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل ...
وللمفسرين في قوله وإن قولان
أحدهما أنها للشرط وهو الأظهر
والثاني أنها بمعنى وإذ قاله عمرو بن فايد قالوا وإنما خاف المسلمون الفقر لأن
المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم ويجيئون بالطعام وغيره
وفي قوله فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ثلاثة اقوال
أحدها أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم فكثر خيرهم قاله عكرمة
والثاني أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب قاله قتادة والضحاك
والثالث أن أهل نجد وجرش وأهل صنعاء أسلموا فحملوا الطعام إلى مكة على الظهر
فأغناهم الله به قاله مقاتل
قوله تعالى إن الله عليم قال ابن عباس عليم بما يصلحكم حكيم فيما حكم في المشركين
قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون
دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله قال المفسرون نزلت في اليهود والنصارى
قال الزجاج ومعناها لا يؤمنون بالله إيمان الموحدين لأنهم أقروا بأنه خالقهم وأنه
له ولد وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون وقال
الماوردي إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه وهم لا يقرون بها فكانوا كمن
لا يقر به
قوله تعالى ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله قال سعيد بن جبير يعني الخمر والخنزير
قوله تعالى ولا يدينون دين الحق في الحق قولان
أحدهما أنه اسم الله فالمعنى دين الله قاله قتادة
والثاني أنه صفة للدين والمعنى ولا يدينون الدين الحق فاضاف الاسم إلى الصفة وفي
معنى يدينون قولان
أحدهما
أنه بمعنى الطاعة والمعنى لا يطيعون الله طاعة حق قاله أبو عبيدة والثاني أنه من
دان الرجل يدين كذا إذا التزمه ثم في جملة الكلام قولان
أحدهما أن المعنى لا يدخلون في دين محمد صلى الله عليه و سلم لأنه ناسخ لما قبله
والثاني لا يعملون بما في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى حتى يعطوا الجزية قال ابن الانباري الجزية الخراج المجعول عليهم سميت
جزية لانها قضاء لما عليهم أخذ من قولهم جزى يجزي إذا قضى ومنه قوله تعالى لا تجزى
نفس عن نفس شيئا وقوله ولا تجزي عن أحد بعدك وفي قوله عن يد ستة اقوال
أحدها عن قهر قاله قتادة والسدي وقال الزجاج عن قهر وذل
والثاني أنه النقد العاجل قاله شريك وعثمان بن مقسم
والثالث أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء لا إعطاء المكافئ قاله ابن قتيبة
والرابع أن المعنى عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم
والخامس عن إنعام عليهم بذلك لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم حكاهما الزجاج
والسادس يؤدونها بأيديهم ولا ينفذونها مع رسلهم ذكره الماوردي
قوله
تعالى وهم صاغرون الصاغر الذليل الحقير
وفي ما يكلفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال
أحدها أن يمشوا بها ملببين رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني أن لا يحمدوا على
إعطائهم قاله سلمان الفارسي والثالث أن يكونوا قياما والآخذ جالسا قاله عكرمة
والرابع أن دفع الجزية هو الصغار والخامس أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار
فصل
واختلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار فالمشهور عن أحمد أنها لا تقبل إلا من
اليهود والنصارى والمجوس وبه قال الشافعي ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد أنه من سبي
من أهل الأديان من العرب والعجم فالعرب إن أسلموا وإلا السيف وأولئك إن أسلموا
وإلا الجزية فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط
وهو قول أبي حنيفة ومالك
فصل
فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية فهم أهل القتال فأما الزمن والأعمى والمفلوج
والشيخ الفاني والنساء والصبيان والراهب الذي لا يخالط الناس فلا تؤخذ منهم
فصل
فأما مقدارها فقال أصحابنا على الموسر ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة
وعشرون وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر وهو قول أبي حنيفة وقول مالك على أهل الذهب
أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعون درهما وسواء في ذلك الغني والفقير وقال
الشافعي على الغني والفقير دينار وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم نقل
الأثرم عن أحمد أنها تزاد وتنقص على قدر طاقتهم فظاهر هذا أنها على اجتهاد الإمام
ورأيه ونقل يعقوب بن بختان أنه لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك وله أن يزيد
فصل
ووقت وجوب الجزية آخر الحول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تجب في أول الحول فأما
إذا دخلت سنة في سنة فهل تسقط جزية السنة الماضية عندنا لا تسقط وقال أبو حنيفة
تسقط فأما إذا أسلم فانها تسقط بالإسلام فأما إن مات فكان ابن حامد يقول لا تسقط
وقال القاضي أبو يعلى يحتمل أن تسقط
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا
هو سبحانه عما يشركون
423
قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وحمزة عزير ابن الله بغير تنوين وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو منونا قال مكي بن أبي طالب من نون عزيرا رفعه على الابتداء وابن خبره ولا يحسن حذف التنوين على هذا من عزير لالتقاء الساكنين ولا تحذف ألف ابن من الخط ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين ومن لم ينون عزيرا جعله أيضا مبتدأ وابن صفة له فيحذف التنوين على هذا استخفافا لالتقاء الساكنين ولأن الصفة مع الموصوف كالشيء الواحد وتحذف ألف ابن من الخط والخبر مضمر تقديره عزير بن الله نبينا وصاحبنا وسبب نزولها أن سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال ابن عمر وابن جريج إن القائل لذلك فنحاص فأما العزير فقال شيخنا أبو منصور اللغوي هو اسم أعجمي معرب وإن وافق لفظ العربية فهو عبراني كذا قرأته عليه وقال مكي بن أبي طالب العزير عند كل النحويين عربي مشتق من قوله يعزروه وقال ابن عباس إنما قالوا ذلك لأنهم لما علموا بغير الحق أنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم فدعا عزير الله تعالى فعاد إليه الذي نسخ من صدروهم ونزل نور من السماء فدخل جوفه فأذن في قومه فقال قد آتاني الله التوراة فقالوا ما أوتيها إلا لأنه ابن الله وفي رواية عن ابن عباس أن بختنصر
لما
ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير غلاما فتركه فلما
توفي عزير ببابل ومكث مائة عام ثم بعثه الله تعالى إلى بني اسرائيل فقال أنا عزير
فكذبوه وقالوا قد حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات ببابل فان كنت عزيرا فأملل علينا
التوراة فكتبها لهم فقالوا هذا ابن الله
وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال
أحدها أنهم جميع بني اسرائيل روي عن ابن عباس والثاني طائفة من سلفهم قاله
الماوردي والثالث جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيهم قولان
أحدهما فنحاص وحده وقد ذكرناه عن ابن عمر وابن جريج
والثاني الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس
فان قيل إن كان قول بعضهم فلم أضيف إلى جميعهم فعنه جوابان
أحدهما أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة تقول العرب جئت من البصرة
على البغال وإن كان لم يركب إلا بغلا واحدا
والثاني أن من لم يقله لم ينكره
قوله تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله في سبب قولهم هذا قولان
أحدهما لكونه ولد من غير ذكر
والثاني لأنه أحيى الموتى وأبرأ الكمة والبرص وقد شرحنا هذا المعنى في المائدة
قوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم إن قال قائل هذا معلوم فما فائدته فالجواب أن
المعنى أنه قول بالفم لا بيان فيه ولا برهان ولا تحته معنى صحيح قاله الزجاج
قوله تعالى يضاهون قرأ الجمهور من غير همز وقرأ عاصم
يضاهئون
قال ثعلب لم يتابع عاصما أحد على الهمز قال الفراء وهي لغة قال الزجاج يضاهون
يشابهون قول من تقدمهم من كفرتهم فانما قالوه اتباعا لمتقدميهم وأصل المضاهاة في
اللغة المشابهة والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا ينبت
لها ثدي وقيل هي التي لا تحيض والمعنى أنها قد أشبهت الرجال قال ابن الانباري يقال
ضاهيت وضاهأت إذا شبهت وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم عبدة الأوثان والمعنى أن أولئك قالوا الملائكة بنات الله قاله ابن عباس
والثاني أنهم اليهود فالمعنى أن النصارى في قولهم المسيح ابن الله شابهوا اليهود
في قولهم عزير ابن الله قاله قتادة والسدي
والثالث أنهم أسلافهم تابعوهم في أقوالهم تقليدا قاله الزجاج وابن قتيبة
وفي قوله قاتلهم الله ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه لعنهم الله قاله ابن عباس والثاني قتلهم الله قاله أبو عبيدة
والثالث عاداهم الله ذكره ابن الانباري
قوله تعالى أنى يؤفكون أي من أين يصرفون عن الحق
قوله تعالى اتخذوا أحبارهم قد سبق في المائدة معنى الأحبار والرهبان وقد روي عن
النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن هذه الآية فقال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم
ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه واذا حرموا عليهم شيئا حرموه فعلى هذا
المعنى إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا إنهم أباب
قوله
تعالى والمسيح ابن مريم قال ابن عباس اتخذوه ربا
يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
قوله تعالى يريدون أن يطفئوا نور الله قال ابن عباس يخمدوا دين الله بتكذيبهم يعني
أنهم يكذبون به ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك وقال الحسن وقتادة نور الله القرآن
والإسلام فأما تخصيص ذلك بالأفواه فلما ذكرناه في الآية قبلها وقيل إن الله تعالى
لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا وهو زور
قوله تعالى ويأبى الله إلا أن يتم نوره قال الفراء إنما دخلت إلا هاهنا لأن في
الإباء طرفا من الجحد ألا ترى أن أبيت كقولك لم أفعل ولا أفعل فكأنه بمنزلة قولك
ما ذهب إلا زيد قال الشاعر ... فهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله إلا أن
أكون لها ابمنا ...
وقال الزجاج المعنى ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره قال مقاتل يتم نوره أي يظهر
دينه
هو
الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
قوله تعالى هو الذي أرسل رسوله يعني محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى وفيه ثلاثة
اقوال
أحدها أنه التوحيد والثاني القرآن والثالث تبيان الفرائض فأما دين الحق فهو
الإسلام وفي قوله ليظهره قولان
أحدهما أن الهاء عائدة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمعنى ليعلمه شرائع
الدين كلها فلا يخفى عليه منها شيء قاله ابن عباس
والثاني أنها راجعة إلى الدين ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما ليظهر هذا الدين على سائر الملل ومتى يكون ذلك
فيه
قولان أحدهما عند نزول عيسى عليه السلام فانه يتبعه أهل كل دين وتصير الملل واحدة
فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدوا الجزية قاله أبو هريرة والضحاك
والثاني أنه عند خروج المهدي قاله السدي
والقول الثاني أن إظهار الدين إنما هو بالحجج الواضحة وإن لم يدخل الناس فيه
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل
ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم
قوله تعالى إن كثيرا من الأحبار الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وفي الباطل
أربعة اقوال
أحدها أنه الظلم قاله ابن عباس والثاني الرشا في الحكم قاله الحسن والثالث الكذب
قاله أبو سليمان والرابع أخذه من الجهة المحظورة قاله القاضي أبو يعلى والمراد أخذ
الأموال وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود من المال وفي المراد بسبيل الله هاهنا
قولان
أحدهما الإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس والسدي
والثاني أنه الحق والحكم
قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت عامة في أهل الكتاب والمسلمين قاله أبو ذر والضحاك
والثاني
أنها خاصة في أهل الكتاب قاله معاوية بن أبي سفيان
والثالث أنها في المسلمين قاله ابن عباس والسدي
وفي الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة اقوال
أحدها أنه مالم تؤد زكاته قال ابن عمر كل مال أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين
فليس بكنز وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض وإلى هذا
المعنى ذهب الجمهور فعلى هذا معنى الإنفاق إخراج الزكاة
والثاني أنه ما زاد على أربعة آلاف روي عن علي بن أبي طالب أنه قال أربعة آلاف
نفقة وما فوقها كنز
والثالث ما فضل عن الحاجة وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالزكاة
فان قيل كيف قال ينفقونها وقد ذكر شيئين فعنه جوابان
أحدهما أن المعنى يرجع إلى الكنوز والأموال
والثاني أنه يرجع إلى الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة قال الشاعر ... نحن بما
عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ...
يريد نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ذكر القولين الزجاج
وقال
الفراء إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين كقوله ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا
وقوله وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وأنشد ... إني ضمنت لمن أتاني ما جنى
... وأبى وكان وكنت غير غدور ...
ولم يقل غدورين وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى قال أبو عبيدة والعرب إذا
أشركوا بين اثنين قصروا فخبروا عن أحدهما استغناء بذلك وتحقيقا لمعرفة السامع بأن
الآخر قد شاركه ودخل معه في ذلك الخبر وأنشد ... فمن يك أمسى بالمدينة رحله ...
فاني وقيار بها لغريب ...
والنصب في قيار أجود وقد يكون الرفع وقال حسان بن ثابت ... إن شرخ الشباب والشعر
الأس ... ود مالم يعاص كان جنونا ...
ولم يقل يعاصيا
يوم يحمى عليهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
قوله تعالى يوم يحمى عليها في نار جهنم أي على الأموال قال ابن
مسعود
والله ما من رجل يكوى بكنز فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع
جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته وقال ابن عباس هي حية تنطوي على جنبيه وجبهته
فتقول أنا مالك الذي بخلت به
قوله تعالى هذا ما كنزتم فيه محذوف تقديره ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا
ما كنتم تكنزون أي عذاب ذلك
فان قيل لم خص الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن
فالجواب أن هذه المواضع مجوفة فيصل الحر إلى أجوافها بخلاف اليد والرجل وكان أبو
ذر يقول بشر الكنازين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور حتى يلتقي الحر
في أجوافهم وجواب آخر وهو أن الغني إذا رأى الفقير انقبض وإذا ضمه وإياه مجلس ازور
عنه وولاه ظهره قاله أبو بكر الوراق
إن
عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها
أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما
يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين
قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله قال المفسرون نزلت هذه الآية من أجل النسيء
الذي كانت العرب تفعله فربما وقع حجهم في رمضان وربما وقع في شوال إلى غير ذلك
وكانوا يستحلوا المحرم عاما ويحرمون مكانه صفر وتارة يحرمون المحرم ويستحلون صفر
قال الزجاج أعلم الله عز و جل أن عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوه لسنتهم
اثنا عشر شهرا على منازل القمر فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد فتارة يكون الحج
والصوم في الشتاء وتارة في الصيف بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب فانهم يعلمون على أن
السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وبعض يوم وجمهور القراء على فتح عين اثنا عشر
وقرأ أبو جعفر اثنا عشر وأحد عشر وتسعة عشر بسكون العين فيهن
قوله تعالى في كتاب الله أي في اللوح المحفوظ قال ابن عباس في الإمام الذي عند
الله كتبه يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم وفيها قولان
أحدهما أنها رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم قاله الأكثرون وقال القاضي أبو يعلى
إنما سماها حرما لمعنيين أحدهما تحريم القتال فيها وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون
ذلك أيضا والثاني لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشد من تعظيمه في غيرها وكذلك تعظيم
الطاعات فيها
والثاني
انها الأشهر التي أجل المشركون فيها للسياحة ذكره ابن قتيبة
قوله تعالى ذلك الدين القيم فيه قولان
أحدهما ذلك القضاء المستقيم قاله ابن عباس
والثاني ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي قاله ابن قتيبة
قوله تعالى فلا تظلموا فيهن أنفسكم اختلفوا في كناية فيهن على قولين
أحدهما أنها تعود على الاثني عشر شهرا قاله ابن عباس فعلى هذا يكون المعنى لا
تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما كفعل أهل النسيء
والثاني أنها ترجع إلى الأربعة الحرم وهو قول قتادة والفراء واحتج بأن العرب تقول
لما بين الثلاثة إلى العشرة لثلاث ليال خلون وأيام خلون فاذا جزت العشرة قالوا خلت
ومضت ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة هن وهؤلاء فاذا جزت العشرة قالوا هي وهذه
إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير وقال ابن الانباري العرب تعيد الهاء والنون
على القليل من العدد والهاء والألف على الكثير منه والقلة ما بين الثلاثة إلى
العشرة والكثرة ما جاوز العشرة يقولون وجهت إليك أكبشا فاذبحهن وكباشا فاذبحها
فلهذا قال منها أربعة حرم وقال فلا تظلموا فيهن لأنه يعني بقوله فيهن الأربعة ومن
قال من المفسرين إنه يعني بقوله فيهن الاثني عشر فانه ممكن لأن العرب ربما جعلت
علامة القليل للكثير وعلامة الكثير للقليل وعلى قول من قال ترجع فيهن إلى الأربعة
يخرج في معنى الظلم فيهن أربعة اقوال
أحدها
أنه المعاصي فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر أن شأن المعاصي يعظم فيها
أشد من تعظيمه في غيرها وذلك لفضلها على ما سواها كقوله وجبريل وميكال وإن كانا قد
دخلا في جملة الملائكة وقوله فاكهة ونخل ورمان وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة
وقوله فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن كان منهيا عنه في غير الحج وكما أمر
بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأمورا بالمحافظة على غيرها هذا قول الأكثرين
والثاني أن المراد بالظلم فيهن فعل النسيء وهو تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال
قاله ابن اسحاق
والثالث أنه البداية بالقتال فيهن فيكون المعنى فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن
إلا أن تبدؤوا بالقتال قاله مقاتل
والرابع أنه ترك القتال فيهن فيكون المعنى فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة
لعدوكم قاله ابن بحر وهو عكس قول مقاتل والسر في أن الله تعالى عظم بعض الشهور على
بعض ليكون الكف عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجا للنفس إلى
فراق مألوفها المكروه شرعا
إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا
عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم
الكافرين
قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر الجمهور على همز النسيء ومده وكسر سينه
وروى شبل عن ابن كثير النسء على وزن النسع وفي
رواية أخرى عن شبل النسي مشددة الياء من غير همز وهي قراءة أبي جعفر والمراد بالكلمة التأخير قال اللغويون النسيء تأخير الشيء وكانت العرب تحرم الأشهر الأربعة وكن هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده ثم تتدافع الشهور شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنة كلها فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه فأعلم الله عز و جل أن ذلك زيادة في كفرهم لأنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال ليواطؤوا أي ليوافقوا عدة ما حرم الله فلا يخرجون من تحريم أربعة ويقولون هذه بمنزلة الأربعة الحرم ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم قال الفراء كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان رئيس الموسم فيقول أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهرا يريدون أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيفعل ذلك وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها وإنما كان معاشهم من الإغارة فتستدير الشهور كما بينا وقيل إنما كانوا يستحلون المحرم عاما فاذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه قال أبو عبيد والتفسير الأول أحب إلي لأن هذا القول ليس فيه استدارة وقال مجاهد كان أول من أظهر النسيء جنادة بن عوف الكناني فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم في العام القابل في ذي الحجة فذلك حين قال ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض
وقال الكلبي أول من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة
قوله تعالى يضل به الذين كفروا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر
عن عاصم يضل بفتح الياء وكسر الضاد والمعنى أنهم يكتسبون الضلال به وقرأ حمزة
والكسائي وحفص عن عاصم يضل بضم الياء وفتح الضاد على مالم يسم فاعله وقرأ الحسن
البصري ويعقوب إلا الوليد يضل بضم الياء وكسر الضاد وفيه ثلاثة أوجه
أحدها يضل الله به والثاني يضل الشيطان به ذكرهما ابن القاسم والثالث يضل به الذين
كفروا الناس لأنهم الذين سنوه لهم قال أبو علي التقدير يضل به الذين كفروا تابعيهم
وقال ابن القاسم الهاء في به راجعة إلى النسيء وأصل النسيء المنسوء أي المؤخر
فينصرف عن مفعول إلى فعيل كما قيل مطبوخ وطبيخ ومقدور وقدير قال وقيل الهاء راجعة
إلى الظلم لأن النسيء كشف تأويل الظلم فجرى مجرى المظهر والأول اختيارنا
يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
قوله تعالى مالكم إذا قيل لكم انفروا قال المفسرون لما امر رسول الله صلى الله
عليه و سلم بغزوة تبوك وكان في زمن عسرة وجدب وحر شديد وقد طابت الثمار
عظم
ذلك على الناس وأحبوا المقام فنزلت هذه الآية وقوله مالكم استفهام معناه التوبيخ
وقوله انفروا معناه اخرجوا وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك
وقوله اثاقلتم قال ابن قتيبة أراد تثاقلتم فأدغم التاء في الثاء وأحدثت الألف
ليسكن ما بعدها وأراد قعدتم وفي قراءة ابن مسعود والأعمش تثاقلتم
وفي معنى إلى الأرض ثلاثة أقوال
أحدها تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها قاله مجاهد
والثاني اطمأننتم إلى الدنيا قاله الضحاك
والثالث تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم قاله الزجاج
قوله تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا أي بنعيمها من نعيم الآخرة فما يتمتع به في
الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يتمتع به الأولياء في الجنة
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل
شيء قدير
قوله تعالى إلا تنفروا يعذبكم سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما
حثهم
على
غزو الروم تثاقلوا فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال قوم هذه خاصة فيمن استنفره
رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينفر قال ابن عباس استنفر رسول الله صلى الله
عليه و سلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم وفي قوله
ويستبدل قوما غيركم وعيد شديد في التخلف عن الجهاد وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه
قوما غير متثاقلين ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه كما لم يضرره ذلك إذ كان
بمكة وفي هاء تضروه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله والمعنى لا تضروا الله بترك النفير قاله الحسن
والثاني أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمعنى لا تضروه بترك نصره
قاله الزجاج
فصل
وقد روي عن ابن عباس والحسن وعكرمة قاله نسخ قوله إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما
بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال أبو سليمان الدمشقي ليس هذا من المنسوخ
إذ لا تنافي بين الآيتين وإنما حكم كل آية قائم في موضعها وذكر القاضي ابو يعلى عن
بعض العلماء أنهم قالوا ليس هاهنا نسخ ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ففرض على
الناس النفير إليهم ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم عذر القاعدون عنهم وقال قوم هذا
في غزوة تبوك ففرض على الناس النفير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم
إلا
تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول
لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل
كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم
قوله تعالى إلا تنصروه أي بالنفير معه فقد نصره الله إعانة على أعدائه إذ أخرجه
الذين كفروا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله وإذ يمكر بك الذين كفروا
فأعلمهم أن نصره ليس بهم
قوله تعالى ثاني اثنين العرب تقول هو ثاني اثنين أي أحد الاثنين وثالث ثلاثة أي
أحد الثلاثة قال الزجاج وقوله ثاني اثنين منصوب على الحال المعنى فد نصره الله أحد
اثنين أي نصره منفردا إلا من أبي بكر وهذا معنى قول الشعبي عاتب الله أهل الأرض
جميعا في هذه الآية غير أبي بكر وقال ابن جرير المعنى أخرجوه وهو أحد الاثنين وهما
رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر فأما الغار فهو ثقب في الجبل وقال ابن
فارس الغار الكهف والغار نبت طيب الريح والغار الجماعة من الناس والغاران البطن
والفرج وهما الأجوفان يقال إنما هو عبد غاريه قال الشاعر ... ألم تر أن الدهر يوم
وليلة ... وأن الفتى يسعى لغاريه دائبا ...
قال قتادة وهذا الغار في جبل بمكة يقال له ثور قال مجاهد مكثا فيه ثلاثا وقد ذكرت
حديث الهجرة في كتاب الحدائق قال أنس بن مالك
أمر
الله عز و جل شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فسترته وأمر
العنكبوت فنسجت في وجهه وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار فلما دنوا من
الغار عجل بعضهم لينظر فرأى حمامتين فرجع فقال رأيت حمامتين على فم الغار فعلمت
أنه ليس فيه أحد وقال مقاتل جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال هذه قدم ابن أبي
قحافة والأخرى لا أعرفها إلا أنها تشبه القدم التي في المقام وصاحبه في هذه الآية
أبو بكر وكان أبو بكر قد بكى لما مر المشركون على باب الغار فقال له النبي صلى
الله عليه و سلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما
وفي السكينة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الرحمة قاله ابن عباس والثاني الوقار قاله قتادة والثالث السكون
والطمأنينة قاله ابن قتيبة وهو اصح
وفي هاء عليه ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى أبي بكر وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس وحبيب بن أبي ثابت
واحتج من نصر هذا القول بأن النبي صلى الله عليه و سلم كان مطمئنا
والثاني أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل
والثالث
أن الهاء هاهنا في معنى تثنية والتقدير فأنزل الله سكينته عليهما فاكتفى باعادة
الذكر على أحدهما من إعادته عليهما كقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه ذكره ابن
الانباري
قوله تعالى وأيده أي قواه يعني النبي صلى الله عليه و سلم بلا خلاف بجنود لم تروها
وهم الملائكة ومتى كان ذلك فيه قولان
أحدهما يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم حنين قاله ابن عباس
والثاني لما كان في الغار صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته قاله
الزجاج
فان قيل إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في أيده ترجع إلى النبي صلى الله عليه و
سلم فكيف تفارقها هاء عليه وهما متفقتان في نظم الكلام
فالجواب أن كل حرف يرد إلى الأليق به والسكينة إنما يحتاج إليها المنزعج ولم يكن
النبي صلى الله عليه و سلم منزعجا فأما التأييد بالملائكة فلم يكن إلا للنبي صلى
الله عليه و سلم ونظير هذا قوله لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه يعني النبي
صلى الله عليه و سلم وتسبحوه يعني الله عز و جل
قوله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى فيها قولان
أحدهما أن كلمة الكافرين الشرك جعلها الله السفلى لأنها مقهورة وكلمة الله وهي
التوحيد هي العليا لأنها ظهرت هذا قول الأكثرين
والثاني أن كلمة الكافرين ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه وكلمة الله أنه
ناصره رواه عطاء عن ابن عباس وقرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ويعقوب
وكلمة الله بالنصب
قوله
تعالى والله عزيز أي في انتقامه من الكافرين حكيم في تدبيره
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون
قوله تعالى انفروا خفافا وثقالا سبب نزولها أن المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه و سلم وكان عظيما سمينا فشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزلت هذه الآية قاله
السدي وفي معنى خفافا وثقالا أحد عشر قولا
أحدها شيوخا وشبابا رواه أنس عن أبي طلحة وبه قال الحسن والشعبي وعكرمة ومجاهد
وأبو صالح وشمر بن عطية وابن زيد في آخرين
والثاني رجالة وركبانا رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الأوزاعي
والثالث نشاطا وغير نشاط رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة ومقاتل
والرابع أغنياء وفقراء روي عن ابن عباس ثم في معنى هذا الوجه قولان أحدهما أن
الخفاف ذوو العسرة وقلة العيال والثقال ذوو العيال والميسرة قاله الفراء والثاني
أن الخفاف أهل الميسرة والثقال أهل العسرة حكي عن الزجاج
والخامس ذوي عيال وغير عيال قاله زيد بن أسلم
والسادس ذوي ضياع وغير ذوي ضياع قاله ابن زيد
والسابع ذوي أشغال وغير ذوي أشغال قاله الحكم
والثامن
أصحاء ومرضى قاله مرة الهمداني وجويبر
والتاسع عزابا ومتأهلين قاله يمان بن رياب
والعاشر خفافا إلى الطاعة وثقالا عن المخالفة ذكره الماوردي
والحادي عشر خفافا من السلاح وثقالا بالاستكثار منه ذكره الثعلبي
فصل
روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله وما كان المؤمنون
لينفروا كافة وقال السدي نسخت بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى
قوله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم قال القاضي أبو يعلى أوجب الجهاد بالمال والنفس
جميعا فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله
بأن يعطيه غيره فيغزو به كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قويا وإن كان له مال وقوة
فعليه الجهاد بالنفس والمال ومن كان معدما عاجزا فعليه الجهاد بالنصح لله ورسوله
لقوله ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله
قوله
تعالى ذلكم خير لكم فيه قولان
أحدهما ذلكم خير لكم من تركه والتثاقل عنه
والثاني ذلكم الجهاد خير حاصل لكم إن كنتم تعلمون مالكم من الثواب
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو
استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون
قوله تعالى لو كان عرضا قريبا قال المفسرون نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن
غزوة تبوك ومعنى الآية لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا والعرض كل ما عرض لك من
منافع الدنيا فالمعنى لو كانت غنيمة قريبة أو كان سفرا قاصدا أي سهلا قريبا
لاتبعوك طمعا في المال ولكن بعدت عليهم الشقة قال ابن قتيبة الشقة السفر وقال
الزجاج الشقة الغاية التي تقصد وقال ابن فارس الشقة مصير إلى أرض بعيدة تقول شق
شاقة
قوله تعالى وسيحلفون بالله يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم لو استطعنا وقرأ زائدة
عن الأعمش والأصمعي عن نافع لو استطعنا بضم الوا وكذا أين وقع مثل لو اطلعت عليهم
كأه لما احتيج إلى حركة الواو حركت بالضم لأنها أخت الواو والمعنى لو قدرنا وكان
لنا سعة في المال يهلكون أنفسهم بالكذب والنفاق والله يعلم إنهم لكاذبون لأنهم
كانوا أغنياء ولم يخرجوا
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين
قوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم كان صلى الله عليه و سلم قد أذن لقوم من
المنافقين
في التخلف لما خرج إلى تبوك قال ابن عباس ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين قال عمرو
بن ميمون اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يؤمر بهما إذنه
للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون قال مورق عاتبه ربه
بهذا وقال سفيان بن عيينة انظر إلى هذا اللطف بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب
وقال ابن الانباري لم يخاطب بهذا لجرم أجرمه لكن الله وقره ورفع من شأنه حين افتتح
الكلام بقوله عفا الله عنك كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريما عليه عفا الله
عنك ما صنعت في حاجتي وBك
هلا زرتني
قوله تعالى حتى يتبين لك الذين صدقوا فيه قولان
أحدهما أن معناه حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له
والثاني لو لم تأذن لهم لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم قال قتادة ثم إن الله
تعالى نسخ هذه الآية بقوله فائذن لمن شئت منهم
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله
عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم
فهم في ريبهم يترددون
قوله تعالى لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله قال ابن عباس هذا تعيير للمنافقين حين
استأذنوا في القعود قال الزجاج أعلم الله عز و جل نبيه صلى الله عليه و سلم أن
علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان
فصل
وروي عن ابن عباس أنه قال نسخت هذه الآية بقوله لم يذهبوا حتى يستأذنوه إلى آخر
الآية قال أبو سليمان الدمشقي وليس للنسخ هاهنا مدخل لإمكان العمل بالآيتين وذلك
أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر وأجاز
للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم
حاجة ذهبوا من غير استئذانه
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع
القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم
سماعون لهم والله عليم بالظالمين
قوله تعالى ولو أرادوا الخروج يعني المستأذنين له في القعود
وفي المراد بالعدة قولان
أحدهما النية قاله الضحاك عن ابن عباس
والثاني السلاح والمركوب وما يصلح للخروج قاله أبو صالح عن ابن عباس والانبعاث
الانطلاق والتثبط ردك الإنسان عن الشيء يفعله
قوله تعالى وقيل اقعدوا في القائل لهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ألهموا ذلك خذلانا لهم قاله مقاتل والثاني أن النبي صلى الله عليه و
سلم قاله غضبا عليهم والثالث أنه قول بعضهم لبعض ذكرهما الماوردي
وفي
المراد بالقاعدين قولان
أحدهما أنهم القاعدون بغير عذر قاله ابن السائب
والثاني أنهم القاعدون بعذر كالنساء والصبيان ذكره علي بن عيسى
وقال الزجاج ثم أعلم الله عز و جل لم كره خروجهم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا
خبالا والخبال الفساد وذهاب الشيء وقال ابن قتيبة الخبال الشر
فان قيل كأن الصحابة كان فيها خبال حتى قيل ما زادوكم إلا خبالا فالجواب أنه من
الاستثناء المنقطع والمعنى ما زادوكم قوة لكن أوقعوا بينكم خبالا وقيل سبب نزول
هذه الآية أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج ضرب عسكره على ثنية الوداع وخرج
عبد الله بن أبي فضرب عسكره على أسفل من ذلك فلما سار رسول الله صلى الله عليه و
سلم تخلف ابن أبي فيمن تخلف من المنافقين فنزلت هذه الآية
قوله تعالى ولأوضعوا خلالكم قال الفراء الإيضاع السير بين القوم وقال أبو عبيدة
لأسرعوا بينكم وأصله من التخلل قال الزجاج يقال أوضعت في السير أسرعت
قوله تعالى يبغونكم الفتنة قال الفراء يبغونها لكم وفي الفتنة قولان
أحدهما الكفر قاله الضحاك ومقاتل وابن قتيبة
والثاني
تفريق الجماعة وشتات الكلمة قال الحسن لأوضعوا خلالكم بالنميمية لإفساد ذات بينكم
قوله تعالى وفيكم سماعون لهم فيه قولان
أحدهما عيون ينقلون إليهم أخباركم قاله مجاهد وابن زيد
والثاني من يسمع كلامهم ويطيعهم قاله قتادة وابن إسحاق
لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون
قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة في الفتنة قولان
أحدهما الشر قاله ابن عباس والثاني الشرك قاله مقاتل
قوله تعالى من قبل أي من قبل غزوة تبوك
وفي قوله وقلبوا لك الأمور خمسة أقوال
أحدها بغوا لك الغوائل قاله ابن عباس وقيل إن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا
على طريقه ليلا ليفتكوا به فسلمه الله منهم
والثاني احتالوا في تشتت أمرك وإبطال دينك قاله ابو سليمان الدمشقي قال ابن جرير
وذلك كانصراف ابن أبي يوم أحد بأصحابه
والثالث أنه قولهم ما ليس في قلوبهم
والرابع أنه ميلهم إليك في الظاهر وممالأة المشركين في الباطن
والخامس أنه حلفهم بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي
قوله تعالى حتى جاء الحق يعني النصر وظهر أمر الله يعني الإسلام
ومنهم
من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
قوله تعالى ومنهم من قول ائذن لي سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
للجد بن قيس يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر فقال يا
رسول الله ائذن لي فأقيم ولا تفتني ببنات الأصفر فأعرض عنه وقال قد أذنت لك ونزلت
هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس وهذه الآية وما بعدها إلى قوله إنما الصدقات
في المنافقين
قوله تعالى ومنهم يعني المنافقين من يقول ائذن لي أي في القعود عن الجهاد وهو الجد
بن قيس وفي قوله ولا تفتني أربعة أقوال
أحدها لا تفتني بالنساء قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد
والثاني لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي فآثم بالمخالفة قاله
الحسن وقتادة والزجاج
والثالث لا تكفرني بإلزامك إياي الخروج قاله الضحاك
والرابع لا تصرفني عن شغلى قاله ابن بحر
قوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا في هذه الفتنة أربعة اقوال
أحدها أنها الكفر قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني الحرج قاله علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس والثالث الإثم قاله قتادة والزجاج والرابع العذاب في جهنم ذكره
الماوردي
إن
تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى إن تصبك حسنة أي نصر وغنيمة والمصيبة القتل والهزيمة يقولوا قد أخذنا
أمرنا أي عملنا بالحزم فلم نخرج ويتولوا وهم فرحون بمصابك وسلامتهم
قوله تعالى إلا ما كتب الله لنا فيه ثلاثة أقوال
أحدها ما قضى علينا قاله ابن عباس
والثاني ما بين لنا في كتبه من أنا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا أو نقتل فتكون الشهادة
حسنى لنا أيضا قاله الزجاج
والثالث لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وعدنا ذكره
الماوردي
قوله تعالى هو مولانا أي ناصرنا
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده
أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون
قوله تعالى قل هل تربصون بنا أي تنتظرون والحسنيان النصر والشهادة ونحن نتربص بكم
أن يصيبكم الله بعذاب من عنده في هذا العذاب قولان
أحدهما
الصواعق قاله ابن عباس والثاني الموت قاله ابن جريج
قوله تعالى أو بأيدينا يعني القتل
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين
قوله تعالى أنفقوا طوعا أو كرها سبب نزولها أن الجد بن قيس قال للنبي صلى الله
عليه و سلم لما عرض عليه غزو الروم إذا رأيت النسا افتتنت ولكن هذا مالي أعينك به
فنزلت هذه الآية قال ابن عباس قال الزجاج وهذا لفظ أمر ومعناه معنى الشرط والجزاء
المعنى إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم ومثله في الشعر قول كثير ...
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت ...
لم يأمرها بالإساءة ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها قال الفراء
ومثله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة
إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون
قوله تعالى وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو
وابن عامر تقبل بالتاء وقرأ حمزة والكسائي يقبل
بالياء
قال أبو علي من أنث فلأن الفعل مسند إلى مؤنث في اللفظ ومن قرأ بالياء فلأنه ليس
بتأنيث حقيقي فجاز تذكريه كقوله فمن جاءه موعظة من ربه وقرأ الجحدري أن يقبل بياء
مفتوحة نفقاتهم بكسر التاء وقرأ الأعمش نفقتهم بغير ألف مرفوعة التاء وقرأ أبو
مجلز وأبو رجاء أن يقبل بالياء نفقتهم بنصب التاء على التوحيد
قوله تعالى إلا أنهم كفروا بالله قال ابن الانباري أن هاهنا مفتوحة لأنها بتأويل
المصدر مرتفعة ب منعهم والتقدير وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله
قوله تعالى إلا وهم كسالى قد شرحناه في سورة النساء
قوله تعالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون لأنهم يعدون الإنفاق مغرما
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق
أنفسهم وهم كافرون
قوله تعالى فلا تعجبك أموالهم أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال
والأولاد وفي معنى الآية اربعة اقوال
أحدها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها
في الآخرة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة فعلى هذا في الآية تقديم
وتأخير ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها
والثاني أنها على نظمها والمعنى ليعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال
والأولاد فهي لهم عذاب وللمؤمنين أجر قاله ابن زيد
والثالث
أن المعنى ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله قاله الحسن فعلى
هذا ترجع الكناية إلى الأموال وحدها
والرابع ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم ذكره الماوردي فعلى هذا تكون في
المشركين
قوله تعالى وتزهق أنفسهم أي تخرج يقال زهق السهم إذا جاوز الهدف
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات
أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون
قوله تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم أي مؤمنون و يفرقون بمعنى يخافون فأما الملجأ
فقال الزجاج الملجأ واللجأ مقصور مهموز وهو المكان الذي يتحصن فيه والمغارات جمع
مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي يستتر فيه وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي
عبلة أو مغارات بضم الميم لأنه يقال أغرت وغرت إذا دخلت الغور واصل مدخل مدتخل
ولكن التاء تبدل بعد الدال دالا لأن التاء مهموسة والدال مجهورة والتاء والدال من
مكان واحد فكان الكلام من وجه واحد أخف وقرأ أبي وأبو المتوكل وأبو الجوزاء أو
متدخلا برفع الميم وبتاء ودال مفتوحتين مشددة الخاء وقرأ ابن مسعود وأبو عمران
مندخلا بنون بعد الميم المضمومة وقرأ الحسن وابن يعمر ويعقوب مدخلا بفتح الميم وتخفيف
الدال وسكونها قال الزجاج من قال مدخلا فهو من دخل يدخل مدخلا ومن قال مدخلا فهو
من أدخلته مدخلا قال الشاعر
الحمد
لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا ...
ومعنى مدخل ومدخل أنهم لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم لولوا إليه أي إلى أحد هذه
الأشياء وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا لا يرد فيه وجوههم شيء يقال جمح وطمح إذا
أسرع ولم يرد وجهه شيء ومنه قيل فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام
ومنهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون
قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات فيمن نزلت فيه قولان
أحدهما أنه ذو الخويصرة التميمي قال للنبي صلى الله عليه و سلم يوما اعدل يا رسول
الله فنزلت هذه الآية ويقال أبو الخواصر ويقال ابن ذي الخويصرة
والثاني أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول إنما يعطي محمد من يشاء فنزلت هذه الآية قال
ابن قتيبة يلمزك يعيبك ويطعن عليك يقال همزت فلانا ولمزته إذا اغتبته وعبته
والأكثرون على كسر ميم يلمزك وقرأ يعقوب ونظيف عن قنبل وأبان عن عاصم والقزاز عن
عبد الوارث يلمزون ويلمزك ولا تلمزوا بضم الميم فيهن وقرأ ابن السميفع يلامزك مثل
يفاعلك وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير قال أبو علي الفارسي وينبغي أن تكون
فاعلت في هذا من احد ونحو طارقت النعل وعافاه الله لأن هذا لا يكون من النبي صلى
الله عليه و سلم وقرأ الأعمش يلمزك بتشديد الميم من
غير
ألف مثل يفعلك قال الزجاج يقال لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته
وكذلك همزته أهمزه قال الشاعر ... إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيبت كنت
الهامز اللمزه ...
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله
ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله
والله عليم حكيم
قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله أي قنعوا بما أعطوا إنا إلى الله
راغبون في الزيادة أي لكان خيرا لهم وهذا جواب لو وهو محذوف في اللفظ
ثم بين المستحق للصدقات بقوله إنما الصدقات للفقراء والمساكين اختلفوا في صفة
الفقير والمسكين على ستة أقوال
أحدها ان الفقير المتعفف عن السؤال والمسكين الذي يسأل وبه رمق قاله ابن عباس
والحسن ومجاهد وجابر بن زيد والزهري والحكم وابن زيد ومقاتل
والثاني أن الفقير المحتاج الذي به زمانة والمسكين المحتاج الذي لا زمانة به قاله
قتادة
والثالث
الفقير المهاجر والمسكين الذي لم يهاجر قاله الضحاك بن مزاحم والنخعي
والرابع الفقير فقير المسلمين والمسكين من أهل الكتاب قاله عكرمة
والخامس أن الفقير من له البلغة من الشيء والمسكين الذي ليس له شيء قاله أبو حنيفة
ويونس بن حبيب ويعقوب بن السكيت وابن قتيبة واحتجوا بقول الراعي ... أما الفقير
الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد ...
فسماه فقيرا وله حلوبة تكفيه وعياله وقال يونس قلت لأعرابي أفقير أنت قال لا والله
بل مسكين يريد أنه أسوأ حالا من الفقير
والسادس أن الفقير أمس حاجة من المسكين وهذا مذهب أحمد لأن الفقير مأخوذ من انكسار
الفقار والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع وذلك أبلغ قال ابن الانباري ويروى عن
الأصمعي أنه قال المسكين أحسن حالا من الفقير وقال أحمد بن عبيد المسكين أحسن حالا
من الفقير لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقره من فقر ظهره فكأنه
انقطع ظهره من شدة الفقر فصره عن مفقور إلى فقير كما قيل مجروح وجريح ومطبوخ وطبيخ
قال الشاعر
لما
رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل ...
قال ومن الحجة لهذا القول قوله وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فوصف
بالمسكنة من له سفينة تساوي مالا قال وهو الصحيح عندنا
قوله تعالى والعاملين عليها وهم السعاة لجباية الصدقة يعطون منها بقدر أجور
أمثالهم وليس ما يأخذونه بزكاة
قوله تعالى والمؤلفة قلوبهم وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتألفهم
على الإسلام بما يعطيهم وكانوا ذوي شرف وهم صنفان مسلمون وكافرون فأما المسلمون
فصنفان صنف كانت نياتهم في الإسلام ضعيفة فتألفهم تقوية لنياتهم كعيينة بن حصن
والأقرع وصنف كانت نياتهم حسنة فأعطوا تألفا لعشائرهم من المشركين مثل عدي بن حاتم
وأما المشركون فصنفان صنف يقصدون المسلمين بالأذى فتألفهم دفعا لأذاهم مثل عامر بن
الطفيل وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام تألفهم بالعطية ليؤمنوا كصفوان بن أمية وقد
ذكرت عدد المؤلفة في كتاب التلقيح وحكمهم باق عند أحمد في رواية وقال أبو حنيفة
والشافعي حكمهم منسوخ قال الزهري لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة قلوبهم
قوله تعالى وفي الرقاب قد ذكرناه في سورة البقرة
قوله
تعالى والغارمين وهم الذين لزمهم الدين ولا يجدون القضاء قال قتادة هم ناس عليهم
دين من غير فساد ولا إسراف ولا تبذير وإنما قال هذا لأنه لا يؤمن في حق المفسد إذا
قضي دينه أن يعود إلى الاستدانة لذلك ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه
ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية
قوله تعالى وفي سبيل الله يعني الغزاة والمرابطين ويجوز عندنا ان نعطي الأغنياء
منهم والفقراء وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعطى إلا الفقير منهم وهل يجوز
أن يصرف من الزكاة إلى الحج أم لا فيه عن أحمد روايتان
قوله تعالى وابن السبيل هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده قاله مجاهد
وقتادة وأبو حنيفة وأحمد فأما إذا أراد أن ينشئ سفرا فهل يجوز أن يعطى قال الشافعي
يجوز وعن أحمد مثله وقد ذكرنا في سورة البقرة فيه أقوالا عن المفسرين
قوله تعالى فريضة من الله يعني أن الله افترض هذا
فصل
وحد الغني الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين أن يكون مالكا لخمسين
درهما أو عدلها من الذهب سواء كان ذلك يقوم بكفايته أو لا يقوم والثاني أن يكون له
كفاية إما من صناعة أو أجرة عقار أو عروض
للتجارة
يقوم ربحها بكفايته وقال أبو حنيفة الاعتبار في ذلك أن يكون مالكا لنصاب تجب عليه
فيه الزكاة فأما ذوو القربى الذين تحرم عليه الصدقة فهم بنو هاشم وبنو المطلب وقال
أبو حنيفة تحرم على ولد هاشم ولا تحرم على ولد المطلب ويجوز أن يعمل على الصدقة من
بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها خلافا لأبي حنيفة فأما موالي بني هاشم
وبني المطلب فتحرم عليهم الصدقة خلافا لمالك ولا يجوز أن يعطي صدقته من تلزمه
نفقته وبه قال مالك والثوري وقال أبو حنيفة والشافعي لا يعطي والدا وإن علا ولا
ولدا وإن سفل ولا زوجه ويعطي من عداهم فأما الذمي فالأكثرون على أنه لا يجوز
إعطاؤه وقال عبيد الله بن الحسن إذا لم يجد مسلما أعطي الذمي ولا يجب استيعاب
الأصناف ولا اعتبار عدد من كل صنف وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي يجب
الاستيعاب من كل صنف ثلاثة
فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تقصر فيه الصلاة فلا يجوز له ذلك
فان نقلها لم يجزئه وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يكره نقلها وتجزئه قال
أحمد ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهما وقال أبو حنيفة أكره أن يعطي رجل واحد
من الزكاة مائتي درهم وإن أعطيته أجزأك فأما الشافعي فاعتبر ما يدفع الحاجة من غير
حد فان أعطي من يظنه فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه عن أحمد روايتان
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين
ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم
قوله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها
أن خذام بن خالد والجلاس بن سويد وعبيد بن هلال في آخرين كانوا يؤذون رسول الله
صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم لبعض لا تفعلوا فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا فقال
الجلاس بل نقول ما شئنا فانما محمد أذن سامعة ثم نأتهة فيصدقنا فنزلت هذه الآية
قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث كان ينم حديث رسول الله صلى
الله عليه و سلم إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال إنما محمد أذن من حدثه شيئا
صدقه نقول ما شئنا ثم نأتهة فنحله له فيصدقنا فنزلت هذه الآية قاله محمد بن إسحاق
والثالث أن ناسا من المنافقين منهم جلاس بن سويد ووديعة بن ثابت اجتمعوا فأرادوا
أن يقعوا في النبي صلى الله عليه و سلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس
فحقروه فتكلموا وقالوا لئن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير فغضب الغلام
وقال والله إن ما يقوله محمد حق وإنكم لشر من الحمير ثم أتى النبي صلى الله عليه و
سلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم كذبوا وقال اللهم
لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق وكذب الكاذب فنزلت هذه الآية ونزل قوله يحلفون
بالله لكم ليرضوكم قاله السدي فأما الأذى فهو عيبه ونقل حديثه ومعنى أذن يقبل كل
ما قيل
له
قال ابن قتيبة الأصل في هذا ان الأذن هي السامعة فقيل لكل من صدق بكل خبر يسمعه
أذن وجمهور القراء يقرؤون هو أذن قل أذن بالتثقيل وقرأ نافع هو أذن قل أذن خير
باسكان الذال فيهما ومعنى أذن خير لكم أي أذن خير لا أذن شر يسمع الخير فيعمل به
ولا يعمل بالشر إذا سمعه وقرأ ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن يعمر وابن
أبي عبلة أذن بالتنوين خير بالرفع والمعنى إن كان كما قلتك يسمع منكم ويصدقكم خير
لكم من أن يكذبكم قال أبو علي يجوز أن تطلق الأذن على الجملة كما قال الخليل إنما
سميت الناب من الإبل لمكان الناب البازل فسميت الجملة كلها به فأجروا على الجملة
اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها
ثم بين ممن يقبل فقال يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين قال ابن قتيبة الباء واللام
زائدتان والمعنى يصدق الله ويصدق المؤمنين وقال الزجاج يسمع ما ينزله الله عليه
فيصدق به ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به ورحمة أي وهو رحمة لأنه كان سبب إيمان
المؤمنين وقرأ حمزة ورحمة بالخفض قال أبو علي المعنى أذن خير ورحمة والمعنى مستمع
خير ورحمة
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين
قوله تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم قال ابن السائب نزلت في جماعة من المنافقين
تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع النبي صلى الله عليه و سلم أتوا المؤمنين يعتذرون
إليهم ويحلفون ويعتلون وقال مقاتل منهم عبد الله بن أبي حلف لا يتخلف
عن
رسول الله صلى الله عليه و سلم وليكونن معه على عدوه وقد ذكرنا في الآية التي
قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال اللام
في ليرضوكم بمعنى القسم والمعنى يحلفون بالله لكم لنرضينكم قال وهذا خطأ لأنهم
إنما حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا باليمين ولم يحلفوا أنهم يرضون في
المستقبل قلت وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج وقد مال إليه الأخفش
قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه فيه قولان
أحدهما بالتوبة والإنابة والثاني بترك الطعن والعيب
فان قيل لم قال يرضوه ولم يقل يرضوهما فقد شرحنا هذا عند قوله ولا ينفقونها في
سبيل الله
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم
قوله تعالى الم يعلموا روى أبو زيد عن المفضل ألم تعلموا بالتاء أنه من يحادد الله
فيه قولان
أحدهما من يخالف الله قاله ابن عباس
والثاني من يعادي الله كقولك من يجانب الله ورسوله أي يكون في حد والله ورسوله في
حد
قوله تعالى فإن له نار جهنم قرأ الجمهور فأن بفتح الهمزة وقرأ أبو رزين وأبو عمران
وابن أبي عبلة بكسرها فمن كسر فعلى الاستئناف بعد الفاء كما تقول فله نار جهنم ودخلت
إن مؤكدة ومن قال
فإن
له فانما أعاد أن الأولى توكيدا لأنه لما طال الكلام كان إعادتها أوكد
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج
ما تحذرون
قوله تعالى يحذر المنافقون في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بينهم
ويقولون عسى الله أن لا يفشي سرنا فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
والثاني أن بعض المنافقين قال لوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا
فنزلت هذه الآية قاله السدي
والثالث أن جماعة من المنافقين وقفوا للنبي صلى الله عليه و سلم في ليلة مظلمة عند
مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام ونزلت هذه الآية قاله ابن
كيسان
وفي قوله يحذر المنافقون قولان
أحدهما أنه إخبار من الله عز و جل عن حالهم قاله الحسن وقتادة واختاره ابن القاسم
والثاني أنه أمر من الله عز و جل لهم بالحذر فتقديره ليحذر المنافقون قاله الزجاج
قال ابن الانباري والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر فيقولون يرحم الله المؤمن
ويعذب الكافر يريدون ليرحم وليعذب فيسقطون اللام ويجرونه مجرى الخبر في الرفع وهم
لا ينوون إلا الدعاء والدعاء مضارع للأمر
قوله
تعالى قل استهزؤوا هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديدا
وفي قوله إن الله مخرج ما تحذرون وجهان
أحدهما مظهر ما تسرون والثاني ناصر من تخذلون ذكرهما الماوردي
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا
تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين
قوله تعالى لئن سألتهم في سبب نزولها ستة أقوال
أحدها أن جد بن قيس ووديعة بن خذام والجهير بن خمير كانوا يسيرون بين يدي رسول
الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من تبوك فجعل رجلان منهم يستهزآن برسول الله صلى
الله عليه و سلم والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء فنزل جبريل فأخبره بما
يستهزؤون به ويضحكون فقال لعمار بن ياسر اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه وقل لهم
أحرقكم الله فلما سألهم وقال أحرقكم الله علموا أنه قد نزل فيهم قرآن فأقبلوا
يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الجهير والله ما تكلمت بشيء وإنما
ضحكت تعجبا من قولهم فنزل قوله لا تعتذروا يعني جد بن قيس ووديعة إن يعف عن طائفة
منكم يعني الجهير نعذب طائفة يعني الجد ووديعة هذا قول أبي صالج عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من المنافقين قال ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ولا أرغب بطونا ولا
أكذب ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فقال له عوف
بن مالك كذبت لكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم
فذهب
ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب
هذا قول ابن عمر وزيد بن أسلم والقرظي
والثالث أن قوما من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقالوا إن كان ما يقول هذا حقا لنحن شر من الحمير فأعلم الله نبيه ما قالوا ونزلت
ولئن سألتهم قاله سعيد بن جبير
والرابع أن رجلا من المنافقين قال يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما
يدريه ما الغيب فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
والخامس أن ناسا من المنافقين قالوا يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها
هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم احبسوا علي الركب
فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والسادس أن عبد الله بن أبي ورهطا معه كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه مالا
ينبغي فاذا بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا إنما كنا نخوض ونلعب فقال
الله تعالى قل لهم أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون قاله الضحاك فقوله ولئن
سألتهم أي عما كانوا فيه من الاستهزاء ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب أي نلهو بالحديث
وقوله قد كفرتم أي قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان وهذا يدل على أن الجد واللعب
في إظهار كلمة الكفر سواء
قوله تعالى إن يعف عن طائفة منكم قرأ الأكثرون إن يعف
بالياء
تعذب بالتاء وقرأ عاصم غير أبان إن نعف نعذب بالنون فيهما ونصب طائفة والمعنى إن
نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة نعذب طائفة بترك التوبة وقيل الطائفتان هاهنا
ثلاثة فاستهزأ اثنان وضحك واحد ثم أنكر عليهم بعض ما سمع وقد ذكرنا عن ابن عباس
أسماء الثلاثة وأن الضاحك اسمه الجهير وقال غيره هو مخشي بن خمير وقال ابن عباس
ومجاهد الطائفة الواحد فما فوقه وقال الزجاج أصل الطائفة في اللغة الجماعة ويجوز
أن يقال للواحد طائفة يراد به نفس طائفة قال ابن الانباري إذا أريد بالطائفة الواحد
كان اصلها طائفا على مثال قائم وقاعد فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف كما يقال
رواية علامة نسابة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما فرغ من تنزيل براءة حتى ظننا
أن لن يبقى منا أحد إلا ينزل فيه شيء
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون
أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات
والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من
قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم
بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم
في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد
وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم
رسلهم
بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
قوله تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض قاله ابن عباس بعضهم على دين بعض
وقال مقاتل بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وهو الكفر وينهون عن المعروف وهو
الإيمان
وفي قوله ويقبضون أيديهم أربعة أقوال
أحدها يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والثاني عن
كل خير قاله قتادة والثالث عن الجهاد في سبيل الله والرابع عن رفعها في الدعاء إلى
الله تعالى ذكرهما الماوردي
قوله تعالى نسوا الله فنسيهم قال الزجاج تركوا أمره فتركهم من رحمته وتوفيقه قال
وقوله هي حسبهم أي هي كفاية ذنوبهم كما تقول عذبتك حسب فعلك وحسب فلان ما نزل به
أي ذلك على قدر فعله وموضع الكاف في قوله كالذين من قبلكم نصب أي وعدكم الله على
الكفر به كما وعد الذين من قبلكم وقال غيره رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم وشبههم
في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية
قوله تعالى فاستمتعوا بخلاقهم قال ابن عباس استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا
وقال الزجاج بحظهم من الدنيا
قوله تعالى وخضتم أي في الطعن على الدين وتكذيب نبيكم كما خاضوا أولئك حبطت
أعمالهم في الدنيا لأنها لم تقبل منهم وفي الآخرة لأنهم لا يثابون عليها وأولئك هم
الخاسرون بفوت الثواب وحصول العقاب
قوله
تعالى وقوم إبراهيم قال ابن عباس يريد نمرود بن كنعان وأصحاب مدين يعني قوم شعيب
والمؤتفكات قرى لوط قال الزجاج وهم جمع مؤتفكة ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت قال
ويقال إنهم جميع من أهلك كما يقال للهالك انقلبت عليه الدنيا
قوله تعالى أتتهم يعني هذه الأمم رسلهم بالبينات فكذبوا بها فما كان الله ليظلمهم
قال ابن عباس ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبيا ينذرهم والمعنى أنهم أهلكوا باستحقاقهم
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة
في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم
قوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض أي بعضهم يوالي بعضا فهم يد
واحدة يأمرون بالإيمان وينهون عن الكفر
قوله تعالى في جنات عدن قال أبو عبيدة في جنات خلد يقال عدن فلان بأرض كذا أي أقام
ومنه المعدن وهو في معدن صدق أي في أصل ثابت قال الأعشى ... وإن تستضيفوا إلى حلمه
... تضافوا إلى راجح قد عدن
أي
رزين لا يستخف قال ابن عباس جنات عدن هي بطنان الجنة وبطنانها وسطها وهي أعلى درجة
في الجنة وهي دار الرحمن عز و جل وسقفها عرشه خلقها بيده وفيها عين التسنيم
والجنان حولها محدقة بها
قوله تعالى ورضوان من الله أكبر قال ابن عباس أكبر مما يوصف وقال الزجاج أكبر مما
هم فيه من النعيم
فان قيل لم يكن الرضوان أكبر من النعيم فعنه جوابان
أحدهما أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب
وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله عز و جل
لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا مالم
تعط أحدا من خلقك فيقول أفلا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك قال
أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا
والثاني أن الموجب للنعيم الرضوان والموجب ثمرة الموجب فهو الأصل
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير
قوله تعالى جاهد الكفار والمنافقين أما جهاد الكفار فبالسيف وفي جهاد المنافقين
قولان
أحدهما أنه باللسان قاله ابن عباس والحسن والضحاك والربيع بن أنس
والثاني جهادهم باقامة الحدود عليهم روي عن الحسن وقتادة
فان
قيل إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم فكيف
تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم
فالجواب أنه إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها فأما من إذا أطلع على
كفره أنكر وحلف وقال إني مسلم فانه أمر أن يأخذه بظاهر أمره ولا يبحث عن سره
قوله تعالى واغلظ عليهم قال ابن عباس يريد شدة الانتهار لهم والنظر بالبغضة والمقت
وفي الهاء والميم من عليهم قولان
أحدهما أنه يرجع إلى الفريقين قاله ابن عباس
والثاني إلى المنافقين قاله مقاتل
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم
ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فان يتوبوا يك خيرا لهم وإن
يتولوا يعذبهم الله عذابا إليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا
نصير
قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر المنافقين فعابهم فقال الجلاس بن سويد
إن كان ما يقول على إخواننا حقا لنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس والله إنه
لصادق ولأنتم شر من الحمير وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فأتى الجلاس
فقال ما قلت شيئا فحلفا عند المنبر فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس
وذهب إلى نحوه الحسن ومجاهد وابن سيرين
والثاني
أن عبد الله بن ابي قال والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
فسمعه رجل من المسلمين فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل إليه فجعل يحلف
بالله ما قال فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والثالث أن المنافقين كانوا إذا خلوا سبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه
وطعنوا في الدين فنقل حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض ذلك فحلفوا ما
قالوا شيئا فنزلت هذه الآية قاله الضحاك فأما كلمة الكفر فهي سبهم رسول الله صلى
الله عليه و سلم وطعنهم في الدين وفي سبب قوله وهموا بمالم ينالوا أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في ابن أبي حين قال لئن رجعنا إلى المدينة رواه أبو صالح عن ابن
عباس وبه قال قتادة
والثاني أنها نزلت فيهم حين هموا بقتل رسول الله رواه مجاهد عن ابن عباس قال والذي
هم رجل يقال له الأسود وقال مقاتل هم خسة عشر رجلا هموا بقتله ليلة العقبة
والثالث أنه لما قال بعض المنافقين إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير
وقال له رجل من المؤمنين لأنتم شر من الحمير هم المنافق بقتله فذلك قوله وهموا
بمالم ينالوا هذا قول مجاهد
والرابع أنهم قالوا في غزوة تبوك إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي
تاجا نباهي به رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينالوا ما هموا به
قوله تعالى وما نقموا إلا أن أغناهم الله قال ابن قتيبة أي ليس ينقمون شيئا ولا
يتعرفون من الله إلا الصنع ومثله قول الشاعر ... ما نقم الناس من أمية إلا ...
أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم
سادة الملوك ولا ... تصلح إلا عليهم العرب ...
وهذا ليس مما ينقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا وكقول النابغة ...
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ...
أي ليس فيهم عيب قال ابن عباس كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة
في ضنك من معاشهم فلما قدم عليهم غنموا وصارت لهم الأموال فعلى هذا يكون الكلام
عاما وقال قتادة هذا في عبد الله بن أبي وقال عروة هو الجلاس بن سويد قتل له مولى
فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بديته فاستغنى فلما نزلت فان يتوبوا يك خيرا
لهم قال الجلاس أنا أتوب إلى الله
قوله تعالى وإن يتولوا أي يعرضوا عن الإيمان قال ابن عباس كما تولى عبد الله بن
أبي يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
قوله تعالى ومنهم من عاهد الله في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول
الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا
تطيقه قال ثم قال مرة أخرى فقال أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده
لو شئت أن تسير معي الجبال
ذهبا وفضة لسارت فقال والذي بعثك بالخق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم ارزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ثم نمت حتى ترك الصلوات إلى الجمعة ثم نمت فترك الجمعة فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبر خبره فقال يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة وأنزل الله تعالى خذ من أموالهم صدقة وأنزل فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين على الصدقة وكتب لهما كتابا يأخذان الصدقة وقال مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذا إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي فانطلقا فأخبر السلمي فاستقبلهما بخيار ماله فقالا لا يجب هذا عليك فقال خذاه فان نفسي بذلك طيبة فأخذا منه فلما فرغا من صدقتهما مرا بثعلبة فقال أروني كتابكما فقال ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا فأخبرا رسول الله صلى الله عليه و سلم بما كان فنزلت هذه الآية إلى قوله بما كانوا يكذبون وكان عند رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من أقارب ثعلبة فخرج إلى ثعلبة فأخبره فأتى رسول الله وسأله أن يقبل منه صدقته فقال إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني فرجع إلى منزله وقبض رسول الله ولم يقبل منه شيئا فلما ولي أبو بكر سأله أن يقبل منه فأبى فلما ولي عمر سأله أن يقبل منه فأبى فلما ولي عثمان سأله أن يقبلها فقال لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر فلم يقبلها
وهلك
ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي
وقال ابن عباس مر ثعلبة على مجلس فأشهدهم على نفسه لئن آتاني الله من فضله آتيت كل
ذي حق حقه وفعلت كذا وكذا فآتاه الله من فضله فأخلف ما وعد فقص الله علينا شأنه
والثاني أن رجلا من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه فجهد له جهدا
شديدا فحلف بالله لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن فأتاه ذلك
المال فلم يفعل فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال ابن
السائب والرجل حاطب بن أبي بلتعة
والثالث أن ثعلبة ومعتب بن قشير خرجا على ملأ فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن
فلما رزقهما بخلا به فنزلت هذه الآية قاله الحسن ومجاهد
والرابع أن نبتل بن الحارث وجد بن قيس وثعلبة بن حاطب ومعتب ابن قشير قالوا لئن
آتانا الله من فضله لنصدقن فلما آتاهم من فضله بخلوا به فنزلت هذه الآية قاله
الضحاك
فأما التفسير فقوله ومنهم يعني المنافقين من عاهد الله أي قال علي عهد الله لنصدقن
الأصل لنتصدقن فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها
ولنكونن
من الصالحين أي لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في الخير
وقد روى كهمس عن معبد بن ثابت أنه قال إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به
ألم تسمع إلى قوله ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم
فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون
قوله تعالى فلما آتاهم من فضله أي ما طلبوا من المال بخلوا به ولم يفوا بما عاهدوا
وتولوا وهم معرضون عن عهدهم
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا
يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب
قوله تعالى فأعقبهم أي صير عاقبة أمرهم النفاق
وفي الضمير في أعقبهم قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله فالمعنى جازاهم الله بالنفاق وهذا قول ابن عباس ومجاهد
والثاني أنها ترجع إلى البخل فالمعنى أعقبهم بخلهم بما نذروا نفاقا قاله الحسن
قوله تعالى الم يعلموا يعني المنافقين أن الله يعلم سرهم وهو ما في نفوسهم ونجواهم
حديثهم بينهم
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون
منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم
قوله
تعالى الذين يلمزون المطوعين في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه لما نزلت آية الصدقة جاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع
هذا فنزلت هذه الآية قاله أبو مسعود
والثاني أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب وجاء رجل من الأنصار بصاع
من طعام فقال بعض المنافقين والله ما جاء به عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وإن
كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع قاله ابن عباس
وفي هذا الأنصاري قولان
أحدهما أنه أبو خيثمة قاله كعب بن مالك والثاني أنه أبو عقيل
وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال
أحدها عبد الرحمن بن بيجان رواه أبو صالح عن ابن عباس ويقال ابن بيحان ويقال سيحان
وقال مقاتل هو أبو عقيل بن قيس
والثاني أن اسمه الحبحاب قاله قتادة
والثالث الحباب قال قتادة جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف وجاء عاصم
ابن
عدي بن العجلان بمائة وسق من تمر و يلمزون بمعنى يعيبون و المطوعين أي المتطوعين
قال الفراء أدغمت التاء في الطاء فصارت طاء مشددة والجهد لغة أهل الحجاز ولغة
غيرهم الجهد قال أبو عبيدة الجهد بالفتح والضم سواء ومجازه طاقتهم وقال ابن قتيبة
الجهد الطاقة والجهد المشقة قال المفسرون عني بالمطوعين عبد الرحمن وعاصم وبالذين
لا يجدون إلا جهدهم أبو عقيل وقوله سخر الله منهم أي جازاهم على فعلهم وقد سبق هذا
المعنى
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم
كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين
قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم سبب نزولها أنه لما نزل وعيد اللامزين
قالوا يا رسول الله استغفر لنا فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين لعل الله يغفر لهم فنزل قوله سواء عليهم أستغفرت
لهم أم لم تستغفر لهم قاله أبو صالح عن ابن عباس وظاهر قوله استغفر لهم الأمر وليس
كذلك إنما المعنى إن استغفرت وإن لم تستغفر لا يغفر لهم فهو كقوله أنفقوا طوعا أو
كرها وقد سبق شرح هذا المعنى هناك هذا قول المحققين وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ
يعطي أنه إن زاد على السبعين رجي لهم الغفران ثم نسخت بقوله سواء عليهم أستغفرت
لهم أم لم تستغفر لهم
فان قيل كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر بأنهم كفروا
فالجواب أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن
الإسلام ولا يجوز أن يقال علم كفرهم ثم استغفر
فان
قيل ما معنى حصر العدد بسبعين
فالجواب أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة وفي العشرات من سبعين
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون
قوله تعالى فرح المخلفون بمقعدهم يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى
الله عليه و سلم في غزوة تبوك والمخلف المتروك خلف من مضى بمقعدهم أي بقعودهم وفي
قوله خلاف رسول الله قولان
أحدهما أن معناه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله أبو عبيدة
والثاني أن معناه مخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منصوب لأنه مفعول له
فالمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله الزجاج وقرأ ابن
مسعود وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة خلف رسول الله ومعناها أنهم تأخروا عن
الجهاد
وفي قوله لا تنفروا في الحر قولان
أحدهما أنه قول بعضهم لبعض قاله ابن اسحاق ومقاتل
والثاني أنهم قالوه للمؤمنين ذكره الماوردي وإنما قالوا هذا لأن الزمان كان حينئذ
شديد الحر قل نار جهنم أشد حرا لمن خالف أمر الله
وقوله يفقهون معناه يعلمون قال ابن فارس الفقه العلم بالشيء تقول فقهت الحديث
أفقهه وكل علم بشيء فقه ثم اختص به علم الشريعة فقيل لكل عالم بها فقيه قال المصنف
وقال شيخنا علي بن عبيد الله الفقه في إطلاق اللغة الفهم وفي عرف الشريعة عبارة عن
معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال
المكلفين
بنحو التحليل والتحريم والإيجاب والإجزاء والصحة والفساد والغرم والضمان وغير ذلك
وبعضهم يختار أن يقال الفقه فهم الشيء وبعضهم يختار أن يقال علم الشيء
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون
قوله تعالى فليضحكوا قليلا لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد
وفي قلة ضحكهم وجهان
أحدهما أن الضحك في الدنيا لكثرة حزنها وهمومها قليل وضحكهم فيه أقل لما يتوجه
إليهم من الوعيد
والثاني أنهم إنما يضحكون في الدنيا وبقاؤها قليل وليبكوا كثيرا في الآخرة قال أبو
موسى الأشعري إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت السفن في دموعهم
لجرت ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع فلمثل ما هم فيه فليبكي
قوله تعالى جزاء بما كانوا يكسبون أي من النفاق والمعاصي
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن
تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين
قوله تعالى فان رجعك الله أي ردك من غزوة تبوك إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين
الذين تخلفوا بغير عذر وإنما قال إلى طائفة لأنه ليس كل من تخلف عن تبوك كان
منافقا فاستأذنوك للخروج معك إلى الغزو
فقل
لن تخرجوا معي أبدا إلى غزاة إنكم رضيتم بالقعود عني أول مرة حين لم تخرجوا إلى
تبوك وذكر الماوردي في قوله أول مرة قولين
أحدهما أول مرة دعيتم والثاني قبل استئذانكم
فأما الخالفون فقال أبو عبيدة الخالف الذي خلف بعد شاخص فقعد في رحله وهو الذي
يتخلف عن القوم
وفي المراد بالخالفين قولان
أحدهما أنهم الرجال الذين تخلفوا لأعذار قاله ابن عباس
والثاني أنهم النساء والصبيان قاله الحسن وقتادة
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا
وهم فاسقون
قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم سبب نزولها أنه لما توفي عبد الله ابن أبي جاء
ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أعطني قميصك حتى أكفنه فيه وصل عليه
واستغفر له فأعطاه قميصه فقال آذني أصلي عليه فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه
عمر بن الخطاب وقال أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال أنا بين خيرتين
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فصلى عليه فنزلت هذه الآية رواه نافع عن ابن عمر قال
قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول ما يغني عنه قميصي من
عذاب الله تعالى والله إني لأرجو أن يسلم به ألف من قومه قال الزجاج فيروى أنه
أسلم ألف من الخزرج
لما
رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأراد الصلاة عليه فأما
قوله منهم فانه يعني المنافقين وقوله ولا تقم على قبره قال المفسرون كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فنهي عن ذلك في حق
المنافقين وقال ابن جرير معناه لا تتول دفنه وهو من قولك قام فلان بأمر فلان وقد
تقدم تفسيره
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم
وهم كافرون وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول
منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم
لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم
الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
ذلك الفوز العظيم
قوله تعالى ولا تعجبك أموالهم سبق تفسيره
قوله تعالى وإذا أنزلت سورة هذا عام في كل سورة وقال مقاتل المراد بها سورة براءة
قوله
تعالى أن آمنوا أي بأن آمنوا وفيه ثلاثة أوجه
أحدها استديموا الإيمان والثاني افعلوا فعل من آمن والثالث آمنوا بقلوبكم كما
آمنتم بألسنتكم فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين
قوله تعالى استأذنك أي في التخلف أولو الطول يعني الغني وهم الذين لا عذر لهم في
التخلف وفي الخوالف قولان
أحدهما أنهم النساء قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وشمر بن عطية وابن زيد والفراء
وقال أبو عبيدة يجوز أن تكون الخوالف هاهنا النساء ولا يكادون يجمعون الرجال على
تقدير فواعل غير أنهم قد قالوا فارس والجميع فوارس وهالك في قوم هوالك قال ابن
الانباري الخوالف لا يقع إلا على النساء إذ العرب تجمع فاعلة فواعل فيقولون ضاربة
وضوارب وشاتمة وشواتم ولا يجمعون فاعلا فواعل إلا في حرفين فوارس وهوالك فيجوز أن
يكون مع الخوالف المتخلفات في المنازل ويجوز أن يكون مع المخالفات العاصيات ويجوز
أن يكون مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن
والقول الثاني أن الخوالف خساس الناس وأدنياؤهم يقال فلان خالفة أهله إذا كان
دونهم ذكره ابن قتيبة فأما طبع فقال أبو عبيدة معناه ختم والخيرات جمع خيرة
وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال
أحدها أنها الفاضلات من كل شيء قاله أبو عبيدة والثاني الجواري الفاضلات قاله
المبرد والثالث غنائم الدنيا ومنافع الجهاد ذكره الماوردي
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين
كفروا منهم عذاب أليم
قوله تعالى وجاء المعذرون وقرأ ابن مسعود المعتذرون وقرأ ابن
عباس
ومجاهد وقتادة وابن يعمر ويعقوب المعذرون بسكون العين وتخفيف الذال وقرأ ابن
السميفع المعاذرون بألف قال أبو عبيدة المعذرون من يعذر وليس بجاد وإنما يعرض بما
لا يفعله أو يظهر غير ما في نفسه وقال ابن قتيبة يقال عذرت في الأمر إذا قصرت
وأعذرت جددت وقال الزجاج من قرأ المعذرون بتشديد الذال فتأويله المعتذرون الذين
يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن وهو هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر وأنشدوا ... إلى
الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ...
أي فقد جاء بعذر ويجوز أن يكون المعذرون الذين يعذرون يوهمون أن لهم عذرا ولا عذر
لهم ويجوز في النحو المعذرون بكسر العين والمعذرون بضم العين غير أنه لم يقرأ بهما
لأن اللفظ بهما يثقل ومن قرأ المعذرون بتسكين العين فتأويله الذين أعذروا وجاؤوا
بعذر وقال ابن الانباري المعذرون هاهنا المعتذرون بالعذر الصحيح وأصل الكلمة عند
أهل النحو المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في
الذال التي بعدها فصارتا ذالا مشددة ويقال في كلام العرب اعتذر إذا جاء بعذر صحيح
وإذا لم يأت بعذر قال الله تعالى قل لا تعتذروا فدل على فساد العذر وقال لبيد ...
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
اي
فقد جاء بعذر صحيح وكان ابن عباس يقرأ المعذرون ويقول لعن الله المعذرين يريد لعن
الله المقصرين من المنافقين وغيرهم والمعذرون الذين يأتون بالعذر الصحيح فبان من
هذا الكلام أن لهم عذرا على قراءة من خفف وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد فيه
قولان
قال المفسرون جاء هؤلاء ليؤذن لهم في التخلف عن تبوك فأذن لهم رسول الله صلى الله
عليه و سلم وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جرأة على الله تعالى
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا
لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك
لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما
ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف
وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون
قوله تعالى ليس على الضعفاء اختلفوا فيهن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر قاله قتادة
والثاني في ابن مكتوم قاله الضحاك
وفي المراد بالضعفاء ثلاثة اقوال
أحدها أنهم الزمنى والمشايخ الكبار قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني أنهم الصغار
والثالث
المجانين سموا ضعافا لضعف عقولهم ذكر القولين الماوردي والصحيح انهم الذين يضعفون
لزمانة أو عمى أو سن أو ضعف في الجسم والمرضى الذين بهم أعلال مانعة من الخروج
للقتال و الذين لا يجدون هم المقلون والحرج الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح
لله ولرسوله وفيه وجهان
أحدهما أن المعنى إذا برئوا من النفاق
والثاني إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل
فان قيل بالوجه الأول فهو يعم جميع المذكورين وإن قيل بالثاني فهو يخص المقلين
وإنما شرط النصح لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد فهو مذموم ومن النصح لله حث
المسلمين على الجهاد والسعي في إصلاح ذات بينهم وسائر ما يعود باستقامة الدين
قوله تعالى ما على المحسنين من سبيل أي من طريق بالعقوبة لأن المحسن قد سد باحسانه
باب العقاب
قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم نزلت في البكائين واختلف في عددهم وأسمائهم
فروى أبو صالح عن ابن عباس قال هم ستة عبد الله بن مغفل وصخر بن سلمان وعبد الله
بن كعب الأنصاري وعلية بن زيد الانصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة أتوا رسول
الله صلى الله عليه و سلم ليحملهم فقال لا أجد ما أحملكم عليه فانصرفوا باكين وقد
ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان سلمة بن صخر ومكان ثعلبة بن عنمة
عمرو
بن عنمة قال وقيل منهم معقل بن يسار وروى أبو إسحاق عن أشياخ له أن البكائين سبعة
من الأنصار سالم بن عمير وعلية بن زيد وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب وعمرو بن
الحمام بن الجموح وعبد الله بن مغفل وبعض الناس يقول بل عبد الله بن عمرو المزني
وعرباض بن سارية وهرمي ابن عبد الله أخو بني واقف وقال مجاهد نزلت في بني مقرن وهم
سبعة وقد ذكرهم محمد بن سعد فقال النعمان بن عمرو بن مقرن وقال أبو خيثمة هو
النعمان بن مقرن وسويد بن مقرن ومعقل بن مقرن وسنان بن مقرن وعقيل بن مقرن وعبد
الرحمن بن مقرن وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن وقال الحسن البصري نزلت في أبي موسى
وأصحابه
وفي الذي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الدواب قاله ابن عباس والثاني الزاد قاله أنس بن مالك والثالث النعال
قاله الحسن
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من
أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما
كنتم تعملون
قوله تعالى يعتذرون إليكم قال ابن عباس نزلت في المنافقين يعتذرون إليكم إذا رجعتم
من غزوة تبوك فلا تعذروهم فليس لهم عذر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم
أتوه يعتذرون فقال الله تعالى قل لا تعتذروا لن نصدقكم قد أخبرنا الله أنه ليس لكم
عذر وسيرى الله عملكم ورسوله إن عملتم خيرا وتبتم من
تخلفكم
ثم تردون بعد الموت إلى عالم الغيب والشهادة فيخبركم بما كنتم تعملون في السر
والعلانية
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم
جهنم جزاء بما كانوا يكسبون
قوله تعالى سيحلفون بالله لكم قال مقاتل حلف منهم بضعة وثمانون رجلا منهم جد بن
قيس ومعتب بن قشير
قوله تعالى لتعرضوا عنهم فيه قولان
أحدهما لتصفحوا عن ذنبهم
والثاني لأجل إعراضكم وقد شرحنا في المائدة معنى الرجس
يحلفون لكم لترضوا عنهم فان ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين
قوله تعالى يحلفون لكم لترضوا عنهم قال مقاتل حلف عبد الله بن أبي للنبي صلى الله
عليه و سلم لا أتخلف عنك ولأكونن معك على عدوك وطلب منه أن يرضى عنه وحلف عبد الله
بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطاب وجعلوا يترضون النبي صلى الله عليه و سلم
وأصحابه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما قدم المدينة لا تجالسوهم ولا
تكلموهم
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم
حكيم
قوله
تعالى الأعراب أشد كفرا قال ابن عباس نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول
المدينة أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة لأنهم أقسى وأجفى من
أهل الحضر
قوله تعالى وأجدر ألا يعلموا قال الزجاج أن في موضع نصب لأن الباء محذوفة من أن
المعنى أجدر بترك العلم تقول جدير أن تفعل وجدير بأن تفعل كما تقول أنت خليق بأن
تفعل أي هذا الفعل ميسر فيك فاذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب أن وإن أتيت بالباء صلح
ب أن وغيرها فنقول أنت جدير بأن تقوم وجدير بالقيام فاذا قلت أنت جدير القيام كان
خطأ وإنما صلح مع أن لأن أن تدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف فأما قوله
حدود ما أنزل الله فيعني به الحلال والحرام والفرائض وقيل المراد بالآية أن الأعم
في العرب هذا
ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله
سميع عليم
قوله تعالى ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق إذا خرج في الغزو وقيل ما يدفعه من الصدقة
مغرما لأنه لا يرجو له ثوابا قال ابن قتيبة المغرم هو الغرم والخسر وقال ابن فارس
الغرم ما يلزم أداؤه والغرام اللازم وسمي الغريم لإلحاحه وقال غيره الغرم التزام
مالا يلزم
قوله تعالى ويتربص أي وينتظر بكم الدوائر أي دوائر الزمان بالمكروه بالموت أو
القتل أو الهزيمة وقيل ينتظر موت الرسول صلى الله عليه و سلم وظهور المشركين
قوله تعالى عليهم دائرة السوء قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين
وقرأ
نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي السوء بفتح السين وكذلك قرؤوا في سورة الفتح
والمعنى عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء قال الفراء وفتح السين من السوء هو
وجه الكلام فمن فتح أراد المصدر من سؤته سوءا ومساءة ومن رفع السين جعله اسما
كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب ولا يجوز ضم السين في قوله ما كان أبوك امرأ سوء
ولا في قوله وظننتم ظن السوء لأنه ضد لقولك رجل صدق وليس للسوء هاهنا معنى في عذاب
ولا بلاء فيضم
ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات
الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم
قوله تعالى ومن الأعراب من يؤمن بالله قال ابن عباس وهم من أسلم من الأعراب مثل
جهينة وأسلم وغفار
وفي قوله ويتخذ ما ينفق قولان
أحدهما في الجهاد والثاني في الصدقة فأما القربات فجمع قربة وهي ما يقرب العبد من
رضى الله ومحبته قال الزجاج وفي القربات ثلاثة أوجه ضم الراء وفتحها وإسكانها وفي
المراد بصلوات الرسول قولان
أحدهما استغفاره قاله ابن عباس
والثاني دعاؤه قاله قتادة وابن قتيبة والزجاج وأنشد الزجاج ... عليك مثل الذي صليت
فاغتمضي ... نوما فان لجنب المرء مضطجعا
قال
إن شئت قلت مثل الذي ومثل الذي فالأمر أمر لها بالدعاء كأنه قال ادعي لي مثل الذي
دعوت والثاني بمعنى عليك مثل هذا الدعاء
قوله تعالى ألا إنها قربة لهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عمر وحمزة
والكسائي قربة لهم خفيفة وروى ورش وإسماعيل ابن جعفر عن نافع وأبان والمفضل عن
عاصم قربة لهم بضم الراء وفي المشار إليها وجهان
أحدهما أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم والثاني إلى صلوات الرسول
قوله تعالى سيدخلهم الله في رحمته قال ابن عباس في جنته
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا
عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم
قوله تعالى والسابقون الأولون فيهم ستة أقوال
أحدها أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله أبو
موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة
والثاني أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان وهي
الحديبية قاله الشعبي
والثالث أنهم أهل بدر قاله عطاء بن أبي رباح
والرابع أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حصل لهم السبق بصحبته
قال محمد بن كعب القرظي إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
وأوجب لهم الجنة محسنهم ومسيئهم في قوله والسابقون الأولون
والخامس أنهم السابقون بالموت والشهادة سبقوا إلى ثواب الله تعالى وذكره الماوردي
والسادس
أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة ذكره القاضي أبو يعلى
قوله تعالى من المهاجرين والأنصار قرأ يعقوب والأنصار برفع الراء
قوله تعالى والذين اتبعوهم باحسان من قال إن السابقين جميع الصحابة جعل هؤلاء
تابعي الصحابة وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد روي عن ابن
عباس أنه قال والذين اتبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة ومن قال هم المتقدمون من
الصحابة قال هؤلاء تبعوهم في طريقهم واقتدوا بهم في أفعالهم ففضل أولئك بالسبق وإن
كانت الصحبة حاصلة للكل وقال عطاء اتباعهم إياهم باحسان أنهم يذكرون محاسنهم
ويترحمون عليهم
قوله تعالى تجري تحتها الأنهار قرأ ابن كثير من تحتها فزاد من وكسر التاء الثانية
قوله تعالى رضي الله عنهم يعم الكل قال الزجاج رضي الله أفعالهم ورضوا ما جازاهم
به
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن
نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم
قوله تعالى وممن حولكم من الأعراف منافقون قال ابن عباس مزينة وجهينة وأسلم وغفار
وأشجع كان فيهم بعد إسلامهم منافقون قال مقاتل وكانت منازلهم حول المدينة
قوله تعالى ومن أهل المدينة مردوا على النفاق قال ابن عباس مرنوا عليه وثبتوا منهم
عبد الله بن أبي وجد بن قيس والجلاس ومعتب
ووحوح
وأبو عامر الراهب وقال أبو عبيدة عتوا ومرنوا عليه وهو من قولهم تمرد فلان ومنه
شيطان مريد
فان قيل كيف قال ومن أهل المدينة مردوا وليس يجوز في الكلام من القوم قعدوا فعنه
ثلاثة أجوبة
أحدهن أن تكون من الثانية مردودة على الأولى والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن
أهل المدينة منافقون ثم استأنف مردوا
والثاني أن يكون في الكلام من مضمر تقديره ومن أهل المدينة من مردوا فاضمرت من
لدلالة من عليها كقوله وما منا إلا له مقام معلوم يريد إلا من له مقام معلوم وعلى
هذا ينقطع الكلام عند قوله منافقون
والثالث أن مردوا متعلق بمنافقين تقديره ومن أهل المدينة منافقون مردوا ذكر هذه
الأجوبة ابن الأنباري
قوله تعالى لا تعلمهم فيه وجهان
أحدهما لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم والثاني لا تعلم عواقبهم
قوله تعالى سنعذبهم مرتين فيه عشرة أقوال
أحدها أن العذاب الأول في الدنيا وهو فضيحتهم بالنفاق والعذاب الثاني عذاب القبر
قاله ابن عباس قال وقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم جمعة خطيبا فقال يا
فلان اخرج فانك منافق ويا فلان اخرج ففضحهم
والثاني
أن العذاب الأول إقامة الحدود عليهم والثاني عذاب القبر وهذا مروي عن ابن عباس
أيضا
والثالث أن أحد العذابين الزكاة التي تؤخذ منهم والآخر الجهاد الذي يؤمرون به قاله
الحسن
والرابع الجوع وعذاب القبر رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال أبو مالك
والخامس الجوع والقتل رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
والسادس القتل والسبي رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال ابن قتيبة القتل والأسر
والسابع أنهم عذبوا بالجوع مرتين رواه خصيف عن مجاهد
والثامن أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد وفي الآخرة بالنار قاله
ابن زيد
والتاسع أن الأول عند الموت تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم والثاني في القبر بمنكر
ونكير قاله مقاتل بن سليمان
والعاشر أن الأول بالسيف والثاني عند الموت قاله مقاتل بن حيان
قوله تعالى ثم يردون إلى عذاب عظيم يعني عذاب جهنم
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن
الله غفور رحيم
قوله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنهم عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فلما
دنا
رجوع رسول الله صلى الله عليه و سلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد فلما
رآهم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من هؤلاء قالوا هذا أبو لبابة وأصحاب له
تخلفوا عنك فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم فقال وأنا أقسم
بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا
عن الغزو مع المسلمين فنزلت هذه الآية فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم رواه علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس وروى العوفي عن ابن عباس أن الذين تخلفوا كانوا ستة فأوثق أبو
لبابة نفسه ورجلان معه وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية أطلقهم
رسول الله صلى الله عليه و سلم وعذرهم وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة
أبو لبابة بن عبد المنذر وأوس ابن ثعلبة ووديعة بن خذام الأنصاري وقال سعيد بن
جبير ومجاهد وزيد ابن أسلم كانوا ثمانية وقال قتادة ذكر لنا أنهم كانوا سبعة
والثاني أنها نزلت في ابي لبانه وحده واختلفوا في ذنبه على قولين
أحدهما أنه خان الله ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم
سعد أنه الذبح وهذا قول مجاهد وقد شرحناه في الأنفال
والثاني
أنه تخلفه عن تبوك قاله الزهري فأما الاعتراف فهو الاقرار بالشيء عن معرفة
والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول
قوله تعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قال ابن جرير وضع الواو مكان الباء والمعنى
بآخر سيء كما تقول خلطت الماء واللبن
وفي ذلك العمل قولان
أحدهما أن العمل الصالح ما سبق من جهادهم والسيء التأخر عن الجهاد قاله السدي
والثاني أن العمل الصالح توبتهم والسيء تخلفهم ذكره الفراء وفي قوله عسى قولان
أحدهما أنه واجب من الله تعالى قاله ابن عباس
والثاني أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق وذلك يصد عن اللهو والإهمال
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع
عليم
قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة قال المفسرون لما تاب الله عز و جل على أبي لبابة
وأصحابه قالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا فقال
ما
أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت هذه الآية
وفي هذه الصدقة قولان
أحدهما أنها الصدقة التي بذلوها تطوعا قاله ابن زيد والجمهور والثاني الزكاة قاله
عكرمة
قوله تعالى تطهرهم وقرأ الحسن تطهرهم بها بجزم الراء قال الزجاج يصلح أن يكون قوله
تطهرهم نعتا للصدقة كأنه قال خذ من أموالهم صدقة مطهرة والأجود أن يكون للنبي صلى
الله عليه و سلم المعنى فانك تطهرهم بها ف تطهرهم بالجزم على جواب الأمر المعنى إن
تأخذ من أموالهم تطهرهم ولا يجوز في تزكيهم إلا إثبات الياء اتباعا للمصحف قال ابن
عباس تطهرهم من الذنوب وتزكيهم تصلحهم وفي قوله وصل عليهم قولان
أحدهما استغفر لهم قاله ابن عباس والثاني ادع لهم قاله السدي
قوله تعالى إن صلواتك قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم إن
صلواتك على الجمع وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إن صلاتك على التوحيد وفي قوله
سكن لهم خمسة أقوال
أحدها طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال أبو عبيدة
تثبيت وسكون والثاني رحمة لهم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثالث قربة لهم
رواه الضحاك عن ابن عباس والرابع وقار لهم قاله قتادة والخامس تزكية لهم حكاه
الثعلبي قال الحسن وقتادة وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا
الم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة
فينبئكم بما كنتم تعملون
قوله تعالى ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة قرأ الجمهور يعلموا بالياء وروى عبد
الوارث تعلموا بالتاء وقوله يقبل التوبة عن عباده قال أبو عبيدة أي من عبيده تقول
أخذته منك وأخذته عنك
قوله تعالى ويأخذ الصدقات قال ابن قتيبة أي يقبلها ومثله خذ العفو أي اقبله
قوله تعالى وقل اعملوا قال ابن زيد هذا خطاب للذين تابوا
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم
قوله تعالى وآخرون مرجؤن وقرأ نافع وحمزة والكسائي مرجون بغير همز والآية نزلت في
كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر
ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري
فوقف رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرهم ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل
قوله وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال الزجاج وآخرون عطف على قوله ومن أهل المدينة فالمعنى
منهم منافقون ومنهم آخرون مرجون أي مؤخرون وإما
لوقوع
أحد الشيئين والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم لكنه خاطب العباد بما يعلمون
فالمعنى ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء
قوله تعالى والله عليم حكيم أي عليم بما يؤول إليه حالهم حكيم بما يفعله بهم
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله
ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون
قوله تعالى والذين اتخذوا مسجدا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي
والذين بواو وكذلك هي في مصاحفهم وقرأ نافع وابن عامر الذين بغير واو وكذلك هي في
مصاحف أهل المدينة والشام قال أبو علي من قرأ بالواو فهو معطوف على ما قبله نحو
قوله ومنهم من عاهد الله ومنهم من يلمزك ومنهم الذين يؤذون النبي والمعنى ومنهم
الذين اتخذوا مسجدا ومن حذف الواو فعلى وجهين
أحدهما أن يضمر ومنهم الذين اتخذوا كقوله أكفرتم المعنى فيقال لهم أكفرتم
والثاني أن يضمر الخبر بعد كما أضمر في قوله إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله
والمسجد الحرام المعنى ينتقم منهم ويعذبون قال أهل التفسير لما اتخذ بنو عمرو بن
عوف مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاهم فصلى فيه حسدهم
إخوتهم بنو غنم بن عوف وكانوا من منافقي الأنصار فقالوا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول
الله فيصلي
فيه
ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية
وتنصر فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة عاداه فخرج إلى الشام وأرسل
إلى المنافقين أن أعدوا من استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فاني ذاهب إلى
قيصر فآتي بجند الروم فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء
وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد ونبتل بن الحارث
وبجاد بن عثمان وثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف ووديعة بن ثابت وأبو
حبيبة بن الأزعر وجارية بن عامر وابناه يزيد ومجمع وكان مجمع إمامهم فيه ثم صلحت
حاله وبحزج جد عبد الله بن حنيف وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ما
أردت بما أرى فقال والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب وقال مقاتل الذي حلف مجمع
وقيل كانوا سبعة عشر فلما فرغوا منه أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا
إنا قد ابتنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة وإنا نحب أن تأتينا فتصلي
فيه فدعى بقميصه ليلبسه فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم فدعا معن بن عدي ومالك
بن الدخشم في آخرين وقال انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه وأمر
به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف ومات أبو عامر
بالشام وحيدا غريبا
فأما التفسير فقال الزجاج الذين في موضع رفع المعنى ومنهم الذين اتخذوا مسجدا
ضرارا وضرارا انتصب مفعولا له المعنى اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد فلما
حذفت اللام أفضى الفعل فنصب قال المفسرون
والضرار
بمعنى المضارة لمسجد قباء وكفرا بالله ورسوله وتفريقا بين المؤمنين لأنهم كانوا
يصلون في مسجد قباء جميعا فأرادوا تفريق جماعتهم والإرصاد الانتظار فانتظروا به
مجيء أبي عامر وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار وليحلفن إن
أردنا أي ما أردنا إلا الحسنى أي ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى وفيها ثلاثة أوجه
أحدها طاعة الله والثاني الجنة والثالث فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع
للصلاة وقد ذكرنا اسم الحالف
لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون
أن يتطهروا والله يحب المتطهرين
قوله تعالى لا تقم فيه أي لا تصل فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى أي بني على الطاعة
وبناه المتقون من أول يوم أي منذ أول يوم قال الزجاج من في الزمان والأصل منذ ومذ
وهو الأكثر في الاستعمال وجائز دخول من لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض
ومثله قول زهير ... لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر ...
وقيل معناه من مر حجج ومن مر شهر وفي هذا المسجد ثلاثة اقوال
أحدها أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره روى
سهل بن سعد أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الذي
أسس على
التقوى
فقال أحدهما هو مسجد الرسول وقال الآخر هو مسجد قباء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه
و سلم فقال هو مسجدي هذا وبه قال ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وسعيد بن
المسيب
والثاني أنه مسجد قباء رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
وقتادة وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك ومقاتل
والثالث أنه كل مسجد بني في المدينة قاله محمد بن كعب
قوله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا سبب نزولها أن رجالا من أهل قباء كانوا
يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية قاله الشعبي قال ابن عباس لما نزلت هذه الآية
أتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما الذي أثنى الله به عليكم فقالوا إنا
نستنجي بالماء فعلى هذا المراد به الطهارة بالماء وقال أبو العالية أن يتطهروا من
الذنوب
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار
فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين
قوله تعالى أفمن أسس بنيانه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة
والكسائي
أسس بفتح الألف في الحرفين جميعا وفتح النون فيهما وقرأ نافع وابن عامر أسس بضم
الألف بنيانه برفع النون والبنيان مصدر يراد به المبني والتأسيس إحكام اس البناء
وهو أصله والمعنى المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو رضوانه خير أم المؤسس
بنيانه غير متق قال الزجاج وشفا الشيء حرفه وحده والشفا مقصور يكتب بالألف ويثنى
شفوان
قوله تعالى جرف قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي جرف مثقلا وقرأ ابن عامر
وحمزة وأبو بكر عن عاصم جرف ساكنة الراء قال أبو علي فالضم الأصل والإسكان تخفيف
ومثله الشغل والشغل قال ابن قتيبة المعنى على حرف جرف هائر والجرف ما يتجرف
بالسيول من الأودية والهائر الساقط ومنه تهور البناء وانهار إذا سقط وقرأ ابن كثير
وحمزة هار بفتح الهاء وأمال الهاء نافع وأبو عمرو وعن عاصم كالقراءتين
قوله تعالى فانهار به أي بالباني في نار جهنم قال الزجاج وهذا مثل والمعنى أن بناء
هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها وقال قتادة ذكر لنا أنهم حفروا
فيه حفرة فرؤي فيها الدخان قال جابر رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم
قوله تعالى لا يزال بنيانهم يعني مسجد الضرار الذي بنوا ريبة في قلوبهم وفيها
ثلاثة أقوال
أحدها
شكا ونفاقا لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه قاله ابن عباس وابن زيد
والثاني حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه قاله ابن السائب ومقاتل
والثالث أن المعنى لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم قاله السدي والمبرد
قوله تعالى إلا أن تقطع قلوبهم قرأ الأكثرون إلا وهو حرف استثناء وقرأ يعقوب إلى
أن فجعله حرف جر وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم تقطع
بضم التاء وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم تقطع بفتح التاء ثم في المعنى قولان
أحدهما إلا أن يموتوا قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة في آخرين
والثاني إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم ذكره الزجاج
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من
الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم
قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم سبب نزولها أن الانصار لما بايعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا قال عبد الله بن
رواحة يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا
تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم قالوا فاذا
فعلنا
ذلك فما لنا قال الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى
الآية قاله محمد بن كعب القرظي فأما اشتراء النفس فبالجهاد
وفي اشتراء الأموال وجهان بالإنفاق في الجهاد والثاني بالصدقات وذكر الشراء هاهنا
مجاز لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى فهو كقوله من ذا الذي يقرض الله
والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة
فعبر عنه بالشراء لما تضمن من عوض ومعوض وكان الحسن يقول لا والله إن في الدنيا
مؤمن إلا وقد أخذت بيعته وقال قتادة ثامنهم والله فأغلى لهم
قوله تعالى فيقتلون ويقتلون قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم فيقتلون
ويقتلون فاعل ومفعول وقرأ حمزة والكسائي فيقتلون ويقتلون مفعول وفاعل قال أبو علي
القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أولا ويقتلون والأخرى يجوز أن تكون في المعنى
كالأولى لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فان لم يقدر فيه التقديم
فالمعنى يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل كما أن قوله فما وهنوا لما أصابهم ما وهن
من بقي بقتل من قتل ومعنى الكلام إن الجنة عوض عن جهادهم قتلوا أو قتلوا وعدا عليه
قال الزجاج نصب وعدا بالمعنى لأن معنى قوله بأن لهم الجنة وعدا عليه حقا قال وقوله
في التوراة والإنجيل يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة
قوله
تعالى ومن أوفى أي لا أحد أوفى بما وعد من الله فاستبشروا أي فافرحوا بهذا البيع
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون
عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين
قوله تعالى التائبون سبب نزولها أنه لما نزلت التي قبلها قال رجل يا رسول الله وإن
سرق وإن زنى وإن شرب الخمر فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس قال الزجاج يصلح الرفع
هاهنا على وجوه أحدها المدح كأنه قال هؤلاء التائبون أو هم التائبون ويجوز أن يكون
على البدل والمعنى يقاتل التائبون فهذا مذهب أهل اللغة والذي عندي أنه رفع
بالابتداء وخبره مضمر المعنى التائبون ومن ذكر معهم لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا
إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد
وللمفسرين في قوله التائبون قولان أحدهما الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي
والثاني الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر
وفي قوله العابدون ثلاثة أقوال أحدها المطيعون لله بالعبادة قاله أبو صالح عن ابن
عباس والثاني المقيمون الصلاة قاله الضحاك عن ابن عباس
والثالث الموحدون قاله سعيد بن جبير
قوله تعالى الحامدون قال قتادة يحمدون الله على كل حال
وفي السائحين أربعة أقوال
أحدها
الصائمون قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة في آخرين قال
الفراء ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحا تشبيها بالسائح لأن السائح لا زاد
معه والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه صائم وذلك أن له قوتين غدوة
وعشية فشبه به صيام الآدمي لتسحره وإفطاره والثاني أنهم الغزاة قاله عطاء والثالث
طلاب العلم قاله عكرمة والرابع المهاجرون قاله ابن زيد
قوله تعالى الراكعون الساجدون يعني في الصلاة الآمرون بالمعروف وهو طاعة الله
والناهون عن المنكر وهو معصية الله
فان قيل ما وجه دخول الواو في قوله والناهون فعنه جوابان
أحدهما أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة والعرب تعطف بالواو على
السبعة كقوله وثامنهم كلبهم وقوله في صفة الجنة وفتحت أبوابها ذكره جماعة من
المفسرين
والثاني أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال
أمره فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر
كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض
الأحوال والأوقات
قوله تعالى والحافظون لحدود الله قال الحسن القائمون بأمر الله
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما
تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار ابراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها
إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم
قوله
تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده
أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال أي عم قل معي لا إله إلا الله أحاج لك بها عند
الله فقال أبو جهل وابن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا
يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله
عليه و سلم لأستغفرن لك مالم أنه عنك فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا الآية ونزلت
إنك لا تهدي من أحببت أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن
أبيه وقيل إنه لما مات أبو طالب جعل النبي صلى الله عليه و سلم يستغفر له فقال
المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا وقد استغفر ابراهيم لأبيه
وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية قال أبو الحسين بن
المنادي هذا لا يصح إنما قال النبي صلى الله عليه و سلم لعمه لأستغفرن لك مالم أنه
عنك قبل أن يموت
وهو
في السياق فأما أن يكون استغفر له بعد الموت فلا فانقلب ذلك على الرواة وبقي على
انقلابه
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بقبر أمه آمنة فتوضأ وصلى ركعتين ثم بكى
فبكى الناس لبكائه ثم انصرف إليهم فقالوا ما الذي أبكاك فقال مررت بقبر امي فصليت
ركعتين ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت
ربي أن أستغفر لها فزجرت زجرا فأبكاني ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيأة
حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا والأية التي بعدها
رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثالث أن رجلا استغفر لأبويه وكانا مشركين فقال له علي بن أبي طالب أتستغفر لهما
وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فذكر ذلك علي للنبي صلى الله عليه و
سلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام
والرابع أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا يا نبي الله إن من
آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الرحم ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا
نستغفر
لهم فقال بلى والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فنزلت هذه الآية وبين
عذر إبراهيم قاله قتادة ومعنى قوله من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أي من
بعد ما بان أنهم ماتوا كفارا
قوله تعالى إلا عن موعدة وعدها إياه فيه قولان
أحدهما أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار وذلك قوله سأستغفر لك ربي وما كان يعلم أن
الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله بذلك
والثاني أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن فلما تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله
تعالى بموته على الكفر ترك الدعاء له فعلى الأول تكون هاء الكناية في إياه عائدة
على آزر وعلى الثاني تعود على إبراهيم وقرأ ابن السميفع ومعاذ القارئ وأبو نهيك
وعدها أباه بالباء
وفي الأواه ثمانية أقوال
أحدها أنه الخاشع الدعاء المتضرع رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى
الله عليه و سلم
والثاني أنه الدعاء رواه زر عن عبد الله وبه قال عبيد بن عمير
والثالث الرحيم رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود وبه قال الحسن وقتادة
وأبو ميسرة
والرابع أنه الموقن رواه أبو ظبيان عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء وعكرمة
والضحاك
والخامس أنه المؤمن رواه العوفي ومجاهد وابن أبي طلحة عن ابن عباس
والسادس
أنه المسبح رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة وبه قال سعيد ابن المسيب وابن جبير
والسابع أنه المتأوه لذكر عذاب الله قاله الشعبي قال أبو عبيدة مجاز أواه مجاز
فعال من التأوه ومعناه متضرع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربه قال المثقب ... إذا ما
قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين ...
والثامن أنه الفقيه رواه ابن جريج عن مجاهد فأما الحليم فهو الصفوح عن الذنوب
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم
إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما الآية سبب نزولها أنه لما نزلت آية الفرائض
وجاء النسخ وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر ومات أقوام
على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الآية قاله أبو
صالح عن ابن عباس وقال قوم المعنى أنه بين أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين
قبل تحريمه فاذا حرمه ولم يمتنعوا عنه فقد ضلوا وقال ابن الانباري في الآية حذف
واختصار والتأويل حتى
يتبين
لهم ما يتقون فلا يتقونه فعند ذلك يستحقون الضلال فحذف ما حذف لبيان معناه كما
تقول العرب أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال يريدون فتجرت فكسبت
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد
ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤف رحيم
قوله تعالى لقد تاب الله على النبي قال المفسرون تاب عليه من إذنه للمنافقين في
التخلف وقال أهل المعاني هو مفتاح كلام وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر
معهم كقوله فإن لله خمسه وللرسول
قوله تعالى الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال الزجاج هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك
والمراد بساعة العسرة وقت العسرة لأن الساعة تقع على كل الزمان وكان في ذلك الوقت
حر شديد والقوم في ضيقة شديدة كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه وكانوا في فقر
فربما اقتسم التمرة اثنان وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء وربما
نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر وقيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن ساعة
العسرة فقال خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن
رقابنا ستتقطع حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع
وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر
يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا قال تحب
ذلك
قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم
نجدها جاوزت العسكر
قوله تعالى من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم قرأ حمزة وحفص عن عاصم كاد يزيغ
بالياء وقرأ الباقون بالتاء وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها تميل إلى التخلف عنه وهم ناس من المسلمين هموا بذلك ثم لحقوه قاله أبو صالح
عن ابن عباس
والثاني أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها ولم تزغ عن الإيمان قاله
الزجاج
والثالث أن القلوب كادت تزيغ تلفا بالجهد والشدة ذكره الماوردي
قوله تعالى ثم تاب عليهم كرر ذكر التوبة لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم فقدم
ذكر التوبة فضلا منه ثم ذكر ذنبه ثم أعاد ذكر التوبة
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم
قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا وقرأ أبو رزين وأبو مجلز والشعبي وابن يعمر
خالفوا بألف وقرأ معاذ القارئ وعكرمة وحميد
خلفوا
بفتح الخاء واللام المخففة وقرأ أبو الجوزاء وأبو العالية خلفوا بفتح الخاء واللام
مع تشديدها وهؤلاء هم المرادون بقوله وآخرون مرجون وقد تقدمت أسماؤهم وفي معنى
خلفوا قولان
أحدهما خلفوا عن التوبة قاله ابن عباس ومجاهد فيكون المعنى خلفوا عن توبة الله على
أبي لبابة واصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك
والثاني خلفوا عن غزوة تبوك قاله قتادة وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك وقد
رويتها في كتاب الحدائق
قوله تعالى حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي ضاقت مع سعتها وذلك أن المسلمين
منعوا من معاملتهم وكلامهم وأمروا باعتزال أزواجهم وكان النبي صلى الله عليه و سلم
معرضا عنهم وضاقت عليهم أنفسهم بالهم والغم وظنوا أي أيقنوا أن لا ملجأ أي لا
معتصم من الله ومن عذابه إلا هو ثم تاب عليهم أعاد التوبة تأكيدا ليتوبوا قال ابن
عباس ليستقيموا وقال غيره وفقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها
وسئل بعضهم عن التوبة النصوح فقال أن تضيق على التائب الارض وتضيق عليه نفسه كتوبة
كعب وصاحبيه
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونا مع الصادقين
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا الله وكونوا مع الصادقين في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلفين
والثاني
أنها في أهل الكتاب والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في
إيمانكم بمحمد صلى الله عليه و سلم وكونوا مع الصادقين
وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال
أحدها أنه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قاله ابن عمر
والثاني أبو بكر وعمر قاله سعيد بن جبير والضحاك وقد قرأ ابن السميفع وأبو المتوكل
ومعاذ القارئ مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية
والثالث أنهم الثلاثة الذين خلفوا صدقوا النبي صلى الله عليه و سلم عن تأخرهم قاله
السدي
والرابع أنهم المهاجرون لأنهم لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في
الجهاد قاله ابن جريج قال أبو سليمان الدمشقي وقيل إن أبا بكر الصديق احتج بهذه
الآية يوم السقيفة فقال يا معشر الأنصار إن الله يقول في كتابه للفقراء المهاجرين
الذين أخرجوا إلى قوله أولئك هم الصادقون من هم قالت الأنصار أنتم هم قال فان الله
تعالى يقول اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن
نكون معكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء
والخامس أنه عام قاله قتادة ومع بمعنى من وكذلك هي في قراءة ابن مسعود وكونوا من
الصادقين
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن
موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا
إلا
كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبير
ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون
قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولها من الاعراب قال ابن عباس يعني مزينة
وجهينة وأشجع وأسلم وغفار أن يتخلفوا عن رسول الله في غزوة غزاها ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله في الحر والمشقة يقال
رغبت بنفسي عن الشيء إذا ترفعت عنه
قوله تعالى ذلك أي ذلك النهي عن التخلف بأنهم لا يصيبهم ظمأ وهو العطش ولا نصب وهو
التعب ولا مخمصة وهو المجاعة ولا ينالون من عدو نيلا أسرا أو قتلا أو هزيمة
فأعلمهم الله أن يجازيهم على جميع ذلك
قوله تعالى ولا ينفقون نفقة صغيرة قال ابن عباس تمرة فما فوقها ولا يقطعون واديا
مقبلين أو مدبرين إلا كتب لهم أي أثبت لهم أجر ذلك ليجزيهم الله أحسن أي بأحسن ما
كانوا يعملون
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله اختلف المفسرون في هذه الآية فقالت طائفة كان في أول
الأمر لا يجوز التخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين كان الجهاد يلزم الكل
ثم نسخ ذلك بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة
وقالت
طائفة فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبي صلى الله عليه و سلم ممن لا
عذر له الخروج معه لشيئين
أحدهما أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم
والثاني أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدين كله فأمروا بالتظاهر لئلا يقل العدد
وهذا الحكم باق إلى وقتنا فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد وجب على عامة المسلمين
متابعته لما ذكرنا فعلى هذا الآية محكمة قال أبو سليمان لكل آية وجهها وليس للنسخ
على إهدى الآيتين طريق
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة في سبب نزولها أربعة اقوال
أحدها أنه لما أنزل الله عز و جل عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون والله
لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا سرية أبدا فلما أرسل
السرايا بعد تبوك نفر المسلمون جميعا وتركوا رسول الله وحده فنزلت هذه الآية قاله
أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دعا على مضر أجدبت بلادهم فكانت
القبيلة منهم تقبل بأسرها إلى المدينة من الجهد ويظهرون الإسلام وهم كاذبون فضيقوا
على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس
والثالث أن ناسا أسلموا وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم فنزلت
إلا
تنفروا يعذبكم فقال ناس من المنافقين هلك من لم ينفر من أهل البوادي فنزلت هذه
الآية قاله عكرمة
والرابع أن ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم ويصيبون من الحطب ما
ينتفعون به فقال لهم الناس ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فأقبلوا من
البادية كلهم فنزلت هذه الآية قاله مجاهد قال الزجاج ولفظ الآية لفظ الخبر ومعناها
الأمر كقوله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين والمعنى ينبغي أن
ينفر بعضهم ويبقى البعض قال الفراء ينفر وينفر بكسر الفاء وضمها لغتان واختلف
المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين
أحدهما أنه النفير إلى العدو فالمعنى ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم بل تنفر طائفة
وتبقى مع النبي صلى الله عليه و سلم طائفة ليتفقهوا في الدين يعني الفرقة القاعدين
فاذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدد أمر أعلموهم به وأنذروهم به إذا
رجعوا إليهم وهذا المعنى مروي عن ابن عباس
والثاني أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بل تنفر منهم طائفة ليتفقه
هؤلاء الذين ينفرون ولينذروا قومهم المتخلفين هذا قول الحسن وهو أشبه بظاهر الآية
فعلى القول الأول يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إن خرج
إلى غزاة أو مع سراياه وعلى القول الثاني يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس
العلم
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن
الله مع المتقين وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما
الذين
آمنوا
فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم
وماتوا وهم كافرون أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا
هم يذكرون
قوله تعالى قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قد أمر بقتال الكفار على العموم وإنما
يبتدأ بالأقرب فالأقرب وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال
أحدها أنهم الروم قاله ابن عمر والثاني قريظة والنضير وخيبر وفدك قاله ابن عباس
والثالث الديلم قاله الحسن والرابع العرب قاله ابن زيد والخامس أنه عام في قتال
الاقرب فالأقرب قاله قتادة وقال الزجاج في هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل
أهل كل ثغر الذين يلونهم قال وقيل كان النبي صلى الله عليه و سلم ربما تخطى في
حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهيب له فأمر بقتال من يليه ليستن بذلك وفي
الغلظة ثلاث لغات غلظة بكسر الغين وبها قرأ الأكثرون وغلظة بفتح الغين رواها جبلة
عن عاصم وغلظة بضم الغين رواها المفضل عن عاصم ومثلها جذوة وجذوة وجذوة ووجنة
ووجنة ووجنة ورغوة ورغوة ورغوة وربوة وربوة وربوة وقسوة وقسوة وقسوة وإلوة وإلوة
وإلوة في اليمين وشاة لجبة ولجبة ولجبة قد ولى لبنها قال ابن عباس في قوله غلظة
شجاعة وقال مجاهد شدة
قوله تعالى فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا هذا قول المنافقين بعضهم لبعض
استهزاء بقول الله تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا لأنهم
إذا
صدقوا بها وعملوا بما فيها زادتهم إيمانا وهم يستبشرون أي يفرحون بنزولها وأما
الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق
وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال
أحدها الشك قاله ابن عباس والثاني الإثم قاله مقاتل والثالث الكفر لأنهم كلما
كفروا بسورة زاد كفرهم قاله الزجاج
قوله تعالى أولا يرون يعني المنافقين وقرأ حمزة أولا ترون بالتاء على الخطاب
للمؤمنين وفي معنى يفتنون ثمانية أقوال
أحدها يكذبون كذبة أو كذبتين يضلون بها قاله حذيفة بن اليمان
والثاني ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث يبتلون بالغزو في سبيل الله قاله الحسن وقتادة
والرابع يفتنون بالسنة والجوع قاله مجاهد
والخامس بالأوجاع والأمراض قاله عطية
والسادس ينقضون عهدهم مرة أو مرتين قاله يمان
والسابع يكفرون وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم بما تكلموا
به إذ خلوا علموا أنه نبي ثم يأتيهم الشيطان فيقول إنما بلغه هذا عنكم فيشركون
قاله مقاتل بن سليمان
والثامن يفضحون باظهار نفاقهم قاله مقاتل بن حيان
قوله تعالى ثم لا يتوبون أي من نفاقهم ولا هم يذكرون أي يعتبرون ويتعظون
وإذا
ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم
بأنهم قوم لا يفقهون
قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض قال ابن عباس كانت إذا أنزلت
سورة فيها عيب المنافقين وخطبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وعرض بهم في خطبته
شق ذلك عليهم ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب يقولون هل يراكم من أحد من المؤمنين
إن قمتم فان لم يرهم أحد خرجوا من المسجد قال الزجاج كأنهم يقولون ذلك إيماء لئلا
يعلم بهم أحد ثم انصرفوا عن المكان وجائز عن العمل بما يسمعون وقال الحسن ثم
انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى الله عليه و سلم وبما جاء به
قوله تعالى صرف الله قلوبهم قال ابن عباس عن الإيمان وقال الزجاج أضلهم مجازاة على
فعلهم
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم
قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم قرأ الجمهور بضم الفاء وقرأ ابن عباس وأبو
العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو بفتحها وفي المضمونة أربعة أقوال
أحدها من جميع العرب قاله ابن عباس وقال ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسوله
الله صلى الله عليه و سلم
والثاني ممن تعرفون قاله قتادة
والثالث من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية قاله جعفر الصادق
الرابع
بشر مثلكم فهو آكد للحجة لأنكم تفقهون عمن هو مثلكم قاله الزجاج وفي المفتوحة
ثلاثة أقوال
أحدها أفضلكم خلقا والثاني أشرفكم نسبا والثالث أكثركم طاعة لله عز و جل
قوله تعالى عزيز عليه ما عنتم فيه قولان
أحدهما شديد عليه ما شق عليكم رواه الضحاك عن ابن عباس قال الزجاج شديد عليه عنتكم
والعنت لقاء الشدة
والثاني شديد عليه ما آثمكم رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى حريص عليكم قال الحسن حريص عليكم أن تؤمنوا
قوله تعالى بالمؤمنين رؤوف رحيم قال ابن عباس سماه باسمين من أسمائه وقال أبو
عبيدة رؤوف فعول من الرأقة وهي أرق من الرحمة ويقال رؤف وأنشد ... ترى للمؤمنين
عليك حقا ... كفعل الوالد الرؤف الرحيم ...
وقيل رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين
فان تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم
قوله تعالى فان تولوا أي أعرضوا عن الإيمان فقل حسبي الله أي يكفيني رب العرش
العظيم وقرأ ابن محيصن العظيم برفع
الميم وإنما خص العرش بالذكر لأنه الأعظم فيدخل فيه الأصغر قال أبي بن كعب آخر آية أنزلت لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة تم بعون الله تبارك وتعالى الجزء الثالث من زاد المسير في علم التفسير ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير سورة يونس
بسم
الله الرحمن الرحيم سورة يونس
فصل في نزولها
روى عطية وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وبه قال الحسن وعكرمة وروى أبو صالح
عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به يونس 40
وفي رواية عن ابن عباس فيها ثلاث آيات من المدني أولها قوله فإن كنت في شك يونس 94
إلى رأس ثلاث آيات وبه قال قتادة وقال مقاتل هي مكية غير آيتين قوله فإن كنت في شك
والتي تليها يونس 9594 وقال بعضهم هي مكية إلا آيتين وهي قوله قل بفضل الله
وبرحمته والتي تليها يونس 5958
آلر تلك آيات الكتاب الحكيم
فأما قوله الر قرأ ابن كثير الر بفتح الراء وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة
والكسائي الر على الهجاء مكسورة وقد ذكرنا في أول سورة البقرة ما يشتمل على بيان
هذا الجنس وقد خصت هذه الكلمة
بستة
أقوال أحدها أن معناها أنا الله أرى رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أنا الله
الرحمن رواه عطاء عن ابن عباس والثالث أنه بعض اسم من أسماء الله روى عكرمة عن ابن
عباس قال الر و حم و نون حروف الرحمن والرابع أنه قسم أقسم الله به رواه ابن أبي
طلحة عن ابن عباس والخامس أنه اسم من أسماء القرآن قاله مجاهد وقتادة والسادس أنه
اسم للسورة قاله ابن زيد وفي قوله تلك قولان أحدهما أنه بمعنى هذه قاله أبو صالح
عن ابن عباس واختاره أبو عبيدة والثاني أنه على أصله ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أن
الإشارة إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل قاله مجاهد وقتادة فيكون المعنى
هذه الأقاصيص التي تسمعونها تلك الآيات التي وصفت في التوراة والإنجيل والثاني أن
الإشارة إلى الآيات التي جرى ذكرها من القرآن قاله الزجاج والثالث أن تلك إشارة
إلى الر وأخواتها من حروف المعجم أي تلك الحروف المفتتحة بها السور هي آيات الكتاب
لأن الكتاب بها يتلى وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري قال أبو عبيدة الحكيم
بمعنى المحكم المبين الموضح والعرب قد تضع فعيلا في معنى مفعل قال الله تعالى
مالدي عتيد ق23 18 أي معد
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم
قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين إن ربكم الذي خلق السموات والأرض
في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر مامن شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله
ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون
قوله
تعالى أكان للناس عجبا سبب نزولها أن الله تعالى لما بعث محمدا صلى الله عليه و
سلم أنكرت الكفار ذلك وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فنزلت هذه
الآية والمراد بالناس هاهنا أهل مكة والمراد بالرجل محمد صلى الله عليه و سلم
ومعنى منهم يعرفون نسبه قاله ابن عباس فأما الألف فهي للتوبيخ والإنكار قال ابن
الأنباري والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إرسال محمد محذوف هاهنا وهو مبين في
قوله نحن قسمنا بينهم معيشتهم الزخرف 32 أي فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة
فلا تنكروا تفضيل الله من شاء بالنبوة وإنما حذفه هاهنا اعتمادا على ما بينه في
موضع آخر قال وقيل إنما عجبوا من ذكر البعث والنشور لأن الإنذار والتبشير يتصلان
بهما فكان جوابهم في مواضع كثيرة تدل على كون ذلك مثل قوله وهو أهون عليه الروم 27
وقوله يحيها الذي أنشأها أول مرة يس 79
وفي المراد بقوله قدم صدق سبعة أقوال
أحدها أنه الثواب الحسن بما قدموا من أعمالهم رواه العوفي عن ابن عباس وروى عنه
أبو صالح قال عمل صالح يقدمون عليه
والثاني أنه ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
قال أبو عبيدة سابقة صدق
والثالث شفيع صدق وهو محمد صلى الله عليه و سلم يشفع لهم يوم القيامة قاله الحسن
والرابع سلف صدق تقدموهم بالإيمان قاله مجاهد وقتادة
والخامس مقام صدق لا زوال عنه قاله عطاء
والسادس
أن قدم الصدق المنزلة الرفيعة قاله الزجاج
والسابع أن القدم هاهنا مصيبة المسلمين بنبيهم صلى الله عليه و سلم وما يلحقهم من
ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته ذكره ابن الأنباري
فإن قيل لم آثر القدم هاهنا على اليد والعرب تستعمل اليد في موضع الإحسان
فالجواب أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم لأن العادة جارية بتقدم الساعي على قدميه
والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخر قال ذو الرمة ...
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العادي طمت على البحر ...
فإن قيل ما وجه إضافة القدم إلى الصدق
فالجواب أن ذلك مدح للقدم وكل شيء أضفته إلى الصدق فقد مدحته ومثله أدخلني مدخل
صدق وأخرجني مخرج صدق وقوله في مقعد صدق وفي الكلام محذوف تقديره أوحينا إلى رجل
منهم فلما اتاهم الوحي قال الكافرون إن هذا لسحر مبين قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة
والكسائي لسحار بألف وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر لسحر بغير ألف قال أبو علي قد
تقدم قوله أن أوحينا إلى رجل منهم فمن قال ساحر أراد الرجل ومن قال سحر أراد الذي
أوحي سحر أي الذي تقولون أنتم فيه إنه وحي سحر قال الزجاج
لما
أنذرهم بالبعث والنشور فقالوا هذا سحر أخبرهم أن الذي خلق السموات والأرض قادر على
بعثهم بقوله إن ربكم الله وقد سبق تفسيره في الأعراف 54
قوله تعالى يدبر الأمر قال مجاهد يقضيه وقال غيره يأمر به ويمضيه
قوله تعالى مامن شفيع إلى من بعد إذنه فيه قولان
أحدهما لا يشفع أحد إلا أن يأذن له قاله ابن عباس قال الزجاج لم يجر للشفيع ذكر
قبل هذا ولكن الذين خوطبوا كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا
والثاني أن المعنى لا ثاني معه مأخوذ من الشفع لأنه لم يكن معه أحد ثم خلق الأشياء
فقوله إلا من بعد إذنه أي من بعد أمره أن يكون الخلق فكان ذكره الماوردي
قوله تعالى فاعبدوه قال مقاتل وحدوه وقال الزجاج المعنى فاعبدوه وحده وقوله تذكرون
معناه تتعظون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي
الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما
كانوا يكفرون
قوله تعالى إليه مرجعكم جميعا أي مصيركم يوم القيامة وعد الله حقا قال الزجاج وعد
الله منصوب على معنى وعدكم الله وعدا لأن قوله إليه مرجعكم معناه الوعد بالرجوع و
حقا منصوب على أحق ذلك حقا
قوله تعالى إنه يبدأ الخلق قرأه الأكثرون بكسر الألف وقرأت
عائشة
وأبو رزين وعكرمة وأبو العالية والأعمش بفتحها قال الزجاج من كسر فعلى الاستئناف
ومن فتح فالمعنى إليه مرجعكم لأنه يبدأ الخلق قال مقاتل يبدأ الخلق ولم يكن شيئا
ثم يعيده بعد الموت وأما القسط فهو العدل
فإن قيل كيف خص جزاء المؤمنين بالعدل وهو في جزاء الكافرين عادل أيضا
فالجواب أنه لو جمع الفريقين في القسط لم يتبين في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين
من العذاب الأليم والشرب من الحميم ففصلهم من المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو
عدل أيضا ذكره ابن الأنباري فأما الحميم فهو الماء الحار وقال أبو عبيدة كل حار
فهو حميم هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين
والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل
والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون إن الذين لا يرجون
لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك
مأويهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم
بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعويهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم
فيها سلام وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين
قال تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء قرأ الأكثرون ضياء بهمزة
واحدة
وقرأ ابن كثير ضئاء بهمزتين في كل القرآن أي ذات ضياء والقمر نورا أي ذات نور
وقدره منازل أي قدر له فحذف الجار والمعنى هيأ ويسر له منازل قال الزجاج الهاء
ترجع إلى القمر لأنه المقدر لعلم السنين والحساب وقد يجوز أن يعود إلى الشمس
والقمر فحذف أحدهما اختصارا وقال الفراء إن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة لأن
به تعلم الشهور وإن شئت جعلت التقدير لهما فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه كقوله
والله ورسوله أحق أن يرضوه التوبة 62 قال ابن قتيبة منازل القمر ثمانية وعشرون
منزلا من أول الشهر إلى ثماني وعشرين ليلة ثم يستسر وهذه المنازل هي النجوم التي
كانت العرب تنسب إليها الأنواء وأسماؤها عندهم الشرطان والبطين والثريا والدبران
والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك
والغفر والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع
وسعد السعود وسعد الأخبية وفزغ الدلو المقدم وفرغ الدلو المؤخر والرشاء وهو الحوت
قوله تعالى ما خلق الله ذلك إلا بالحق أي للحق من إظهار صنعه وقدرته والدليل على
وحدانيته يفصل الآيات قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم يفصل بالياء وقرأ نافع
وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم نفصل الآيات بالنون والمعنى نبينها
لقوم يعلمون يستدلون بالأمارات على قدرته
قوله تعالى لآيات لقوم يتقون فيه قولان أحدهما يتقون الشرك
والثاني
عقوبة الله فيكون المعنى إن الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق
قوله تعالى لا يرجون لقاءنا قال ابن عباس لا يخافون البعث ورضوا بالحياة الدنيا
اختاروا ما فيها على الآخرة واطمأنوا بها آثروها وقال غيره ركنوا إليها لأنهم لا
يؤمنون بالآخرة والذين هم عن آياتنا غافلون فيها قولان أحدهما أنها آيات القرآن
ومحمد قاله ابن عباس والثاني ما ذكره في أول السورة من صنعه قاله مقاتل فأما قوله
غافلون فقال ابن عباس مكذبون وقال غيره معرضون قال ابن زيد وهؤلاء هم الكفار
قوله تعالى بما كانوا يكسبون قال مقاتل من الكفر والتكذيب
قوله تعالى يهديهم ربهم بأيمانهم فيه أربعة أقوال أحدها يهديهم إلى الجنة ثوابا
بإيمانهم والثاني يجعل لهم نورا يمشون به بإيمانهم والثالث يزيدهم هدى بإيمانهم
والرابع يثيبهم بإيمانهم فأما الهداية فقد سبقت لهم
قوله تعالى تجري من تحتهم الأنهار أي تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو
قوله تعالى دعواهم فيها أي دعاؤهم وقد شرحنا ذلك في أول الأعراف 5
وفي المراد بهذا الدعاء قولان
أحدهما أنه استدعاؤهم ما يشتهون قال ابن عباس كلما اشتهى أهل الجنة شيئا قالوا
سبحانك اللهم فيأتيهم ما يشتهون فإذا طعموا قالوا الحمد لله رب العالمين فذلك آخر
دعواهم وقال ابن جريج إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم فيأتيهم الملك
بما اشتهوا فيسلم عليهم
فيردون
عليه فذلك قوله وتحيتهم فيها سلام فإذا أكلوا حمدوا ربهم فذلك قوله وآخر دعواهم أن
الحمد لله رب العالمين
والثاني أنهم إذا أرادوا الرغبة إلى الله تعالى في دعاء يدعونه به قالوا سبحانك
اللهم قاله قتادة
قوله تعالى وتحيتهم فيها سلام فيه ثلاثة أقوال أحدها أنها تحية بعضهم لبعض وتحية
الملائكة لهم قاله ابن عباس والثاني أن الله تعالى يحييهم بالسلام والثالث أن
التحية الملك فالمعنى ملكهم فيها سالم ذكرهما الماوردي
قوله تعالى وآخر دعواهم أي دعاؤهم وقولهم أن الحمد لله رب العالمين قرأ أبو مجلز
وعكرمة ومجاهد وابن يعمر وقتادة ويعقوب أن الحمد لله بتشديد النون ونصب الدال قال
الزجاج أعلم الله أنهم يبتدؤون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكره والثناء عليه
وقال ابن كيسان يفتتحون كلامهم بالتوحيد ويختمونه بالتوحيد ولو يعجل الله للناس
الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم
يعمهون
قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر ذكر بعضهم أنها نزلت في النضر بن الحارث حيث
قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الأنفال 8 والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته
وفي المراد بالآية قولان
أحدهما ولو يعجل الله للناس الشر إذا دعوا على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم
واستعجلوا به كما يعجل لهم الخير لهلكوا هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني
ولو يعجل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجل لهم خير الدنيا من المال والولد
لعجل لهم قضاء آجالهم ليتعجلوا عذاب الآخرة حكاه الماوردي ويقوي هذا تمام الآية
وسبب نزولها وقد قرأ الجمهور لقضي إليهم بضم القاف أجلهم بضم اللام وقرأ ابن عامر
لقضى بفتح القاف أجلهم بنصب اللام وقد ذكرنا في أول سورة البقر 15 معنى الطغيان
والعمة وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر
كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون
قوله تعالى وإذا مس الإنسان الضر اختلفوا فيمن نزلت على قولين أحدهما أنها نزلت في
أبي حذيفة واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني أنهانزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قاله عطاء و الضر الجهد
والشدة واللام في قوله لجنبه بمعنى على وفي معنى الآية قولان أحدهما إذا مسه الضر
دعا على جنبه أو دعا قاعدا أو دعا قائما قاله ابن عباس والثاني إذا مسه الضر في
هذه الأحوال دعا ذكره الماوردي
قوله تعالى فلما كشفنا عنه ضره مر فيه ثلاثة أقوال
أحدها أعرض عن الدعاء قاله مقاتل والثاني مر في العافية على ما كان عليه قبل أن
يبتلى ولم يتعظ بما يناله قاله الزجاج والثالث مر طاغيا على ترك الشكر
قوله تعالى كأن لم يدعنا قال الزجاج كأن هذه مخففة من الثقيلة المعنى كأنه لم
يدعنا قالت الخنساء
كأن
لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا ...
قوله تعالى كذلك زين للمسرفين المعنى كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء
والإعراض عند الرخاء كذلك زين للمسرفين وهم المجاوزون الحد في الكفر والمعصية
عملهم ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا
ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين
قوله تعالى ولقد أهلكنا القرون من قبلكم قال مقاتل هذا تخويف لكفار مكة والظلم
هاهنا بمعنى الشرك وفي قوله وما كانوا ليؤمنوا قولان أحدهما أنه عائد على أهل مكة
قاله مقاتل والثاني على القرون المتقدمة قاله أبو سليمان قال ابن الأنباري ألزمهم
الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق وإيثارهم الباطل وقال الزجاج جائز أن يكون جعل
جزاءهم الطبع على قلوبهم وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم
قوله تعالى كذلك نجزي أي نعاقب ونهلك القوم المجرمين يعني المشركين من قومك ثم
جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون
قوله تعالى ثم جعلناكم خلائف قال ابن عباس جعلناكم يا أمة محمد خلائف أي استخلفناكم
في الأرض وقال قتادة ما جعلنا الله خلائف إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من
أعمالكم خيرا بالليل والنهار
وإذا
تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل
ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي أن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف أن عصيت ربي
عذاب يوم عظيم
قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا اختلفوا فيمن نزلت على قولين أحدهما أنها نزلت
في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني أنها نزلت في
مشركي مكة قاله مجاهد وقتادة والمراد بالآيات القرآن و يرجون بمعنى يخافون وفي علة
طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان أحدهما أنهم أرادوا تغيير آية العذاب
بالرحمة وآية الرحمة بالعذاب قاله ابن عباس والثاني أنهم كرهوا منه ذكر البعث
والنشور لأنهم لا يؤمنون به وكرهوا عيب آلهتهم فطلبوا ما يخلوا من ذلك قاله الزجاج
والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه والإتيان بغيره
قد يجوز أن يكون معه
قوله تعالى ما يكون لي حرك هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون من
تلقاء نفسي حركها نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون والمعنى من عند نفسي فالمعنى أن
الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدله إني أخاف فتح هذه الياء ابن كثير
ونافع وابو عمرو إن عصيت ربي أي في تبديله أو تغييره عذاب يوم عظيم يعني في
القيامة
فصل
وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بينا في نظيرتها في
الأنعام
15 ومقصود الآيتين تهديد المخالفين وأضيف ذلك إلى الرسول ليصعب الأمر فيه قل لو
شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون
قوله تعالى قل لو شاء الله ما تلوته عليكم يعني القرآن وذلك أنه كان لا ينزله علي
فيأمرني بتلاوته عليكم ولا أدراكم به أي ولا أعلمكم الله به قرأ ابن كثير ولأدراكم
بلام التوكيد من غير ألف بعدها يجعلها لاما دخلت على أدراكم وقرأ أبو عمرو وحمزة
والكسائي وأبو بكر عن عاصم أدراكم بالإمالة وقرأ الحسن وابن أبي عبلة وشيبة بن
نصاح ولا أدرأتكم بتاء بين الألف والكاف فقد لبثت فيكم عمرا وقرأ الحسن والأعمش
عمرا بسكون الميم قال أبو عبيدة وفي العمر ثلاث لغات عمر وعمر وعمر قال ابن عباس
أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم بشيء من القرآن أفلا تعقلون أنه ليس من قبلي فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا يريد إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه وأنتم
فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكا والمجرمون هاهنا المشركون ويعبدون من دون الله
مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم
في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون
قوله
تعالى ويعبدون من دون الله مالا يضرهم أي لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن
عبدوه قاله مقاتل والزجاج
قوله تعالى ويقولون يعني المشركين هؤلاء يعنون الأصنام قال أبو عبيدة خرجت كنايتها
على لفظ كناية الآدميين وقد ذكرنا هذا المعنى في الأعراف 191 عند قوله وهم يخلقون
وفي قوله شفعاؤنا عند الله قولان أحدهما شفعاؤنا في الآخرة قاله أبو صالح عن ابن
عباس ومقاتل والثاني شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث
قاله الحسن
قوله تعالى قل أتنبئون الله بمالا يعلم قال الضحاك أتخبرون الله أن له شريكا ولا
يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض وما كان الناس إلا أمة واحدة
فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون
قوله تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا قد شرحنا هذا في سورة البقرة 213
وأحسن الأقوال أنهم كانوا على دين واحد موحدين فاختلفوا وعبدوا الأصنام فكان أول
من بعث إليهم نوح عليه السلام
قوله تعالى ولولا كلمة سبقت من ربك فيه ثلاثة أقوال
أحدها ولولا كلمة سبقت بتأخير هذه الأمة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من
قبلهم لقضي بينهم بنزول العذاب فكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون من الدين
والثاني أن الكلمة أن لكل أمة أجلا وللدنيا مدة لا يتقدم ذلك على وقته
والثالث
أن الكلمة أنه لا يأخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه
وفي قوله لقضي بينهم قولان أحدهما لقضي بينهم بإقامة الساعة والثاني بنزول العذاب
على المكذبين ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني
معكم من المنتظرين
قوله تعالى ويقولون يعني المشركين لولا أي هلا أنزل عليه آية من ربه مثل العصا
واليد وآيات الأنبياء فقل إنما الغيب لله فيه قولان أحدهما أن سؤالكم لم لم تنزل
الآية غيب ولا يعلم علة امتناعها إلا الله
والثاني أن نزول الآية متى يكون غيب ولا يعلمه إلى الله
قوله تعالى فانتظروا فيه قولان أحدهما انتظروا نزول الآية والثاني قضاء الله بيننا
باظهار المحق على المبطل وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في
آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون
قوله تعالى وإذا أذقنا الناس رحمة سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما
دعا على أهل مكة بالجذب فقحطوا سبع سنين أتاه أبو سفيان فقال ادع لنا بالخصب فإن
أخصبنا صدقناك فدعا لهم فسقوا ولم يؤمنوا ذكره الماوردي قال المفسرون المراد بالناس
هاهنا الكفار وفي المراد بالرحمة والضراء ثلاثة أقوال
أحدها أن الرحمة العافية والسرور والضراء الفقر والبلاء قاله ابن عباس
والثاني
الرحمة الإسلام والضراء الكفر وهذا في حق المنافقين قاله الحسن
والثالث الرحمة الخصب والضراء الجدب قاله الضحاك
وفي المراد بالمكر هاهنا أربعة أقوال أحدها أنه الاستهزاء والتكذيب قاله مجاهد
ومقاتل
والثاني أنه الجحود والرد قاله أبو عبيدة
والثالث أنه إضافة النعم إلى غير الله فيقولون سقينا بنوء كذا قاله مقاتل بن حيان
والرابع أن المكر النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ذكره الماوردي
قوله تعالى قل الله أسرع مكرا أي جزاء على المكر إن رسلنا يعني الحفظة يكتبون ما
تمكرون أي يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه وقرأ يعقوب إلا رويسا وأبا حاتم وأبان عن
عاصم يمكرون بالياء هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم
أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما
انجيناهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم
متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون
قوله
تعالى هو الذي يسيركم أي الله الذي هو أسرع مكرا هو الذي يسيركم في البر على
الدواب وفي البحر على السفن فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر وقرأ ابن عامر
وأبو جعفر ينشركم بالنون والشين من النشر وهو في المعنى مثل قوله وبث منهما رجالا
كثيرا النساء 2 والفلك السفن قال الفراء الفلك تذكر وتؤنث وتكون واحدة وتكون جمعا
قال تعالى هاهنا جاءتها فأنث وقال في يس 41 في الفلك المشحون فذكر
قوله تعالى وجرين بهم عاد بعد المخاطبة لهم إلى الإخبار عنهم قال الزجاج كل من
أقام الغائب مقام من يخاطبه جاز أن يرده إلى الغائب قال الشاعر ... شطت مزار
العاشقين فأصبحت ... عسرا علي طلابك ابنة مخرم ...
قوله تعالى بريح طيبة أي لينة وفرحوا بها للينها جاءتها يعني الفلك قال الفراء وإن
شئت جعلتها للريح كأنك قلت جاءت الريح الطيبة ريح عاصف والعرب تقول عاصف وعاصفة
وقد عصفت الريح وأعصفت والألف لغة لبني أسد قال ابن عباس الريح العاصف الشديدة قال
الزجاج يقال عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة وأعصفت فهي معصف ومعصفة وجاءهم الموج من
كل مكان أي من كل أمكنة الموج
قوله تعالى وظنوا فيه قولان أحدهما أنه بمعنى اليقين والثاني أنه التوهم وفي قوله
أحيط بهم قولان
أحدهما دنوا من الهلكة قال ابن قتيبة وأصل هذا أن العدو إذا أحاط==
ج4. زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
ببلد
فقد دنا أهله من الهلكة وقال الزجاج يقال لكل من وقع في بلاء قد أحيط بفلان أي
أحاط به البلاء
والثاني أحاطت بهم الملائكة ذكره الزجاج
قوله تعالى دعوا الله مخلصين له الدين دون أوثانهم قال ابن عباس تركوا الشرك
وأخلصوا لله الربوبية وقالوا لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصف لنكونن من الشاكرين
أي الموحدين
قوله تعالى يبغون في الأرض البغي الترامي في الفساد قال الأصمعي يقال بغى الجرح
إذا ترامى إلى فساد قال ابن عباس يبغون في الأرض بالدعاء إلى عبادة غير الله
والعمل بالمعاصي والفساد
يا أيها الناس يعني أهل مكة إنما بغيكم على أنفسكم أي جناية مظالمكم بينكم على
أنفسكم وقال الزجاج عملكم بالظلم عليكم يرجع
قوله تعالى متاع الحياة الدنيا قرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي
والحسن وحفص وأبان عن عاصم متاع الحياة الدنيا بنصب المتاع قال الزجاج من رفع
المتاع فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إنما تنتفعون به في الدنيا ومن نصب
المتاع فعلى المصدر فالمعنى تمتعون متاع الحياة الدنيا وقرأ أبو المتوكل واليزيدي
في اختياره وهارون العتكي عن عاصم متاع الحياة بكسر العين قال ابن عباس متاع
الحياة الدنيا أي منفعة في الدنيا إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء
فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت
الأرض
زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها آتها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها
حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء هذا مثل ضربه الله
للدنيا الفانية فشببها بمطر نزل من السماء فاختلط به نبات الأرض يعني التف النبات
بالمطر وكثر مما يأكل الناس من الحبوب وغيرها والأنعام من المرعى حتى إذا أخذت
الأرض زخرفها قال ابن قتيبة زينتها بالنبات وأصل الزخرف الذهب ثم يقال للنقش
والنور والزهر وكل شيء زين زخرف وقال الزجاج الزخرف كمال حسن الشيء
قوله تعالى وازينت قرأه الجمهور وازينت بالتشديد وقرأ سعد ابن أبي وقاص وابو عبد
الرحمن والحسن وابن يعمر بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي على وزن وأفعلت قال
الزجاج من قرأ وازينت بالتشديد فالمعنى وتزينت فادغمت التاء في الزاي وأسكنت الزاي
فاجتلبت لها ألف الوصل ومن قرأ وأزينت بالتخفيف على أفعلت فالمعنى جاءت بالزينة
وقرأ أبي وابن مسعود وتزينت
قوله تعالى وظن أهلها أي أيقن أهل الأرض أنهم قادرون عليها أي على ما انبتته فأخبر
عن الأرض والمراد النبات لأن المعنى مفهوم أتاها أمرنا أي فضاءنا باهلاكها
فجعلناها حصيدا أي محصودا لا شيء فيها والحصيد المقطوع المستأصل كأن لم تغن بالأمس
قال الزجاج لم تعمر والمغاني المنازل التي يعمرها الناس بالنزول فيها يقال غنينا
بالمكان إذا نزلوا به وقرأ الحسن كأن لم يغن بالياء يعني الحصيد قال بعض المفسرين
تأويل
الآية أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب حتى
إذا استتم ذلك عند صاحبه وظن أنه ممتع بذلك سلب عنه بموته أو بحادثة تهلكه كما أن
الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته فإذا تزينت به الأرض وظن الناس أنهم مستمتعون
بذلك أهلكه الله فعاد ما كان فيها كأن لم يكن والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك
أصحاب الجنة هم فيها خالدون
قوله تعالى والله يدعوا إلى دار السلام يعني الجنة وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك
عند قوله لهم دار السلام عند ربهم الأنعام 127 واعلم أن الله عم بالدعوة وخص
الهداية من شاء لأن الحكم له في خلقه
وفي المراد بالصراط المستقيم أربعة أقوال
أحدها كتاب الله رواه علي عن النبي صلى الله عليه و سلم والثاني الإسلام رواه
النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه و سلم والثالث الحق قاله مجاهد وقتادة
والرابع المخرج من الضلالات والشبه قاله أبو العالية
قوله
تعالى للذين أحسنوا قال ابن عباس قالوا لا إله إلا الله قال ابن الأنباري الحسنى
كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها لأن العرب توقعها على الخلة المحبوبة المرغوب فيها
المفروح بها فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها فكذلك المزيد عليها
محمول على معناها ومتعرف من جهتها يدل على هذا قول امرئ القيس ... فلما تنازعنا
الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال ...
... فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال ...
أي إلى الأمر المحبوب وهصرت بمعنى مددت والغصن كناية عن المرأة والباء مؤكدة
للكلام كما تقول العرب ألفى بيده إلى الهلاك يريدون ألقى يده والشماريخ كناية عن
الذوائب ورضت معناه أذللت ومن أجل هذا قال أي إذلال ولم يقل أي رياضة
وللمفسرين
في المراد بالحسنى خمسة أقوال
أحدها أنها الجنة روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبه قال الأكثرون والثاني
أنها الواحدة من الحسنات بواحدة قاله ابن عباس والثالث النصرة قاله عبد الرحمن بن
سابط والرابع الجزاء في الآخرة قاله ابن زيد والخامس الأمنية ذكره ابن الأنباري
وفي الزيادة ستة أقوال
أحدها أنها النظر إلى الله عز و جل روى مسلم في صحيحة من حديث صهيب عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال الزيادة النظر إلى وجه الله عز و جل وبهذا القول قال أبو
بكر الصديق وابو موسى الأشعري وحذيفة وابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك وعبد الرحمن
بن أبي ليلى والسدي ومقاتل
والثاني أن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب رواه الحكم عن علي ولا
يصح
والثالث
أن الزيادة مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها قاله ابن عباس والحسن
والرابع أن الزيادة مغفرة روضوان قاله مجاهد
والخامس أن الزيادة أن ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة قاله ابن زيد
والسادس أن الزيادة ما يشتهونه ذكره الماوردي
قوله تعالى ولا يرهق أي لا يغشى وجوههم قتر وقرأ الحسن وقتادة والأعمش قتر باسكان
التاء وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه السواد قال ابن عباس سواد الوجوه من الكآبة وقال الزجاج القتر الغبرة
التي معها سواد والثاني أنه دخان جهنم قاله عطاء والثالث الخزي قاله مجاهد والرابع
الغبار قاله أبو عبيدة
وفي الذلة قولان
أحدهما الكآبة قاله ابن عباس والثاني الهوان قاله أبو سليمان والذين كسبوا السيئآت
جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من
اليل مظلما اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله تعالى والذين كسبوا السيئات قال ابن عباس عملوا الشرك جزاء سيئة بمثلها في
الآية محذوف وفي تقديره قولان
أحدهما أن فيها إضمار لهم المعنى لهم جزاء سيئة بمثلها وأنشد ثعلب ... فإن سأل
الواشون عنه فقل لهم ... وذاك عطاء للوشاة جزيل
ملم
بليلى لمة ثم إنه ... لهاجر ليلى بعدها فمطيل ...
أراد هو ملم وهذا قول الفراء
والثاني أن فيها إضمار منهم المعنى جزاء سيئة منهم بمثلها تقول العرب رأيت القوم
صائم وقائم أي منهم صائم وقائم أنشد الفراء ... حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس ...
وغودر البقل ملوي ومحصود ... أي منه ملوي وهذا قول ابن الأنباري وقال بعضهم الباء
زائدة هاهنا و من في قوله من عاصم صلة والعاصم المانع كأنما أغشيت وجوههم أي ألبست
قطعا قرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة قطعا مفتوحة الطاء وهي جمع قطعة
وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب قطعا بتسكين الطاء قال ابن قتيبة وهو اسم ما قطع
قال ابن جرير وإنما قال مظلما ولم يقل مظلمة لأن المعنى قطعا من الليل المظلم ثم
حذفت الألف واللام من المظلم فلما صار نكره وهو من نعت الليل نصب على القطع وقوم
يسمون ما كان كذلك حالا وقوم قطعا ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم
أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا
بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين
قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا قال ابن عباس يجمع الكفار وآلهتهم ثم نقول للذين
أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم أي آلهتكم قال الزجاج
مكانكم
منصوب على الأمر كأنهم قيل لهم انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم والعرب تتوعد فتقول
مكانك أي انتظر مكانك فهي كلمة جرت على الوعيد
قوله تعالى فزيلنا بينهم وقرأ ابن أبي عبلة فزايلنا بألف قال ابن عباس فرقنا بينهم
وبين آلهتهم وقال ابن قتيبة هو من زال يزول وأزلته وقال ابن جرير إنما قال فزيلنا
ولم يقل فزلنا لا راده تكرير الفعل وتكثيره
فإن قيل كيف تقع الفرقة بينهم وهم معهم في النار لقوله إنكم وما تعبدون من دون
الله حصب جهنم الأنبياء 98
فالجواب أن الفرقة وقعت بتبري كل معبود ممن عبده وهو قوله وقال شركاؤهم قال ابن
عباس آلهتهم ينطق الله الأوثان فتقول ماكنتم إيانا تعبدون أي لا نعلم بعبادتكم لنا
لأنه ما كان فينا روح فيقول العابدون بلى قد عبدناكم فتقول الآلهة فكفى بالله
شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين لا نعلم بها قال الزجاج إن كنا
معناه ما كنا إلا غافلين
فإن قيل ما وجه دخول الباء في قوله فكفى بالله شهيدا
فعنه جوابان أحدهما أنها دخلت للمبالغة في المدح كما قالوا أظرف بعبد الله وأنبل
بعبد الرحمن وناهيك بأخينا وحسبك بصديقنا هذا قول الفراء وأصحابه والثاني أنها
دخلت توكيدا للكلام إذ سقوطها ممكن كما يقال خذ بالخطام وخذ الخطام قاله ابن
الأنباري هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما
كانوا يفترون
قوله تعالى هنالك تبلو قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر تبلو بالباء
وقرأ حمزة والكسائي وخلف وزيد عن يعقوب
تتلو
بالتاء قال الزجاج هنالك ظرف والمعنى في ذلك الوقت تبلو وهو منصوب بتبلو إلا أنه
غير متمكن والام زائدة والأصل هناك وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف والكاف
للمخاطبة و تبلو تختبر أي تعلم ومن قرأ تتلو بتاءين فقد فسرها الأخفش وغيره تتلو
من التلاوة أي تقرأ وفسروه ايضا تتبع كل نفس ما أسلفت ومثله قول الشاعر ... قد
جعلت دلوي تستتليني ... ولا أريد تبع القرين ...
أي تستتبعني أي من ثقلها تستدعي اتباعي إياها
قوله تعالى وردوا أي في الآخرة إلى الله مولاهم الحق الذي يملك أمرهم حقا لا من
جعلوا معه من الشركاء وضل عنهم أي زال وبطل ما كانوا يفترون من الآلهة قل من
يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج
الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون
قوله تعالى قل من يرزقكم من السماء المطر ومن الأرض النبات أم من يملك السمع أي
خلق السمع والأبصار وقد سبق معنى إخراج الحي من الميت والميت من الحي آل عمران 27
قوله تعالى ومن يدبر الأمر أي أمر الدنيا والآخرة فسيقولون الله لأنهم خوطبوا بما
لا يقدر عليه إلا الله فكان في ذلك دليل توحيده
وفي قوله أفلا تتقون قولان أحدهما أفلا تتعظون قاله ابن عباس والثاني تتقون الشرك
قاله مقاتل
فذلكم
الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون
قوله تعالى فذلكم الله ربكم الحق قال الخطابي الحق هو المتحقق وجوده وكل شيء صح
وجوده وكونه فهو حق
قوله تعالى فأنى تصرفون قال ابن عباس كيف تصرف عقولكم إلى عبادة من لا يرزق ولا
يحيى ولا يميت كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم
من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من
شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن
لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون
قوله تعالى كذلك حقت كلمة ربك قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي كلمة
ربك آخر السورة كذلك وقرأ نافع وابن عامر الحرفين كلمات على الجمع
قال الزجاج الكاف في موضع نصب أي مثل أفعالهم جازاهم ربك والمعنى حق عليهم أنهم لا
يؤمنون وقوله أنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك وجائز أن تكون الكلمة حقت عليهم
لأنهم لا يؤمنون وتكون الكلمة ما وعدوا به من العقاب
وذكر ابن الأنباري في كذلك قولين
أحدهما
أنها إشارة إلى مصدر تصرفون والمعنى مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك
والثاني أنه بمعنى هكذا
وفي معنى حقت قولان أحدهما وجبت والثاني سبقت
وفي كلمته قولان أحدهما أنها بمعنى وعده والثاني بمعنى قضائه ومن قرأ كلمات جعل كل
واحدة من الكلم التي توعدوا بها كلمة وقد شرحنا معنى الكلمة في الأعراف 137 و 158
قوله تعالى قل الله يهدي للحق أي إلى الحق
قوله تعالى أم من لا يهدي قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع يهدي بفتح الياء
والهاء وتشديد الدال قال الزجاج الأصل يهتدي فأدغمت التاء في الدال فطرحت فتحتها
على الهاء وقرأ نافع إلى ورشا وأبو عمرو يهدي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد
الدال غير أن أبا عمرو كان يشم الهاء شيئا من الفتح وقرأ حمزة والكسائي يهدي بفتح
الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال قال أبو علي والمعنى لا يهدي غيره إلا أن يهدى هو
ولو هدي الصم لم يهتد ولكن لما جعلوها كمن يعقل أجريت مجراه وروى يحيى بن آدم عن
أبي بكر عن عاصم يهدي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال وكذلك روى أبان وجبلة عن
المفضل وعبد الوارث قال الزجاج أتبعوا الكسرة الكسرة وهي رديئة لثقل الكسرة في
الياء وروى حفص عن عاصم والكسائي عن أبي بكر عنه يهدي بفتح الياء وكسر الهاء
وتشديد الدال قال الزجاج وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء إلا أن الهاء كسرت
لالتقاء الساكنين وقرأ ابن السميفع يهتدي بزيادة تاء والمراد بقوله أم من لا يهدي
الصم
إلا
أن يهدى وظاهر الكلام يدل على أن الأصنام إن هديت اهتدت وليست كذلك لأنها حجارة لا
تهتدى إلا أنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعقل ووصفت صفة من يعقل
وإن لم تكن في الحقيقة كذلك ولهذا المعنى قال في صفتها أمن لأنهم جعلوها كمن يعقل
ولما أعطاها حقها في أصل وضعها قال يا أبت لم تعبد مالا يسمع مريم 42 وقال الفراء
أمن لا يهدي أي أتعبدون مالا يقدر أن ينتقل من مكانه إلا أن يحول وقد صرف بعضهم
الكلام إلى الرؤساء والمضلين والأول أصح
قوله تعالى فما لكم قال الزجاج هو كلام تام كأنه قيل لهم أي شيء لكم في عبادة
الأوثان ثم قيل لهم كيف تحكمون أي على أي حال تحكمون وقال ابن عباس كيف تقضون
لأنفسكم وقال مقاتل كيف تقضون بالجور وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من
الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون
قوله تعالى وما يتبع أكثرهم أي كلهم إلا ظنا أي ما يستيقنون أنها آلهة بل يظنون
شيئا فيتبعونه إن الظن لا يغني من الحق شيئا أي ليس هو كاليقين ولا يقوم مقام الحق
وقال مقاتل ظنهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئا وقال غيره ظنهم أنها تشفع
لهم لا يغني عنهم وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين
يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين
قوله
تعالى وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله قال الزجاج هذا جواب قولهم ائت
بقرآن غير هذا أو بدله يونس 15 وجواب قولهم افتراه الفرقان 4 قال الفراء ومعنى
الآية ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله فجاءت أن على معنى ينبغي
وقال ابن الأنباري يجوز أن تكون مع يفترى مصدرا وتقديره وما كان هذا القرآن افتراء
ويجوز أن تكون كان تامة فيكون المعنى ما نزل هذا القرآن وما ظهر هذا القرآن لأن
يفترى وبأن يفترى فتنصب أن بفقد الخافض في قول الفراء وتخفض باضمار الخافض في قول
الكسائي وقال ابن قتيبة معنى أن يفترى أي يضاف إلى غير الله أو يختلق
قوله تعالى ولكن تصديق الذي بين يديه فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه تصديق الكتب المتقدمة قاله ابن عباس فعلى هذا إنما قال الذي لأنه يريد
الوحي
والثاني ما بين يديه من البعث والنشور ذكره الزجاج
والثالث تصديق النبي صلى الله عليه و سلم الذي بين يدي القرآن لأنهم شاهدوا النبي
صلى الله عليه و سلم وعرفوه قبل سماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى وتفصيل الكتاب أي وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله
عليه و سلم الفرائض التي فرضها عليهم أم يقولون افتريه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا
من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين
قوله تعالى أم يقولون افتراه في أم قولان أحدهما أنها بمعنى الواو قاله أبو عبيدة
والثاني بمعنى بل قاله الزجاج
قوله
تعالى فأتوا بسورة مثله قال الزجاج المعنى فأتوا بسورة مثل سورة منه فذكر المثل
لأنه إنما التمس شبه الجنس وادعوا من استطعتم ممن هو في التكذيب مثلكم إن كنتم
صادقين أنه اختلقه بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين
من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين
قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فيه قولان أحدهما أن المعنى بما لم
يحيطوا بعلم ما فيه ذكر الجنة والنار والبعث والجزاء والثاني بما لم يحيطوا بعلم
التكذيب به لأنهم شاكون فيه
وفي قوله ولما يأتهم تأويله قولان أحدهما تصديق ما وعدوا به من الوعيد والتأويل ما
يؤول إليه الأمر والثاني ولم يكن معهم علم تأويله قاله الزجاج
قيل لسفيان بن عيينة يقول الناس كل إنسان عدو ما جهل فقال هذا في كتاب الله قيل
أين فقال بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه
وقيل للحسين بن الفضل هل تجد في القرآن من جهل شيئا عاداه فقال نعم في موضعين قوله
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وقوله إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم الأحقاف
11 ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين
قوله تعالى ومنهم من يؤمن به في المشار إليهم قولان
أحدهما
أنهم اليهود قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني قريش قاله مقاتل بن سليمان
وفي هاء به قولان أحدهما أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم ودينه قاله مقاتل
والثاني إلى القرآن قاله أبو سليمان الدمشقي
وهذه الآية تضمنت الإخبار عما سبق في علم الله فالمعنى ومنهم من سيؤمن به وقال
الزجاج منهم من يعلم أنه حق فيصدق به ويعاند فيظهر الكفر ومنهم من لا يؤمن به أي
يشك ولا يصدق
قوله تعالى وربك أعلم بالمفسدين قال عطاء يريد المكذبين وهذا تهديد لهم وإن كذبوك
فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريؤن مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
قوله تعالى وإن كذبوك فقل لي عملي الآية قال أبو صالح عن ابن عباس نسختها آية
السيف وليس هذا بصحيح لأنه لا تنافي بين الآيتين ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع
الصم ولو كانوا لا يعقلون
قوله تعالى ومنهم من يستمعون إليك اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها في يهود المدينة كانوا يأتون رسول الله ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه
ويغلب عليهم الشقاء فنزلت هذه الآية
والثاني أنهانزلت في المستهزئين كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه و سلم
للاستهزاء والتكذيب فلم ينتفعوا فنزلت فيهم هذه الآية والقولان مرويان عن ابن عباس
والثالث
أنها نزلت في مشركي قريش قاله مقاتل قال الزجاج ظاهرهم ظاهر من يستمع وهم لشدة
عداوتهم بمنزلة الصم ولو كانوا لا يعقلون أي ولو كانوا مع ذلك جهالا وقال ابن عباس
يريد أنهم شر من الصم لأن الصم لهم عقول وقلوب وهؤلاء قد اصم الله قلوبهم ومنهم من
ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون
قوله تعالى ومنهم من ينظر إليك قال ابن عباس يريد متعجبين منك أفأنت تهدي العمي
يريد أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون وقال الزجاج منهم من يقبل عليك بالنظر وهو من
بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى وقال ابن جرير ومنهم من يستمع قولك
وينظر إلى حججك على نبوتك ولكن الله قد سلبه التوفيق وقال مقاتل و لو في الآيتين
بمعنى إذا إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون
قوله تعالى إن الله لا يظلم الناس شيئا لما ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشقاوة
أخبر أن تقدير ذلك عليهم ليس بظلم لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء وهم إذا كسبوا
المعاصي فقد ظلموا أنفسهم بذلك لأن الفعل منسوب إليهم وإن كان بقضاء الله
قوله تعالى ولكن الناس قرأ حمزة والكسائي وخلف ولكن الناس بتخفيف النون وكسرها
ورفع الإسم بعدها ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد
خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين
قوله
تعالى ويوم نحشرهم وقرأ حمزة يحشرهم بالياء قال أبو سليمان الدمشقي هم المشركون
قوله تعالى كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار فيه قولان
أحدهما كأن لم يلبثوا في قبورهم قاله ابن عباس والثاني في الدنيا قاله مقاتل قال
الضحاك قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم فصار كالساعة من النهار لهول
ما استقبلوا من القيامة
قوله تعالى يتعارفون بينهم قال ابن عباس إذا بعثوامن القبور تعارفوا ثم تنقطع
المعرفة قال الزجاج وفي معرفة بعضهم بعضا وعلم بعضهم باضلال بعض التوبيخ لهم
وإثبات الحجة عليهم وقيل إذا تعارفوا وبخ بعضهم بعضا فيقول هذا لهذا أنت أضللتني
وكسبتني دخول النار
قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا هو من قول الله تعالى لا من قولهم والمعنى خسروا
ثواب الجنة إذ كذبوا بالبعث وما كانوا مهتدين من الضلالة وإما نرينك بعض الذي
نعدهم أو نتوفينك فالينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا
جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون
قوله تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم قال المفسرون كانت وقعة بدر مما أراه الله
في حياته من عذابهم أو نتوفينك قبل أن نريك فإلينا مرجعهم بعد الموت والمعنى إن لم
ننتقم منهم عاجلا انتقمنا آجلا
قوله تعالى ثم الله شهيد على ما يفعلون من الكفر والتكذيب قال
الفراء
ثم هاهنا عطف ولو قيل معناها هناك الله شهيد كان جائزا وقال غيره ثم هاهنا بمعنى
الواو وقرأ ابن أبي عبلة ثم الله شهيد بفتح الثاء يراد به هنالك الله شهيد
قوله تعالى فإذا جاء رسولهم قضي بينهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها إذا جاء في الدنيا بعد الإذن له في دعائهم قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم
قاله الحسن وقال غيره إذا جاءهم في الدنيا حكم عليهم عند اتباعه وخلافه بالطاعة
والمعصية
والثاني إذا جاء يوم القيامة قاله مجاهد وقال غيره إذا جاء شاهدا عليهم
والثالث إذا جاء في القيامة وقد كذبوه في الدنيا قاله ابن السائب
قوله تعالى قضي بينهم بالقسط فيه قولان أحدهما بين الأمة فأثيب المحسن وعوقب
المسيء والثاني بينهم وبين نبيهم ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين
قوله تعالى ويقولون متى هذا الوعد في القائلين هذا قولان
أحدهما الأمم المتقدمة أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم قاله ابن عباس
والثاني أنهم المشركون الذين أنذرهم نبينا صلى الله عليه و سلم قاله أبو سليمان
وفي المراد بالوعد قولان أحدهما العذاب قاله ابن عباس والثاني قيام الساعة إن كنتم
صادقين أنت وأتباعك قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا
جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل أرأبتم إن أتيكم عذابه بياتا أو
نهارا ماذا يستعلجل منه
المجرمون
أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب
الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون
قوله تعالى قل لا أملك لنفسي ضرا الآية قد ذكرت تفسيرها في آيتين من الأعراف 34 و
188
قوله تعالى إن أتاكم عذابه بياتا قال الزجاج البيات كل ما كان بليل وقوله ماذا في
موضع رفع من جهتين إحداهما أن يكون ذا بمعنى الذي المعنى مال الذي يستعجل منه
المجرمون ويجوز أن يكون ماذا اسما واحدا فيكون المعنى أي شيء يستعجل منه المجرمون
والهاء في منه تعود على العذاب وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى فيكون المعنى أي
شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى وعودها على العذاب أجود لقوله أثم إذا ما وقع
آمنتم به وذكر بعض المفسرين أن المراد بالمجرمين المشركون وكانوا يقولون نكذب
بالعذاب ونستعجله ثم إذا وقع العذاب آمنا به فقال الله تعالى موبخا لهم أثم إذا ما
وقع آمنتم به أي هنالك تؤمنون فلا يقبل منكم الإيمان ويقال لكم الآن تؤمنون فأضمر
تؤمنون به مع آلآن وقد كنتم به تستعجلون مستهزئين وهو قوله ثم قيل للذين ظلموا أي
كفروا عند نزول العذاب ذوقوا عذاب الخلد لأنه إذا نزل بهم العذاب أفضوا منه إلى
عذاب الآخرة الدائم ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين
قوله تعالى ويستنبؤنك أي ويستخبرونك أحق هو يعنون البعث
والعذاب
قل إي المعنى نعم وربي وفتح هذه الياء نافع وأبو عمرو وإنما أقسم مع أخباره تأكيدا
وقال ابن قتيبة إي بمعنى بل ولا تأتي إلا قبل اليمين صلة لها
قوله تعالى وما أنتم بمعجزين قال ابن عباس بسابقين وقال الزجاج لستم ممن يعجز أن
يجازى على كفره ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما
رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا
إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون
قوله تعالى ولو أن لكل نفس ظلمت قال ابن عباس أشركت ما في الأرض لافتدت به عند
نزول العذاب وأسروا الندامة يعني الرؤساء أخفوها من الأتباع وقضي بينهم أي بين
الفريقين وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضل أسروا الندامة بمعنى أظهروا لأنه ليس
بيوم تصنع ولا تصبر والإسرار من الأضداد يقال أسررت الشيء بمعنى أخفيته وأسررته
أظهرته قال الفرزدق ... ولما رأى الحجاج جرد سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا
...
يعني أظهر فعلى هذا القول أظهروا الندامة عند إحراق النار لهم لأن
النار
ألهتهم عن التصنع والكتمان وعلى الأول كتموها قبل إحراق النار إياهم
وقوله تعالى ألا إن وعد الله حق قال ابن عباس ما وعد أولياءه من الثواب وأعداءه من
العقاب ولكن أكثرهم يعني المشركين لا يعلمون يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من
ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
قوله تعالى يا أيها الناس قال ابن عباس يعني قريشا ق جاءتكم موعظة يعني القرآن
وشفاء لما في الصدور أي دواء لداء الجهل وهدى أي بيان من الضلالة قل بفضل الله
وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
قوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فيه ثمانية أقوال
أحدها أن فضل الله الإسلام ورحمته القرآن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال
قتادة وهلال بن يساف وروي عن الحسن ومجاهد في بعض الرواية عنهما وهو اختيار ابن
قتيبة
والثاني أن فضل الله القرآن ورحمته أن جعلهم من أهل القرآن رواه العوفي عن ابن
عباس وبه قال أبو سعيد الخدري والحسن في رواية
والثالث أن فضل الله العلم ورحمته محمد صلى الله عليه و سلم رواه الضحاك عن ابن
عباس
والرابع أن فضل الله الإسلام ورحمته تزيينه في القلوب قاله ابن عمر
والخامس أن فضل الله القرآن ورحمته الإسلام قاله الضحاك وزيد بن أسلم وابنه ومقاتل
والسادس
أن فضل الله ورحمته القرآن رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد واختاره الزجاج
والسابع أن فضل الله القرآن ورحمته السنة قاله خالد بن معدان
والثامن فضل الله التوفيق ورحمته العصمة قاله ابن عيينة
قوله تعالى فبذلك فليفرحوا وقرأ أبي بن كعب وأبو مجلز وقتادة وأبو العالية ورويس
عن يعقوب فلتفرحوا بالتاء وقرأ الحسن ومعاذ القارئ وأبو المتوكل مثل ذلك إلا أنهم
كسروا اللام وقرأ ابن مسعود وأبو عمران فبذلك فافرحوا قال ابن عباس بذلك الفضل
والرحمة هو خير مما يجمعون أي مما يجمع الكفار من الأموال وقرأ أبو جعفر وابن عامر
ورويس تجمعون بالتاء وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله بفضل الله خبر لاسم مضمر
تأويله هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله ورحمته فبذلك التطول من الله فليفرحوا
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم
على الله تفترون
قوله تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق قال المفسرون هذا خطاب لكفار قريش
كانوا يحرمون ما شاؤوا ويحلون ما شاؤوا و أنزل بمعنى خلق وقد شرحنا بعض مذاهبهم
فيما كانوا يفعلون من البحيرة والسائبة وغير ذلك في المائدة 103 و الأنعام 139
قوله تعالى قل آلله أذن لكم أي في هذا التحليل والتحريم
وما
ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذوا فضل على الناس ولكن
أكثرهم لا يشكرون
قوله تعالى وما ظن الذين يفترون على الله الكذب في الكلام محذوف تقديره ما ظنهم أن
الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم إن الله لذو فضل على الناس حين لم يعجل عليهم
بالعقوبة ولكن أكثرهم لا يشكرون تأخير العذاب عنهم وما تكون في شأن وما تتلوا منه
من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من
مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين
قوله تعالى وما تكون في شأن أي في عمل من الأعمال وجمعه شؤون وما تتلو منه في هاء
الكناية قولان
أحدهما أنها تعود إلى الشأن قال الزجاج معنى الآية أي وقت تكون في شأن من عبادة
الله وما تلوت من الشأن من قرآن
والثاني أنها تعود إلى الله تعالى فالمعنى وما تلوت من الله أي من نازل منه من
قرآن ذكره جماعة من العلماء والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وامته داخلون فيه
بدليل قوله ولا تعملون من عمل قال ابن الأنباري جمع في هذا ليدل على أنهم داخلون
في الفعلين الأولين
قوله تعالى إذ تفيضون فيه الهاء عائدة على العمل قال ابن قتيبة تفيضون بمعنى
تأخذون فيه وقال الزجاج تنتشرون فيه يقال أفاض القوم في الحديث إذا انتشروا فيه
وخاضوا وما يعزب معناه وما يبعد وقال ابن قتيبة
ما
يبعد ولا يغيب وقرأ الكسائي يعزب بكسر الزاي هاهنا وفي سبأ 3 وقد بينا مثقال ذرة
في سورة النساء 40
قوله تعالى ولا أصغر من ذلك ولا أكبر قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما وقرأ حمزة وخلف
ويعقوب برفع الراء فيهما قال الزجاج من قرأ بالفتح فالمعنى وما يعزب عن ربك من
مثقال ذرة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر والموضع موضع خفض إلا أنه فتح لأنه لا
ينصرف ومن رفع فالمعنى وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر ويجوز رفعه
على الابتداء فيكون المعنى ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين قال ابن
عباس هو اللوح المحفوظ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا
وكانوا يتقون لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو
الفوز العظيم
قوله تعالى ألا إن أولياء الله روى ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله من أولياء
الله قال الذين إذا رؤوا ذكر الله وروى عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و
سلم الله عليه وسلم أنه قال إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء
يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عز و جل قالوا يا رسول الله
من هم وما أعمالهم لعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم
ولا
أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف
الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له رواه عبادة ابن الصامت
وأبو الدرداء وجابر بن عبد الله وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت قاله الضحاك وقتادة والزهري
والثالث أنها ما بشر الله به في كتابه من جنته وثوابه كقوله وبشر الذين آمنوا
البقرة 25 وأبشروا بالجنة فصلت 30 يبشرهم ربهم التوبة 21 وهذا قول الحسن واختاره
الفراء والزجاج واستدلا بقوله لا تبديل لكلمات الله قال ابن عباس لا خلف لمواعيده
وذلك أن مواعيده بكلماته فإذا لم تبدل الكلمات لم تبدل المواعيد
فأما بشراهم في الآخرة ففيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الجنة رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم واختارة ابن قتيبة
والثاني
أنه عند خروج الروح تبشر برضوان الله قاله ابن عباس
والثالث أنها عند الخروج من قبورهم قاله مقاتل ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا
هو السميع العليم
قوله تعالى ولا يحزنك قولهم قال ابن عباس تكذيبهم وقال غيره تظاهرهم عليك بالعداوة
وإنكارهم وأذاهم وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال إن العزة لله جميعا أي الغلبة له
فهو ناصرك وناصر دينك هو السميع لقولهم العليم باضمارهم فيجازيهم على ذلك ألا إن
لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أن يتبعون
إلا الظن وإن هم إلا يخرصون
قوله تعالى ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض قال الزجاج ألا افتتاح كلام
وتنبيه أي فالذي هم له يفعل فيهم وبهم ما يشاء
قوله تعالى وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أي ما يتبعون شركاء على
الحقيقة لأنهم يعدونها شركاء لله شفعاء لهم وليست على ما يظنون
إن
يتبعون إلا الظن في ذلك وإن هم إلا يخرصون قال ابن عباس يكذبون وقال ابن قتيبة
يحدسون ويحزرون هو الذي جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات
لقوم يسمعون
قوله تعالى هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه المعنى إن ربكم الذي يجب أن تعتقدوا
ربوبيته هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه فيزول تعب النهار وكلاله بالسكون في
الليل وجعل النهار مبصرا أي مضيئا تبصرون فيه وإنما أضاف الابصار إليه لأنه قد فهم
السامع المقصود إذ النهار لا يبصر وإنما هو ظرف يفعل فيه غيره كقوله عيشة راضية
الحاقة 21 إنما هي مرضية وهذا كما يقال ليل نائم قال جرير ... لقد لمتنا يا أم
غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم ...
قوله تعالى إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون سماع اعتبار فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك
إلا الإله القادر قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في
الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله مالا تعلمون قل إن الذين يفترون
على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد
بما كانوا يكفرون
قوله
تعالى قالوا اتخذ الله ولدا قال ابن عباس يعني أهل مكة جعلوا الملائكة بنات الله
قوله تعالى سبحانه تنزيه له عما قالوا هو الغني عن الزوجة والولد إن عندكم أي ما
عندكم من سلطان أي جحة بما تقولون
قوله تعالى لا يفلحون فيه ثلاثة أقوال أحدها لا يبقون في الدنيا والثاني لا يسعدون
في العاقبة والثالث لا يفوزون قال الزجاج وهذا وقف التمام وقوله متاع في الدنيا
مرفوع على معنى ذلك متاع في الدنيا واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان
كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا
يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون
قوله تعالى واتل عليهم نبأ نوح فيه دليل على نبوته حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم
يكن يقرأ الكتب وتحريض على الصبر وموعظة لقومه بذكر قوم نوح وما حل بهم من العقوبة
بالتكذيب
قوله تعالى إن كان كبر أي عظم وشق عليكم مقامي أي طول مكثي وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء
وأبو الجوزاء مقامي برفع الميم وتذكيري وعظي فعلى الله توكلت في نصرتي ودفع شركم
عني فأجمعوا أمركم قرأ الجمهور فأجمعوا بالهمز وكسر الميم من أجمعت وروى الأصمعي
عن نافع فاجمعوا بفتح الميم من جمعت ومعنى أجمعوا أمركم أحكموا أمركم واعزموا عليه
قال المؤرج أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه وأنشد
يا
ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع ...
فأما رواية الأصمعي فقال أبو علي يجوز أن يكون معناها اجمعوا ذوي الأمر منكم أي
رؤساءكم ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدون به فيكون
كقوله فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا طه 64
قوله تعالى وشركاءكم قال الفراء وابن قتيبة المعنى وادعوا شركاءكم وقال الزجاج
الواو هاهنا بمعنى مع فالمعنى مع شركائكم تقول لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها أي
مع فصيلها وقرأ يعقوب وشركاؤكم بالرفع
قوله تعالى ثم لا يكن أمركم عليكم غمة فيه قولان أحدهما لا يكن أمركم مكتوما قاله
ابن عباس والثاني غما عليكم كما تقول كرب وكربة قاله ابن قتيبة وذكر الزجاج
القولين وفي قوله ثم اقضوا إلي قولان أحدهما ثم أقضوا إلي ما في أنفسكم قاله مجاهد
والثاني افعلوا ما تريدون قاله الزجاج وابن قتيبة وقال ابن الأنباري معناه اقضوا
إلي بمكروهكم وما توعدونني به كما تقول العرب قد قضى فلان يريدون مات ومضى فإن
توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذوبه
فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان
عاقبة المنذرين
قوله تعالى فإن توليتم أي أعرضتم عن الإيمان فما سألتكم من أجر أي لم يكن دعائي
إياكم طمعا في أموالكم
قوله
تعالى إن أجري حرك هذه الياء ابن عامر وأبو عمرو ونافع وحفص عن عاصم وأسكنها
الباقون
قوله تعالى وجلناهم خلائف أي جعلنا الذين نجوا مع نوح خلفا ممن هلك ثم بعثنا من
بعده رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبيانات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك
نطبع على قلوب المعتدين
قوله تعالى ثم بعثنا من بعده أي من بعد نوح رسلا إلى قومهم قال ابن عباس يريد
إبراهيم وهودا و صالحا ولوطا وشعيبا فجاؤوهم بالبينات أي بأن لهم أنهم رسل الله
فما كانوا أي أولئك الأقوام ليؤمنوا بما كذبوا يعني الذين قبلهم والمراد أن
المتأخرين مضوا على سنن المتقدمين في التكذيب وقال مقاتل فما كانوا ليؤمنوا بما
كذبوا به من العذاب من قبل نزوله
قوله تعالى كذلك نطبع أي كما طبعنا على قلوب أولئك كذلك نطبع على قلوب المعتدين
يعني المتجاوزين ما أمروا به ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملائه
بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين
قوله تعالى ثم بعثنا من بعدهم يعني الرسل الذين أرسلوا بعد نوح فلما جاءهم الحق من
عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح
الساحرون
قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن
لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا
ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا
يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون
قوله تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا وهو ما جاء به موسى من الآيات
قوله تعالى أسحر هذا قال الزجاج المعنى أتقولون للحق لما جاءكم هذا اللفظ وهو
قولهم إن هذا لسحر مبين ثم قررهم فقال أسحر هذا قال ابن الأنباري إنما أدخلوا
الألف على جهة تفظيع الأمر كما يقول الرجل إذا نظر إلى الكسوة الفاخرة أكسوة هذه
يريد بالاستفهام تعظيمها وتأتي الرجل جائزة فيقول أحق ما أرى معظما لما ورد عليه
وقال غيره تقدير الكلام أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا فحذف السحر الأول
اكتفاء بدلالة الكلام عليه كقوله فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم الاسراء 8
المعنى بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم
قوله تعالى أجئتنا لتلفتنا قال ابن قتيبة لتصرفنا يقال لفت فلانا عن كذا إذا صرفته
ومنه الالتلفت وهو الانصراف عما كنت مقبلا عليه قوله تعالى وتكون لكما الكبرياء في
الأرض وروى أبان وزيد عن يعقوب ويكون لكما بالياء وفي المراد بالكبرياء ثلاثة
أقوال أحدها الملك والشرف قاله ابن عباس والثاني الطاعة قاله الضحاك والثالث العلو
قاله ابن زيد قال ابن عباس والأرض هاهنا أرض مصر
قوله
تعالى بكل ساحر قرأ حمزة والكسائي وخلف بكل سحار بتشديد الحاء وتأخير الألف
قوله تعالى ما جئتم به السحر قرأ الأكثرون السحر بغير مد على لفظ الخبر والمعنى
الذي جئتم به من الحبال والعصي هو السحر وهذا رد لقولهم للحق هذا سحر فتقديره الذي
جئتم به السحر فدخلت الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة كما تقول رايت
رجلا فقال لي الرجل وقرأ مجاهد وأبو عمرو وأبو جعفر وابان عن عاصم وأبو حاتم عن
بعقوب آلسحر بمد الألف استفهاما قال الزجاج والمعنى أي شيء جئتم به أسحر هو على
جهة التوبيخ لهم وقال ابن الأنباري هذا الاستفهام معناه التعظيم للسحر لا على سبيل
الاستفهام عن الشيء الذي يجهل وذلك مثل قول الإنسان في الخطأ الذي يستعظمه من
إنسان أخطأ هذا أي هو عظيم الشأن في الخطأ والعرب تستفهم عما هو معلوم عندها قال
امرؤ القيس ... أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل ...
وقال قيس بن ذريح ... أراجعة يالبن أيامنا الألى ... بذي الطلح أم لا ما لهن رجوع
...
فاستفهم وهو يعلم أنهن لا يرجعن
قوله تعالى إن الله سيبطله أي يهلكه ويظهر فضيحتكم إن الله لا يصلح عمل المفسدين
لا يجعل عملهم نافعا لهم ويحق الله الحق أي يظهره ويمكنه بكلماته بما سبق من وعده
بذلك
فما
آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في
الأرض وإنه لمن المسرفين وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن
كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا
برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا
واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلوة وبشر المؤمنين وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون
وملائه زينة وأموالا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم
واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما
فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم
فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت
به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم
ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون
قوله تعالى فما آمن لموسى إلا ذرية في المراد بالذرية هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أن المراد بالذرية القليل قاله ابن عباس
والثاني أنهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى مات آباؤهم لطول الزمان وآمنوا هم قاله
مجاهد وقال ابن زيد هم الذين نشؤوا مع موسى حين كف
فرعون
عن ذبح الغلمان قال ابن الأنباري وإنما قيل لهؤلاء ذرية لأنهم أولاد الذين بعث
إليهم موسى وإن كانوا بالغين
والثالث أنهم قوم أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط قاله مقاتل واختاره
الفراء قال وإنما سموا ذرية كما قيل لأولاد فارس الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس
آبائهم وفي هاء قومه قولان
أحدهما أنها تعود إلى موسى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني إلى فرعون رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى القول الأول يكون قوله على خوف
من فرعون وملئهم أي وملأ فرعون قال الفراء وإنما قال وملئهم بالجمع وفرعون واحد
لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى من معه تقول قدم الخليفة فكثر الناس تريد
بمن معه وقد يجوز أن يريد بفرعون آل فرعون كقوله واسأل القرية يوسف 82 وعلى القول
الثاني يرجع ذكر الملأ إلى الذرية قال ابن جرير وهذا أصح لأنه كان في الذرية من
أبوه قبطي وأمه إسرائيلية فهو مع فرعون على موسى
قوله تعالى أن يفتنهم يعني فرعون ولم يقل يفتنوهم لأن قومه كانوا على من كان عليه
وفي هذه الفتنة قولان
أحدهما أنها القتل قاله ابن عباس والثاني التعذيب قاله ابن جرير
قوله تعالى وإن فرعون لعال في الأرض قال ابن عباس متطاول في أرض مصر وإنه لمن
المسرفين حين كان عبدا فادعى الربوبية
قوله تعالى إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا لما شكا بنوا إسرائيل إلى موسى ما
يهددهم به فرعون من ذبح أولادهم واستحياء نسائهم قال لهم هذا
وفي قوله لا تجعلنا فتنة ثلاثة أقوال
أحدها
لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ولا بعذاب من قبلك فيقول قوم فرعون لو كانوا
على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم
والثاني لا تسلطهم علينا فيفتنونا والقولان مرويان عن مجاهد
والثالث لا تسلطهم علينا فيفتتنون بنا لظنهم أنهم على حق قاله أبو الضحى وأبو مجلز
قوله تعالى أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا قال المفسرون لما أرسل موسى أمر فرعون
بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة وكانوا لا يصلون إلى في الكنائس
فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلون فيها خوفا من فرعون و تبوآ معناه اتخذا
وقد شرحناه في الأعراف 74 وفي المراد بمصر قولان أحدهما أنه البلد المعروف بمصر
قاله الضحاك والثاني أنه الاسكندرية قاله مجاهد وفي البيوت قولان أحدهما أنها
المساجد قاله الضحاك والثاني القصور قاله مجاهد وفي قوله واجعلوا بيوتكم قبلة
أربعة أقوال
أحدها اجعلوها مساجد رواه مجاهد وعكرمة والضحاك عن ابن عباس وبه قال النخعي وابن
زيد وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم فقيل لهم اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من
المساجد
والثاني اجعلوها قبل القبلة رواه العوفي عن ابن عباس وروى الضحاك عن ابن عباس قال
قبل مكة وقال مجاهد أمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة وبه قال مقاتل وقتادة والفراء
والثالث اجعلوها يقابل بعضها بعضا وهو مروي عن ابن عباس أيضا وبه قال سعيد بن جبير
والرابع
واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم قاله
ابن بحر
فإن قيل البيوت جمع فكيف قال قبلة على التوحيد فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال من
قال المراد بالقبلة الكعبة قال وحدت القبلة لتوحيد الكعبة قال ويجوز أن يكون أراد
اجعلوا بيوتكم قبلا فاكتفى بالواحد عن الجمع كما قال العباس بن مرداس ... فقلنا
أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور ...
يريد إنا إخوتكم ويجوز أن يكون وحد قبلة لانه أجراها مجرى المصدر فيكون المعنى
واجعلوا بيوتكم إقبالا على الله وقصدا لما كنتم تستعملونه في المساجد ويجوز أن
يكون وحدها والمعنى واجعلوا بيوتكم شيئا قبلة ومكانا قبلة ومحلة قبلة
قوله تعالى وأقيموا الصلاة قال ابن عباس أتموا الصلاة وبشر المؤمنين أنت يا محمد
قال سعيد بن جبير بشرهم بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة
قوله تعالى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا قال ابن عباس كان لهم من لدن
فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت
قوله تعالى ليضلوا عن سبيلك وفي لام ليضلوا أربعة أقوال
أحدها أنها لام كي والمعنى آتيتهم ذلك كي يضلوا وهذا قول الفراء
والثاني أنها لام العاقبة والمعنى إنك آتيتهم ذلك فأصارهم إلى الضلال ومثله قوله
ليكون لهم عدوا وحزنا بالقصص 8 أي آل أمرهم إلى أن صار لهم عدوا لا أنهم قصدوا ذلك
وهذا كما تقول للذي كسب مالا فأداه
إلى
الهلاك إنما كسب فلان لحتفه وهو لم يكسب المال طلبا للحتف وأنشدوا ... وللمنايا
تربي كل مرضعة ... وللخراب يجد الناس عمرانا ...
وقال آخر ... وللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدور تبنى المساكن ...
وقال آخر ... فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده ...
أراد عاقبة الأمر ومصيده إلى ذلك هذا قول الزجاج
والثالث أنها لام الدعاء والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك ذكره ابن الأنباري
والرابع أنها لام أجل فالمعنى آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبة منك لهم ومثله قوله
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم التوبة 95 أي لأجل إعراضكم حكاه
بعض المفسرين وقرأ أهل الكوفة إلا المفضل وزيد وابو حاتم عن يعقوب ليضلوا بضم
الياء اي ليضلوا غيرهم
قوله تعالى ربنا اطمس روى الحلبي عن عبد الوارث اطمس بضم الميم على أموالهم وفيه
قولان
أحدهما أنها جعلت حجارة رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال قتادة والضحاك وأبو صالح
والفراء وقال القرظي جعل سكرهم حجارة وقال ابن زيد صار ذهبهم ودارهمهم وعدسهم وكل
شيء لهم حجارة وقال مجاهد مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة فكانت إحدى
الآيات التسع وقال الزجاج تطميس الشيء إذهابه عن صورته والانتفاع به على الحال
الأولى التي كان عليها
والثاني
أنها هلكت فالمعنى أهلك أموالهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وأبو عبيدة
وابن قتيبة ومنه يقال طمست عينه أي ذهبت وطمس الطريق إذا عفا ودرس
وفي قوله واشدد على قلوبهم أربعة أقوال
أحدها اطبع عليها رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مقاتل والفراء والزجاج
والثاني أهلكهم كفارا رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثالث اشدد عليها بالضلالة قاله مجاهد
والرابع أن معناه قس قلوبهم قاله ابن قتيبة
قوله تعالى فلا يؤمنوا فيه قولان
أحدهما أنه دعاء عليهم أيضا كأنه قال اللهم فلا يؤمنوا قاله الفراء وأبو عبيدة
والزجاج وقال ابن الأنباري معناه فلا آمنوا قال الأعشى ... فلا ينبسط من بين عينيك
ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم ...
معناه لا أنبسط ولا لقيتني
والثاني أنه عطف على قوله ليضلوا عن سبيلك فالمعنى أنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا
حكاه الزجاج عن المبرد
قوله تعالى حتى يروا العذاب الأليم قال ابن عباس هو الغرق وكان
موسى
يدعو وهارون يؤمن فقال الله تعالى قد أجيبت دعوتكما وكان بين الدعاء والإجابة أربعون
سنة
فإن قيل كيف قال دعوتكما وهما دعوتان فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دعوات وكلام يطول كما بينا في الأعراف 158 أن
الكلمة تقع على كلمات قال الشاعر ... وكان دعا دعوة قومه ... هلم إلى أمركم قد صرم
...
فأوقع دعوة على ألفاظ بينها آخر بيته
والثاني أن يكون المعنى قد أجيبت دعواتكما فاكتفى بالواحد من ذكر الجميع ذكر
الجوابين ابن الأنباري وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ دعواتكما بالألف وفتح
العين
والثالث أن موسى هو الذي دعا فالدعوة له غير أنه لما أمن هارون أشرك بينهما في
الدعوة لأن التأمين على الدعوة منها
وفي قوله فاستقيما اربعة أقوال
أحدها فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إلى طاعةالله قاله ابن جرير
والثالث فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه
والرابع فاستقيما على ديني ذكرهما أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ولا تتبعان قرأ الأكثرون بتشديد تاء تتبعان وقرأ
ابن
عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون تتبعان إلا أن النون الشديدة دخلت للنهي
مؤكدة وكسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها واختير لها الكسر لأنها بعد الألف
فشبهت بنون الاثنين قال أبو علي ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة فإن
شئت كان على لفظ الخبر والمعنى الأمر كقوله يتربصن بأنفسهن البقرة 228 و 234 و
لاتضار والدة البقرة 233 أي لا ينبغي ذلك وإن شئت جعلته حالا من قوله فاستقيما
تقديره استقيما غير متبعين وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان أحدهما أنهم
فرعون وقومه قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه
ذكره أبو سليمان الدمشقي
فإن قيل كيف جاز أن يدعو موسى على قومه
فالجواب أن بعضهم يقول كان ذلك بوحي وهو قول صحيح لأنه لا يظن بنبي أن يقدم على
مثل ذلك إلا عن إذن من الله عز و جل لأن دعاءه سبب للانتقام
قوله تعالى فأتبعهم فرعون وجنوده قال أبو عبيدة أتبعهم وتبعهم سواء وقال ابن قتيبة
أتبعهم لحقهم بغيا وعدوا أي ظلما وقرأ الحسن فأتبعهم بالتشديد وكذلك شددوا وعدوا
مع ضم العين
قوله تعالى حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو
وابن عامر أنه بفتح الألف والمعنى آمنت بأنه فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى أن
فنصب وقرأ حمزة والكسائي إنه بكسر الألف فحملوه على القول المضمر كأنه قال آمنت
فقلت إنه قال ابن عباس لم يقبل الله إيمانه عند رؤية العذاب قال ابن الأنباري
جنح
فرعون إلى التوبة حين أغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة فقيل له آلآن أي
الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها وكنت من المفسدين بالدعاء إلى عبادة غير الله
عز و جل والمخاطب له بهذا كان جبريل وجاء في الحديث أن جبريل جعل يدس الطين في فم
فرعون خشية أن يغفر له قال الضحاك ابن قيس اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة
إن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا وكان يذكر الله فلما وقع في بطن الحوت سأل
الله فقال الله فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون الصافات 143
وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال آمنت فقال
الله آلهان وقد عصيت قبل
قوله تعالى فاليوم ننجيك وقرأ يعقوب ننجيك مخففة قال اللغويون منهم يونس وأبو
عبيدة نلقيك على نجوة من الأرض أي ارتفاع ليصير علما أنه قد غرق وقرأ ابن السميفع
ننحيك بحاء وفي سبب إخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة اقوال
أحدها أن موسى واصحابه لما خرجوا قال من بقي من المدائن من قوم فرعونك ما أغرق
فرعون ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر فأوحى الله إلى البحر أن الفظ
فرعون عريانا فكانت نجاة عبرة وأوحى الله تعالى إلى
البحر
أن الفظ ما فيك فلفظهم البحر بالساحل ولم يكن يلفظ غريقا فصار لا يقبل غريقا إلى
يوم القيامة رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني أن أصحاب موسى قالوا إنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق ولا نؤمن بهلاكه فدعا
موسى ربه فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وإلى نحوه ذهب
قيس بن عباد وعبد الله بن شداد والسدي ومقاتل وقال السدي لما قال بنو إسرائيل لم
يغرق فرعون دعا موسى فخرج فرعون في ستمائة الف وعشرين ألفا عليهم الحديد فأخذته
بنوا إسرائيل يمثلون به وذكر غيره أنه إنما أخرج من البحر وحده دون أصحابه وقال
ابن جريج كذب بعض بني إسرائيل بغرقه فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنوا
إسرائيل قصيرا أحمر كأنه ثور وقال أبو سليمان عرفه بنوا إسرائيل بدرع كان له من
لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها فأما وجهه فقد غيره سخط الله تعالى
والثالث أنه كان يدعي أنه رب وكان يعبده قوم فبين الله تعالى أمره فأغرقه وأصحابه
ثم أخرجه من بينهم قاله الزجاج وفي قوله ببدنك أربعة أقوال أحدها بجسدك من غير روح
قاله مجاهد وذكر البدن دليل على عدم الروح والثاني بدرعك قاله ابو صخر وقد ذكرنا
أنه كانت له درع من لؤلؤ وقيل من ذهب فعرف بدرعه والثالث نلقيك عريانا قاله الزجاج
والرابع ننجيك وحدك قاله ابن قتيبة
وفي قوله لتكون لمن خلفك آية ثلاثة أقوال
أحدها لتكون لمن بعدك في النكال آية لئلا يقولوا مثل مقالتك فإنك لو كنت إلها ما
غرقت قاله أبو صالح عن ابن عباس قال أبو عبيدة خلفك بمعنى بعدك والآية العلامة
والثاني
لتكون لبني إسرائيل آية قاله السدي
والثالث لمن تخلف من قومه لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أول الآية فخرج في
معنى الآية قولان أحدهما عبرة للناس والثاني علامة تدل على غرقه وقال الزجاج الآية
أنه كان يدعي أنه رب فبان أمره وأخرج من بين اصحابه لما غرقوا وقرأ ابن السميفع
وابو المتوكل وأبو الجوزاء لمن خلقك بالقاف
ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جائهم العلم
إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فإن كنت في شك مما أنزلنا
إليك فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمات
ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم
قوله تعالى ولقد بوأنا بني إسرائيل أي أنزلناهم منزل صدق أي منزلا كريما وفي المراد
ببني إسرائيل قولان أحدهما أصحاب موسى والثاني قريظة والنضير وفي المراد بالمنزل
الذي أنزلوه خمسة أقوال أحدها أنه الأردن وفلسطين قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الشام وبيت المقدس قاله الضحاك وقتادة والثالث مصر روي عن الضحاك أيضا
والرابع بيت المقدس قاله مقاتل والخامس ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره
علي بن أحمد النيسابوري والمراد بالطيبات ما أحل لهم من الخيرات
الطيبة
فما اختلفوا يعني بني إسرائيل قال ابن عباس ما اختلفوا في محمد لم يزالوا به
مصدقين حتى جاءهم العلم يعني القرآن وروي عنه حتى جاءهم العلم يعني محمدا فعلى هذا
يكون العلم هاهنا عبارة عن المعلوم وبيان هذا أنه لما جاءهم اختلفوا في تصديقه
وكفر به أكثرهم بغيا وحسدا بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره
قوله تعالى فإن كنت في شك في تأويل هذه الآية ثلاثة اقوال
أحدها أن الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد غيره من الشاكين بدليل قوله في
آخر السورة إن كنتم في شك من ديني يونس 105 ومثله قوله يا أيها النبي اتق الله ولا
تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما الأحزاب 2 ثم قال بما تعملون
خبيرا الأحزاب 3 ولم يقل بما تعمل وهذا قول الأكثرين
والثاني أن الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وهو المراد به ثم في المعنى قولان
أحدهما أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شك لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول
الرجل لولده إن كنت أبني فبرني ولعبده إن كنت عبدي فأطعني وهذا اختيار الفراء وقال
ابن عباس لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم في شك ولا سأل والثاني أن تكون إن
بمعنى ما فالمعنى ما كنت في شك فاسأل المعنى لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاك
ولكن لتزداد بصيرة ذكره الزجاج
والثالث أن الخطاب للشاكين فالمعنى إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزل إليك على
لسان محمد فسل روي عن ابن قتيبة
وفي الذي أنزل إليه قولان أحدهما أنه أنزل إليه أنه رسول الله والثاني أنه مكتوب
عندهم في التوراة والإنجيل
قوله
تعالى فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك وهم اليهود والنصارى وفي الذين أمر
بسؤالهم منهم قولان أحدهما من آمن كعبد الله بن سلام قاله ابن عباس ومجاهد في
آخرين والثاني أهل الصدق منهم قاله الضحاك وهو يرجع إلى الأول لأنه لا يصدق إلا من
آمن
قوله تعالى لقد جاءك الحق من ربك هذا كلام مستأنف
قوله تعالى إن الذين حقت أي وجبت عليهم كلمة ربك أي قوله وبماذا حقت الكلمة عليهم
فيه اربعة أقوال
أحدها باللعنة والثاني بنزول العذاب والثالث بالسخط والرابع بالنقمة
قوله تعالى ولو جاءتهم كل آية قال الأخفش إنما أنث فعل كل لأنه أضافه إلى آية وهي
مؤنثة
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب
الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين
قوله تعالى فلولا كانت قرية آمنت أي أهل قرية وفي لولا قولان أحدهما أنه بمعنى لم
تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها أي قبل منها إلا قوم يونس قاله ابن عباس وقال قتادة
لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب إلا لقوم يونس والثاني أنها بمعنى فهلا قاله
أبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج قال الزجاج والمعنى فهلا كانت قرية آمنت في وقت
نفعها إيمانها إلا قوم يونس و إلا هاهنا استثناء ليس من الأول كأنه قال لكن قوم
يونس قال الفراء نصب القوم على الانقطاع مما قبله ألا ترى أن
ما
بعد إلا في الجحد يتبع ما قبلها تقول ما قام أحد إلا أخوك فإذا قلت ما فيها أحد
إلا كلبا أو حمارا نصبت لانقطاعهم من الجنس كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من
أمم الأنبياء ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا وذكر ابن الأنباري
في قوله إلا قولين آخرين أحدهما أنها بمعنى الواو والمعنى وقوم يونس لما آمنوا
فعلنا بهم كذا وكذا وهذا مروي عن أبي عبيدة والفراء ينكره والثاني أن الاستثناء من
الآية التي قبل هذه تقديره حتى يروا العذاب الأليم إلا قوم يونس فالاستثناء على
هذا متصل غير منقطع
قوله تعالى كشفنا عنهم أي صرفنا عنهم عذاب الخزي أي عذاب الهوان والذل ومتعناهم
إلى حين أي إلى حين آجالهم
الإشارة إلى شرح قصتهم
ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن قوم يونس كانوا ب نينوى من أرض الموصل فأرسل
الله عز و جل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام فأبوا فأخبرهم أن
العذاب مصبحهم بعد ثلاث فلما تغشاهم العذاب قال ابن عباس وأنس لم يبق بين العذاب
وبينهم إلا قدر ثلثي ميل وقال مقاتل قدر ميل وقال أبو صالح عن ابن عباس وجدوا حر
العذاب على أكتافهم وقال سعيد بن جبير غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر وقال
بعضهم غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا فغشي مدينتهم واسودت سطوحهم
فلما
أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح وحثوا على رؤوسهم الرماد وفرقوا بين كل والدة وولدها
من الناس والأنعام وعجوا إلى الله بالتوبة الصادقة وقالوا آمنا بما جاء به يونس
فاستجاب الله منهم قال ابن مسعود بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم بينهم حتى أن
كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقلعه فيرده وقال أبو الجلد
لما غشيهم العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا ما ترى قال قولوا يا حي حين
لا حي يا حي محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت ققالواها فكشف العذاب عنهم قال
مقاتل عجوا إلى الله أربعين ليلة فكشف العذاب عنهم وكانت التوبة عليهم في يوم
عاشوراء يوم الجمعة قال وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم فقيل له ارجع إليهم فقال
كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا وكان من يكذب بينهم ولا بينة له يقتل فانصرف مغاضبا
فالتقمه الحوت وقال أبو صالح عن ابن عباس أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل
يقال له شعيا فقيل له ائت فلانا الملك فقل له يبعث إلى بني إسرائيل نبيا قويا
أمينا وكان في مملكته خمسة من الأنبياء فقال الملك ليونس اذهب إليهم فقال ابعث
غيري فعزم عليه أن يذهب فأتى بحر الروم فركب سفينة فالتقمه الحوت فلما خرج من
بطنها أمر ينطلق إلى قومه فانطلق نذيرا لهم فأبوا عليه فوعدهم بالعذاب وخرج فلما
تابوا رفع عنهم والقول الأول أثبت عند العلماء وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره
لهم وتوبتهم وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إياه في مكانه إنشاء الله تعالى
الصفات 143
فإن قيل كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ولم يكشف عن فرعون حين آمن
فعنه
ثلاثة أجوبة أحدها أن ذلك كان خاصا لهم كما ذكرنا في أول الآية والثاني أن فرعون
باشره العذاب وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم فكانوا كالمريض يخاف الموتويرجو العافية
فأما الذي يعاين فلا توبة له ذكره الزجاج
والثالث أن الله تعالى علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين ذكره ابن
الأنباري
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
قوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم حريصا على إيمان جميع الناس فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلى من سبقت
له السعادة قال الأخفش جاء بقوله جميعا مع كل تأكيدا كقوله وقال الله لا تتخذوا
إلهين اثنين النحل 51
قوله تعالى أفأنت تكره الناس قال المفسرون منهم مقاتل هذا منسوخ بآية السيف
والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ لأن الإكراه على الإيمان لا يصح لأنه عمل القلب
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون
قوله تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله فيه ستة أقوال
أحدها بقضاء الله وقدره والثاني بأمر الله رويا عن ابن عباس والثالث بمشيئة الله
قاله عطاء الرابع إلا أن يأذن الله في ذلك قاله مقاتل والخامس بعلم الله والسادس
بتوفيق الله ذكرهما الزجاج وابن الأنباري
قوله
تعالى ويجعل الرجس أي ويجعل الله الرجس وروى أبو بكر عن عاصم ونجعل الرجس بالنون
وفيه خمسة أقوال
أحدها أنه السخط رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني الإثم والعدوان قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنه مالا خير فيه قاله مجاهد
والرابع العذاب قاله الحسن وأبو عبيدة والزجاج
والخامس العذاب والغضب قاله الفراء
قوله تعالى على الذين لا يعقلون أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه وقيل لا يعقلون
حججه ودلائل توحيده
قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
قوله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض قال المفسرون قل للمشركين الذي
يسألونك الآيات على توحيد الله انظروا بالتفكر والاعتبار ماذا في السموات والأرض
من الآيات والعبر التي تدل على وحدانيته ونفاذ قدرته كالشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر وكل هذا يقتضي خالقا مدبرا وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا
يؤمنون في علم الله
فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين
ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين
قوله تعالى فهل ينتظرون قال ابن عباس يعني كفار قريش
إلا
مثل ايام الذين خلوا من قبلهم قال ابن الأنباري أي مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم
والعرب تكني بالأيام عن الشرور والحروب وقد تقصد بها أيام السرور والأفراح إذا قام
دليل بذلك
قوله تعالى قل فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين لنزول العذاب بكم ثم ننجي
رسلنا والذين آمنوا من العذاب إذا نزل فلم يهلك قوم قط إلا نجا نبيهم والذين آمنوا
معه
قوله تعالى كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين وقرأ يعقوب وحفص والكسائي في قراءته
وروايته عن أبي بكر ننج المؤمنين بالتخفيف ثم في هذا الإنجاء قولان
أحدهما ننجيهم من العذاب إذا نزل بالمكذبين قاله الربيع بن أنس
والثاني ننجيهم في الآخرة من النار قاله مقاتل
قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن
أعبد الله الذي يتوفيكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا
تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من
الظالمين
قوله تعالى قل يا أيها الناس قال ابن عباس يعني أهل مكة إن كنتم في شك من ديني
الإسلام فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله وهي الأصنام ولكن أعبد الله الذي يقدر
أن يميتكم وقال ابن جرير معنى الآية لا ينبغي لكم أن تشكوا في ديني لأني أعبد الله
الذي يميت وينفع ويضر ولا تستنكر
عبادة
من يفعل هذا وإنما ينبغي لكم أن تشكوا وتنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي
لا تضر ولا تنفع
فإن قيل لم قال الذي يتوفاكم ولم يقل الذي خلقكم
فالجواب أن هذا يتضمن تهديدهم لأن ميعاد عذابهم الوفاة
قوله تعالى وأن أقم وجهك المعنى وأمرت أن أقم وجهك وفيه قولان
أحدها أخلص عملك والثاني استقم باقبالك على ما أمرت به بوجهك
وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال
أحدهما أنه المتبع قاله مجاهد والثاني المخلص قاله عطاء والثالث المستقيم قاله
القرظي
قوله تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك إن دعوته ولا يضرك إن تركت عبادته و
الظالم الذي يضع الشيء في غير موضعه
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من
يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن
اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما
يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين
قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر أي بشدة وبلاء فلا كاشف لذلك إلا هو دون ما يعبده
المشركون من الأصنام وإن يصبك بخير أي برخاء ونعمة وعافية فلا يقدر أحد أن يمنعك
إياه يصيب به أي بكل واحد من الضر والخير
قوله
تعالى قد جاءكم الحق من ربكم فيه قولان
أحدهما أنه القرآن والثاني محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى ومن ضل فإنما يضل عليها أي فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه
قوله تعالى وما أنا عليكم بوكيل أي في منعكم من اعتقاد الباطل والمعنى لست بحفيظ
عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك قال ابن عباس وهذه منسوخة بآية
القتال والتي بعدها أيضا وهي قوله واصبر حتى يحكم الله لأن الله تعالى حكم بقتل
المشركين والجزية على أهل الكتاب والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ أما الآية الأولى فقد
ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في الأنعام 107 وأما الثانية فقد ذكرنا نظيرتها في
سورة البقرة 109 قوله فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره
سورة
هود عليه السلام
فصل في نزولها
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية كلها وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد وجابر
بن زيد وقتادة وروي عن ابن عباس أنه قال هي مكية إلا آية وهي قوله أقم الصلاة طرفي
النهار هود 114 وعن قتادة نحوه وقال مقاتل هي مكية كلها إلا قوله فلعلك تارك بعض
ما يوحى إليك هود 12 وقوله أولئك يومنون به هود 17 وقوله إن الحسنات يذهبن السيئات
هود 14
وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله عجل إليك الشيب قال شيبتني
هود وأخواتها الحاقة والواقعة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية
بسم
الله الرحمن الرحيم آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
فأما آلر فقد ذكرنا تفسيرها في سورة يونس
قال الفراء و كتاب مرفوع بالهجاء الذي قبله كأنك قلت حروف الهجاء هذا القرآن وإن
شئت رفعته باضمار هذا كتاب والكتاب القرآن
وفي قوله أحكمت آياته أربعة أقوال
أحدها أحكمت فما تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع قاله ابن عباس واختاره ابن
قتيبة
والثاني أحكمت بالأمر والنهي قاله الحسن وأبو العالية
والثالث أحكمت عن الباطل أي منعت قاله قتادة ومقاتل
والرابع أحكمت بمعنى جمعت قاله ابن زيد
فإن قيل كيف عم الآيات هاهنا بالإحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات آل عمران
8 فعنه جوابان
أحدهما أن الإحكام الذي عم به هاهنا غير الذي خص به هناك
وفي معنى الإحكام العام خمسة أقوال قد أسلفنا منها أربعة في قوله أحكمت آياته
والخامس أنه إعجاز النظم والبلاغة وتضمين الحكم المعجزة
ومعنى
الإحكام الخاص زوال اللبس واستواء السامعين في معرفة معنى الآية
والجواب الثاني أن الإحكام في الموضعين بمعنى واحد والمراد بقوله أحكمت آياته أحكم
بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس فأوقع العموم على معنى الخصوص كما تقول العرب
قد أكلت طعام زيد يعنون بعض طعامه ويقولون قتلنا ورب الكعبة يعنون قتل بعضنا ذكر
ذلك ابن الأنباري
وفي قوله ثم فصلت ستة أقوال
أحدها فصلت بالحلال والحرام رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني فصلت بالثواب والعقاب رواه جسر بن فرقد عن الحسن
والثالث فصلت بالوعد والوعيد رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن أيضا
والرابع فصلت بمعنى فسرت قاله مجاهد
الخامس أنزلت شيئا بعد شيء ولم تنزل جملة ذكره ابن قتيبة
والسادس فصلت بجميع ما يحتاج إليه من الدلالة على التوحيد وتثبيت نبوة الأنبياء
وإقامة الشرائع قاله الزجاج
قوله تعالى من لدن حكيم أي من عنده ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير
وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل
فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء
قدير
قوله
تعالى ألا تعبدوا إلا الله قال الفراء المعنى فصلت آياته بأن لا تعبدوا إلا الله
وأن استغفروا و أن في موضع النصب بالقائك الخافض
وقال الزجاج المعنى آمركم أن تعبدوا إلا الله وأن استغفروا
قال مقاتل والمراد بهذه العبادة التوحيد والخطاب لكفار مكة
قوله تعالى وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه فيه قولان
أحدهما أن الاستغفار والتوبة هاهنا من الشرك قاله مقاتل
والثاني استغفروه من الذنوب السالفة ثم توبوا إليه من المستأنفة متى وقعت وذكر عن
الفراء أنه قال ثم هاهنا بمعنى الواو
قوله تعالى يمتعكم متاعا حسنا قال ابن عباس يتفضل عليكم بالرزق والسعة وقال ابن
قتيبة يعمركم وأصل الإمتاع الإطالة يقال أمتع الله بك ومتع الله بك إمتاعا ومتاعا
والشيء الطويل ماتع يقال جبل ماتع وقد متع النهار إذا تطاول
وفي المراد بالأجل المسمى قولان
أحدهما أنه الموت قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة
والثاني أنه يوم القيامة قاله سعيد بن جبير
قوله تعالى ويؤت كل ذي فضل فضله في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى ثم في معنى الكلام قولان أحدهما ويؤت كل ذي فضل
من حسنة وخير فضله وهو الجنة والثاني يؤتيه فضله من الهداية إلى العمل الصالح
والثاني أنها ترجع إلى العبد فيكون المعنى ويؤت كل من زاد في إحسانه
وطاعاته
ثواب ذلك الفضل الذي زاده فيفضله في الدنيا بالمنزلة الرفيعة وفي الآخرة بالثواب
الجزيل
قوله تعالى وإن تولوا أي تعرضوا عما أمرتم به وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو
مجلز وأبو رجاء وإن تولوا بضم التاء فإني أخاف عليكم فيه إضمار فقل واليوم الكبير
يوم القيامة ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما
يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور
قوله تعالى ألا إنهم يثنون صدورهم في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه و سلم
ويحلف إنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر له فنزلت فيه هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن
عباس
والثاني أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة
النساء فنزلت فيهم هذه الآية رواه محمد بن عباد عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه و سلم
ثنى صدره وظهره وطأطأ راسه وغطى وجهه لئلا يراه رسول الله قاله عبد الله ابن شداد
والرابع أن طائفة من المشركين قالوا إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا
واستغشينا
ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه و سلم كيف يعلم بنا فأخبر الله
عما كتموا ذكر زجاج
والخامس أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا
سمعوا منه القرآن حنوا صدورهم ونكسوا رؤوسهم وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول
الله صلى الله عليه و سلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى يثنون صدورهم يقال ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته وفي معنى الكلام خمسة
أقوال
أحدها يكتمون ما فيها من العداوة لمحمد صلى الله عليه و سلم قاله أبو صالح عن ابن
عباس
والثاني يثنون صدورهم على الكفر قاله مجاهد
والثالث يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله قاله قتادة
والرابع يثنونها إذا ناجى بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله
ابن زيد
والخامس يثنونها حياء من الله تعالى وهو يخرج على ما حكينا عن ابن عباس قال ابن
الأنباري وكان ابن عباس يقرؤها ألا إنهم تثنوني صدورهم وفسرها أن ناسا كانوا
يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء فتثنوني تفعوعل وهو فعل
للصدور معناه المبالغة في تثني الصدور كما تقول العرب احلولى الشيء يحلولي إذا
بالغوا في وصفه بالحلاوة قال عنترة ... ألا قاتل الله الطلول البواليا ... وقاتل ذكراك
السنين الخواليا
وقولك
للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولي ألا ليت ذا ليا ...
فعلى هذا القول هو في حق المؤمنين وعلى بقية الأقوال هو في حق المنافقين وقد خرج
من هذه الأقوال في معنى يثنون صدورهم قولان أحدهما أنه حقيقة في الصدور والثاني
أنه كتمان ما فيها
قوله تعالى ليستخفوا منه في هاء منه قولان أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى
والثاني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى ألا حين يستغشون ثيابهم قال أبو عبيدة العرب تدخل ألا توكيدا وإيجابا
وتنبيها قال ابن قتيبة يستغشون ثيابهم أي يتغشونها ويستترون بها قال قتادة أخفى ما
يكون ابن آدم إذا حنى ظهره واشتغشى ثيابه وأضمر همه في نفسه قال ابن الأنباري أعلم
الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم
قوله تعالى إنه عليم بذات الصدور وقد شرحنا في آل عمران 119 وما من دابة في الأرض
إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وهو الذي خلق السموات
والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم
مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفورا إن هذا إلا سحر مبين
قوله تعالى وما من دابة في الأرض قال أبو عبيدة من من حروف الزوائد والمعنى وما
دابة والدابة اسم لكل حيوان يدب وقوله إلا على الله رزقها قال العلماء فضلا منه لا
وجوبا عليه و على هاهنا بمعنى من وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة الأنعام 67
قوله
تعالى كل في كتاب أي ذلك عند الله في اللوح المحفوظ هذا قول المفسرين وقال الزجاج
المعنى ذلك ثابت في علم الله عز و جل
قوله تعالى وكان عرشه على الماء قال ابن عباس عرشه سريره وكان الماء إذ كان العرش
عليه على الريح قال قتادة ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض
قوله تعالى ليبلوكم أي ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه فيثيت المعتبر بما يرى
من آيات السموات والأرض ويعاقب أهل العناد
قوله تعالى أيكم أحسن عملا فيه أربعة أقوال أحدها أيكم أحسن عقلا وأورع من محارم
الله عز و جل وأسرع في طاعة الله رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني أيكم أعمل بطاعة الله قاله ابن عباس والثالث أيكم أتم عقلا قاله قتادة
والرابع أيكم أزهد في الدنيا قاله الحسن وسفيان
قوله تعالى إن هذا إلا سحر مبين قال الزجاج السحر باطل عندهم فكأنهم قالوا إن هذا
إلا باطل بين فأعلمهم الله تعالى أن القدرة على خلق السموات والأرض تدل على بعث
الموتآ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم ياتيهم ليس
مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا يستهزؤون
قوله
تعالى ولئن أخرنا عنهم العذاب قال المفسرون هؤلاء كفار مكة والمراد بالأمة
المعدودة الأجل المعلوم والمعنى إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها ليقولن ما يحبسه
وإنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء
قوله تعالى ألا يوم يأتيهم وقال ليس مصروفا عنهم وقال بعضهم لا يصرف عنهم العذاب
إذا أتاهم وقال آخرون إذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى الله عليه و سلم لم تغمد عنهم
حتى يباد أهل الكفر وتعلوا كلمة الإخلاص
قوله تعالى وحاق بهم قال أبو عبيدة نزل بهم وأصابهم
وفي قوله ما كانوا به يستهزؤن قولان أحدهما انه الرسول والكتاب قاله أبو صالح عن
ابن عباس فيكون المعنى حاق بهم جزاء استهزائهم والثاني أنه العذاب كانوا يستهزئون
بقولهم ما يحسبه وهذا قول مقاتل ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه
ليؤس كفور
قوله تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في الوليد بن المغيرة قاله ابن عباس والثاني في عبد الله بن أبي
أمية المخزومي ذكره الواحدي والثالث أن الإنسان هاهنا اسم جنس والمعنى ولئن أذقنا
الناس قاله الزجاج والمراد بالرحمة النعمة من العافية والمال والولد واليؤوس
القنوط قال أبو عبيدة هو فعول من يئست قال مقاتل إنه ليؤوس عند الشدة من الخير
كفور لله في نعمه في الرخاء ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات
عني إنه لفرح فخور
قوله تعالى ولئن أذقناه نعماء قال ابن عباس صحة وسعة في الرزق
بعد
ضراء مسته بعد مرض وفقر ليقولن ذهب السيئات عني يريد الضر والفقر إنه لفرح أي بطر
فخور قال ابن عباس يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه
فإن قيل ما وجه عيب الإنسان في قوله ذهب السيئات عني وما وجه ذمه على الفرح وقد
وصف الله الشهداء فقال فرحين
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال إنما عابه بقوله ذهب السيئات عني لأنه لم يعترف
بنعمة الله ولم يحمده على ما صرف عنه وإنما ذمه بهذا الفرح لأنه يرجع إلى معنى
المرح والتكبر عن طاعة الله قال الشاعر ... ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا ألقي
من الفرح الإزارا ...
يعني من المرح وفرح الشهداء فرح لا كبر فيه ولا خيلاء بل هو مقرون بالشكر فهو
مستحسن إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير
قوله تعالى إلا الذين صبروا قال الفراء هذا الاستثناء من الإنسان لأنه في معنى
الناس كقوله إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا العصر 24 وقال الزجاج هذا استثناء
ليس من الأول والمعنى لكن الذين صبروا قال ابن عباس الوصف الأول للكافر والذين
صبروا أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم
فلعلك
تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك
إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل
قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى
الله عليه و سلم أئت بقرآن غير هذا أو بدله يونس 15 فهم النبي صلى الله عليه و سلم
أن لا يسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتبعوه فنزلت هذه الآية قاله مقاتل وفي معنى
الآية قولان أحدهما فلعلك تارع تبليغ بعض ما يوحى إليك من أمر الآلهة وضائق بما
كلفته من ذلك صدرك خشية أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز والثاني فلعلك لعظيم ما يرد
على قلبك من تخليطهم تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك فأما
الضائق فهو بمعنى الضيق قال الزجاج ومعنى أن يقولوا كراهية أن يقولوا وإنما عليك
أن تنذرهم بما يوحى إليك وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات
قوله تعالى والله على كل شيء وكيل فيه قولان أحدهما أنه الحافظ والثاني الشهيد وقد
ذكرناه في آل عمرا 173 أم يقولون افتريه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فالم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم
الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون
قوله تعالى أم يقولون افتراه أم بمعنى بل و افتراه أتى به من قبل نفسه قل فأتوا
أنتم في معارضتي بعشر سور مثله في البلاغة
مفتريات
بزعمكم ودعواكم وادعوا من استطعتم من دون الله إلى المعاونة على المعارضة إن كنتم
صادقين في قولكم افتراه
فإن لم يستجيبوا لكم أي يجيبوكم إلى المعارضة فقد مات الحجة عليهم لكم
فإن قيل كيف وحد القول في قوله قل فأتوا ثم جمع في قوله فإن لم يستجيبوا لكم فعنه
جوابان أحدهما أن الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وحده في الموضعين فيكون الخطاب
له بقوله لكم تعظيما لأن خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم هذا قول المفسرين والثاني
أنه وحد في الأول لخطاب النبي صلى الله عليه و سلم وجمع في الثاني لمخاطبة النبي
صلى الله عليه و سلم وأصحابه قاله ابن الأنباري
قوله تعالى فاعلموا أنما أنزل بعلم الله فيه قولان أحدهما أنزله وهو عالم بانزاله
وعالم بأنه حق من عنده والثاني أنزله بما أخبر فيه من الغيب ودل على ما سيكون وما
سلف ذكرهما الزجاج
قوله تعالى وأن لا إله إلا هو أي واعلموا ذلك فهل أنتم مسلمون استفهام بمعنى الأمر
وفيمن خوطب به قولان أحدهما أهل مكة ومعنى إسلامهم إخلاصهم لله العبادة قاله أبو
صالح عن ابن عباس والثاني أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد من
كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك
الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون
قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها اختلفوا فيمن نزلت على
أربعة
أقوال أحدها أنها عامة في جميع الخلق وهو قول الأكثرين والثاني أنها في أهل القبلة
قاله أبو صالح عن ابن عباس والثالث أنها في اليهود والنصارى قاله أنس والرابع أنها
في أهل الرياء قاله مجاهد وروى عطاء عن ابن عباس من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن
بالبعث والجزاء وقال غيره إنما هي في الكافر لأن المؤمن يريد الدنيا والآخرة
قوله تعالى نوف إليهم أعمالهم أي أجور أعمالهم فيها قال سعيد ابن جبير أعطوا ثواب
ما عملوا من خير في الدنيا وقال مجاهد من عمل عملا من صلة أو صدقة لا يريد به وجه
الله أعطاه الله ثواب ذلك في الدنيا ويدرأ به عنه في الدنيا
قوله تعالى وهم فيها قال ابن عباس أي في الدنيا لا يبخسون أي لا ينقصون من أعمالهم
في الدنيا شيئا أولئك الذين عملوا لغير الله ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما
صنعوا أي ما عملوا في الدنيا من حسنة وباطل ما كانوا لغير الله يعلمون
فصل
وذكر قوم من المفسرين منهم مقاتل أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله أعطي
فيا ثواب عمله من الرزق والخير ثم نسخ ذلك بقوله عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد
الاسراء 18 وهذا لا يصح لأنه لا يوفي إلا لمن يريد
أفمن
كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون
به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن
أكثر الناس لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم
ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه في المراد بالبينة أربعة أقوال
أحدها أنها الدين قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني أنها رسول الله صلى الله عليه
و سلم قاله الضحاك والثالث القرآن قاله ابن زيد والرابع البيان قاله مقاتل وفي
المشار إليه ب من قولان
أحدهما أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس والجمهور والثاني أنهم
المسلمون وهو يخرج على قول الضحاك وفي قوله ويتلوه قولان
أحدهما يتبعه والثاني يقرؤه وفي هاء يتلوه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم والثاني إلى القرآن وقد سبق ذكره
في قوله فأتوا بعشر سور مثله مفتريات هود 13
وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال
أحدها أنه جبريل قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وإبراهيم في آخرين
والثاني أنه لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان يتلو القرآن قاله علي بن
أبي طالب والحسن وقتادة في آخرين
والثالث
أنه علي بن أبي طالب و يتلوه بمعنى يتبعه رواه جماعة عن علي بن أبي طالب وبه قال
محمد بن علي وزيد بن علي
والرابع أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم هو شاهد من الله تعالى قاله الحسين بن
علي عليه السلام
والخامس أنه ملك يحفظه ويسدده قاله مجاهد
والسادس أنه الإنجيل يتلو القرآن بالتصديق وإن كان قد أنزل قبله لأن النبي صلى
الله عليه و سلم بشرت به التوراة قاله الفراء
والسابع أنه القرآن ونظمه وإعجازه قاله الحسين بن الفضل
والثامن أنه صورة رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجهه ومخايله لأن كل عاقل نظر
إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
وفي هاء منه ثلاثة أقوال أحدها أنها ترجع إلى الله تعالى والثاني إلى النبي صلى
الله عليه و سلم والثالث إلى البينة
قوله تعالى ومن قبله في هذه الهاء ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد والثاني إلى القرآن
قاله ابن زيد والثالث إلى الإنجيل أي ومن قبل الإنجيل كتاب موسى يتبع محمدا بالتصديق
له ذكره ابن الأنباري قال الزجاج والمعنى وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلا على أمر
النبي صلى الله عليه و سلم فيكون كتاب موسى عطفا على قوله ويتلو شاهد منه أي
ويتلوه كتاب موسى لأن موسى وعيسى بشرا بالنبي صلى الله عليه و سلم في التوراة
والإنجيل ونصب إماما على الحال
فإن قيل كيف تتلوه التوراة وهي قبله
قيل
لما بشرت به كانت كأنها تاليه له لأنها تبعته بالتصديق له
وقال ابن الأنباري كتاب موسى مفعول في المعنى لأن جبريل تلاه على موسى فارتفع
الكتاب وهو مفعول بمضمر بعده تأويله ومن قبله كتاب موسى كذاك أي تلاه جبريل أيضا
كما تقول العرب أكرمت أخاك وأبوك فيرفعون الأب وهو مكرم على الاستئناف بمعنى وأبوك
مكرم أيضا قال وذهب قوم إلى أن كتاب موسى فاعل لأنه تلا محمدا بالتصديق كما تلاه
الإنجيل
فصل
فتلخيص الآية أفمن كان على بينة من ربه كمن لم يكن قال الزجاج ترك المضاد له لأن
في ما بعده دليلا عليه وهو قوله مثل الفريقين كالأعمى والأصم هود 24 وقال ابن
قتيبة لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إلى الدنيا جاء بهذه الآية وتقدير الكلام
أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا فاكتفى من الجواب بما تقدم إذ كان فيه دليل
عليه وقال ابن الأنباري إنما حذف لانكشاف المعنى والمحذوف المقدر كثير في القرآن
والشعر قال الشاعر ... فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
فإن
قلنا إن المراد بمن كان على بينة ربه رسول الله صلى الله عليه و سلم فمعنى الآية
ويتبع هذا النبي شاهد وهو جبريل عليه السلام منه أي من الله وقيل شاهد هو علي بن
أبي طالب منه أي من النبي صلى الله عليه و سلم وقيل يتلوه يعني القرآن يتلوه جبريل
وهو شاهد لمحمد صلى الله عليه و سلم أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى وقيل
ويتلو رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن وهو شاهد من الله وقيل ويتلو لسان
رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن فلسانه شاهد منه وقيل ويتبع محمدا شاهد له
بالتصديق وهو الإنجيل من الله تعالى وقيل ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه وهو سمته
وهديه الدال على صدقه وإن قلنا إن المراد بمن كان على بينة من ربه المسلمون
فالمعنى أنهم يتبعون رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو البينة ويتبع هذا النبي
شاهد له بصدقه
قوله تعالى إماما ورحمة إنما سماه إماما لأنه كان يهتدى به ورحمة أي وذا رحمة
وأراد بذلك التوراة لأنها كانت إماما وسببا لرحمة من آمن بها
قوله تعالى أولئك فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه إشارة إلى أصحاب موسى والثاني إلى أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم
والثالث إلى أهل الحق من أمة موسى وعيسى ومحمد
وفي هاء به ثلاثة اقوال أحدها أنها ترجع إلى التوراة والثاني إلى القرآن والثالث
إلى محمد صلى الله عليه و سلم
وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال أحدها جميع الملل قال سعيد بن جبير والثاني
اليهود والنصارى قاله قتادة والثالث قريش قاله السدي والرابع بنو أمية وبنو
المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل أبي طلحة بن العزي قاله مقاتل
قوله
تعالى فالنار موعده أي إليها مصيره قال حسان بن ثابت ... أوردتموها حياض الموت ضاحية
... فالنار موعدها والموت لا قيها ...
قوله تعالى فلا تك في مرية منه قرأ الحسن وقتادة مرية بضم الميم أين وقع وفي
المكني عنه قولان
أحدهما أنه الإخبار بمصير الكافر به فالمعنى فلا تك في شك أن موعد المكذب به النار
وهذا قول ابن عباس
والثاني أنه القرآن فالمعنى فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى قاله مقاتل
قال ابن عباس والمراد بالناس هاهنا أهل مكة
قوله تعالى أولئك يعرضون على ربهم قال الزجاج ذكر عرضهم توكيدا لحالهم في الانتقام
منهم وإن كان غيرهم يعرض أيضا
فأما الأشهاد ففيهم خمسة أقوال أحدها أنهم الرسل قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الملائكة قاله مجاهد وقتادة والثالث الخلائق روي عن قتادة ايضا وقال مقاتل
الأشهاد الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي على رؤوس الناس والرابع الملائكة
والنبيون وأمة محمد صلى الله عليه و سلم يشهدون على الناس والجوارح تشهد على ابن
آدم قاله ابن زيد والخامس الأنبياء والمؤمنون قاله الزجاج قال ابن الأنباري وفائدة
إخبار الأشهاد بما يعلمه الله تعظيم بالأمر المشهود عليه ودفع المجاحدة فيه الذين
يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون
قوله
تعالى الذين يصدون عن سبيل الله قد تقدم تفسيرها في الأعراف 45
قوله تعالى وهم بالآخرة هم كافرون قال الزجاج ذكرت هم ثانية على جهة التوكيد
لشأنهم في الكفر أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من
أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا
أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض قال ابن عباس لم يعجزوني أن آمر الأرض
فتخسف بهم وما كان لهم من دون الله من أولياء أي لا ولي لهم ممن يعبدون يمنعهم مني
وقال ابن الأنباري لما كانت عادة العرب جارية بقولهم لا وزر لك مني ولا نفق يعنون
بالوزر الجبل والنفق السرب وكلاهما يلجأ إليه الخائف أعلم الله تعالى أن هؤلاء
الكافرين لا يسبقونه هربا ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من
الأرض ويلجأ إليه قال وقوله من أولياء يقتضي محذوفا تلخيصه من أولياء يمنعونهم من عذاب
الله فحذف هذا لشهرته
قوله تعالى يضاعف لهم العذاب يعني الرؤساء الصادين عن سبيل الله وذلك لإضلالهم
أتباعهم واقتداء غيرهم بهم وقال الزجاج لم يكونوا معجزين في الأرض أي في دار
الدنيا ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله ثم استأنف يضاعف لهم العذاب لعظم كفرهم
بنبيه وبالبعث والنشور
قوله تعالى ما كانوا يستطيعون السمع فيمن عني بهذا قولان
أحدهما أنهم الكفار ثم في معناه ثلاثة أقوال أحدها أنهم لم يقدروا
على
استماع الخير وإبصار الحق وفعل الطاعة لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك هذا معنى
قول ابن عباس ومقاتل والثاني أن المعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع
ولا يسمعونه وبما كانوا يبصورن حجج الله ولا يعتبرون بها فحذف الباء كما تقول
العرب لأجزينك ما عملت وبما عملت ذكره الفراء وأنشد ابن الأنباري في الاحتاج له
... نغالي اللحم للأضياف نيئا ... ونبذله إذا نضج القدور ...
أراد نغالي باللحم والثالث أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه و سلم
ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقول قاله الزجاج
والقول الثاني أنهم الأصنام فالمعنى ما كان للآلهة سمع ولا بصر فلم تستطع لذلك
السمع ولم تكن تبصر فعلى هذا يرجع قوله ما كانوا إلى أوليائهم وهي الأصنام وهذا
المعنى منقول عن ابن عباس أيضا لا جرم أنهم في الآخرة هم الأحسرون إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين
كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون
قوله تعالى لا جرم قال ابن عباس يريد حقا إنهم الأخسرون وقال الفراء لا جرم كلمة
كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها حتى صارت
بمنزلة حقا ألا ترى أن العرب تقول لا جرم لآتينك لا جرم لقد أحسنت وأصلها من جرمت
أي كسبت الذنب قال الزجاج ومعنى لا جرم لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم
كأن
المعنى لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون أي كسب لهم ذلك الفعل
الخسران وذكر ابن الأنباري أن لا رد على أهل الكفر فيما قدروه من اندفاع الشر عنهم
في الآخرة والمعنى لا يندفع عنهم عذابي ولا يجدون وليا يصرف عنهم نقمتي ثم ابتدأ
مستأنفا جرم قال وفيها قولان
أحدهما أنها بمعنى كسب كفرهم وما قدروا من الباطل وقوع العذاب بهم ف جرم فعل ماض
معناه كسب وفاعله مضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل
والثاني أن معنى جرم أحق وصحح وهو فعل ماض وفاعله مضمر فيه والمعنى أحق كفرهم وقوع
العذاب والخسران بهم قال الشاعر ... ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة
بعدها أن يغضبوا ... أراد حقت الطعنة فزارة بالغضب ومن العرب من يغير لفظ جرم مع
لا خاصة فيقول بعضهم لا جرم ويقول آخرون لا جر باسقاط الميم ويقال لاذا جرم و لاذا
جر بغير ميم و لا إن ذا جرم و لا عن ذا جرم ومعنى اللغات كلها حقا
قوله تعالى واخبتوا إلى ربهم فيه سبعة أقوال
أحدها خافوا ربهم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثاني أنابوا إلى ربهم رواه
العوفي عن ابن عباس والثالث ثابوا إلى ربهم قاله قتادة
والرابع
اطمأنوا قاله مجاهد والخامس أخلصوا قاله مقاتل والسادس تخشعوا لربهم قاله الفراء
والسابع تواضعوا لربهم قاله ابن قتيبة
فإن قيل لم أوثرت إلى على اللام في قوله واخبتوا إلى ربهم والعادة جارية بأن يقال
أخبتوا لربهم
فالجواب أن المعنى وجهوا خوفهم وخشوعهم وإخلاصهم إلى ربهم واطمأنوا إلى ربهم قال
الفراء وربما جعلت العرب إلى في موضع اللام كقوله بأن ربك أوحى لها الزلزال 5
وقوله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقد يجوز في العربية فلان يخبت إلى الله يريد
يفعل ذلك موجهه إلى الله قال بعض المفسرين هذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صلى
الله عليه و سلم وما قبلها نازل في المشركين ثم ضرب للفريقين مثلا فقال مثل
الفريقين كالأعمى والأصم قال مجاهد الفريقان المؤمن والكافر فأما الأعمى والأصم
فهو الكافر وأما البصير والسميع فهو المؤمن قال قتادة الكافر عمي عن الحق وصم عنه
والمؤمن أبصر الحق وسمعه ثم انتفع به وقال أبو عبيدة في الكلام ضمير تقديره مثل
الفريقين كمثل الأعمى وقال الزجاج مثل الفريقين المسلمين كالبصير والسميع ومثل
فريق الكافرين كالأعمى والأصم لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لايسمع ولا
يبصر
قوله تعالى هل يستويان مثلا أي هل يستويان في المشابهة
والمعنى كما لا يستويان عندكم كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله وقال أبو
عبيدة هل هاهنا بمعنى الإيجاب لا بمعنى الاستفهام والمعنى لا يستويان قال الفراء
وإنما لم يقل يستوون لأن الأعمى والأصم من
صفة
واحد والسميع والبصير من صفة واحد كقول القائل مررت بالعاقل واللبيب وهو يعني
واحدا قال الشاعر ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ...
فقال أيهما وإنما ذكر الخير وحده لأن المعنى يعرف إذ المبتغي للخير متق للشر وقال
ابن الأنباري الأعمى والأصم صفتان لكافر والسميع والبصير صفتان لمؤمن فرد الفعل
إلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة كما تقول العاقل والعالم والظالم والجاهل حضرا
مجلسي فتثني الخبر بعد ذكرك أربعة لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل وكذلك
المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم فلما كان المنعوتان اثنين رجع الخبر إليهما ولم
يلتفت إلى تفريق الأوصاف ألا ترى أنه يسوغ أن تقول الأديب والليبب والكريم والجميل
قصدني فتوحد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد ولا يمتنع عطف النعوت على
النعوت بحروف العطف والموصوف واحد فقد قال تعالى التائبون العابدون بالتوبه 112 ثم
قال الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فلم يقتض دخول الواو وقوع خلاف بين
الآمرين والناهين وقد قيل الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره وكان دخول
الواو دلالة على الآمر بالمعروف لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر
كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين والسائحون بالسياحة دون الحامدين ويدل
أيضا على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد كقول الشاعر يخاطب سعيد بن
عمرو بن عثمان بن عفان
يظن
سعيد وابن عمرو بأنني ... إذا سامني ذلا أكون به أرضى ...
فنسق ابن عمرو على سعيد وهو سعيد ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن
لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه
ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نريك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى
لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتني
رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسئلكم عليه
مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني
أريكم قوما تجهلون
قوله تعالى ولقد ارسلنا نوحا إلى قومه أني قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي أني
بفتح الألف والتقدير أرسلناه بأني وكأن الوجه بأنه لهم نذير ولكنه على الرجوع من
الإخبار عن الغائب إلى خطاب نوح قومه وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة إني بكسر
الألف فحملوه على القول المضمر والتقدير فقال لهم إني لكم نذير
قوله تعالى ما نراك إلا بشرا مثلنا أي إنسانا مثلنا لا فضل لك علينا فأما الأراذل
فقال ابن عباس هم السفلة وقال ابن قتيبة هم جمع أرذل يقال رجل رذل وقد رذل رذالة
ورذولة ومعنى الأراذل الشرار
قوله تعالى بادي الرأي قرأ الأكثرون بادي بغير همز وقرأ
أبو
عمرو بالهمز بعد الدال وكلهم همز الرأي غير أبي عمرو وللعلماء في معنى بادي إذا لم
يهمز ثلاثة أقوال
أحدها أن المعنى ما نرى أتباعك إلى سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر يعنون
أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا هذا مذهب مقاتل في آخرين
والثاني أن المعنى أن هؤلاء القوم اتبعوك في ظاهر ما يرى منهم وطويتهم على خلافك
والثالث أن المعنى اتبعوك في ظاهر رأيهم ولم يتدبروا ما قلت ولو رجعوا إلى التفكر
لم يتبعوك ذكر هذين القولين الزجاج قال ابن الأنباري وهذه الثلاثة الأقوال على
قراءة من لم يهمز لأنه من بدا يبدو إذا ظهر فأما من همز بادئ فمعناه ابتداء الرأي
أي اتبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك
قوله تعالى ومانرى لكم علينا من فضل فيه ثلاثة أقوال
أحدها من فضل في الخلق قاله ابن عباس والثاني في الملك والمال ونحو ذلك قاله مقاتل
والثالث ما فضلتم باتباعكم نوحا ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها ذكره أبو
سليمان الدمشقي
قوله تعالى بل نظنكم كاذبين فيه قولان
أحدهما نتيقنكم قاله الكلبي والثاني نحسبكم قاله مقاتل
قوله تعالى ارأيتم إن كنت على بينة من ربي أي على يقين وبصيرة قال ابن الأنباري
وقوله إن كنت شرط لا يوجب شكا يلحقه لكن
الشك
يلحق المخاطبين من أهل الزيغ فتقديره إن كنت على بينة من ربي عندكم وآتاني رحمة من
عنده فيها قولان
أحدهما أنها النبوة قاله ابن عباس والثاني الهداية قاله مقاتل
قوله تعالى فعميت عليكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم
فعميت بتخفيف الميم وفتح العين قال ابن قتيبة والمعنى عميتم عنها يقال عمي علي هذا
الأمر إذا لم أفهمه وعميت عنه بمعنى قال الفراء وهذا مما حولت العرب الفعل إليه
وهو في الأصل لغيره كقولهم دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي وإنما الإصبع تدخل في
الخاتم والرجل في الخف واستجازوا ذلك إذ كان المعنى معروفا وقرأ حمزة والكسائي
وحفص عن عاصم فعميت بضم العين وتشديد الميم قال ابن الأنباري ومعنى ذلك فعماها
الله عليكم إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء وكذلك قرأ أبي بن كعب والأعمش فعماها
عليكم
وفي المشار إليها قولان أحدهما البينة والثاني الرحمة
قوله تعالى أنلزمكموها أي أنلزمكم قبولها وهذا استفهام معناه الإنكار يقول لا نقدر
أن نلزمكم من ذات أنفسنا قال قتادة والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه و سلم
لألزمها قومه ولكن لم يملك ذلك وقيل كان مراد نوح عليه السلام رد قولهم وما نرى
لكم علينا من فضل فبين فضله وفضل من آمن به بأنه على بينة من ربه وقد آتاه رحمة من
عنده وسلب المكذبون ذلك
قوله تعالى لا أسألكم عليه أي على نصحي ودعائي إياكم مالا فتتهموني وقال ابن
الأنباري لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإيمان جاز تذكيرها
قوله
تعالى وما أنا بطارد الذين آمنوا قال ابن جريج سألوه طردهم أنفة منهم فقال لا يجوز
لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغر شؤونهم
وفي قوله ولكني أراكم قوما تجهلون قولان
أحدهما تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى قاله ابن عباس
والثاني تجهلون لأمركم إياي بطرد المؤمنين قاله أبو سليمان و ياقوم من ينصرني من
الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول
إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم
إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا إن
كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي
إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون
قوله تعالى ويا قوم من ينصرني اي من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم
قوله تعالى ولا أقول لكم عندي خزائن الله قال ابن الأنباري أراد بالخزائن علم
الغيب المطوي عن الخلق لأنهم قالوا له إنما اتبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك فقال
لهم ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر وإنما قيل للغيوب خزائن
لغموضها عن الناس واستتارها عنهم قال سفيان بن عيينة إنما آيات القرآن خزائن فإذا
دخلت خزانة فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها
قوله
تعالى ولا أعلم الغيب قيل إنما قال لهم هذا لأن أرضهم أجدبت فسألوه متى يجيء المطر
وقل بل سالوه متى يجيء العذاب فقال ولا أعلم الغيب وقوله ولا أقول إني ملك جواب
لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا هود 27 و ولا أقول للذين تزدري أعينكم أي تحتقر
وتستصغر المؤمنين قال الزجاج تزدري تستقل وتستخس يقال زريت على الرجل إذا عبت عليه
وخسست فعله وأزريت به إذا قصرت به وأصل تزدري تزتري إلا أن هذه التاء تبدل بعد
الزاي دالا لأن التاء من حروف الهمس وحروف الهمس خفية فالتاء بعد الزاي تخفى فأبدلت
منها الدال لجهرها
قوله تعالى لن يؤتيهم الله خيرا قال ابن عباس إيمانا ومعنى الكلام ليس لي أن أطلع
على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء وليس لاحتقاركم إياهم يبطل أجرهم إني إذا لمن
الظالمين إن قلت هذا الذي تقدم ذكره وقيل إن طردتهم
قوله تعالى قد جادلتنا قال الزجاج الجدال هو المبالغة في الخصومة والمناظرة وهو
مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ويقال للصقر أجدل لأنه من أشد الطير ويقرأ فأكثرت
جدلنا
قوله تعالى فائتنا بما تعدنا قال ابن عباس يعنون العذاب إن كنت من الصادقين أنه
يأتينا
قوله تعالى إن أردت أن أنصح لكم أي أنصحكم وفي هذه الآية شرطان فجواب الأول النصح
وجواب الثاني النفع
قوله تعالى إن كان الله يريد أن يغويكم فيه ثلاثة أقوال
أحدها
يضلكم قاله ابن عباس والثاني يهلككم حكاه ابن الأنباري وقال هو قول مرغوب عنه
الثالث يضلكم ويهلككم قاله الزجاج
قوله تعالى هو ربكم أي هو أولى بكم يتصرف في ملكه كما يشاء وإليه ترجعون بعد الموت
أم يقولون افتريه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون
قوله تعالى أم يقولون قال الزجاج المعنى أيقولون افتراه قال ابن قتيبة الافتراء
الاختلاق فعلي إجرامي أي جرم ذلك الاختلاق إن كنت فعلت وأنا بريء مما تجرمون في
التكذيب وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع فعلي أجرامي بفتح الهمزة وأوحي إلى نوح أنه
لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون
قوله تعالى وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن قال المفسرون لما
أوحي إليه هذا استجاز الدعاء عليهم فقال لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا نوح
26
قوله تعالى فلا تبتئس قال ابن عباس ومجاهد لا تحزن وقال الفراء والزجاج لا تستكن
ولا تحزن قال أبو صالح عن ابن عباس فلا تحزن إذا نزل بهم الغرق بما كانوا يفعلون
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك
وكلما مر عليه ملأ
من
قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون
قوله تعالى واصنع الفلك أي واعمل السفينة
وفي قوله بأعيننا ثلاثة أقوال أحدها بمرأى منا قاله ابن عباس والثاني بحفظنا قاله
الربيع
والثالث بعلمنا قاله مقاتل قال ابن الأ نباري إ نما جمع على مذهب العرب في إيقاعها
الجمع على الواحد تقول خرجنا إلى البصرة في السفن وإنما جمع لأن من عادة الملك أن
يقول أمرنا ونهينا
وفي قوله ووحينا قولان أحدهما وأمرنا لك أن تصنعها والثاني وبتعليمنا إياك كيف
تصنعها
قوله تعالى ولاتخاطبني في الذين ظلموا فيه قولان أحدهما لاتسألني الصفح عنهم
والثاني لاتخاطبني في إمهالهم
وإنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لا يجاب فيه
الإشارة إلى كيفية عمل السفينة
روى الضحاك عن ابن عباس قال كان نوح يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد
مات ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على
عصا فقال يا بني انظر هذا الشيخ لايغررك قال ياأبت أمكني من العصا فأخذها فضربه
ضربة شجة
موضحة
وسالت الدماء على وجهه فقال رب قد ترى مايفعل بي عبادك فان يكن لك فيهم حاجة
فاهدهم وإلا فصبرني إلى أن تحكم فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد
آمن إلى قوله واصنع الفلك قال يارب وما الفلك قال بيت من خشب يجري على وجه الماء
أنجي فيه أهل طاعتي وأغرق أهل معصيتي قال يارب وأين الماء قال إني على ما أشاء
قدير قال يارب وأين الخشب قال اغرس الشجر فغرس الساج عشرين سنة وكف عن دعائهم
وكفوا عنه إلا أنهم يستهزؤن به فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعه وجففه ولفقه فقال
يارب كيف أتخذ هذا البيت قال اجعله على ثلاث صور رأسه كرأس الطاووس وجؤجؤه كجؤجؤ
الطائر وذنبه كذنب الديك واجعلها مطبقة وبعث الله إليه جبريل يعلمه وأوحى إليه أن
عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني فاستأجر نجارين يعملون معه وسام وحام
ويافث معه ينحتون السفينة فجعل طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا
وعلوها ثلاثا وثلاثين وفجر الله له عين القار تغلي غليانا حتى طلاها
وعن ابن عباس قال جعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام
وفي الأوسط الدواب والأنعام وركب وهو ومن معه البطن الأعلى
وروي عن الحسن أنه قال كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستمائة
ذراع
وقال قتادة كانت
فيما
ذكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسمائة ذراع وطولها في السماء ثلاثون ذراعا
وقال ابن جريج كان طولها ثلاثمائة ذراع وفرضها خمسين ومائة ذراع وطولها في السماء
ثلاثون ذراع وكان في أعلاها الطيروفي وسطها الناس وفي أسفلها السباع وزعم مقاتل
أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة
قوله تعالى وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه فيه قولان أحدهما أنهم رأوه يبني
السفينة وما رأوا سفينة قط فكانوا يسخرون ويقولون صرت بعد النبوة نجارا وهذا قول
ابن إسحاق
والثاني أنهم قالوا له ما تصنع فقال أبني بيتا يمشي على الماء فسخروا من قوله وهذا
قول مقاتل
وفي قوله إن تسخروا منا فانا نسخر منكم خمسة أقوال أحدها إن تسخروا من قولنا فانا
نسخر من غفلتكم
والثاني إن تسخروا من فعلنا عند بناء السفينة فانا نسخر منكم عند الغرق ذكره
المفسرون
والثالث إن تسخروا منا في الدنيا فانا نسخر منكم في الآخرة قاله ابن جرير
والرابع إن تستجهلونا فانا نستجهلكم قاله الزجاج
والخامس إن تسخروا منا فانا نستنصر الله عليكم فسمى هذا سخرية ليتفق اللفظان كما
بينا في قوله الله يستهزىء بهم هذا قول ابن الأنباري
قال ابن عباس لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر و لابحر فلذلك سخروا منه وإنما مياه
البحار بقية الطوفان
فسوف
تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم
قوله تعالى فسوف تعلمون هذا وعيد ومعناه فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو
أحمد عاقبه
قوله تعالى من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله وهو الغرق ويحل عليه أي ويجب عليه عذاب
مقيم في الآخرة
حتى إذا جاء امرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق
عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل
قوله تعالى حتى إذا جاء أمرنا فيه قولان أحدهما جاء أمرنا بعذابهم وإهلاكهم
والثاني جاء عذابنا و هو الماء ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها كالإكليل وجعل المطر
ينزل من السماء كأفواه القرب فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربا من الماء حتى
اجتمعن عند السفينة فحينئذ حمل فيها من كل زوجين اثنين قوله تعالى وفار التنور
الفور الغليان والفوارة ما يفور من القدر قاله ابن فارس
قال المصنف وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال التنور اسم فارسي
معرب لا تعرف له العرب اسما غير هذا فلذلك جاء في التنزيل لأنهم خوطبوا بما عرفوا
وروي عن ابن عباس أنه قال التنور بكل لسان عربي وعجمي
وفي
المراد بهذا التنور ستة أقوال
أحدها أنه اسم لوجه الأرض رواه عكرمة عن علي عليه السلام وروى الضحاك عن ابن عباس
التنور وجه الأرض قال قيل له إذا رأيت الماء قد علا وجهه الأرض فاركب أنت وأصحابك
وهذا قول عكرمة والزهري
والثاني أنه تنوير الصبح رواه أبو جحيفة عن علي رضي الله عنه وقال ابن قتيبه
التنوير عند الصلاة
والثالث أنه طلوع الفجر روي عن علي أيضا قال وفار التنور طلع الفجر
والرابع أنه طلوع الشمس وهو منقول عن علي أيضا
والخامس أنه تنور أهله روى العوفي عن ابن عباس قال إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه
الماء فانه هلاك قومك وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه تنور آدم عليه السلام وهبه
الله لنوح وقيل له إذا فار الماء منه فاحمل ماأمرت به وقال الحسن كان تنورا من
حجارة وهذا قول مجاهد والفراء ومقاتل
والسادس أنه أعلى الأرض وأشرفها
قال ابن الأنباري شبهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة لعلوها بالتنانير واختلفوا
في المكان الذي فار منه التنور على ثلاثة أقوال
أحدها أنه فار من مسجد الكوفة رواه حبة العربي عن علي عليه السلام وقال زر بن حبيش
فار التنور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى وقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به
امرأته فأخبرته وكان ذلك بناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما كان التنور إلا
بناحية الكوفة
والثاني
أنه فار بالهند رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أنه كان في أقصى دار نوح وكانت بالشام في يقال له عين وردة قاله مقاتل
قوله تعالى قلنا احمل فيها أي في السفينة من كل زوجين اثنين
وروى حفص عن عاصم من كل بالتنوين قال أبو علي والمعنى من كل شيء ومن كل زوج زوجين
فحذف المضاف وانتصاب اثنين على أنهما صفة لزوجين وقد علم أن الزوجين اثنان ولكنه
توكيد قال مجاهد من كل صنف ذكرا وأنثى وقال ابن قتيبة الزوج يكون واحدا ويكون
اثنين وهو هاهنا واحد ومعنى الآية احمل من كل ذكر وأنثى اثنين وقال الزجاج المعنى
احمل زوجين اثنين من كل شىء والزوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد والاثنان
يقال لهما زوجان يقال عندي زوجان من الطير إنما يريد ذكرا وأنثى فقط وقال ابن
الأنباري إنما قال اثنين فثنى الزوج لأنه قصد قصد الذكر والأنثى من الحيوان
وتقديره من كل ذكر وأنثى
قوله تعالى وأهلك أي وأحمل أهلك قال المفسرون أراد بأهله عياله وولده
إلا من سبق عليه القول أي سبق عليه القول من الله بالإهلاك قال الضحاك وهم امرأته
وابنه كنعان
قوله تعالى ومن آمن معناه واحمل من آمن
وما آمن معه إلا قليل وفي عددهم ثمانية أقوال
أحدها أنهم كانوا ثمانين رجلا معهم أهلوهم رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني
أن نوحا حمل معه ثمانين إنسانا وبنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه وامرأة نوح رواه
يوسف بن مهران عن ابن عباس
والثالث كانوا ثمانين إنسانا قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل كانوا وأربعين
رجلا وأربعين امرأة
والرابع كانوا أربعين ذكره ابن جريج عن ابن عباس
والخامس كانوا ثلاثين رجلا رواه أبو نهيك عن ابن عباس
والسادس كانوا ثمانية قال الحكم بن عتيبة كان نوح وثلاثة بنيه وأربع كنائنه قال
قتادة ذكر لنا أنه لم ينج في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنين له ونساؤهم
فجماعتهم ثمانية وهذا قول القرظي وابن جريج
والسابع كانوا سبعة نوح وثلاث كنائن له وثلاثة بنين قاله الأعمش
والثامن كانوا عشرة سوى نسائهم قاله ابن إسحاق وروي عنه أنه قال الذين نجوا مع نوح
بنوه الثلاثة ونساؤهم ثلاث وستة ممن آمن به
وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربي لغفور رحيم
قوله تعالى وقال يعني نوحا للذين أمر بحملهم اركبوا السفينة
قال ابن عباس ركبوا فيها لعشر مضين من رجب وخرجوا منها يوم عاشوراء
وقال ابن جريج رفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب فأتت
موضع
البيت فطافت به أسبوعا وكان البيت قد رفع في ذلك الوقت ورست بباقردى على الجودي
يوم عاشوراء وقال ابن عباس قرض الفأر حبال السفينة فشكا نوح ذلك فأوحى الله تعالى
إليه فمسح ذنب الأسد فخرج سنوران وكان في السفينة عذرة فشكا ذلك إلى ربه فأوحى
الله تعالى إليه فمسح ذنب الفيل فيخرج خنزيران فأكلا ذلك الفيل فخرج خنزيران فأكلا
ذلك
قوله تعالى بسم الله مجراها ومرساها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر
وأبوبكر عن عاصم مجراها بضم الميم وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مجراها بفتح
الميم وكسر الراء وكلهم قرؤوا بضم الميم من مرساها إلا أن ابن كثير وأبا عمرو وابن
عامر وحفصا عن عاصم كانوا يفتحون السين ونافع وأبو بكر عن عاصم كانا يقرآنها بين
الكسر والتفخيم وكان حمزة والكسائي وخلف يميلونها وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتا
لله وإنما جعل الوصفين نعتا لله تعالى الحسن وقتادة وحميد الأعرج وإسماعيل بن
مجالد عن عاصم فقرؤوا مجريها و مرسيها بضم الميم وببهاءين صحيحتين مثل مبديها
ومنشيها وقرأ ابن مسعود مجراها بفتح الميم وإمالة الراء بعدها ألف ومرساها برفع
الميم وإمالة السين بعدها ألف وقرأ أبو رزين وأبوالمتوكل مجراها بفتح الميم والراء
وبألف بعدها ومرساها برفع الميم وفتح السين وبألف بعدها وقرأ أبو الجوزاء وابن
يعمر مجراها ومرساها بفتح الميم فيهما جميعا وفتح الراء والسين وبألف بعدهما
وقرأ
يحيى بن وثاب بفتح الميمين إلا أنه أمال الراء والسين فيهما وقرأ أبو عمران الجوني
وابن جبير برفع الميم فيهما وفتح الراء والسين وبألف بعدهما جميعا فمن قرأ بضم
الميمين جعله من أجرى وأرسى ومن فتحهما جعله مصدرا من جرى الشيء يجري مجرى ورسى
يرسي مرسى قال الزجاج قوله بسم الله أي بالله والمعنى أنه أمرهم أن يسموا في وقت
جريها ووقت استقرارها
ومن قرأ بضم الميمين فالمعنى بالله إجراؤها وبالله إرساها ومن فتحهما فالمعنى
بالله يكون جريها وبالله يقع إرساؤها أي إقرارها وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي
يقول من ضم الميم في مجراها أراد أجراها الله مجرى ومن فتحها أراد جرت مجرى وقال
الضحاك كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت وإذا أراد أن ترسى قال بسم الله
فرست
وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا
تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله
إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين
قوله تعالى وهي تجري بهم في موج كالجبال شبهه في بالجبال في عظمه وارتفاعه ويقال
إن الماء أرتفع على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعا ويروي خمس عشرة ذراعا وذكر بعض
المفسرين أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخا من الأرض
قوله تعالى ونادى نوح ابنه لا يختلفون أنه كان كافرا وفي اسمه قولان أحدهما كنعان
وهو قول الأكثرين والثاني اسمه يام قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال عبيد بن
عمير وابن إسحاق
قوله
تعالى وكان في معزل المعزل المكان المنقطع ومعنى العزل التنحية وفي معنى الكلام
وجهان ذكرهما الزجاج
أحدهما في معزل من السفينة والثاني في معزل من دين أبيه
قوله تعالى يابني اركب معنا قرأ ابن كثير ونافع وأبوعمرو وعاصم وابن عامر وحمزة
والكسائي يابني اركب مضافة بكسر الياء وروى أبوبكر عن عاصم يابني مفتوحة الياء ها
هنا وباقي القرآن مكسورة
وروى حفص عنه بالفتح في كل القرآن يابني إذا كان واحدا قال النحويون الأصل في بني
ثلاث ياءات ياء التصغير وياء بعدها هي لام الفعل وياء بعد لام الفعل هي ياء
الإضافة فمن قرأ يابني أراد يابنيي فحذف ياء الإضافة وترك الكسرة تدل عليها كما
يقال يا غلام أقبل ومن فتح الياء أبدل من كسرة لام الفعل فتحة استثقالا لاجتماع
الياءات مع الكسرة فانقلبت ياء الإضافة ألفا ثم حذفت الألف كما تحذف الياء فبقيت الفتحة
على حالها وقيل إن المعنى يا بني آمن واركب معنا
قوله تعالى سآوي أي سأصير وأرجع إلى جبل يعصمني أي يمنعني من الماء أي من تغريق
الماء
قال لاعاصم اليوم فيه قولان
أحدهما لا مانع اليوم من أمر الله قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني لا معصوم ومثله ماء دافق أي مدفوق وسر كاتم وليل نائم قاله ابن قتيبة
قوله تعالى إلا من رحم قال الزجاج هذا استثناء ليس من الأول والمعنى لكن من رحم
الله فانه معصوم قال مقاتل إلا من رحم فركب السفينة
قوله
تعالى وحال بينهما الموج في المكني عنها قولان
أحدهما أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه
قال مجاهد
والثاني نوح وابنه قاله مقاتل
وقيل يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي
وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق
وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس
لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به
علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين
قوله تعالى وقيل يا أرض ابلعي ماؤك وقف قوم على ظاهر الآية وقالوا إنما ابتلعت ما
نبع منها ولم تبتلع ماء السماء فصار ذلك بحارا وأنهارا وهو معنى قول ابن عباس وذهب
آخرون إلى أن المراد ابلعي ماءك الذي عليك وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء
وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض
قوله تعالى ويا سماء أقلعي أي أمسكي عن إنزال الماء قال ابن الأنباري لما تقدم ذكر
الماء علم أن المعنى أقلعي عن إنزال الماء
قوله تعالى وغيض الماء أي نقص قال الزجاج يقال غاض الماء يغيض إذا غاب في الأرض
ويجوز إشمام الضم في الغين
قوله تعالى وقضي الأمر قال ابن عباس غرق من غرق ونجا من نجا وقال مجاهد قضي الأمر
هلاك قوم نوح وقال ابن قتيبة وقضي
الأمر
أي فرغ منه قال ابن الأنباري والمعنى أحكمت هلكة قوم نوح فلما دلت القصة على ما
يبين هلكتهم أغنى عن نعت الأمر
قوله تعالى واستوت يعني السفينة على الجودي وهو اسم جبل وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة
على الجودي بسكون الياء قال ابن الأنباري وتشديد الياء في الجودي لأنها ياء النسبه
فهي كالياء في علوي وهاشمي وقد خففها بعض القراء ومن العرب من يخفف ياء النسبه
فيسكنها في الرفع والخفض ويفتحها في النصب فيقول قام زيد العلوي ورأيت زيدا العلوي
قال ابن عباس درات السفينة بالبيت أربعين يوما ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت
عليه واختلفوا أين هذا الجبل على ثلاثة أقوال
أحدها أنه بالموصل رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثاني بالجزيرة قاله مجاهد وقتادة وقال مقاتل هو بالجزيرة قريب من الموصل
والثالث أنه بناحية آمد قاله الزجاج
وفي علة استوائها عليه قولان
أحدهما أنه لم يغرق لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت وتواضع هو فلم يغرق فأرست
عليه قاله مجاهد
والثاني لما قل الماء أرست عليه فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء
قوله تعالى وقيل بعدا للقوم الظالمين قال ابن عباس بعدا من رحمة الله للقوم
الكافرين
فان
قيل ما ذنب من أغرق من البهائم والأطفال فالجواب أن آجالهم حضرت فأميتوا بالغرق
قاله الضحاك وابن جريج
قوله تعالى رب إن ابني من أهلي إنما قال نوح هذا لأن الله تعالى وعده نجاة أهله
فقال وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال ابن عباس أعدل العادلين وقال ابن زيد
فأنت أحكم الحاكمين بالحق واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين
أحدهما أنه ابن نوح لصلبه قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك
والجمهور
والثاني أنه ولد على فراشه من لغير رشدة ولم يكن ابنه روى ابن الأنباري باسناده عن
الحسن أنه قال لم يكن ابنه إن امرأته فجرت وعن الشعبي قال لم يكن ابنه إن امرأته
خانته وعن مجاهد نحو ذلك وقال ابن جريج ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه وكان ولد على
فراشه فعلى القول الأول يكون في معنى قوله إنه ليس من أهلك
أحدهما ليس من أهل دينك
والثاني ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم قال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط وإنما
المعنى ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم وعلى القول
الآخر
الكلام على ظاهره والأول أصح لموافقته ظاهر القرآن ولاجتماع الأكثرين عليه وهو
أولى من رمي زوجة نبي بفاحشة
قوله تعالى إنه عمل غير صالح قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة إنه
عمل رفع منون غير صالح برفع الراء وفيه قولان
أحدهما أنه يرجع إلى السؤال فيه فالمعنى سؤلك إياي فيه عمل غير صالح قاله ابن عباس
وقتادة وهذا ظاهر لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله رب إن ابني من أهلي فرجعت
الكناية إليه
والثاني أنه يرجع إلى المسؤول فيه
وفي هذا المعنى قولان
أحدهما أنه لغير رشدة قاله الحسن
والثاني أن المعنى إنه ذو عمل غير صالح قاله الزجاج قال ابن الأنباري من قال هو
لغير رشدة قال المعنى إن أصل أبنك الذي تظن أنه أبنك عمل غير صالح ومن قال إنه ذو
عمل غير صالح قال حذف المضاف وأقام العمل مقامه كما تقول العرب عبد الله إقبال
وأدبار أي صاحب إقبال وأدبار وقرأ الكسائي عمل بكسر الميم وفتح اللام غير صالح
بفتح الراء يشير إلى أنه مشرك
قوله تعالى فلا تسألن ما ليس لك به علم قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر فلا تسألن
بفتح اللام وتشديد النون غير أن نافعا وابن عامر كسرا النون وفتحها ابن كثير
وحذفوا الياء في الوصل والوقف وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي بسكون اللام
وتخفيف النون غير أن أبا عمرو
وأبا
جعفر أثبتا الياء في الوصل وحذفاها في الوقف ووقف عليها يعقوب بالياء والباقون
يحذفونها في الحالين قال أبو علي من كسر النون فقد عدى السؤال إلى مفعولين
أحدهما اسم المتكلم والآخر الآسم الموصول وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم
لاجتماع النونات وأما إثبات الياء في الوصل فهو الأصل وحذفها أخف والكسرة تدل
عليها وتعلم أن المفعول مراد في المعنى ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أنه نسبته إليه وليس منه
والثاني في إدخاله إياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم
والثالث سؤاله في إنجاء كافر من العذاب
قوله تعالى إني أعظك أن تكون من الجاهلين فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن تكون من الجاهلين في سؤالك من ليس من حزبك
والثاني من الجاهلين بوعدي لأني وعدت بانجاء المؤمنين
والثالث من الجاهلين بنسبك لأنه ليس من أهلك
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم
منا عذاب أليم
قوله تعالى يانوح اهبط قال ابن عباس يريد من السفينة إلى الأرض بسلام منا أي بسلامه
قوله تعالى وبركات عليك قال المفسرون البركات عليه أنه صار أبا للبشر جميعا لأن
جميع الخلق من نسله وعلى أمن معك قال ابن عباس يريد من ولدك قال ابن الأنباري
المعنى من ذراري من معك والمراد
المؤمنون
من ذريته ثم ذكر الكفار فقال وأمم أي من الذرية أيضا والمعنى وفيمن نصف لك أمم
وفيمن نقص عليك أمره أمم سنمتعهم أي في الدنيا ثم يمسهم منا عذاب أليم في الآخرة
قال محمد بن كعب القرظي لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء
يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا وقد دخل في ذلك السلام والبركاتولم يبق كافر إلا دخل
في ذلك المتاع والعذاب
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن
العاقبة للمتقين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن
أنتم إلا مفترون يا قوم لا اسئلكم عليه اجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون
ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى
قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن
قولك وما نحن لك بمؤمنين
قوله تعالى تلك من أنباء الغيب في المشار إليه ب تلك قولان
أحدهما قصة نوح
والثاني آيات القرآن والمعنى تلك من أخبار ما غاب عنك وعن قومك
فان قيل كيف قال ها هنا تلك وفي مكان آخر ذلك فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال تلك
إشارة إلى آيات القرآن وذلك إشارة إلى الخبر والحديث وكلاهما معروف في اللغة
الفصيحة يقول
الرجل
قد قدم فلان فيقول سامع قوله قد فرحت به وقد سررت بها فاذا ذكر عنى القدوم وإذا
أنث ذهب إلى القدمة
قوله تعالى من قبل هذا يعني القرآن فاصبر كما صبر نوح على أذى قومه إن العاقبة أي
آخر الأمر بالظفر والتمكين للمتقين أي لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح
قوله تعالى إن أنتم إلا مفترون أي ما أنتم إلا كاذبون في إشراككم مع الله الأوثان
وما بعد هذا قد سبق تفسيره يونس 72 إلى قوله يرسل السماء عليكم مدرارا وهذا أيضا
قد سبق تفسيره في سورة الأنعام 61 والسبب في قوله لهم ذلك أن الله تعالى حبس المطر
عنهم ثلاث سنين وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم أحياء بلادهم وبسط الرزق لهم إن آمنوا
قوله تعالى ويزدكم قوة إلى قوتكم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الولد وولد الولد رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني يزدكم شدة إلى شدتكم قاله مجاهد وابن زيد
والثالث خصبا إلى خصبكم قاله الضحاك
قوله تعالى ولا تتولوا مجرمين قال مقاتل لا تعرضوا عن التوحيد مشركين
قوله تعالى ما جئتنا ببينة أي بحجة واضحة وما نحن بتاركي آلهتنا يعنون الأصنام عن
قولك أي بقولك والباء وعن يتعاقبان
إن نقول إلا اعتريك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما
تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من
دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم
قوله
تعالى إن نقول أي ما نقول في سبب مخالفتك إيانا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون
لسبك أياها فالذي تظهر من عيبها لما لحق عقلك من التغيير قال ابن قتيبة يقال عراني
كذا واعتراني إذا ألم بي ومنه قيل لمن أتاك يطلب نائلك عار ومنه قول النابغة ...
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون ...
قوله تعالى إني أشهد الله إلى آخر الآية حرك ياء إني نافع ومعنى الآية إن كنتم
تقولون إن الآلهة عاقبتني لطعي عليها فاني على يقين من عيبها والبراءة منها وها
أنا ذا أزيد في الطعن عليها فكيدوني جميعا أي احتالوا أنتم وأوثانكم في ضري ثم
لاتمهلون قال الزجاج وهذا من أعظم آيات الرسل أن يكون الرسول وحده وأمته متعاونه
عليه فيقول لهم كيدوني فلا يستطيع أحد منهم ضره وكذلك قال نوح لقومه فأجمعوا أمركم
وشركاءكم وقال محمد صلى الله عليه و سلم فان كان لكم كيد فكيدون المرسلات39
قوله تعالى إلا هو آخذ بناصيتها قال أبو عبيدة المعنى أنها في قبضته وملكه وسلطانه
فان قيل لم خص الناصية فالجواب أن الناصية شعر مقدم الرأس فاذا أخذت بها من شخص
فقد ملكت سائر بدنه وذل لك
قوله تعالى إن ربي على صراط مستقيم قال مجاهد على الحق وقال غيره في الكلام إضمار
تقديره إن ربي يدل على صراط مستقيم
فان
قيل ما وجه المناسبة بين قوله إلا هو آخذ بناصيتها وبين كونه على صراط مستقيم فعنه
جوابان
أحدهما أنه لما أخبر أنه آخذ بنواصي الخلق كان معناه أنهم لا يخرجون عن قبضته
فأخبر أنه على طريق لا يعدل عنه هارب ولا يخفي عليه مستتر
والثاني أن المعنى أنه وإن كان قادرا عليهم فهو لايظلمهم ولايريد إلا العدل ذكرهما
ابن الأنباري
فان تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا
إن ربي على كل شىء حفيظ
قوله تعالى فان تولوا فيه قولان
أحدهما أنه فعل ماضي معناه فان أعرضوا فعلى هذا في الآية إضمار تلخيصه فان أعرضوا
فقل لهم قد أبلغتكم هذا مذهب مقاتل في آخرين
والثاني أنه خطاب للحاضرين وتقديره فان تتولوا فاستثقلوا الجمع بين تاءين متحركتين
فاقتصر على إحدهما وأسقطت الأخرى كما قال النابغة ... المرء يهوى أن يعيش ... وطول
عيش قد يضره
تفنى
بشاشته ويبقى ... بعد حلو العيش مره ... وتصرف الأيام حتى ... ما يرى شيئا يسره
...
أراد وتتصرف الأيام فأسقط إحدى التاءين ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى ويستخلف ربي قوما غيركم فيه وعيد لهم بالهلاك إن ربي على كل شيء حفيظ
فيه قولان
أحدهما حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيهم بها
والثاني أن على بمعنى اللام فالمعنى لكل شيء حافظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء
ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ
قوله تعالى ولما جاء أمرنا فيه قولان
أحدهما جاء عذابنا قاله ابن عباس
والثاني جاء أمرنا بهلاكهم
قوله تعالى نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا فيه قولان
أحدهما نجيناهم من العذاب بنعمتنا
والثاني نجيناهم بأن هديناهم إلى الإيمان وعصمناهم من الكفر روي القولان عن ابن
عباس
قوله تعالى ونجيناهم من عذاب غليظ أي شديد وهو ما استحقه قوم هود من عذاب الدنيا
والآخرة
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد
قوله تعالى وتلك عاد يعني القبيلة وعصوا رسله لقائل أن يقول إنما أرسل إليهم هود
وحده فكيف ذكر بلفظ الجمع
فالجواب
من ثلاثة أوجه
أحدها أنه قد يذكر لفظ الجمع ويراد به الواحد كقوله أم يحسدون الناس والمراد به
النبي صلى الله عليه و سلم وحده
والثاني أن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل
والثالث أن كل مرة ينذرهم فيها هي رسالة مجددة وهو بها رسول
قوله تعالى واتبعوا أي واتبع الأتباع أمر الرؤساء
والجبار الذي طال وفات اليد وللعلماء في الجبار أربعة أقوال
أحدها أنه الذي يقتل على الغضب ويعاقب على الغضب قاله الكلبي
والثاني أنه الذي يجبر الناس على ما يريد قاله الزجاج
والثالث أنه المسلط
والرابع أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد ذكرهما ابن الأنباري والذي ذكرناه
يجمع هذه الأقوال وقد زدنا هذا شرحا في المائدة 22
وأما العنيد فهو الذي لا يقبل الحق قال ابن قتيبة العنود والعنيد والعاند المعارض
لك بالخلاف عليك
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة إلا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد
قوم هود وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو
انشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا
يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا
أتنهينا
أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن
كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني
غير تخسير ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء
فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب
فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو
القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها
ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا
سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ
قوله تعالى وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة أي ألحقوا لعنة تنصرف معهم ويوم القيامة أي
وفي يوم القيامة لعنوا أيضا ألا إن عادا كفروا ربهم أي بربهم فحذف الباء وأنشدوا
... أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب ...
قال الزجاج قوله ألا ابتداء وتنبيه وبعدا منصوب على معنى أبعدهم الله فبعدوا بعدا
والمعنى أبعدهم من رحمته
قوله
تعالى هو انشأكم من الأرض فيه قولان
أحدهما خلقكم من آدم وآدم خلق من الأرض
والثاني أنشأكم في الأرض
وفي قوله واستعمركم فيها ثلاثة أقوال
أحدها أعمركم فيها أي جعلكم ساكنيها مدة أعماركم ومنه العمرى وهذا قول مجاهد
والثاني أطال أعماركم وكانت أعماركم من ألف سنة إلى ثلاثمائة قاله الضحاك
والثالث جعلكم عمارها قاله أبو عبيدة
قوله تعالى قد كنت فينا مرجوا قبل هذا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة قاله كعب
والثاني أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم فلما
أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه وإلى نحو هذا ذهب مقاتل
والثالث أنهم كانوا يرجون خيره فلما أنذرهم زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع ذكره
الماوردي
قوله تعالى وإننا لفي شك إن قال قائل لم قال ها هنا وإننا وقال في إبراهيم وإنا
فالجواب
أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها قال الفراء من قال إننا
أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين نا فاجتمعت ثلاث نونات نونا إن والنون
المضمومة إلى الألف ومن قال إنا استثقل الجمع بين ثلاث نونات وأسقط الثالثةوأبقى
الأولتين وكذلك يقال إني وأنني ولعلي ولعلني وليتي وليتني قال الله في اللغة
العليا لعلي أبلغ الأسباب غافر 36 وقال الشاعر في اللغة الأخرى ... أريني جوادا
مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا ...
وقال تعالى يا ليتني كنت معهم النساء 73 وقال الشاعر ... كمنية جابر إذ قال ليتي
... أصادفه وأتلف بعض مالي ...
فأما المريب فهو الموقع للريبة والتهمة والرحمة يراد بها هاهنا النبوة
قوله تعالى فما تزيدونني غير تخسير التخسير النقصان
وفي معني الكلام قولان
أحدهما فما تزيدونني غير بصارة في خسارتكم قاله ابن عباس وقال الفراء المعنى فما
تزيدونني غر تخسير لكم أي كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيرا وقال ابن
الأعرابي غير تخسير لكم لا لي وقال بعضهم المعنى فما تزيدونني بما قلتم إلا نسبتي
لكم إلى الخسارة
والقول
الثاني فما تزيدونني غير الخسران إن رجعت إلى دينكم وهذا معنى قول مقاتل
فإن قيل فظاهر هذا أنه كان خاسرا فزادوه خسارا فقد أسلفنا الجواب في قوله لو خرجوا
فيكم مازادوكم إلا خبالا التوبة 47
قوله تعالى هذه ناقة الله لكم آية قد شرحناها في سورة الأعراف 73 قوله تعالى
تمتعوا في داركم أي استمتعوا بحياتكم وعبر عن الحياة بالتمتع لأن الحي يكون متمتعا
بالحواس
قوله تعالى ثلاثة أيام قال المفسرون لما عقرت الناقة صعد فصيلها إلى الجبل ورغا
ثلاث مرات فقال صالح لكل رغوة أجل يوم ألا إن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة
واليوم الثاني محمرة واليوم الثالث مسودة فلما أصبحوا في اليوم الأول إذا وجوههم
مصفرة فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا
وجوههم محمرة فضجوا وبكوا فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما
طليت بالقار فصاحوا جميعا ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وألقوا أنفسهم بالأرض لا
يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء
فيها صوت كل صاعقة فتقطعت قلوبهم في صدورهم وقال مقاتل حفروا لأنفسهم قبورا فلما
ارتفعت الشمس من اليوم الرابع ولم يأتهم العذاب ظنوا أن الله قد رحمهم فخرجوا من
قبورهم يدعو بعضهم بعضا إذ نزل جبريل فقام فوق المدينة فسد ضوء الشمس فلما عاينوه
دخلوا قبورهم فصاح بهم صيحة موتوا عليكم لعنة الله فخرجت أرواحهم وتزلزلت بيوتهم
فوقعت على قبورهم قوله تعالى ذلك وعد أي العذاب غير مكذوب أي غير كذب
قوله
تعالى ومن خزي يومئذ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ابن عامر يومئذ بكسر الميم وقرأ
الكسائي بفتحها مع الإضافة قال مكي من كسر الميم أعرب وخفض لإضافة الخزي إلى اليوم
ولم يبنه ومن فتح بنى اليوم على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ وقرأ ابن
مسعود ومن خزي بالتنوين يومئذ بفتح الميم قال ابن الأنباري هذه الواو في قوله ومن
خزي معطوفة على محذوف تقديره نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ قال ويجوز أن تكون
دخلت لفعل مضمر تأويله نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من خزي
يومئذ قال وإنما قال وأخذ لأن الصيحة محمولة على الصياح
قوله تعالى ألا بعدا لثمود اختلفوا في صرف ثمود وترك إجرائه في خمسة مواضع في هود
69 ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود وفي الفرقان 38 وعادا وثمودا وأصحاب
الرس وفي العنكبوت 38 وعادا وثمودا وقد تبين لكم وفي النجم 51 وثمود فما أبقي قرأ
ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها وتركوا ألا بعدا
لثمودا فلم يصرفوه وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف وصرفهن الكسائي واختلف عن
عاصم فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو وروى
يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة في هود 69 ألا أن ثمودا وفي الفرقان 38 والعنكبوت 38
وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئا منها مثل حمزة
واعلم أن ثمودا يراد به القبيلة تارة ويراد به الحي تارة فإذا أريد به القببيلة
لم
يصرف وإذا أريد به الحي صرف وما أخللنا به فقد سبق تفسيره الأعراف 73 والتوبة 70
إلى قوله ولقد جاءت رسلنا إبراهيم والرسل هاهنا الملائكة وفي عددهم ستة أقوال
أحدها أنهم كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقال
مقاتل جبريل وميكائيل وملك الموت والثاني أنهم كانوا اثني عشر روي عن ابن عباس أيضا
والثالث ثمانية قاله محمد بن كعب والرابع تسعة قاله الضحاك والخامس أحد عشر قاله
السدي والسادس أربعة حكاه الماوردي
وفي هذه البشرى أربعة أقوال
أحدها أنها البشرى بالولد قاله الحسن ومقاتل والثاني بهلاك قوم لوط قاله قتادة
والثالث بنبوته قاله عكرمة والرابع بأن محمدا يخرج من صلبه ذكره الماوردي
قوله تعالى قالوا سلاما قال ابن الأنباري انتصب بالقول لأنه حرف مقول والسلام
الثاني مرفوع باضمار عليكم وقال الفراء فيه وجهان
أحدهما أنه أضمر عليكم كما قال الشاعر ... فقلنا السلام فاتقت من أميرها ... فما
كان إلا ومؤها بالحواجب ...
والعرب تقول التقينا فقلنا سلام سلام
والثاني أن القوم سلموا فقال حين أنكرهم هو سلام فمن أنتم لإنكاره إياهم وقرأ حمزة
والكسائي قال سلم وهو بمعنى سلام كما
قالوا
حل وحلال وحرم وحرام فعلى هذا يكون معنى سلم سلام عليكم قال أبو علي فيكون معنى
القراءتين واحدا وإن اختلف اللفظان وقال الزجاج من قرأ سلم فالمعنى أمرنا سلم أي
لا بأس علينا
قوله تعالى فما لبث أي ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ لأنه ظنهم أضيافا وكانت الملائكة
قد جاءته في صورة الغلمان الوضاء وفي الحنيذ ستة أقوال
أحدها أنه النضيج قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أنه الذي يقطر ماؤه ودسمه وقد شوي قاله شمر بن عطية
والثالث أنه ما حفرت الأرض ثم غممته وهو من فعل أهل البادية معروف وأصله محنوذ
فقيل حنيذ كما قيل طبيخ للمطبوخ وقتيل للمقتول هذا قول الفراء
والرابع أنه المشوي قاله أبو عبيدة
والخامس المشوي بالحجارة المحماة قاله مقاتل وابن قتيبة
والسادس السميط ذكره الزجاج وقال يقال إنه المشوي فقط ويقال المشوي الذي يقطر
ويقال المشوي بالحجارة
فلما رآ أيديهم لاتصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم
لوط
قوله تعالى فلما رأى أيديهم يعنى الملائكة لاتصل إليه يعني العجل نكرهم أي أنكرهم
قال أبو عبيدة نكرهم وأنكرهم واستنكرهم سواء قال الأعشى
فأنكر
تني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا ...
قوله تعالى وأوجس منهم خيفة أي أضمر في نفسه خوفا قال الفراء وكانت سنة في زمانهم
إذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطعام فلم يمسوه ظنوا أنهم عدو أو لصوص فهنالك أوجس
في نفسه خيفة فرأوا ذلك في وجهه فقالوا لا تخف
قوله تعالى إنا أرسلنا إلى قوم لوط قال الزجاج أي أرسلنا بالعذاب إليهم قال ابن
الأنباري وإنما أضمر ذلك هاهنا لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة أخرى
وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب قالت ياويلتى ءألد وأنا
عجوز وهذا بعلي شيخنا إن هذا لشيء عجيب
قوله تعالى وامرأته قائمة واسمها سارة واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال
أحدها وراء الستر تسمع كلامهم قاله وهب
والثاني كانت قائمة تخدمهم قاله مجاهد والسدي
والثالث كانت قائمة تصلي قاله محمد بن إسحاق
وفي
قوله فضحكت ثلاثة أقوال
أحدها أن الضحك ها هنا بمعنى التعجب قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن معنى ضحكت حاضت قاله مجاهد وعكرمة قال ابن قتيبة وهذا من قولهم ضحكت
الأرنب إذا حاضت فعلى هذا يكون حيضها حينئذ تأكيد للبشارة بالولد لأن من لا تحيض
لاتحمل وقال الفراء لم نسمع من ثقة أن معنى ضحكت حاضت قال ابن الأنباري أنكر
الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت وعرفه غيرهم قال الشاعر ... تضحك الضبع
لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهل ...
قال بعض أهل اللغة معناه تحيض
والثالث أنه الضحك المعروف وهو قول الأكثرين
وفي سبب ضحكها ستة أقوال
أحدها أنها ضحكت من شدة خوف ابراهيم من أضيافه وقالت من ماذا يخاف ابراهيم وإنما
هم ثلاثة وهو في أهله وغلمانه رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مقاتل
والثاني أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإبراهيم بالولد وهذا مروي عن ابن عباس ووهب
بن منبه فعلى هذا إنما ضحكت سرورا بالبشارة ويكون في الآية تقديم وتأخير المعنى
وامرأته قائمة فبشرناها فضحكت وهو اختيار ابن قتيبة
والثالث
ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم قاله قتادة
والرابع ضكحت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم
لايأكلون طعامنا قاله السدي
والخامس ضحكت سرورا بالأمن لأنها خافت كخوف إبراهيم قاله الفراء
والسادس أنها كانت قالت لإبراهيم اضمم إليك ابن أخيك لوطا فانه سينزل العذاب بقومه
فلما جاءت الملائكة بعذابهم ضحكت سرورا بموافقتها للصواب ذكره ابن الأنباري
قال المفسرون قال جبريل لسارة أبشري أيتها الضاحكة بولد اسمه إسحاق ومن وراء إسحاق
يعقوب فبشروها أنها تلد إسحاق وأنها تعيش إلى أن ترى ولد الولد
وفي معنى الوراء قولان
أحدهما أنه بمعنى بعد قاله أبو صالح عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة
والثاني أن الوراء ولد الولد روي عن ابن عباس وبه قال الشعبي واختاره أبو عبيدة
فان قيل كيف يكون يعقوب وراء إسحاق وهو ولده لصلبه وإنما الوراء ولد الولد فقد
أجاب عنه ابن الأنباري فقال المعنى ومن وراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب لأنه قد كان
الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق فلو قال ومن الوراء يعقوب لم يعلم أهذا الوراء منسوب
إلى إسحاق أم إلى
إسماعيل
فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس قال ويجوز أن ينسب ولد إبراهيم من غير
إسحاق إلى سارة على المجاز فكان تأويل الآية من الوراء المنسوب إلى سارة وإلى
إبراهيم من جهة إسحاق يعقوب ومن حمل الوراء على بعد لزم ظاهر العربية
واختلف القراء في يعقوب فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وابو بكر عن عاصم
يعقوب بالرفع وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم يعقوب بالنصب
قال الزجاج وفي رفع يعقوب وجهان
أحدهما على الابتداء المؤخر معناه التقديم والمعنى ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق
والثاني وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب ومن نصبه حمله على المعنى والمعنى وهبنا لها
إسحاق ووهبنا لها يعقوب
قوله تعالى يا ويلتي أألد وأنا عجوز هذه الكلمة تقال عند الإيذان بورود الأمر
العظيم ولم ترد بها الدعاء على نفسها وإنما هي كلمة تخف على ألسنة النساء عند
الأمر العجيب وقولها أألد استفهام تعجب قال الزجاج و شيخا منصوب على الحال قال ابن
الأنباري إنما أشارت بقولها هذا لتنبه على شيخوخته واختلفوا في سن إبراهيم وسارة يومئذ
على أربعة أقوال
أحدها أنه كان إبراهيم ابن تسعا وتسعين سنة وسارة بنت ثمان وتسعين سنة قاله أبو
صالح عن ابن عباس
والثاني أنه كان إبراهيم ابن مائة سنة وسارة بنت تسع وتسعين قاله مجاهد
والثالث
كان إبراهيم ابن تسعين وسارة مثله قاله قتادة
والرابع كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وسارة بنت تسعين قاله عبيد ابن عمير وابن
إسحاق
قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد
قوله تعالى قالوا أتعجبين من أمر الله أي من قضائه وقدرته وهو إيجاد ولد من بين
كبيرين قال السدي قالت سارة لجبرئيل ما آية ذلك فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين
أصابعه فاهتز أخضر فقالت هو إذن لله ذبيح
قوله تعالى رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت فيه وجهان
أحدهما أنه من دعاء الملائكة لهم
والثاني أنه إخبار عن ثبوت ذلك لهم
ومن تلك البركات وجود أكثر الأنبياء والأسباط من إبراهيم وسارة
والحميد بمعنى المحمود فأما المجيد فقال ابن قتيبة بمعنى الماجد وهو الشريف وقال
أبو سليمان الخطابي هو الواسع الكرم وأصل المجد في كلامهم السعة يقال رجل ماجد إذا
كان سخيا واسع العطاء وفي بعض الأمثال في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي
استكثرا منها
فلما
ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه
منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود
قوله تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع يعني الفزع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل
يجادلنا فيه إضمار أخذ وأقبل يجادلنا والمراد يجادل رسلنا
قال المفسرون لما قال له قالوا له إنا مهلكوا أهل هذه القرية العنكبوت 31 قال
أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن قالوا لا قال أتهلكون قرية فيها خمسون مؤمنا قالوا لا
قال أربعون قالوا لافما زال ينقص حتى قال فواحد قالوا لا فقال حينئذ إن فيها لوطا
قالوا نحن أعلم بمن فيها العنكبوت 31 هذا قول ابن إسحاق وقال غيره قيل له إن كان
فيهم خمسة لم نعذبهم فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه وقال سعيد بن جبير قال لهم
أتهاكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا قالوا لا وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر مع
امرأة لوط فسكت واطمأنت نفسه وإنما كانوا ثلاثة عشر فأهلكوا
قوله تعالى إن إبراهيم لحليم أواه قد فسرناه في براءة 114 فعند ذلك قالت الرسل
لإبراهيم يا إبراهيم أعرض عن هذا يعنون الجدال إنه قد جاء أمر ربك بعذابهم وقيل قد
جاء عذاب ربك فليس بمردود لأن الله قد قضى به
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون
إليه ومن قبل كانوا
يعملون
السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس
منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن
لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر
بأهلك بقطع من ليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم
الصبح أليس الصبح بقريب
قوله تعالى ولما جاءت رسلنا لوطا قال المفسرون خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو
قرية لوط فأتوها عشاء وقال السدي عن أشياخه أتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم
لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها فقالوا لها ياجارية هل من منزل قالت نعم مكانكم
لا تدخلوا حتى آتيكم فرقا عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أدرك فتيانا
على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم لا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان
قومه نهوه أن يضيف رجلا فجاء بهم ولم يعلم بهم أحدا إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته
فأخبرت قومها فجاؤوا يهرعون إليه
قوله تعالى سيء بهم فيه قولان
أحدهما ساء ظنه بقومه قاله ابن عباس
والثاني ساءه مجيء الرسل لأنه لم يعرفهم وأشفق عليهم من قومه قاله ابن جرير قال
الزجاج وأصل سيء بهم سوىء بهم من السوء ألا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين
قوله
تعالى وضاق بهم ذرعا قال ابن عباس ضاق ذرعا بأضيافه قال الفراء الأصل فيه وضاق
ذرعه بهم فنقل الفعل عن الذرع إلى ضمير لوط ونصب الذرع بتحول الفعل عنه كما قال
واشتعل الرأس شيبا مريم 4 ومعناه اشتعل شيب الرأس
قال الزجاج يقال ضاق فلان بأمره ذرعا إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا
وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه وقع به مكروه عظيم لايصل إلى دفعة عن نفسه فالذرع كناية عن هذا
المعنى
والثاني أن معناه ضاق صبره وعظم المكروه عليه وأصله من ذرع فلانا القيء إذا غلبه
وسبقه
والثالث أن المعنى ضاق بهم وسعه فناب الذرع والذراع عن الوسع لأن الذراع من اليد
والعرب تقول ليس هذا في يدي يعنون ليس هذا في وسعي ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون
الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بهذا الأمر ذراعا قال الشاعر ... إليك إليك ضاق
بهم ذرعا ...
فأما العصيب فقال أبو عبيدة العصيب الشديد الذي يعصب الناس بالشر وأنشد ... يوم
عصيب يعصب الا بطالا ... عصب القوي السلم الطوالا ...
وقال أبو عبيد يقال يوم عصيب ويوم عصبصب إذا كان شديدا
قوله
تعالى يهرعون إليه قال ابن عباس ومجاهد يهرعون يسرعون وقال الفراء والكسائي لا
يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة قال ابن قتيبة الإهراع شيبه بالرعدة يقال أهرع
الرجل إذا أسرع على لفظ ما لم يسم فاعله كما يقال أرعد قال ابن الأنباري الإهراع
فعل واقع بالقوم وهو لهم في المعنى كما قالت العرب قد أولع الرجل بالأمر فجعلوه
مفعولا وهو صاحب الفعل ومثله أرعد زيد وسهي عمرو من السهو كل واحد من هذه الأفاعيل
خرج الاسم معه مقدرا تقدير المفعول وهو صاحب الفعل لا يعرف له فاعل غيره قال وقال
بعض النحويين لا يجوز للفعل أن يجعل فاعله مفعولا وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها
محذوفون وتأويل أولع زيد أولعه طبعه وجبلته وأرعد الرجل أرعده غضبه وسهي عمرو جعله
ساهيا ماله أو جهله و أهرع معناه أهرعه خوفه ورعبه فلهذه العلة خرج هؤلاء الأسماء
مخرج المفعول به قال وقال بعض اللغويين لا يكون الإهراع إلا إسراع المذعور الخائف
لا يقال لكل مسرع مهرع حتى ينضم إلى إسراعه جزع وذعر قال المفسرون سبب إهراعهم أن
امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف ومن قبل أي ومن قبل مجيئهم إلى لوط كانوا يعملون
السيئات يعني فعلهم المنكر
وفي قوله هؤلاء بناتي قولان
أحدهما أنهن بناته لصلبه قاله ابن عباس
فإن قيل كيف جمع وقد كن اثنتين فالجواب أنه قد يقع الجمع على اثنين كقوله وكنا
لحكمهم شاهدين الأنبياء 78
والثاني
أنه عنى نساء أمته لأن كل نبي أبو أمته والمعنى أنه عرض عليهم التزويج أو أمرهم أن
يكتفوا بنسائهم وهذا مذهب مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج
فإن قيل كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين فعنه جوابان
أحدهما أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته وكان جائزا في صدر الإسلام حتى نسخ قاله
الحسن
والثاني أنه عرض ذلك عليهم بشرط إسلامهم قاله الزجاج ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف
على عقد النكاح فجاز أن يقف على شرط آخر
قوله تعالى هن أطهر لكم قال مقاتل هن أحل من إتيان الرجال
قوله تعالى فاتقوا الله فيه قولان
أحدهما اتقوا عقوبته والثاني اتقوا معصيته
قوله تعالى ولا تخزون في ضيفي حرك ياء ضيفي أبو عمرو ونافع وفي معنى هذا الخزي
ثلاثة أقوال
أحدها أنه الفضيحة قاله ابن عباس والثاني الاستحياء والمعنى لا تفعلوا بأضيافي
فعلا يلزمني الاستحياء منه لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إلى ضيفه
والعرب تقول قد خزي الرجل يخزي خزاية إذا استحيى قال الشاعر ... من البيض لا تخزي
إذا الريح ألصقت ... بها مرطها أو زايل الحلي جيدها ...
والثالث أنه بمعنى الهلاك لأن المعرة الني تقع بالمضيف في هذه الحال تلزمه هلكة
ذكرهما ابن الأنباري
قال
ابن قتيبة والضيف هاهنا بمعنى الأضياف والواحد يدل على الجميع كما تقول هؤلاء
رسولي ووكيلي
قوله تعالى أليس منكم رجل رشيد في المراد بالرشيد قولان
أحدهما المؤمن والثاني الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رويا عن ابن عباس
قال ابن الأنباري يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشد فيكون المعنى أليس منكم مرشد
يعظكم ويعرفكم قبيح ماتأتون فيكون الرشيد من صفة الفاعل كالعليم والشهيد ويجوز أن
يكون الرشيد بمعنى المرشد فيكون المعنى أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من
الرشاد يصرفكم عن إتيان هذه المعرة فيجري رشيد مجرى مفعول كالكتاب الحكيم بمعنى
المحكم
قوله تعالى مالنا في بناتك من حق فيه قولان
أحدهما مالنا فيهن حاجة قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني لسن لنا بأزواج فنستحقهن قاله ابن إسحاق وابن قتيبة
قوله تعالى وإنك لتعلم ما نريد قال عطاء وإنك لتعلم أنا نريد الرجال لا النساء
قوله تعال لو أن لي بكم قوة أي جماعة أقوى بهم عليكم وقيل أراد بالقوة البطش أو
آوي إلى ركن شديد أي أنضم إلى عشيرة وشيعة تمنعني وجواب لو محذوف على تقدير لحلت
بينكم وبين المعصية قال أبو عبيدة قوله آوي من قولهم أويت إليك فأنا آوي أويا
والمعنى
صرت إليك وانضممت ومجاز الركن هاهنا العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة وأنشد ...
يأوى إلى ركن من الأركان ... في عدد طيس ومجد باني ...
والطيس الكثير يقال أتانا لبن طيس وشراب طيس أي كثير واختلفوا أي وقت قال هذا لوط
فروي عن ابن عباس أن لوطا كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم
ويناشدهم وراء الباب وهم يعالجون الباب ويرومون تسور الجدار فلما رأت الملائكة ما
يلقى من الكرب قالوا يالوط إنا رسل ربك فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب
فدخلوا واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم فانصرفوا
يقولون النجاء النجاء فان في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وجعلوا يقولون يالوط كما
أنت حتى تصبح يوعدونه فقال لهم لوط متى موعد هلاكهم قالوا الصبح قال لو أهلكتموهم
الآن فقالوا أليس الصبح بقريب وقال أبو صالح عن ابن عباس إنهم لما تواعدوه قال في
نفسه ينطلق هؤلاء القوم غدا من عندي وأبقى مه هؤلاء فيهلكوني فقال لو أن لي بكم
قوة
قلت وإنما يتوجه هذا إذا قلنا إنه كان قبل علمه أنهم ملائكة وقال قوم إنه إنما قال
هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه وقال آخرون لما نهاهم عن أضيافه فأبوا قال هذا
وفي الجملة ما أراد بالركن نصر الله وعونه لأنه لم يخل من ذلك وإنما ذهب إلى
العشيرة والأسرة
وروى أبو هريرة عن رسول الله ص - أنه قال رحم الله لوطا لقد
كان
يأوي إلى ركن شديد وما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه
قوله تعالى لن يصلوا إليك قال مقاتل فيه إضمار تقديره لن يصلوا إليك بسوء وذلك
أنهم قالوا للوط إنا نرى معك رجالا سحروا أبصارنا فستعلم غدا ما تلقى أنت وأهلك
فقال له جبريل إنا رسل ربك لن يصلوا إليك
قوله تعالى فأسر بأهلك قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي فأسر باثبات
الهمز في اللفظ من أسريت وقر أ ابن كثير ونافع فاسر بأهلك بغير همز من سريت وهما
لغتان قال الزجاج يقال سريت وأسريت إذا سرت ليلا قال الشاعر ... سريت بهم حتى تكل
مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان ...
وقال النابغة ... أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد ...
وقد رووه سرت فأما أهله فقال مقاتل هم امرأته وابنتاه واسم ابنتييه ربثا وزعرثا
وقال السدي اسم الكبرى رية واسم الصغرى عروبة
والمراد
بأهله ابنتاه فأما القطع فهو بمعنى القطعة يقال مضى قطع من الليل أي قطعة قال ابن
عباس يريد به آخر الليل قال ابن قتيبة بقطع أي ببقية تبقي من آخره وقال ابن
الأنباري ذكر القطع بمعنى القطعة مختص بالليل ولا يقال عندي قطع من الثوب بمعنى
عندي قطعة قوله تعالى ولا يلتفت منكم أحد فيه قولان
أحدهما أنه بمعنى لا يتخلف منكم أحد قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه الالتفات المعروف قاله مجاهد ومقاتل
قوله تعالى إلا امرأتك قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بنصب التاء وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وابن جماز عن أبي جعفر برفع التاء قال الزجاج من قرأ بالنصب
فالمعنى فأسر بأهلك إلا امرأتك ومن قرأ بالرفع حمله على ولا يلتفت منكم أحد إلا
امرأتك وإنما أمروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيم ما ينزل بهم من العذاب قاله ابن
الأنباري وعلى قراءة الرفع يكون الاستثناء منقطعا معناه لكن امرأتك فإنها تلتفت
فيصيبها ما أصابهم فإذا كان استثناء منقطعا كان التفاتها معصية لربها لأنه ندب إلى
ترك الالتفاف قال قتادة ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هدة
العذاب التفتت فقالت واقوماه فأصابها حجر فأهلكها وهو قوله إنه مصيبها ما أصابهم
إن موعدهم للعذاب الصبح قوله تعالى أليس الصبح بقريب قال المفسرون قالت الملائكة
إن موعدهم الصبح فقال أريد أعجل من ذلك فقالوا له أليس الصبح بقريب
فلما
جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك
وما هي من الظالمين ببعيد
قوله تعالى فلما جاء أمرنا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أمر الله الملائكة بعذابهم
والثاني أن الأمر بمعنى العذاب
والثالث أنه بمعنى القضاء بعذابهم
قوله تعالى جعلنا عاليها سافلها الكناية تعود إلى المؤتفكات وهي قرى قوم لوط وقد
ذكرناها في براءة 70 ونحن نشير إلى قصة هلاكهم ها هنا قال ابن عباس أمر جبريل لوطا
بالخروج وقال اخرج وأخرج غنمك وبقرك فقال كيف لي بذلك وقد أغلقت أبواب المدينة
فبسط جناحه وحمله وبنتيه ومالهم شيء فأخرجهم من المدينة وسأل جبريل ربه فقال يا رب
ولني هلاك هؤلاء القوم فأوحى الله إليه أن تول هلاكهم فلما أن بدا الصبح غدا عليهم
جبريل فاحتملها على جناحه ثم صعد بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب ثم
كفأها عليهم وسمعوا وجبة شديدة فالتفت امرأة لوط فرماها جبريل بحجر فقتلها ثم صعد
حتى أشرف على الأرض فجعل يتبعهم مسافرهم ورعاتهم ومن تحول عن القرية فرماهم
بالحجارة حتى قتلهم وقال السدي اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين فاحتملها حتى بلغ
بها إلى أهل السماء الدنيا حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم قلبهاوقال غيره كانت
خمس قرى أعظمها سدوم وكان القوم أربعة آلاف ألف وقيل كان في كل قرية مائة ألف
مقاتل فلما رفعها إلى السماء لم ينكسر لهم إناء ولم
يسقط
حتى قلبها عليهم وقيل نجا من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم وانفرد سعيد بن
جبير فقال إن جبريل وميكائيل توليا قلبها
قوله تعالى وأمطرنا عليها في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى القرى
والثاني إلى الأمة
وفي السجل سبعة أقوال
أحدها أنها بالفارسية سنك وكل السنك الحجر والكل الطين هذا قول ابن عباس وعكرمة
وسعيد بن جبير وقال مجاهد أولها حجر وآخرها طين وقال الضحاك يعني الآجر قال ابن
قتيبة من ذهب إلى هذا القول اعتبره بقوله حجارة من طين الذاريات 33 يعنى الآجر
وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء
واالثاني أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض ومنه نزلت الحجارة قاله عكرمة
والثالث أن السجيل اسم السماء الدنيا فالمعنى حجارة من السماء الدنيا قاله قاله
ابن زيد
والرابع أنه الشديد من الحجارة الصلب قاله أبو عبيدة وأنشد لابن مقبل ... ورجلة
يضربون البيض عن عرض ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا
ورد
هذا القول ابن قتيبة فقال هذا بالنون وذاك باللام وإنما هو في هذا البيت فعيل من
سجنت أي حبست كأنه يثبت صاحبه
والخامس أن قوله من سجيل كقولك من سجل أي مما كتب لهم أن يعذبوا به وهذا اختيار
الزجاج
والسادس أنه من أسجلته أي أرسلته فكأنها مرسلة عليهم
والسابع أنه من أسجلت إذا أعطيت حكى القولين الزجاج
وفي قوله منضود ثلاثة أقوال
أحدها يتبع بعضه بعضا قاله ابن عباس
والثاني مصفوف قاله عكرمة وقتادة
والثالث نضد بعضه على بعض لأنه طين جمع فجعل حجارة قاله الربيع بن أنس
قوله تعالى مسومة قال الزجاج أي معلمة أخذ من السومة وهي العلامة
وفي علامتها ستة أقوال
أحدها بياض في حمرة رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال الحسن
والثاني أنها كانت مختومة فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء أو أسود وفيه نقطة بيضاء
رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أنها المخططة بالسواد والحمرة رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيأة الجزع قاله عكرمة وقتادة
والخامس
أنها كانت معلمة بعلامة يعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا قاله ابن جريج
والسادس أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه قاله الربيع وحكي عن بعض من رأى تلك
الحجارة أنه قال كانت مثل رأس الأبل ومثل مبارك الأبل ومثل قبضة الرجل
وفي قوله تعالى عند ربك أربعة أقوال
أحدها أن المعنى جاءت من عند ربك قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني عند ربك معدة قاله أبو بكر الهزلي
والثالث أن المعنىهذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إيذانا بنفاذ قدرته وشدة
عذابه قاله ابن الأنباري
والرابع أن معنى قوله عند ربك في خزائنه التي لايتصرف في شيء منها إلا بإذنه
قوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد في المراد بالظالمين ها هنا ثلاثة أقوال
أحدها أن المراد بالظالمين ها هنا كفار قريش خوفهم الله بها قاله الأكثرون
والثاني أنه عام في كل ظالم قال قتادة والله ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط
فاتقوا الله وكونوا منه على حذر
والثالث أنهم قوم لوط فالمعنى وما هي من الظالمين أي من قوم لوط ببعيد والمعنى لم
تكن لتخطئهم قاله الفراء
وإلى
مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولاتنقصوا المكيال
والميزان إني أرايكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال
والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين
قوله تعالى وإلى مدين قد ذكرناه في الأعراف 85
قوله تعالى ولا تنقصوا المكيال والميزان أي لاتطففوا وكانوا يطففون مع كفرهم
قوله تعالى إني أراكم بخير فيه قولان
أحدهما أنه رخص الأسعار قاله ابن العباس والحسن ومجاهد
والثاني سعة المال وهو مروي عن ابن عباس أيضا وبه قال قتادة وابن زيد وقال الفراء
أموالكم كثيرة وأسعاركم رخيصة فأي حاجة بكم إلى سوء الوزن والكيل
قوله تعالى وأني أخاف عليكم عذاب يوم محيط فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه غلاء السعر قاله ابن عباس وقال مجاهد القحط والجدب والغلاء
والثاني العذاب في الدنيا وهوالذي أصابهم قاله مقاتل
والثالث عذاب النار في الآخرة ذكره الماوردي
قوله تعالى أوفوا المكيال والميزان بالقسط أي أتموا ذلك بالعدل والإيفاء الإتمام
ولا تعثوا في الأرض مفسدين بنقص المكيال والميزان
بقيت
الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن
تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا
قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى
ما أنهيكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
وإليه أن أنيب ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مل مثل أصاب قوم نوح أو قوم
هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم
ودود قالوا يا شعيب ما نفقة كثيرا مما تقول وإنا لنريك فينا ضعيفا ولولا رهطك
لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم
ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعملون من
يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا
والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود
قوله تعالى بقية الله خير لكم فيه ثمانية أقوال
أحدها ما أبقي الله لكم الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس قاله ابن عباس
والثاني
رزق الله خير لكم روى عن ابن عباس أيضا وبه قال سفيان
والثالث طاعة الله خير لكم قاله مجاهد والزجاج
والرابع حظكم من الله خير لكم قاله قتادة
والخامس رحمة الله خير لكم قال ابن زيد
والسادس وصية الله خير لكم قاله الربيع
والسابع ثواب الله في الآخرة خير لكم قال مقاتل
والثامن مراقبة الله خير لكم ذكره الفراء وقرأ الحسن البصري نقية الله خير لكم
بالتاء
قوله تعالى إن كنتم مؤمنين شرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين
بالله عز و جل عرفوا صحة ما يقول وفي قوله وما أنا عليكم بحفيظ ثلاثة أقوال
أحدها ما أمرت بقتالكم وإكراهكم على الإيمان
والثاني ما أمرت بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا
والثالث ما أحفظكم من عذاب الله إن نالكم
قوله تعالى أصلواتك تأمرك وقرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص أصلاتك على التوحيد
وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال أحدها دينة قاله عطاء والثاني قراءته قاله الأعمش
والثالث أنها الصلوات المعروفة وكان شعيب كثير الصلاة
قوله تعالى أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء قال الفراء معنى الآية أصلواتك تأمرك أن
نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء
وفي
معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان
أحدهما أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف قاله ابن عباس فالمعنى قد تراضينا
فيما بيننا بذلك
والثاني أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير فنهاهم عن ذلك قاله ابن زيد وقال
القرظي عذبوا في قطعهم الدارهم قال ابن الأنباري وقرأ الضحاك بن قيس الفهري ما
تشاء بالتاء ونسق أن تفعل على أن تترك واستغنى عن الإضمار قال سفيان الثوري في معنى
هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك وابن
أبي عبلة أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء بالتاء فيهما ومعنى هذه القراءة كمعنى
قراءة الفهري
وفي قوله إنك لأنت الحليم الرشيد أربعة أقوال
أحدها أنهم قالوه استهزاء به رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال قتادة والفراء
والثاني أنهم قالوا له إنك لأنت السفيه الجاهل فكنى بهذا عن ذلك ذكره الزجاج
والثالث أنهم سبوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد فأثنى الله عز و جل عليه فقال بل إنك
لأنت الحليم الرشيد لا كما قال لك الكافرون حكاه أبو سليمان الدمشقي عن أبي الحسن
المصيصي
والرابع أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة وقالوا أنت حليم رشيد فلم تنهانا أن
نفعل في أموالنا ما نشاء حكاه الماوردي وذهب إلى نحوه ابن كيسان
قوله تعالى إن كنت على بينة من ربي قد تقدم تفسيره هود 28 و 63
وفي
قوله ورزقني منه رزقا حسنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحلال قال ابن عباس وكان شعيب كثير المال
والثاني النبوة والثالث العلم والمعرفة
قال الزجاج وجواب الشرط هاهنا متروك والمعنى إن كنت على بينة من ربي أتبع الضلال
فترك الجواب لعلم المخاطبين بالمعنى وقد مر مثل هذا
قوله تعالى وما أريد أن أخلفكم إلى ما أنهاكم عنه قال قتادة لم أكن لأنهاكم عن أمر
ثم أرتكبه وقال الزجاج ما أقصد بخلافكم القصد إلى ارتكابه
قوله تعالى إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت أي ما أريد بما آمركم به إلا إصلاح
أموركم بقدر طاقتي وقدر طاقتي إبلاغكم لا إجباركم
قوله تعالى وما توفيقي إلا بالله فتح تاء توفيقي أهل المدينة وابن عامر ومعنى
الكلام ما أصابتي الحق في محاولة صلاحكم إلى بالله عليه توكلت أي فوضت أمري وذلك
أنهم تواعدوه بقولهم لنخرجنك يا شعيب الأعراف 88 وإليه أنيب أي أرجع
قوله تعالى لا يجرمنكم شقاقي حرك هذه الياء ابن كثير وأبو عمرو ونافع قال الزجاج
لا تكسبنكم عداوتكم إياي أن تعذبوا
قوله تعالى وما قوم لوط منكم ببعيد فيه قولان
أحدهما أنهم كانوا قريبا من مساكنهم
والثاني أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط قال الزجاج كان إهلاك قوم لوط أقرب
الإهلاكات التي عرفوها قال ابن الأنباري إنما وحد بعيدا لأنه أزاله عن صفة القوم
وجعله نعتا مكان محذوف تقديره وما قوم لوط منكم بمكان بعيد
قوله
تعالى إن ربي رحيم ودود قد سبق معنى الرحيم
فأما الودود فقال ابن الأنباري معناه المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده ودا
وودا وودا ويقال وددت الرجل ودادا وو دادة وودادة وقال الخطابي هو اسم مأخوذ من
الود وفيه وجهان
أحدهما أن يكون فعولا في محل مفعول كما قيل رجل هيوب بمعنى مهيب وفرس ركوب يمعنى
مركوب فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرفونه من إحسانه إليهم
والوجه الآخر أن يكون بمعنى الواد أي أنه يود عباده الصالحين بمعنى أنه يرضى عنهم
بتقبل أعمالهم ويكون معناه أن يوددهم إلى خلقه كقوله سيجعل لهم الرحمن ودا مريم 96
قوله تعالى ما نفقه كثيرا مما تقول قال ابن الأنباري معناه ما نفقه صحة كثير مما
تقول لأنهم كانوا يتدينون بغيره ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه
قوله تعالى وإنا لنراك فينا ضعيفا وفيه أربعة أقوال
أحدها ضريرا قال ابن عباس وابن جبير وقتادة كان أعمى قال الزجاج ويقال إن حمير
تسمي المكفوف ضعيفا
والثاني ذليلا قاله الحسن وأبو روق ومقاتل
وزعم أبو روق أن الله لم يبعث نبيا أعمى ولا نبييا به زمانة
والثالث ضعيف البصر قاله سفيان
والرابع عاجزا عن التصرف في المكاسب ذكره ابن الأنباري
قوله
تعالى ولولا رهطك لرجمناك قال الزجاج لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم والرجم من سيء
القتلات وكان رهطه من أهل ملتهم فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم وذكر بعضهم
أن الرجم هاهنا بمعنى الشتم والأذى
قوله تعالى وما أنت علينا بعزيز فيه قولان
أحدهما بكريم والثاني بممتنع أن نقتلك
قوله تعالى أرهطي أعز عليكم من الله وأسكن ياء رهطي أهل الكوفة ويعقوب والمعنى
أتراعون رهطي في ولا تراعون الله في
قوله تعالى واتخذتموه وراءكم في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى قاله الجمهور قال الفراء المعنى رميتم بأمر الله
وراء ظهوركم قال الزجاج والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر قد جعل فلان هذا الأمر
بظهر قال الشاعر ... تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها ...
والثاني أنها كناية عما جاء به شعيب قاله مجاهد
قوله تعالى إن ربي بما تعملون محيط أي عالم بأعماكم فهو بجازيكم بها وما بعد هذا
قد سبق تفسيره إلى قوله سوف تعلمون الأنعام 135
فإن قال قائل كيف قال هاهنا سوف وفي سورة أخرى فسوف الأنعام 135
فالجواب أن كلا الأمرين حسن عند العرب إن أدخلوا الفاء دلوا على اتصال ما بعد
الكلام بما قبله وإن أسقطوها بنوا الكلام الأول على أنه قد تم
وما
بعده مستأنف كقوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا البقرة 67
والمعنى فقالوا أتتخذنا بالفاء فحذفت الفاء لتمام ما قبلها قال امرؤ القيس ...
فقالت يمين الله مالك حيلة ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي ...
... خرجت بها أمشي تجر وراءنا ... على إثرنا أذيال مرط مرحل ...
قال ابن الأنباري أراد فخرجت فأسقط الفاء لتمام ما قبلها ويروى فقمت بها أمشي
قوله تعالى وارتقبوا إني معكم رقيب قال ابن عباس ارتقبوا العذاب فإني أرتقب الثواب
قوله تعالى وأخذت الذين ظلموا الصيحة قال المفسرون صاح بهم جبريل فماتوا في
أمكنتهم قال محمد بن كعب عذب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب أخذتهم رجفة في
ديارهم حتى خافوا أن تسقط عليهم فخرجوا منها فأصابهم حر شديد فبعث الله الظلة
فتنادوا هلم إلى الظل فدخلوا جميعا في الظلة فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم قال
ابن عباس لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح فأما قوم صالح فأخذتهم
الصيحة من تحتهم وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم نشأت لهم سحابة كهيئة الظلة فيها
ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم فأتوها يستطلون تحتها فأحرقتهم
قوله تعالى كما بعدت ثمود أي كما هلكت ثمود
قال
ابن قتيبة يقال بعد يبعد إذا كان بعده هلكة وبعد يبعد إذا نأى ولقد أرسلنا موسى
بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد
قوله تعالى ولقد أرسنا موسى بآياتنا قال الزجاج بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته
وسلطان مبين اي حجة بينة
قوله تعالى فاتبعوا أمر فرعون وهو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه آلها وما أمر
فرعون برشيد أي مرشد إلى خير يقدم قومه يوم القيامة فاوردهم النار وبئس الورد المورود
قوله تعالى يقدم قومه يوم القيامة قال الزجاج يقال قدمت القوم أقدمهم قدما وقدوما
إذا تقدمتهم والمعنى يقدمهم إلى النار ويدل عليه قوله فأوردهم النار قال ابن عباس
أرودهم بمعنى أدخلهم وقال قتادة يمضي بين ايديهم حتى يهجم بهم على النار
قوله تعالى وبئس الورد المورود قال المفسرون الورد الموضع الذي ترده وقال ابن
الأنباري الورد مصدر معناه الورود تجعله العرب بمعنى الموضع المورود فتلخيص الحرف
وبئس المدخل المدخول النار واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود
قوله تعالى وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة
في هذه اللعنة قولان
أحدهما
أنها في الدنيا الغرق وفي الآخرة عذاب النار هذا قول الكلبي ومقاتل
والثاني أنها اللعنة في الدنيا من المؤمنين وفي الآخرة من الملائكة ذكره الماوردي
قوله تعالى بئس الرفد المرفود قال ابن قتيبة الرفد العطية يقول اللعنة بئس العطية
يقال رفدته أرفده إذا أعطيته واعنته والمرفود المعطى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك
منها قائم وحصيد
قوله تعالى ذلك من أنباء القرى يعني ما تقدم من الخبر عن القرى المهلكة نقصه عليك
أي نخبرك به منها قائم وحصيد قال قتادة القائم ما يرى مكانه والحصيد لا يرى أثره
وقال ابن قتيبة القائم الظاهر العين والحصيد الذي قد أبيد وحصد وقال الزجاج القائم
ما بقيت حيطانه والحصيد الذي خسف به وما قد امحى أثره وما ظلمناهم ولكن ظلموا
أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما
زادوهم غير تتبيب
قوله تعالى وما ظلمناهم أي بالعذاب والإهلاك ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي
فما أغنت عنهم آلهتهم أي فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئا لما جاء أمر ربك بالهلاك
وما زادوهم يعني الآلهة غير تتبيب وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه التخسير رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
وقتادة
واختاره ابن قتيبة والزجاج والثاني أنه الشر قاله ابن زيد والثالث التدمير
والإهلاك قاله أبو عبيدة
فإن قيل الآلهة جماد فكيف قال زادوهم فعنه جوابان
أحدهما وما زادتهم عبادتها
والثاني أنها في القيامة تكون عونا عليهم فتزيدهم شرا وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى
وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد
قوله تعالى وكذلك أخذ ربك أي وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أخذ ربك إذا
أخذ القرى وهي ظالمة وصف القرى بالظلم والمراد أهلها وقال ابن عباس الظلم هاهنا
بمعنى الكفر إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم
مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود
قوله تعالى إن في ذلك لآية يعني ما ذكر من عذاب الأمم وأخذهم والآية العبرة والعظة
ذلك يوم مجموع له الناس لأن الخلق يحشرون فيه ويشهده البر والفاجر وأهل السماء
والأرض وما نؤخره وروى زيد عن يعقوب وابو زيد عن المفضل وما يؤخره بالياء والمعنى
وما نؤخر ذلك اليوم إلا لوقت معلوم لا يعلمه إلا الله يوم يأت لا تكلم نفس إلا
بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق
خالدين
فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا
ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ
قوله تعالى يوم يأت قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي يوم يأتي بياء في الوصل
وحذفوها في الوقف غير أن ابن كثير كان يقف بالياء ويصل بالياء وقرأ عاصم وابن عامر
وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف قال الزجاج الذي يختاره النحويون يوم يأتي باثبات
الياء والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر التاء وهذيل تستعمل حذف هذه
الياءات كثيرا وقد حكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول لا أدر فتحذف الياء وتجتزئ
بالكسرة ويزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال وقال الفراء كل ياء ساكنة وما قبلها مكسور
أو واو ساكنة وما قبلها مضموم فإن العرب تحذفها وتجتزئ بالكسرة من الياء وبالضمة
من الواو وانشدني بعضهم ... كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف
الدما ...
قال المفسرون وقوله يوم يأتي يعني يأتي ذلك اليوم لا تكلم نفس إلا بإذن الله فكل
الخلائق ساكتون إلا من أذن الله له في الكلام وقيل المراد بهذا الكلام الشفاعة
قوله تعالى فمنهم شقي قال ابن عباس منهم من كتبت عليه الشقاوة ومنهم من كتبت له
السعادة
قوله تعالى لهم فيها زفير وشهيق فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الزفير كزفير الحمار في الصدر وهو أول ما ينهق والشهيق كشهيق الحمار في
الحلق وهو آخر ما يفرغ من نهيقه رواه أبو صالح عن ابن
عباس
وبه قال الضحاك ومقاتل والفراء وقال الزجاج الزفير شديد الأنين وقيبحه والشهيق
الأنين الشديد المرتفع جدا وهما من أصوات المكروبين وزعم أهل اللغة من الكوفيين
والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق والشهيق بمنزلة آخر صوته
في النهيق
والثاني أن الزفير في الحلق والشهيق في الصدور رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال
أبو العالية والربيع بن أنس وفي رواية أخرى عن ابن عباس الزفير الصوت الشديد
والشهيق الصوت الضعيف وقال ابن فارس الشهيق ضد الزفير لأن الشهيق رد النفس والزفير
إخراج النفس وقال غيره الزفير الشديد مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته
والشهيق النفس الطويل الممتد مأخوذ من قولهم جبل شاهق أي طويل
والثالث أن الزفير زفير الحمار والشهيق شهيق البغال قاله ابن السائب
قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض المعروف فيه قولان
أحدهما أنها السموات المعروفة عندنا والأرض المعروفة قال ابن قتيبة وابن الأنباري
للعرب في معنى الأبد الفاظ تقول لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار وما دامت
السموات ولأرض وما اختلفت الجرة والدرة وما أطت الإبل في أشباه لهذا كثيرة ظنا
منهم أن هذه الأشياء لا تتغير فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم
والثاني
أنها سموات الجنة والنار وأرضهما
قوله تعالى إلا ما شاء ربك في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال
أحدها أن الاستثناء في حق الموحدين الذين يخرجون بالشفاعة قاله ابن عباس والضحاك
والثاني أنه استثناء لا يفعله تقول والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك على
ضربه ذكره الفراء وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس إلا ما شاء ربك قال فقد شاء
أن يخلدوا فيها قال الزجاج وفائدة هذا أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم ولكنه أعلمنا
أنهم خالدون أبدا
والثالث أن المعنى خالدين فيها أبدا غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم
ثم يجدد خلقهم فيرجع الاستثناء إلى تلك الحال قاله ابن مسعود
والرابع أن إلا بمعنى سوى تقول لو كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد فالمعنى خالدين
فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة وهذا اختيار
الفراء قال ابن قتيبة ومثله في الكلام أن تقول لأسكننك في هذه الدار حولا إلا ما
شئت تريدك سوى ما شئت أن أزيدك
والخامس أنهم إذا حشروا وبعثوا فهم في شروط القيامة فالاستثناء واقع في الخلود
بمقدار موقفهم في الحساب فالمعنى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا مقدار
موقفهم للمحاسبة ذكره الزجاج وقال ابن كيسان الاستثناء يعود إلى مكثهم في الدنيا
والبرزخ والوقوف للحساب قال ابن قتبية فالمعنى خالدين في النار وخالدين في الجنة
دوام السماء والأرض إلا ما شاء ربك
من
تعميرهم في الدنيا قبل ذلك فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت
العرب تستعمل وإن كانتا قد تتغيران واستثنى المشيئة من دوامهما لأن أهل الجنة
والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا لا في الجنة ولا في
النار
والسادس أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيرا وشهيقا إلا ما شاء ربك من أنواع
العذاب التي لم تذكر وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذكر ولهم مما يذكر ما شاء ربك ذكره
الزجاج أيضا
والسابع أن إلا بمعنى كما ومنه قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد
سلف النساء 22 ذكره الثعلبي
فأما الاستثناء في حق أهل الجنة ففيه ستة أقوال
أحدها أنه استثناء لا يفعله والثاني أن إلا بمعنى سوى والثالث أنه يرجع إلى وقوفهم
للحساب ولبثهم في القبور والرابع أنه يمعنى إلا ما شاء أن يزيدهم من النعيم الذي
لم يذكر والخامس أن إلا ك ما وهذه الأقوال قد سبق شرحها والسادس أن الاستثناء يرجع
إلى لبث من لبث في النار من الموحدين ثم أدخل الجنة قاله ابن عباس والضحاك ومقاتل
قال ابن قتيبة فيكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار
فكأنه قال إلا ما شاء ربك من أخراج المذنبين إلى الجنة وخالدين في الجنة إلا ما
شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة
واختلف القراء في سعدوا فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن
عامر
وأبو بكر عن عاصم سعدوا بفتح السين وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضمها وهما
لغتان
قوله تعالى عطاء غير مجذوذ نصب عطاء بما دل عليه الكلام كأنه قال أعطاهم النعيم
عطاء والمجذوذ المقطوع قال ابن قتيبة يقال جذذت وجددت وجذفت وجدفت إذا قطعت فلا تك
في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم
غير منقوص
قوله تعالى فلا تك في مرية أي فلا تك يا محمد في شك مما يعبد هؤلاء المشركون من
الأصنام أنه باطل وضلال إنما يقلدون آباءهم وإنا لموفهم نصيبهم وفيه ثلاثة أقوال
أحدها ما قدر لهم من خير وشر قاله ابن عباس والثاني نصيبهم من الرزق قاله أبو
العالية والثالث نصيبهم من العذاب قاله ابن زيد وقال بعضهم لا ينقصهم من عذاب
آبائهم ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم
وإنهم لفي شك منه مريب
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب يعني التوراة فاختلف فيه فمن مصدق به ومكذب كما
فعل قومك بالقرآن قال المفسرون وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى ولولا كلمة سبقت من ربك قال ابن عباس يريد إني أخرت أمتك إلى يوم
القيامة ولولا ذلك لعجلت عقاب من كذبك وقال ابن قتيبة لولا نظرة لهم إلى يوم الدين
لقضي بينهم في الدنيا وقال ابن جرير
سبقت
من ربك أنه لا يعجل على خلقه بالعذاب لقضي بين المصدق منهم والمكذب باهلاك المكذب
وإنجاء المصدق
قوله تعالى وإنهم لفي شك منه أي من القرآن مريب أي موقع للريب وإن كلا لما
ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير
قوله تعالى وإن كلا يشير إلى جميع من قص قصته في هذه السورة وقال مقاتل يعني به
كفار هذه الأمة وقيل المعنى وإن كلا لخلق أو بشر ليوفينهم قرأ أبو عمرو والكسائي
وإن مشددة النون لما خفيفة واللام في لما لام التوكيد دخلت على ما وهي خبر إن
واللام في ليوفينهم اللام التي يتلقى بها القسم والتقدير والله ليوفينهم ودخلت ما
للفصل بين اللامين قال مكي بن أبي طالب وقيل إن ما زائدة لكن دخلت لتفصل بين
اللامين اللذين يتلقيان القسم وكلاهما مفتوح ففصل ب ما بينهمأ وقرأ ابن كثير وإن
بالتخفيف وكذلك لما قال سيبويه حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول إن عمرا
لمنطلق فيخففون إن ويعملونها وأنشد ... ووجه حسن النحر ... كأن ثدييه حقان
وقرأ
نافع وأبو بكر عن عاصم وإن خفيفة لما مشددة والمعنى وما كلا إلا وهذا كما تقول
سألتك لما فعلت وإلا فعلت ومثله قوله إن كل نفس لما عليها حافظ الطارق 4 وقرأ حمزة
وابن عامر وحفص عن عاصم وإن بالتشديد لما بالتشديد أيضا قال أبو علي هذه قراءة
مشكلة لأنه كما لا يحسن إن زيدا إلا منطلق كذلك لا يحسن تثقيل إن وتثقيل لما وحكى
عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل في لما ولم يبعد فيما قال وقال مكي بن أبي
طالب الأصل فيها لمن ما ثم أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ
فحذفت الميم المكسورة والتقدير وإن كلا لمن خلق ليوفينهم قال وقيل التقدير لمن ما
بفتح الميم في من فتكون ما زائدة وتحذف إحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ
والتقدير لخلق ليوفينهم ومعنى الكلام ليوفينهم جزاء أعمالهم فاستقم كما أمرت ومن
تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير
قوله تعالى فاستقم كما أمرت قال ابن عيينة استقم على القرآن وقال ابن قتيبة امض
على ما أمرت به
قوله تعالى ومن تاب معك قال ابن عباس من تاب معك من الشرك
قوله تعالى ولا تطغوا فيه ثلاثة أقوال
أحدها لا يطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا مالم آمركم به قاله ابن عباس
والثاني لا تعصوا ربكم ولا تخالفوه قاله ابن زيد
والثالث لا تخلطوا التوحيد بشك قاله مقاتل
ولا
تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون
قوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا روى عبد الوارث عن أبي عمرو تركنوا بفتح
التاء وضم الكاف وهي قراءة قتادة وروى هارون عن أبي عمرو تركنوا بفتح التاء وكسر
الكاف وروى محبوب عن أبي عمرو تركنوا بكسر التاء وفتح الكاف وقرأ ابن أبي عبلة
تركنوا بضم التاء وفتح الكاف على مالم يسم فاعله وفي المراد بهذا الركون أربعة
أقوال
أحدها لا تميلوا إلى المشركين قاله ابن عباس والثاني لا ترضوا أعمالهم قاله أبو
العالية والثالث لا تلحقوا بالمشركين قاله قتادة والرابع لا تداهنوا الظلمة قاله
السدي وابن زيد
وفي قوله فتمسكم النار وجهان أحدهما فتصيبكم النار قاله ابن عباس والثاني فيتعدى
إليكم ظلمهم كما تتعدى النار إلى إحراق ما جاورها ذكره الماوردي
قوله تعالى وما لكم من دون الله من أولياء أي ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب
وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيآت ذلك ذكرى للذاكرين
قوله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار أما سبب نزولها فروى علقمة والأسود عن ابن
مسعود أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم إني أخذت امرأة في البستان فقبلتها
وضممتها إلي وباشرتها وفعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها
فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار الآية فدعا الرجل فقرأها عليه فقال عمر أهي له خاصة أم للناس كافة قال لا بل للناس كافة وفي رواية أخرى عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله فذكر ذلك له فنزلت هذه الآية فقال الرجل إلي هذه الآية فقال لمن عمل بها من أمتي وقال معاذ بن جبل كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل فقال يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من امرأة مالا يحل له فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلا أصابه منها غير أنه لم يجامعها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصل فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال معاذ أهي له خاصة أم للمسلمين عامة فقال بل هي للمسلمين عامة واختلفوا في إسم هذا الرجل فقال أبو صالح عن ابن عباس هو عمرو بن غزية الأنصاري وفيه نزلت هذه الآية كان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع منه تمرا فأعجبته فقال إن في البيت تمرا أجود من هذا فانطلقي معي حتى أعطيك منه فذكر نحو
حديث
معاذ وقال مقاتل هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري وذكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري وذكر في الذي قال للنبي صلى
الله عليه و سلم أله خاصة ثلاثة أقوال
أحدها أنه أبو اليسر صاحب القصة والثاني معاذ بن جبل والثالث عمر بن الخطاب
فأما التفسير فقوله وأقم الصلاة أي أتم ركوعها وسجودها
فأما طرفا النهار ففي الطرف الأول قولان
أحدهما أنه صلاة الفجر قاله الجمهور والثاني أنه الظهر حكاه ابن جرير وفي الطرف
الثاني ثلاثة أقوال
أحدها أنه صلاة المغرب قاله ابن عباس وابن زيد الثاني العصر قاله قتادة وعن الحسن
كالقولين والثالث الظهر والعصر قاله مجاهد والقرظي وعن الضحاك كالأقوال الثلاثة
قوله تعالى وزلفا من الليل وقرأ أبو جعفر وشيبة و زلفا بضم اللام قال أبو عبيدة
الزلف الساعات واحدها زلفة أي ساعة ومنزلة وقربة ومنه سميت المزدلفة قال العجاج
ناج
واه الأين مما أوجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا ...
... سماوة الهلال حتى احقوا قفا ...
قال ابن قتيبة ومنه يقال أزلفني كذا عندك أي أدناني والمزالف المنازل والدرج وكذلك
الزلف
وفيما للمفسرين قولان
أحدهما أنها صلاة العتمة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وعوف عن الحسن وابن أبي
نجيح عن مجاهد وبه قال ابن زيد
والثاني أنها صلاة المغرب والعشاء روي عن ابن عباس أيضا ورواه يونس عن الحسن
ومنصور عن مجاهد وبه قال قتادة ومقاتل والزجاج
قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات في المراد بالحسنات قولان
أحدهما أنها الصلوات الخمس قاله ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب ومسروق ومجاهد
والقرظي والضحاك والمقاتلان ابن سليمان وابن حيان
والثاني أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه منصور عن
مجاهد والأول أصح لأن الجمهور عليه وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم رواه عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه توضأ وقال من توضأ
وضوئي هذا ثم صلى الظهر غفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح
ومن
صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر ومن صلى المغرب غفر له ما بينها وبين
صلاة العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينها ويبن صلاة المغرب ثم لعله أن يبيت ليلته
يتمرغ ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينه وبين صلاة العشاء وهن الحسنات
يذهبن السيئات
فأما السيئات المذكورة هاهنا فقال المفسرون هي الصغائر من الذنوب وقد روى معاذ بن
جبل قال قلت يا رسول الله أوصني قال اتق الله حيثما كنت قال قلت زدني قال أتبع
السيئة الحسنة تمحها قلت زدني قال خالق الناس بخلق حسن
قوله تعالى ذلك ذكرى للذاكرين في المشار إليه ب ذلك ثلاثة أقوال
أحدها أنه القرآن والثاني إقام الصلاة والثالث جميع ما تقدم من الوصية بالاستقامة
والنهي عن الطغيان وترك الميل إلى الظالمين والقيام بالصلاة
وفي
المراد بالذكرى قولان
أحدهما أنه بمعنى التوبة والثاني بمعنى العظة واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
قوله تعالى واصبر فيما أمر بالصبر عليه قولان
أحدهما لما يلقاه من أذى قومه والثاني الصلاة
وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال
أحدها المصلون قاله ابن عباس والثاني المخلصون قاله مقاتل والثالث أنهم المحسنون
في أعمالهم قاله أبو سليمان فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن
الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه
وكانوا مجرمين
قوله تعالى فلولا كان من القرون قال ابن عباس والفراء المعنى فلم يكن وقال ابن
قتيبة المعنى فهلا كان من القرون من قبلكم أولو بقية وروى ابن جماز عن أبي جعفر
أولو بقية بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء
وفي معنى أولو بقية ثلاثة أقوال
أحدها أولو دين قاله ابن عباس قال ابن قتيبة يقال قوم لهم بقية وفيهم بقية إذا
كانت بهم مسكة وفيهم خير والثاني أولو تمييز والثالث أولو طاعة ذكرهما الزجاج وقال
إذا قلت فلان فيه بقية فمعناه فيه فضل
قوله تعالى إلا قليلا استثناء منقطع أي لكن قليلا ممن أنجينا منهم
ممن
نهى عن الفساد قال مقاتل لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك إلى قليلا
ممن أنجينا من العذاب مع الرسل
قوله تعالى واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه أي اتبعوا مع ظلمهم ما أترفوا فيه مع
استدامة نعيمهم فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم قال الفراء آثروا اللذات على أمر
الآخرة قال ويقال اتبعوا ذنوبهم السيئة إلى النار وما كان ربك ليهلك القرى بظلم
وأهلها مصلحون
قوله تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم فيه قولان
أحدهما بغير جرم قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني بشرك ذكره ابن جرير وابو
سليمان وفي قوله وأهلها مصلحون ثلاثة أقوال
أحدها ينتصف بعضهم من بعض رواه قيس بن أبي حازم عن جرير قال أبو جعفر الطبري فيكون
المعنى لايهلكهم إذا تناصفوا وإن كانوا مشركين وإنما يهلكهم إذا تظالموا
والثاني مصلحون لأعمالهم متمسكون بالطاعة قاله أبو صالح عن ابن عباس والثالث
مؤمنون قاله مقاتل ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من
رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
قوله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة قال ابن عباس لو شاء أن يجعلهم كلهم
مسلمين لفعل
قوله تعالى ولا يزالون مختلفين في المشار إليهم قولان
أحدهما
أنهم أهل الحق وأهل الباطل رواه الضحاك عن ابن عباس فيكون المعنى إن هؤلاء يخالفون
هؤلاء
والثاني أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين رواه عكرمة عن ابن عباس
قوله تعالى إلا من رحم ربك قال ابن عباس هم أهل الحق وقال الحسن أهل رحمة اللة
لايختلفون
قولة تعالى ولذلك خلقهم في المشار إلية بذلك أربعة أقوال
أحدها أنه يرجع إلى ماهم عليه قال ابن عباس خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف
وفريقا لا يرحم يختلف
والثاني أنه يرجع إلى الشقاء والسعادة قاله ابن عباس أيضا واختاره الزجاج قال لأن
اختلافهم مؤديهم إلى سعادة وشقاوة قال ابن جرير واللام في قوله ولذلك بمعنى على
والثالث أنه يرجع إلى الاختلاف رواه مبارك عن الحسن
والرابع أنه يرجع إلى الرحمة رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك
وقتادة فعلى هذا يكون المعنى ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم
قوله تعالى وتمت كلمة ربك قال ابن عباس وجب قول ربك لأملأن جهنم من كفار الجنة
وكفار الناس وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق و
موعظة وذكرى للمؤمنين
قوله تعالى وكلا نقص قال الزجاج كلا منصوب ب نقص
المعنى
كل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك و ما منصوبة بدلا من كل المعنى نقص
عليك ما نثبت به فؤادك ومعنى تثبيت الفؤاد تسكين القلب هاهنا ليس للشك ولكن كلما
كان البرهان والدلالة أكثر كان القلب أثبت
قوله تعالى وجاءك في هذه الحق في المشار إليه ب هذه أربعة أقوال
أحدها أنها السورة قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية ورواه شيبان
عن قتادة
والثاني أنها الدنيا فالمعنى وجاءك في هذه الدنيا رواه سعيد عن قتادة وعن الحسن
كالقولين
والثالث أنها الأقاصيص المذكورة
والرابع أنها هذه الآية بعينها ذكر القولين ابن الأنباري
وفي المراد بالحق هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنها البيان والثاني صدق القصص والأنباء والثالث النبوة
فإن قيل أليس قد جاءه الحق في كل القرآن فلم خص هذه السورة
فالجواب أنا إن قلنا إن الحق النبوة فالإشارة ب هذه إلى الدنيا فيكون المعنى وجاءك
في هذه الدنيا النبوة فيرتفع الإشكال وإن قلنا إنها السورة فعنه أربعة أجوبة
أحدها أن المراد بالحق البيان وهذه السورة جمعت من تبيين إهلاك الأمم وشرح آمالهم
قالهم يجمع غيرها فبان أثر التخصيص وهذا مذهب بعض المفسرين
والثاني أن بعض الحق أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا
ولهذا
يقول الناس فلان في الحق إذا كان في الموت وإن لم يكن قبله في باطل ولكن لتعظيم ما
هو فيه فكأن الحق المبين في هذه السورة أجلى من غيره وهذا مذهب الزجاج
والثالث أنه خص هذه السورة بذلك لبيان فضلها وإن كان في غيرها حق أيضا فهو كقوله
والصلاة الوسطى البقرة 238 وقوله وجبريل وميكال البقرة 98 وهذا مذهب ابن الأنباري
والرابع أن المعنى وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك من سائر السور قاله ابن
جرير الطبري
قوله تعالى وموعظة وذكرى للمؤمنين أي يتعظون إذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم
فتلين قلوبهم وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا
منتظرون
قوله تعالى وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم هذا تهديد ووعيد والمعنى
اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة أمركم وانتظروا ما يعدكم الشيطان إنا
منتظرون ما يعدنا ربنا
فصل
قال المفسرون وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم والاقتناع بانذارهم وهي منسوخة بآية
السيف
واعلم أنه إذا قلنا إن المراد بالآية التهديد لم يتوجه نسخ
ولله
غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما
تعملون
قوله تعالى ولله غيب السموات والأرض أي علم ما غاب عن العباد فيهما وإليه يرجع
الأمر كله قرأ نافع وحفص عن عاصم يرجع الأمر كله بضم الياء وقرأ الباقون وأبو بكر
عن عاصم يرجع بفتح الياء والمعنى إن كل الأمور ترجع إليه في المعاد فاعبده أي وحده
وتوكل عليه أي ثق به وما ربك بغافل عما يعملون قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم
تعملون بالتاء وقرأ الباقون بالياء قال أبو علي فمن قرأ بالياء فالمعنى قل لهم وما
ربك بغافل عما يعملون ومن قرأ بالتاء فالخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم ولجميع
الخلق مؤمنهم وكافرهم فهو أعم من الياء وهذا وعيد والمعنى إنه يجزي المحسن باحسانه
والمسيء باساءته قال كعب خاتمة التوراة خاتمة هود
سورة
يوسف عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم آلر تلك آيات الكتاب المبين
فصل في نزولها
هي مكية بالإجماع وفي سبب نزولها قولان أما القول الأول فروي عن سعد بن أبي وقاص
قال أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا يا
رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى آلر تلك آيات الكتاب المبين إلى قوله
نحن نقص عليك أحسن القصص فتلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل
الله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني الزمر 23 كل ذلك يؤمرون
بالقرآن وقال
عون
بن عبد الله مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ملة فقالوا يا رسول الله
حدثنا فأنزل الله عز و جل الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني الزمر 23 ثم
إنهم ملوا ملة أخرى فقالوا يا رسول الله فوق الحديث ودون القرآن يعنون القصص فأنزل
الله نحن نقص عليك أحسن القصص فأراد الحديث فدلهم على أحسن الحديث وأرادوا القصص
فدلهم على أحسن القصص والثاني رواه الضحاك عن ابن عباس قال سألت اليهود النبي صلى
الله عليه و سلم فقالوا حدثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف فأنزل الله عز و جل
الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا وذلك أن التوراة بالعبرانية
والإنجيل بالسريانية وأنتم قوم عرب ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه وقد بينا
تفسير أول هذه السورة في أول يونس إلا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه
السورة فقال لما لحق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ملل وسآمة فقالوا له
حدثنا بما يزيل عنا هذا الملل فقال تلك الأحاديث التي تقدرون الانتفاع بها وانصراف
الملل هي آيات الكتاب المبين
وفي معنى المبين خمسة أقوال
أحدها البين حلاله وحرامه قاله ابن عباس ومجاهد والثاني المبين للحروف التي تسقط
عن ألسن الأعاجم رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل والثالث البين هداه ورشده قاله
قتادة والرابع المبين للحق من الباطل والخامس البين إعجازه فلا يعارض ذكرهما
الماوردي
إنا
أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
قوله تعالى إنا أنزلناه في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الكتاب قاله الجمهور والثاني إلى خبر يوسف ذكره الزجاج وابن
القاسم
قوله تعالى قرآنا عربيا قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة النساء 82 وقد
اختلف الناس هل في القرآن شيء بغير العربية أم لا فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء
بغير العربية وقال أبو عبيدة من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على
الله القول واحتج بقوله إنا جعلناه قرآنا عربيا الزخرف 3 وروي عن ابن عباس ومجاهد
وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب مثل سجيل و المشكاة و اليم و الطور و أباريق و
إستبرق وغير ذلك وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال قال أبو عبيد وهؤلاء أعلم
من أبي عبيدة ولكنهم ذهبوا إلى مذهب وذهب هو إلى غيره وكلاهما مصيب إن شاء الله
وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقال أولئك على الأصل ثم لفظت به
العرب بالسنتها فعربته فصار عربيا بتعريبها إياه فهي عربية في هذه الحالة أعجمية
الأصل فهذا القول يصدق الفريقين جميعا
قوله تعالى لعلكم تعقلون قال ابن عباس لكي تفهموا نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين
قوله تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص قد ذكرنا سبب نزولها في
أول
الكلام وقد خصت بسبب آخر فروي عن سعيد بن جبير قال اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه
و سلم إلى سلمان فقالوا حدثنا عن التوراة فإنها حسن ما فيها فأنزل الله تعالى نحن
نقص عليك أحسن القصص يعني قصص القرآن أحسن مما في التوراة قال الزجاج والمعنى نحن
نبين لك أحسن البيان والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها قال وقوله بما أوحينا
إليك أي بوحينا إليك هذا القرآن
قال العلماء وإنما سميت قصة يوسف أحسن القصص لأنها جمعت ذكر الأنبياء والصالحين
والملائكة والشياطين والأنعام وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والرجال
والنساء وحيلهن وذكر التوحيد والفقه والسر وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة
وتدبير المعاش والصبر على الأذى والحلم والعز والحكم إلى غير ذلك من العجائب
قوله تعالى وإن كنت في إن قولان
أحدهما أنها بمعنى قد والثاني بمعنى ما
قوله تعالى من قبله قال ابن عباس من قبل نزول القرآن لمن الغافلين عن علم خبر يوسف
وما صنع به إخوته إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر
رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان
للإنسان عدو مبين
قوله تعالى إذ قال يوسف لأبيه في إذ قولان
أحدهما أنها صلة للفعل المتقدم والمعنى نحن نقص عليك إذ قال يوسف
والثاني
أنها صلة لفعل مضمر تقديره اذكر إذ قال يوسف ذكرهما الزجاج وابن الأنباري
قوله تعالى يا أبت قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء ووقفا بالهاء وافقهما ابن
كثير في الوقف بالهاء وقرأ الباقون بكسر التاء فمن فتح التاء أراد يا ابتا فحذف
الألف كما تحذف الياء فبقيت الفتحة دالة على الألف كما أن الكسرة تبقى دالة على
الياء ومن وقف على الهاء فلان تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف وقرأ أبو جعفر
أحد عشر وتسعة عشر بسكون العين فيهما
وفي ما رآه يوسف قولان
أحدهما أنه رأى الشمس والقمر والكواكب وهو قول الأكثرين قال الفراء وإنما قال
رأيتهم على جمع ما يعقل لأن السجود فعل ما يعقل كقوله يا أيها النمل ادخلوا
مساكنكم النمل 18 قال المفسرون كانت الكواكب في التأويل إخوته والشمس أمه والقمر
أباه فلما قصها على يعقوب أشفق من حسد إخوته وقال السدي الشمس أبوه والقمر خالته
لأن أمه كانت قد ماتت
والثاني أنه رآي أبويه وإخوته ساجدين له فكنى عن ذكرهم وهذا مروي عن ابن عباس
وقتادة فأما تكرار قوله رأيتهم فقال الزجاج إنما كرره لما طال الكلام توكيدا
وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال
أحدها سبع سنين والثاني اثنتا عشرة سنة والثالث سبع عشرة سنة
قال المفسرون علم يعقوب أن إخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه فقال لا تقصص رؤياك على
إخوتك فيكيدوا لك كيدا قال ابن قتيبة يحتالوا لك
حيلة
ويغتالوك وقال غيره اللام صلة والمعنى فيكيدوك والعدو المبين الظاهر العداوة وكذلك
يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على
أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم
قوله تعالى وكذلك يجتبيك ربك قال الزجاج وابن الأنباري ومثل ما رأيت من الرفعة
والحال الجليلة يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك وقد شرحنا في الأنعام 87 معنى
الاجتباء وقال ابن عباس يصطفيك بالبنوة
قوله تعالى ويعلمك من تأويل الأحاديث فيه ثلاثة اقوال
أحدها أنه تعبير الرؤيا قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة فعلى هذا سمي تأويلا لأنه
بيان ما يؤول أمر المنام إليه
والثاني أنه العلم والحكمة قاله ابن زيد
والثالث تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتب ذكره الزجاج قال مقاتل و من هاهنا
صلة
قوله تعالى ويتم نعمته عليك فيه ثلاثة أقوال
أحدها بالنبوة قاله ابن عباس
والثاني باعلاء الكلمة
والثالث بأن أحوج إخوته إليه حتى أنعم عليهم ذكرهما الماوردي
وفي آل يعقوب ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ولده قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني يعقوب وامرأته وأولاده الأحد
عشر أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف قاله مقاتل
والثالث
أهله قاله أبو عبيدة واحتج بأنك إذا صغرت الآل قلت أهيل
قوله تعالى كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق قال عكرمة فنعمته على
إبراهيم أن نجاه من النار ونعمته على إسحاق أن نجاه من الذبح
قوله تعالى إن ربك عليم أي عليم حيث يضع النبوة حكيم في تدبير خلقه لقد كان في
يوسف وإخوته آيات للسائلين
قوله تعالى لقد كان في يوسف وإخوته أي في خير يوسف وقصة إخوته آيات أي عبر لمن سأل
عنهم فكل حال من أحواله آية وقرأ ابن كثير آية قال المفسرون وكان اليهود قد سألوا
رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا من
ذلك
وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال
أحدها الدلالة على صدق محمد صلى الله عليه و سلم حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم
ولا نظر في الكتب والثاني ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه والثالث
صدق رؤياه وصحة تأويله والرابع ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحق الأمانة والخامس
حدوث السرور بعد اليأس
فإن قيل لم خص السائلين ولغيرهم فيها آيات أيضا فعنه جوابان
أحدهما أن المعنى للسائلين وغيرهم فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم كما اكتفى بذكر
الحر من البرد في قوله تقيكم الحر النحل 81
والثاني أنه إذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية كان لغيرهم آية أيضا وإنما خص
السائلين لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر
إذ
قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين
قوله تعالى إذ قالوا يعني إخوة يوسف ليوسف وأخوه يعنون ابن يامين وإنما قيل له ابن
يامين لأن أمه ماتت نفساء ويامين بمعنى الوجع وكان أخاه لأمه وأبيه والباقون إخوته
لأبيه دون أمه
فأما العصبة فقال الزجاج هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضا
في الفعل ويتعصب بعضهم لبعض
وللمفسرين في العصبة ستة أقوال
أحدها أنها ما كان أكثر من عشرة رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أنها ما بين
العشرة إلى الأربعين روي عن ابن عباس أيضا وبه قال قتادة والثالث أنها ستة أو سبعة
قاله سعيد بن جبير والرابع أنها من عشرة إلى خمسة عشر قاله مجاهد والخامس الجماعة
قاله ابن زيد وابن قتيبة والزجاج والسادس عشرة قاله مقاتل وقال الفراء العصبة عشرة
فما زاد
قوله تعالى إن أبانا لفي ضلال مين فيه ثلاثة اقوال
أحدها لفي خطأ من رايه قاله ابن زيد والثاني في شقاء قاله مقاتل والمراد به عناء
الدنيا والثالث لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا لأن نفعنا
له أعم قال الزجاج ولو نسبوه إلى الضلال في الدين كانوا كفارا إنما أرادوا إنه قدم
ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا
يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين
قوله
تعالى اقتلوا يوسف قال أبو علي قرأ ابن كثير ونافع والكسائي مبين اقتلوا بضم
التنوين لأن تحريكه يلزم لالتقاء السكانين فحركوه بالضم ليتبعوا الضمة الضمة كما
قالوا مد وظلمات وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بكسر التنوين فلم يتبعوا
الضمة كما قالوا مد ظلمات قال المفسرون وهذا قولهم بينهم أو اطرحوه أرضا قال
الزجاج نصب أرضا على إسقاط في وأفضى الفعل إليها والمعنى أو اطرحوه أرضا يبعد بها
عن أبيه وقال غيره أرضا تأكله فيها السباع
قوله تعالى يخل لكم وجه أبيكم اي يفرغ لكم من الشغل بيوسف وتكونوا من بعده أي من
بعد يوسف قوما صالحين فيه قولان أحدهما صالحين بالتوبة من بعد قتله قاله ابن عباس
والثاني يصلح حالكم عند أبيكم قاله مقاتل وفي قصتهم نكتة عجيبة وهو أنهم عزموا على
التوبة قبل الذنب وكذلك المؤمن لا ينسى التوبة وإن كان مرتكبا للخطايا قال قائل
منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين
قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب
وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه
غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون
قوله تعالى قال قائل منهم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يهوذا قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال وهب بن منبه
والسدي
ومقاتل والثاني أنه شمعون قاله مجاهد والثالث روبيل قاله قتادة وابن إسحاق فأما
غيابة الجب فقال أبو عبيدة كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة والجب الركية التي لم
تطو وقال الزجاج الغيابة كل ما غاب عنك أو غيب شيئا عنك قال المنخل ... فإن أنا
يوما غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل ...
والجب البئر التي لم تطو سميت جبا من أجل أنها قطعت قطعا ولم يحدث فيها غير القطع
من طي وما أشبهه وقال ابن عباس في غيابة الجب أي في ظلماته وقال الحسن في قعره
وقرأ نافع غيابات الجب فجعل كل منه غيابة وروى خارجة عن نافع غيابات بتشديد الياء
وقرأ الحسن وقتادة ومجاهد غيبة الجب بغرير ألف مع إسكان الياء وأين كان هذا الجب
فيه قولان
أحدهما بأرض الأردن قاله وهب وقال مقاتل هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل
يعقوب والثاني ببيت المقدس قاله قتادة
قوله تعالى يلتقطه بعض السيارة قال ابن عباس يأخذه بعض من يسير إن كنتم فاعلين أي
إن أضمرتم له ما تريدون وأكثر القراء قرؤوا يلتقطه بالياء وقرأ الحسن وقتادة وابن
أبي عبلة بالتاء قال الزجاج وجميع النحويين يجيزون ذلك لأن بعض السيارة سيارة
فكأنه قال تلتقطه سيارة بعض السيارة وقال ابن الأنباري من قرأ بالتاء فقد أنث فعل
بعض وبعض مذكر وإنما فعل ذلك حملا على المعنى إذ التأويل تلتقطه السيارة قال
الشاعر ... رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
أراد
رأت السنين وقال الآخر ... طول الليالي أسرعت في نقضي ... طوين طولي وطوين عرضي
...
أرادك الليالي أسرعت وقال جرير ... لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة
والجبال الخشع ...
أراد تواضعت المدينة وقال الآخر ... وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر
القناة من الدم ...
أراد كما شرقت القناة
قال المفسرون فلما عزم القوم على كيد يوسف قالوا لأبيه مالك لا تأمنا قرأ الجماعة
تأمنا بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون
المدغمة بالضم قال مكي لأن الأصل تأمننا ثم أدغمت النون الأولى وبقي الإشمام يدل
على ضمة النون الأولى والإشمام هو ضم شفتيك من غير صوت يسمع فهو بعد الإدغام وقبل
فتحه النون الثانية وابن كيسان يسمي الإشمام الإشارة ويسمى الروم إشماما والروم
صوت ضعيف يسمع خفيا وقرأ أبو جعفر تأمنا بفتح النون من غير إشمام إلى إعراب المدغم
وقرأ الحسن مالك لا تأمنا بضم الميم وقرأ ابن مقسم تأمننا بنونين
على
الأصل والمعنى مالك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا فإنه قد كبر ولا يعلم شيئا من
أمر المعاش وإنا له لناصحون فيما أشرنا به عليك أرسله معنا غدا إلى الصحراء وقال
مقاتل في الكلام تقديم وتأخير وذلك أنهم قالوا له أرسله معنا فقال إني ليحزنني أن
تذهبوا به فقالوا مالك لا تأمنا
قوله تعالى نرتع ونلعب قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو نرتع ونلعب بالنون فيهما
والعين ساكنه وافقهم زيد عن يعقوب في نرتع فحسب
وفي معنى نرتع ثلاثة أقوال
أحدها نله قاله الضحاك والثاني نسع قاله قتادة والثالث نأكل يقال رتعت الإبل إذا
رعت وأرتعتها إذا تركتها ترعى قال الشاعر ... وحبيب لي إذا لا قيته ... وإذا يخلوا
له لحمي رتع ...
أي أكله هذا قول ابن الأنباري وابن قتيبة وقرأ عاصم و حمزة والكسائي يرتع ويلعب
بالياء فيهما وجزم العين والباء يعنون يوسف وقرأ نافع نرتع بكسر العين من نرتع من
غير بلوغ إلى الياء قال ابن قتيبة ومعناها نتحارس ويرعى بعضنا بعضا أي يحفظ ومنه
يقال رعاك الله أي حفظك وقد رويت عن ابن كثير أيضا نرتعي باثبات ياء بعد العين في
الوصل والوقف وقرأ أنس وأبو رجاء نرتع بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين و نلعب
بالنون قال أبو عبيدة أي نرتع إبلنا
فأما قوله ونلعب فقال ابن عباس نلهو
فإن
قيل كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذكر اللعب
فالجواب من وجهين أحدهما أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء قاله أبو عمرو ابن العلاء
والثاني أنهم عنوا مباح اللعب قاله الماوردي
قوله تعالى إني ليحزنني أن تذهبوا به أي يحزنني ذهابكم به لأنه يفارقني فلا أراه
وأخاف أن يأكله الذئب قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة الذئب
بالهمز في الثلاثة المواضع وقرأ الكسائي وأبو جعفر وشيبة بغير همز قال أبو علي
الذئب مهموز في الأصل يقال بذاءيت الريح إذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب
وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال
أحدها أنه رأى في منامة أن الذئب شد على يوسف قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني
أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب قاله مقاتل والثالث أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب
قاله الماوردي
قوله تعالى وأنتم عنه غافلون فيه قولان
أحدهما غافلون في اللعب والثاني مشتغلون برعيتكم
قوله تعالى لئن أكله الذئب ونحن عصبة أي جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه إنا
إذا لخاسرون أي عاجزون قال ابن الأنباري ومن قرأ عصبة بالنصب فتقديره ونحن نجتمع
عصبة فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم
هذا وهم لا يشعرون
قوله تعالى فلما ذهبوا به في الكلام اختصار وإضمار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا
وأجمعوا أي عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب
الإشارة
إلى قصة ذهابهم
قال المفسرون قالوا ليوسف أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد قال بلى قالوا فسل
أباك أن يرسلك معنا قال أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا يا أبانا إن يوسف
قد أحب أن يخرج معنا فقال ما تقول يا بني قال نعم يا أبت قد أرى من إخوتي اللين
واللطف فأنا أحب أن تأذن لي فأرسله معهم فلما أصحروا أظهروا له ما في أنفسهم من
العداوة وأغلظوا له القول وجعل يلجأ إلى هذا فيضربه وإلى هذا فيؤذيه فلما فطن لما
قد عزموا عليه جعل ينادي يا أبتاه يا يعقوب لو رأيت يوسف وما ينزل به من إخوته
لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاءا
شديدا قال الضحاك عن ابن عباس فأخذه روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد
قتله فقال له يوسف مهلا يا أخي لا تقتلني قال يا ابن راحيل صاحب الأحلام قل لرؤياك
تخلصك من أيدينا ولوى عنقه ليكسرهها فنادى يوسف يا يهوذا اتق الله في وخل بيني
وبين من يريد قتلي فأدركته له رحمه فقال يهوذا يا إخوتاه ألا أدلكم على أمر هو خير
لكم وأرفق به قالوا وما ذاك قال تلقونه في هذا الجب فيلتقطه بعض السيارة قالوا
نفعل فانطلفوا به إلى الجب فخلعوا قميصه فقال يا إخوتاه لم نزعتم قميصي ردوه علي
أستر به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي فأخرج الله له حجرا في البئر مرتفعا من
الماء فاستقرت عليه قدماه وقال السدي جعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر
فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا إخوتاه
ردوا
علي قيمصي أتوارى به فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فدلوه في الئر حتى
إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة
فيها فقام عليها فلما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم
فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام وقال كعب
جمعوا يديه إلى عنقه ونزعوا قميصه فبعث الله إليه ملكا فحل عنه وأخرج له حجرا من
الماء فقعد عليه وكان يعقوب قد أدرج قميص إبراهيم الذي كساه الله إياه يوم ألقي في
النار في قصبة وجعلها في عنق يوسف فألبسه إياه الملك حينئذ وأضاء له الجب وقال
الحسن ألقي في الجب فعذب ماؤه فكان يغنيه عن الطعام والشراب ودخل عليه جبريل فأنس
به فلما أمسى نهض جبريل ليذهب فقال له يوسف إنك إذا خرجت عني استوحشت فقال إذا
رهبت شيئا فقل يا صريخ المستصرخين وياغوث المستغيثنين ويا مفرج كرب المكروبين قد
ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها حفته الملائكة فاستأنس
في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حول الجب وقال محمد بن مسلم الطائفي
لما ألقي يوسف في الجب قال يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير
مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه قال فما بات فيه
وفي مقدار سنة حين ألقي في الجب أربعة أقوال
أحدها
اثنتا عشرة سنة قاله الحسن والثاني ست سنين قاله الضحاك والثالث سبع عشرة قاله ابن
السائب وروي عن الحسن ايضا والرابع ثمان عشرة
قوله تعالى وأوحينا إليه فيه قولان 191
أحدهما أنه إلهام قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني أنه وحي حقيقة
قال المفسرون أوحي إليه لتخبرن إخوتك بأمرهم أي بما صنعوا بك وأنت عال عليهم
وفي قوله وهم لا يشعرون قولان
أحدهما لا يشعرون أنك يوسف وقت إخبارك لهم قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال
مقاتل
والثاني لا يشعرون بالوحي قاله مجاهد وقتادة وابن زيد فعلى الأول يكون الكلام من
صلة لتنبئنهم وعلى الثاني من صلة وأوحينا إليه قال حميد قلت للحسن أيحسد المؤمن
المؤمن قال لا أبالك ما نساك بني يعقوب وجاؤا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا
ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين
قوله تعالى وجاؤوا أباهم عشاء يبكون وقرأ أبو هريرة والحسن وابن السميفع والأعمش
عشاء بضم العين
قال المفسرون جاؤوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار بالكذب فلما
سمع صوتهم فزع وقال مالكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا لا قال فما اصابكم
وأين يوسف قالوا يا ابانا إنا ذهبنا نستبق وفيه ثلاثة أقوال
أحدها ننتضل قاله ابن عباس وابن قتيبة قال والمعنى يسابق بعضنا
بعضا
في الرمي والثاني نشتد قاله السدي والثالث نتصيد قاله مقاتل فيكون المعنى على
الأول نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهما وعلى الثاني نستبق على الأقدام وعلى
الثالث للصيد
قوله تعالى وتركنا يوسف عند متاعنا أي ثيابنا وما أنت بمؤمن لنا أي يمصدق
وفي قوله ولو كنا صادقين قولان
أحدهما أن المعنى وإن كنا قد صدقنا قاله ابن إسحاق والثاني لو كنا عندك من أهل
الصدق لا تهمتنا في يوسف لمحبتك إيان وظننت أنا قد كذبناك قاله الزجاج وجاؤ على
قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
قوله تعالى وجاؤوا على قيصه بدم كذب قال اللغويون معناه بدم مكذوب فيه والعرب تجعل
المصدر في كثير من الكلام مفعولا فيقولون للكذب مكذوب وللعقل معقول وللجلد مجلود
قال الشاعر ... حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا ...
أراد عقلا وقال الآخر ... قد والذي سمك السماء بقدره ... بلغ العزاء وأدرك المجلود
...
يريد أدرك الجلد ويقولون ليس لفلان عقد رأي ولا معقود رأي ويقولون هذا ماء سكب يريدون
مسكوبا وهذا شراب صب يريدون مصبوبا
وماء
غور يعنون غائرا ورجل صوم يريدون صائما وامرأة نوح يريدون نائحة وهذا الكلام مجموع
قول الفراء والأحفش والزجاج وابن قتيبة في آخرين
قال ابن عباس أخذوا جديا فذبحوه ثم غمسوا قميص يوسف في دمه وأتوه به وليس فيه خرق
فقال كذبتم لو كان أكله الذئب لخرق القميص وقال قتادة كان دم ظبية وقرأ ابن أبي
عبلة بدم كذبا بالنصب وقرأ ابن عباس والحسن وأبو العالية بدم كذب بالدال غير معجمة
أي بدم طري
قوله تعالى بل سولت أي زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون فصبر جميل قال الخليل
المعنى فشأني صبر جميل والذي أعتقده صبر جميل وقال الفراء الصبر مرفوع لأنه عزى
نفسه وقال ما هو إلا الصبر ولو أمرهم بالصبر لكان نصبا وقال قطرب المعنى فصبري صبر
جميل وقرأ ابن مسعود وأبي وأبو المتوكل فصبرا جميلا بالنصب قال الزجاج والصبر
الجميل لا جزع فيه ولا شكوى إلى الناس
قوله تعالى والله المستعان على ما تصفون فيه قولان
أحدهما على ما تصفون من الكذب والثاني على احتمال ما تصفون وجاءت سيارة فأرسلوا
واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون
قوله تعالى وجاءت سيارة أي قوم يسيرون فأرسلوا واردهم قال الأخفش أنث السيارة وذكر
الوارد لأن السيارة في المعنى للرجال وقال الزجاج الوارد الذي يرد الماء ليستقي
للقوم
وفي
اسم هذا الوارد قولان
أحدهما مالك بن ذعر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني مجلث بن رعويل قاله وهب بن منبه
قوله تعالى فأدلى دلوه أي أرسلها قال الزجاج يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها لتملأها
ودلوتها إذا أخرجتها قال يا بشراي قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر يا
بشراي بفتح الياء وإثبات الألف وروى ورش عن نافع بشراي و محياي الأنعام 162 و
مثواي يوسف 23 بسكون الياء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يا بشرى بألف بغير ياء وعاصم
بفتح الراء وحمزة والكسائي يميلانها قال الزجاج من قرأ يا بشراي فهذا النداء
لتنبيه للمخاطبين لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل فالمعنى أبشروا ويا أيها البشرى هذا
من أوانك وكذلك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا ويا أيها العجب هذا من حينك وقد
شرحنا هذا المعنى هود 69 و 74
فأما قراءة من قرأ يا بشرى فيجوز أن يكون المعنى يا من حضر هذه بشرى ويجوز أن يكون
المعنى يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين وذكر السدي أنه نادى
بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى وقال ابن الأنباري يجوز فيه هذه الأقوال ويجوز أن يكون
اسم امرأة وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة يا بشري بتشديد الياء وفتحها من غير ألف
قال ابن عباس لما أدلى دلوه تعلق يوسف بالحبل فنظر إليه فإذا غلام أحسن ما يكون من
الغلمان فقال لأصحابه البشرى فقالوا ما وراءك قال هذا غلام في البئر فأقبلوا
يسألونه الشركة فيه واستخرجوه من الجب
فقال
بعضهم لبعض اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألونكم الشركة فيه فإن قالوا ما هذا فقولوا
استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر
فنظروا فإذا هم بالقوم ومعهم يوسف فقالوا لهم هذا غلام أبق منا فقال مالك بن ذعر
فأنا أشتريه منكم فباعوه بعشرين درهما وحلة ونعلين واسره مالك بن ذعر من أصحابه
وقال استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر
قوله تعالى واسروه بضاعة قال الزجاج بضاعة منصوب على الحال كأنه قال وأسروه جاعليه
بضاعة وقال ابن قتيبة أسروا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة في الفاعلين لذاك قولان
أحدهما أنهم واردوا الجب أسروا ابتياعه عن باقي أصحابهم وتواصوا أنه بضاعة
استبضعهم إياها أهل الماء وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثاني أنهم إخوته أسروا أمره وباعوه وقالوا هو بضاعة لنا وهذا المعنى مروي عن
ابن عباس أيضا
قوله تعالى والله عليم بما يعملون يعم الباعة والمشترين وشروه بثمن بخس دراهم
معدودة وكانوا فيه من الزاهدين
قوله
تعالى وشروه هذا حرف من حروف الأضداد تقول شريت الشيء بمعنى بعته وشريته يمعنى
اشتريته فإن كان بمعنى باعه ففيهم قولان
أحدهما أنهم إخوته وهو قول الأكثرين
والثاني أنهم السيارة ولم يبعه إخوته قاله الحسن وقتادة وإن كان بمعنى اشتروه
فإنهم السيارة
قوله تعالى بثمن بخس فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحرام قاله ابن عباس والضحاك وقتادة في آخرين
والثاني أنه القليل قاله عكرمة والشعبي قال ابن قتيبة البخس الخسيس الذي بخس به
البائع
والثالث الناقص وكانت الدراهم عشرين درهما في العدد وهي تنقص عن عشرين في الميزان
قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى دراهم معدودة قال الفراء إنما قيل معدودة ليستدل بها على القلة وقال
ابن قتيبة أي يسيرة سهل عددها لقلتها فلو كانت كثيرة لثقل عددها وقال ابن عبسا
كانوا في ذلك الزمان لا يزنون أقل من أريعين درهما وقيل إنما لم يزنوها لزهدهم فيه
وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال
أحدها عشرون درهما قاله ابن مسعود وابن عباس في رواية وعكرمة في رواية ونوف الشامي
ووهب بن منبه والشعبي وعطية والسدي ومقاتل في آخرين
والثاني عشرون درهما وحلة ونعلان روي عن ابن عباس أيضا
والثالث
اثنان وعشرون درهما رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والرابع أربعون درهما قاله عكرمة في رواية وابن إسحاق
والخامس ثلاثون درهما ونعلان وحلة وكانوا قالوا له بالعبرانية إما أن تقر لنا
بالعبودية وإما أن نأخذك منهم فنقتلك قال بل أقر لكم بالعبودية ذكره إسحاق بن بشر
عن بعض أشياخه
قال المفسرون اقتسموا ثمنه فاشتروا به نعالا وخفافا
وكان بعض الصالحين يقول والله ما يوسف وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيعك نفسك
بشهوة ساعة من معاصيك
قوله تعالى وكانوا فيه من الزاهدين الزهد قلة الرغبة في الشيء
وفي المشار إليهم قولان أحدهما أنهم إخوته قاله ابن عباس فعلى هذا في هاء فيه
قولان
أحدهما أنها ترجع إلى يوسف لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله الضحاك وابن
جريج والثاني أنها ترجع إلى الثمن وفي علة زهدهم قولان أحدهما ردائته والثاني أنهم
قصدوا بعد يوسف لا الثمن
والثاني أنهم السيارة الذين اشتروه
وفي علة زهدهم ثلاثة أقوال أحدها أنهم ارتابوا لقلة ثمنه والثاني أن إخوته وصفوه
عندهم بالخيانة والإباق والثالث أنهم علموا أنه حر وقال الذين اشتريه من مصر
لامرأته أكرمي مثويه عسى أن يفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض
ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
قوله
تعالى وقال الذي اشتراه من مصر قال وهب لما ذهبت به السيارة إلى مصر وقفوه في
سوقها يعرضونه للبيع فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا ووزنه ورقا
ووزنه حريرا فاششتراه بذلك الثمن رجل يقال له قطفير وكان أمين فرعون وخازنه وكان
مؤمنا وقال ابن عباس إنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين دينارا وزوجي نعل
وثوبين أبيضين فلما رجع إلى منزله قال لامرأته أكرمي مثواه وقال قوم اسمه أطفير
وفي اسم المرأة قولان أحدهما رعاييل بنت عايبل قاله ابن إسحاق والثاني أزليخا بنت
تمليخا قاله مقاتل قال ابن قتيبة أكرمي مثواه يعني أكرمي منزله ومقامه عندك من
قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به وقال الزجاج أحسني إليه في طول مقامه عندنا قال ابن
مسعود أفرس الناس ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن
ينفعنا وابنة شعيب حين قالت يا أبت استأجره القصص 26 وأبو بكر حين استخلف عمر
وفي قوله عسى أن ينفعنا قولان
أحدهما يكفينا إذا بلغ أمورنا والثاني بالربح في ثمنه
قوله تعالى أو نتخذه ولدا قال ابن عباس نتبناه وقال غيره لم يكن لهما ولد وكان
العزيز لا يأتي النساء
قوله تعالى وكذلك مكنا ليوسف أي وكما أنجيناه من إخوته وأخرجناه من ظلمة الجب مكنا
له في الأرض أي ملكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها ولنعلمه قال ابن الأنباري
إنما دخلت الواو في ولنعلمه لفعل مضمر هو المجتلب للام والمعنى مكنا ليوسف في
الأرض واختصصناه
بذلك
لكي نعلمه من تأويل الأحاديث وقد سبق تفسير تأويل الأحاديث يوسف 6 والله غالب على
أمره في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله فالمعنى أنه غالب على ما أراد من قضائه وهذا معنى قول
ابن عباس
والثاني أنها ترجع إلى يوسف فالمعنى غالب على أمر يوسف حتى يبلغه ما أراده له وهذا
معنى قول مقاتل وقال بعضهم والله غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف أن لا يقص
رؤياه على إخوته فعلموا بها ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوه فكادوه ثم أراد إخوة يوسف
قتله فلم يقدر لهم ثم أرادوا أن يلتقطه بعض السيارة فنيدرس أمره فعلا أمره ثم
باعوه ليكون مملوكا فغلب أمره حتى ملك وأرادوا أن يعطفوا أباهم فأباهم ثم أرادوا
أن يغروا يعقوب بالبكاء والدم الذي ألقوه على القميص فلم يخف عليه ثم أرادوا أن
يكونوا من بعده قوما صالحين فنسوا ذنبهم إلى أن أقروا به بعد سنين فقالوا إنا كنا
خاطئين يوسف 97 ثم أرادوا أن يمحوا محبته من قلب أبيه فازدادت ثم أرادت أزليخا أن
تلقي عليه التهمة بقولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءا يوسف 25 فغلب أمره حتى شهد
شاهد من أهلها وأراد يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فنسي الساقي حتى لبث في
السجن بضع سنين ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين
قوله تعالى ولما بلغ أشده قد ذكرنا معنى الأشد في الأنعام 152
واختلف
العلماء في المراد به هاهنا علىثمانية أقوالأحدها أنه ثلاث وثلاثون سنة رواه عسد
بن جبير عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة والثاني ثماني عشرة سنة قاله أبو صالح
عن ابن عباس وبه قال عكرمة والثالث أربعون سنة قاله الحسن والرابع بلوغ الحلم قاله
الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم وابنه والخامس عشرون سنة قاله الضحاك والسادس أنه من نحو
سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين قاله الزجاج والسابع أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة
حكاه ابن قتيبة والثامن ثلاثون سنة ذكره بعض المفسرين
قوله تعالى آتيناه حكما فيه أربعة أقوال
أحدها أنه الفقه والعقل قاله مجاهد والثاني النبوة قاله ابن السائب والثالث أنه
جعل حكيما قاله الزجاج قال وليس كل عالم حكيما إنما الحكيم العالم المستعمل علمه
الممتنع به من استعمال ما يجهل فيه والرابع أنه الإصابة في القول ذكره الثعلبي قال
اللغويون الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ ويمنع منهما ويرد النفس عما
يشينها ويعود عليها بالضرر ومنه حكمة الدابة وأصل أحكمت في اللغة منعت وسمي الحاكم
حاكما لأنه يمنع من الظلم والزيغ
وفي
المراد بالعلم هاهنا قولان أحدهما الفقه والثاني علم الرؤيا
قوله تعالى وكذلك نجزي المحسنين أي ومثل ما وصفنا من تعلم يوسف وحراسته نثيب من
أحسن عمله واجتنب المعاصي فننجيه من الهلكة ونستنفذه من الضلالة فنجعله من أهل
العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف
وفي المراد بالمحسنين هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها الصابرون على النوائب والثاني المهتدون رويا عن ابن عباس والثالث المؤمنون
قال محمد بن جرير هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله
عليه و سلم والمعنى كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من البلاء فمكنته في الأرض وآتيته
العلم كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت
الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون
قوله تعالى وراودته التي هو في بيتها عن نفسه أي طلبت منه المواقعة وقد سبق اسمها
قال الزجاج المعنى راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال وقالت هيت لك قرأ
ابن كثير هيت لك بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء وقرأ نافع وابن عامر هيت لك
بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء وهي مروية عن علي بن أبي طالب وروى الحلواني
عن هشام عن ابن عامر مثله إلا أنه همزه قال أبو علي الفارسي هو خطأ وروي عن ابن
عامر هئت لك بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء وهي قراءة ابن عباس وأبي الدرداء
وقتادة قال الزجاج هو من الهيئة كأنها قالت تهيأت لك وعن ابن محيصن وطلحة بن مصرف
مثل قراءة ابن عباس
إلا
أنها بغير همز وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء وهي قراءة أبي رزين وحميد وعن
الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز وهي قراءة أبي العالية وقرأ ابن خثيم
مثله إلا أنه لم يهمز وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز
وقرأ ابن مسعود وابن السميفع وابن يعمر والجحدري هيئت لك برفع الهاء والتاء وبياء
مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة وقرأ أبي بن كعب ها أنا لك وقرأ الباقون بفتح الهاء
والتاء بغير همز قال الزجاج وهو أجود اللغات وأكثرها في كلام العرب ومعناها هلم لك
أي أقبل على ما أدعوك إليه وقال الشاعر ... أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا
أتيتا ...
... أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا ...
أي فأقبل وتعال وقال ابن قتيبة يقال هيت فلان لفلان إذا دعاه وصاح به قال الشاعر
... قد رابني أن الكري أسكتا ... لو كان معنيا بها لهيتا ...
أي صار ذا سكوت واختلف العلماء في قوله هيت لك بأي لغة هي على أربعة أقوال
أحدها أنها عربية قاله مجاهد وقال ابن الأنباري وقد قيل إنها من كلام
قريش
إلا أنها مما درس وقل في أفواههم آخرا فأتى الله به لأن أصله من كلامهم وهذه
الكلمة لا مصدر لها ولا تصرف ولا تثنية ولا جمع ولا تأنيث يقال للاثنين هيت لكما
وللجميع هيت لكم وللنسوة هيت لكن
والثاني أنها بالسريانية قاله الحسن
والثالث بالحورانية قاله عكرمة والكسائي وقال الفراء يقال إنها لغة لأهل حوران
سقطت إلى أهل مكة فتكلموا بها
والرابع أنها بالقبطية قاله السدي
قوله تعالى قال معاذ الله قال الزجاج هو مصدر والمعنى أعوذ بالله أن أفعل هذا يقال
عذت عياذا ومعاذا ومعاذة إنه ربي أي إن العزيز صاحبي أحسن مثواي قال ويجوز أن يكون
إنه ربي يعني الله عز و جل أحسن مثواي أي تولاني في طول مقامي
قوله تعالى إنه لا يفلح الظالمون أي إن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا
ظالم وقيل الظالمون هاهنا الزناة ولقد همت به وهم بها لولا أن رآ برهان ربه كذلك
لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
قوله تعالى ولقد همت به الهم بالشيء في كلام العرب حديث المرء نفسه بمواقعته مالم
يواقع فأما هم أزليخا فقال المفسرون دعته إلى نفسها واستلقت له واختلفوا في همه
بها على خمسة أقوال
أحدها أنه كان من جنس همها فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل وإلى هذا المعنى ذهب
الحسن وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وهو قول
عامة المفسرين المتقدمين واختاره من المتاخرين جماعة منهم ابن جرير وابن الأنباري وقال ابن قتيبة لا يجوز في اللغة هممت بفلان وهم بي وأنت تريد اختلاف الهمين واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه قالوا ورجوعه عما هم به من ذلك خوفا من الله تعالى يمحو عنه سيء الهم ويوجب له علو المنازل ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار فانطبقت عليهم صخرة فقالوا ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله فقال أحدهم اللهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلا بمائة دينار فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أرعدت وقالت إن هذا لعمل ما عملته قط فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فزال ثلث الحجر والحديث معروف وقد ذكرته في الحدائق فعلى هذا نقول إنما همت فترقت همتها إلى العزيمة فصارت مصرة على الزنا فأما هو فعارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب وحديث النفس من غير عزم فلم يلزمه هذا الهم ذنبا فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه وقد قال صلى الله عليه و سلم عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل وقال صلى الله عليه و سلم هلك المصرون وليس
الإصرار
إلا عزم القلب فقد فرق بين حديث النفس وعزم القلب وسئل سفيان الثوري أيؤاخذ العبد
بالهمة فقال إذا كانت عزما ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
أنه قال يقول الله تعالى إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها
كتبتها عليه سيئة واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة وإنما
كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله قال معاذ الله إنه ربي وقوله كذلك لنصرف عنه السوء
والفحشاء وكل ذلك إخبار ببراءة ساحتة من العزيمة على المعصية
فإن قيل فقد سوى القرآن بين الهمتين فلم فرقتم
فالجواب أن الاستواء وقع في بداية الهمة ثم ترقت همتها إلى العزيمة بدليل مراودتها
واستلقائها بين يديه ولم تتعد همته مقامها بل نزلت عن رتبتها وانحل معقودها بدليل
هربه منها وقوله معاذ الله وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم ولا
يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل فإنه لو كان هذا دل
على العزم والأنبياء معصومون من العزم على الزنا
والقول الثاني أنها همت به أن يفترشها وهم بها أي تمناها أن تكون له زوجة رواه
الضحاك عن ابن عباس
والقول الثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره ولقد همت به ولولا أن رأى برهان
ربه لهم بها فلما رأى البرهان لم يقع منه الهم فقدم جواب لولا عليها كما يقال قد
كنت من الهالكين لولا أن فلانا خلصك لكنت من الهالكين ومنه قول الشاعر
فلا
يدعني قومي صريحا لحرة ... لئن كنت مقتولا وتسلم عامر ...
أراد لئن كنت مقتولا وتسلم عامر فلا يدعني قومي فقدم الجواب وإلى هذا القول ذهب
قطرب وأنكره قوم منهم ابن الأنباري وقالوا تقديم جواب لولا عليها شاذ مستكره لا يوجد
في فصيح كلام العرب فأما البيت المستشهد به فمن اضطرار الشعراء لأن الشاعر يضيق
الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره فيضع الكلمة في غير موضعها ويقدم ما حكمه
التأخير ويؤخر ما حكمه التقديم ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضرورة قال الشاعر
... جزى ربه عني عدي بن حاتم ... بتركي وخذلاني جزاء موفرا ...
تقديره جزى عني عدي بن حاتم ربه فاضطره إلى تقديم الرب وقال الآخر ... لما جفا
إخوانه مصعبا ... أدى بذلك البيع صاعا بصاع ...
أراد لما جفا مصعبا إخوانه وأنشد الفراء ... طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعدما ...
تتقطعت بي دونك الأسباب ...
فزاد تاء على تقطعت لا أصل لها ليصلح ون شعره وأنشد ثعلي ... إن شكلي وإن شكلك شتى
... فالزمي الخفض وانعمي تبيضضي ... فزاد ضادا لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت وقال
الفرزدق ... هما تفلا في في من فمويهما ... على النابح العاوي أشد لجاميا ...
فزاد واوا بعد الميم ليصلح شعره ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل
بالفصاحة لأنها من ضرورات الشعراء
والقول الرابع أنه هم أن يضربها ويدفعها عن نفسه فكان البرهان الذي
رآه
من ربه أن الله أوقع في نفسه إن ضربها كان ضربه كان ضربه إياها حجة عليه لأنها تقول
راودني فمنعته فضربني ذكره ابن الأنباري
والقول الخامسس أنه هم بالفرار منها حكاه الثعلبي وهو قول مرذول أفتراه أراد
الفرار منها فلما رأى البرهان أقام عندها قال بعض العلماء كان هم يوسف خطيئة من
الصغائر الجائزة على الأنبياء وإنما ابتلاهم بذلك ليكونوا علىخوف منه وليعرفهم
مواقع نعمته في الصفح عنهم وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة قال الحسن إن
الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعبيرا لهم ولكن لئلا تقنطوا من رحمته
يعني الحسن أن الحجة للأنبياء ألزم فإذا قبل التوبة منهم كان إلى قولها منكم أسرع
وروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من أحد يلقى الله تعالى إلا وقد
هم بخطيئة أو عملها إلى يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها
قوله تعالى لولا أن رأى برهان ربه جواب لولا محذوف قال الزجاج المعنى لولا أن رأى
برهان ربه لأمضى ما هم به قال ابن الأنباري لزنا فلما رأى البرهان كان سبب انصراف
الزنا عنه
وفي البرهان ستة أقوال
أحدها أنه مثل له يعقوب روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال نودي يا يوسف أتزني
فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم
يستطع
فلم يعط على النداء شيئا فنودي الثانية فلم يعط على النداء شيئا فتمثل له يعقوب
فضرب صدره فقام فخرجت شهوته من أنامله وروى الضحاك عن ابن عباس قال رأى صورة أبيه
يعقوب في وسط البيت عاضا على أنامله فأدبر هاربا وقال وحقك يا أبت لا أعود أبدا
وقال أبو صالح عن ابن عباس رأى مثال يعقوب في الحائط عاضا على شفتيه وقال الحسن مثل
له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضا على إبهامه أو بعض أصابعه وإلى هذا
المعنى ذهب مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وابن سيرين والضحاك في آخرين وقال
عكرمة كل ولد يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا
فنقص بتلك الشهوة ولدا
والثاني أنه جبريل عليه السلام روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال مثل له يعقوب
فلم يزدجر فنودي أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في
ظهره فوثب
والثالث أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب فقال لها يوسف أي شيء
تصنعين قالت استحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة فقال أتستحين من صنم لا
يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فهو البرهان الذي رأى
قاله علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين والضحاك
والرابع أن الله بعث إليه ملكا فكتب في وجه المرأة بالدم ولا تقربوا الزنا إنه كان
فاحشة وساء سبيلا قاله الضحاك عن ابن عباس وروي عن محمد ابن كعب القرظي أنه رأى
هذه الآية مكتوبة بين عينيها وفي رواية أخرى عنه
أنه
رآهامكتوبة في الحائط وروى مجاهد عن ابن عباس قال بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد
ولا معصم وفيها مكتوب ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا الاسراء 32 فقام
هاربا وقامت فلما ذهب عنها الرعب عادت وعاد فلما قعد إذا بكف قد بدت فيما بينهما
فيها مكتوب واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله البقرة 281 فقام هاربا فلما عاد قال
الله تعالى لجبرئيل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عاضا على كفه أو
أصبعه وهو يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء وقال
وهب بن منبه ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أفمن هو قائم على كل نفس بما
كسبت فانصرفا فلما عادا رجعت وعليها مكتوب وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين
الأنفطار 11 12 فانصرفا فلما عادا عادت وعليها مكتوب ولا تقربوا الزنا الآية فعاد
فعادت الرابعة وعليها مكتوب واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فولى يوسف هاربا
الخامس أنه سيده العزيز دنا من الباب رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم وقال ابن
إسحاق يقال إن البرهان خيال سيده رآه عند الباب فهرب
والسادس أن البرهان أنه علم ما أحل الله مما حرم الله فرأى تحريم الزنا روي عن
محمد بن كعب القرظي قال ابن قتيبة رأى حجة الله عليه وهي البرهان وهذا هو القول
الصحيح وما تقدمه فليس بشيء وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص وقد أشرت إلى فسادها
في كتاب المغني في التفسير
وكيف
يظن بنبي لله كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر هذا غاية
القبح
قوله تعالى كذلك أي كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه السوء وهوخيانة صاحبه والفحشاء
ركوب الفاحشة إنه من عبادنا المخلصين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام
والمعنى إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام
أرادوا من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش وبعض المفسرين يقول السوء الزنى
والفحشاء المعاصي واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما
جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد
شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من
دبر فكذبت وهو من الصادقين
قوله تعالى واستبقا الباب يعني يوسف والمرأة تبادرا إلى الباب يجتهد
كل
واحد منهما أن يسبق صاحبه وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج وأرادت هي إن سبقت
إمساك الباب لئلا يخرج فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها فقدت قميصه من
دبر أي قطعته من خلفه لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له قال المفسرون قطعت قميصه
نصفين فلما خرجا ألفيا سيدها أي صادفا زوجها عند الباب فحضرها في ذلك الوقت كيد
فقالت سابقة بالقول مبرئة لنفسها من الأمر ما جزاء من أراد بأهلك سوءا قال ابن
عباس تريد الزني إلا أن يسجن أي ما جزاؤه إلا السجن أو عذاب أليم تعني الضرب
السياط فغضب يوسف حينئذ وقال هي راودتني وقال وهب ابن منبه قال له العزيز حينئذ
اخنتني يا يوسف في أهلي وغدرت بي وغررتني بما كنت أرى من صلاحك فقال حينئذ هي
راودتني عن نفسي
قوله تعالى وشهد شاهد من أهلها وذلك أنه لما تعارض قولاهما احتاجا إلى شاهد يعل به
قول الصادق
وفي ذلك الشاهد ثلاثة أقوال
أحدها أنه كان صبيا في المهد رواه عكرمة عن ابن عباس وشهر بن حوشب عن أبي هريرة
وبه قال سعيد بن جبير والضحاك وهلال بن يساف في آخرين
والثاني أنه كان من خاصة الملك رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس وقال أبو صالح عن
ابن عباس كان ابن عم لها وكان رجلا حكيما فقال قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء
الباب فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة وهو كاذب وإن كان من خلفه فهو صادق
وأنت كاذبة وقال بعضهم كان ابن خالة المرأة
والثالث
أنه شق القميص رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وفيه ضعف لقوله من أهلها
فإن قيل كيف وقعت شهادة الشاهد هاهنا معلقة بشرط والشارط غير عالم بما يشرطه
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري
أحدهما أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا فعلم غير أنه
أوقع في شهادته شرطا ليلزم المخاطبين قبول شهادته من جهة العقل والتمييز فكأنه قال
هو الصادق عندي فإن تدبر تم ما اشترطه لكم عقلتم قولي ومثل هذا قول الحكماء إن كان
القدر حقا فالحرص باطل وإن كان الموت يقينا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق
والجواب الثاني أن الشاهد لم يقطع بالقول ولم يعلم حقيقة ما جرى وإنما قال ما قال
على جهة إظهار ما يسنح له من الرأي فكان معنى قوله وشهد شاهد أعلم وبين فقال الذي
عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقف على الخائن فهذان الجوابان يدلان على أن
المتكلم رجل فإن قلنا إنه صبي في المهد كان دخول الشرط مصححا لبراءة يوسف لأن كلام
مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شك فلما رآ قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن
كيدكن عظيم
قوله تعالى فلما رأى قميصه في هذا الرائي والقائل إنه من كيدكن قولان
أحدهما أنه الزوج والثاني الشاهد
وفي هاء الكناية في قوله إنه من كيدكن ثلاثة أقوال
أحدها
أنها ترجع إلى تمزيق القميص قاله مقاتل
والثاني إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءا فالمعنى قولك هذا من كيدكن قاله
الزجاج
والثالث إلى السوء الذي دعته إليه ذكره الماوردي قال ابن عباس إن كيدكن أي عملكن
عظيم تخلطن البريء والسقيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين
وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتيها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنريها
في ضلال مبين
قوله تعالى يوسف أعرض عن هذا المعنى يا يوسف أعرض
وفي القائل له هذا قولان
أحدهما أنه ابن عمها وهو الشاهد قاله ابن عباس
والثاني أنه الزوج ذكره جماعة من المفسرين قال ابن عباس أعرض عن هذا الأمر فلا
تذكره لأحد واكتمه عليها وروى الحلبي عن عبد الوراث يوسف أعرض عن هذا بفتح الراء
على الخبر
قوله تعالى واستغفري لذنبك فيه قولان
أحدهما استعفي زوجك لئلا يعاقبك قاله ابن عباس
والثاني توبي من ذنبك فإنك قد أثمت
وفي القائل لهذا قولان أحدهما ابن عمها والثاني الزوج
قوله تعالى إنك كنت من الخاطئين يعني من المذنبين قال المفسرون ثم شاع ذلك الحديث
في مصر حتى تحدث بذلك النساء وهو قوله وقال نسوة في المدينة وفي عددهن قولان
أحدهما
أنهن كن أربعا امرأة ساقي الملك وامرأة صاحب دوانه وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه
قاله ابن عباس
والثاني أنهن خمس امرأة الخباز وامرأة الساقي وامرأة السجان وامرأة صاحب الدواة
وامرأة الآذن قاله مقاتل
فأما العزيز فهو بلغتهم الملك والفتى بمعنى العبد قال الزجاج كانوا يسمون المملوك
فتى وإنما تكلم النسوة في حقها طعنا فيها وتحقيقا لبراءة يوسف
قوله تعالى قد شغفها حبا أي بلغ حبه شغاف قلبها
وفي الشغاف أربعة أقوال
أحدها أنه جلدة بين القلب الفؤاد رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني أنه غلاف القلب قاله أبو عبيدة قال ابن قتيبة ولم يرد الغلاف إنما أراد
القلب يقال شغفت فلانا إذا أصبت شغافه كما يقال كبدته إذا أصبت كبده وبطنته إذا
أصبت بطنه
والثالث أنه حبة القلب وسويداؤه
والرابع أنه داء يكون في الجوف في الشراسيف وأنشدوا ... وقد حال هم دون ذلك داخل
... دخول الشغاف تبتغيه الأصابع ...
ذكر القولين الزجاج وقال الأصمعي الشغاف عند العرب داء يكون تحت الشراسيف في
الجانب الأيمن من البطن والشراسيف مقاط رؤوس الأضلاع
واحدها
شرسوف
وقرأ عبد الله بن عمرو وعلي بن الحسين والحسن البصري ومجاهد وابن محيصن وابن أبي
عبلة قد شعفها بالعين قال الفراء كأنه ذهب بها كل مذهب والشعف رؤوس الجبال
قوله تعالى إنا لنراها في ضلال مبين أي عن طريق الرشد لحبها إياه والمبين الظاهر
فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت
اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا
ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما
آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين
قوله تعالى فلماسمعت يعني امرأة العزيز بمكرهن وفيه قولان
أحدهما أنه قولهن وعيبهن لها قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن قتيبة قال الزجاج
وإنما سمي هذا القول مكرا لأنها كانت أطلعتهن على أمرها واستكتمتهن فمكرن وأفشين
سرها
والثاني أنه مكر حقيقة وإنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف قاله ابن إسحاق
قوله تعالى وأعتدت قال الزجاج أفعلت من العتاد وكل ما اتخذته عدة لشيء فهو عتاد
والعتاد الشيء الثابت اللازم وقال ابن قتيبة أعتدت بمعنى أعدت فأما المتكأ ففيه
ثلاثة اقوال
أحدها
أنه المجلس فالمعنى هيأت لهن مجلسا قاله الضحاك عن ابن عباس
والثاني أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال الزجاج
المتكأ ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث
والثالث أنه الطعام قاله الحسن ومجاهد وقتادة قال ابن قتيبة يقال اتكأنا عند فلان
إذا طعمنا قال جميل بن معمر ... فظللنا في نعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله
...
والأصل في هذا أن من دعوته ليطعم أعددت له التكأة للمقام والطمأنينة فسمي الطعام
متكأ على الاستعارة قال الأزهري إنما قيل للطعام متكأ لأن القوم إذا قعدوا على
الطعام اتكؤوا ونهيت هذه الأمة عن ذلك وقرأ مجاهد متكا باسكان التاء خفيفة وفيه
أربعة أقوال
أحدها أنه الأترج قاله ابن عباس ومجاهد ويحيى بن يعمر في آخرين ومنه قول الشاعر
... نشرب الإثم بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا ...
يريد الأترج
والثاني أنه الطعام أيضا قاله عكرمة الثالث أنه كل شيء يحز بالسكاكين قاله الضحاك
والرابع أنه الزماورد روي عن الضحاك أيضا وقد
روي
عن جماعة أنهم فسروا المتكأ بما فسروا به المتك فروي عن ابن جريج أنه قال المتكأ
الأترج وكل ما يحز بالسكاكين وعن الضحاك قال المتكأ كل ما يحز السكاكين وفرق آخرون
بين القراءتين فقال مجاهد من قرأ متكأ بالتثقيل فهو الطعام ومن قرأ بالتخفيف فهو
الأترج قال ابن قتيبة من قرأ متكا فإنه يريد الأترج ويقال الزماورد وأيا ما كان
فإني لا أحسبه سمي متكا إلا بالقطع كأنه مأخوذ من البتك فأبدلت الميم منه باء كما
يقال سمد رأسه وسبده إذا استأصله وشر لازم ولازب والميم تبدل من الباء كثيرا لقرب
مخرجيهما
قوله تعالى وآتت كل واحدة منهم سكينا إنما فعلت ذلك لأن الطعام الذي قدمت لهن
يحتاج إلى السكاكين وقيل كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها قال وهب
بن منبه ناولت كل واحدة منهن أترجة وسكينا وقالت لهن لا تقطعن ولا تأكلن حتى
أعلمكن ثم قالت ليوسف اخرج عليهن قال الزجاج إن شئت ضممت التاء من قوله وقالت وإن
شئت كسرت والكسر الأصل لسكون التاء والخاء ومن ضم التاء فلثقل الضمة بعد الكسرة
ولم يمكنه أن لا يخرج لأنه بمنزلة العبد لها وذكر بعض أهل العلم أنها إنما قالت
اخرج وأضمرت في نفسها عليهن فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به ومثله
إنما نطعمكم لوجه الله الآية الانسان 9 لم يقولوا ذلك إنما أضمروه ويدل على صحة
هذا أنها لو قالت له وهو شاب مستحسن اخرج على نسوة من طبعهن الفتنة ما فعل
وفي قوله أكبرنه قولان
أحدهما
أعظمنه رواه أبو صالح عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال قتادة وابن زيد
والثاني حضن رواه الضحاك عن ابن عباس وروى علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال
حضن من الفرح قال وفي ذلك يقول الشاعر ... تأني النساء لدى أطهارهن ولا ... نأتي
النساء إذا أكبرن إكبارا ...
وقد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد واختاره ابن الأنباري ورده بعض اللغويين فروي عن
أبي عبيدة أنه قال ليس في كلام العرب أكبرن بمعنى حضن ولكن عسى أن يكن من شدة ما
أعظمنه حضن وكذلك روي عن الزجاج أنه أنكره
قوله تعالى وقطعن أيديهن فيه ثلاثة أقوال
أحدها حززن أيديهن وكن يحسبن أنهن يقطعن طعاما قاله ابن عباس وابن زيد
والثاني قطعن أيديهن حتى ألقينها قاله مجاهد وقتادة
والثالث كلمن الأكف وابن الأنامل قاله وهب بن منبه
قوله تعالى وقلن حاشا لله قرأ أبو عمرو حاشا بألف في الوصل في الموضعين واتفقوا عن
حذف الألف في الوقف وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل والباقون حذفوا وهذه
الكلمة تستعمل في موضعين أحدهما الاستثناء والثاني التبرئة من الشر والأصل حاشا
وهي مشتقة من قولك كنت في حشا فلان أي في ناحيته والحشا الناحية وأنشدوا ... بأي
الحشا أمسى الخليط المباين
أي
بأي النواحي والمعنى صار يوسف في حشا من أن يكون بشرا لفرط جماله وقيل صار في حشا
مما قرفته به امرأة العزيز وقال ابن عباس ومجاهد حاش لله بمعنى معاذ الله قال
الفراء و بشرا منصوب لأن الباء قد استعملت فيه فلا يكاد اهل الحجاز ينطقون إلا
بالباء فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه فنصبوا على ذلك وكذلك
قوله ماهن أمهاتهم المجادلة 2 وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء فإذا
أسقطوها رفعوا وهو أقوى الوجهين في العربية قال الزجاج قوله الرفع أقوى الوجيهن
غلط لأن كتاب الله أقوى اللغات ولم يقرأ بالرفع أحد وزعم الخليل وسيبويه وجميع
النحويين القدماء أن بشرا منصوب لأنه خبر ما و ما بمنزلة ليس قلت وقد قرأ أبو
المتوكل وابو نهيك و عكرمة ومعاذ القارئ في آخرين ما هذا بشر بالرفع وقرأ أبي بن
كعب وأبو الجوزاء وأبو السوار ما هذا بشرى بكسر الباء والشين مقصورا منونا قال
الفراء أي ما هذا بمشترى وقرأ ابن مسعود بشراء بالمد والهمز مخفوضا منونا
قوله تعالى إن هذا إلا ملك قرأ أبي وأبو رزين وعكرمة وأبو حيوة والجحدري ملك بكسر
اللام
قوله تعالى فذلكن الذي لمتنني فيه قال المفسرون لما ذهبت عقولهن فقطعن أيديهن قالت
لهن ذلك
فإن قيل كيف أشارت إليه وهو حاضر بقولها فذلكن فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري
أحدهما أنها أشارت ب ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس
والثاني أن في الكلام إضمار هذا تقديره فهذا ذلكن ومعنى
لمتنني
فيه أي في حبه ثم أقرت عندهن فقالت ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي امتنع
قوله تعالى وليكونن من الصاغرين قال الزجاج القراءة الجيدة تخفيف وليكونن والوقوف
عليها بالألف لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف تقول اضربن زيدا وإذا
وقفت قلت اضربا وقد قرئت وليكونن بتشديد النون وأكرهها لخلاف المصحف لأن الشديدة
لا يبدل منها شيء والصاغرون المذلون قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا
تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو
السميع العليم
قوله تعالى قال رب السجن أحب إلي قال وهب بن منبه لما قالت فذلكن الذي لمتنني فيه
قلن لا لوم عليك قالت فاطلبن إلى يوسف أن يسعفني بحاجتي فقلن يا يوسف افعل فقالت
لئن لم يفعل لأخلدنه السجن فعند ذلك قال رب السجن أحب إلي وقرأ يعقوب السجن بفتح
السين هاهنا فحسب قال الزجاج من كسر سين السجن فعلى اسم المكان فيكون المعنى نزول
السجن أحب إلي من ركوب المعصية ومن فتح فعلى المصدر المعنى أن أسجن أحب إلي وإلا
تصرف عني كيدهن أي إلا تعصمني أصب إليهن أي أمل إليهن يقال صبا إلى اللهو يصبو
صبوا وصبوا وصباء إذا مال وقال ابن الأنباري ومعنى هذا الكلام اللهم اصرف عني
كيدهن ولذلك قال فاستجاب له ربه
قال فإن قيل إنما كادته امرأة العزيز وحدها فكيف قال كيدهن
فعنه
ثلاثة أجوبة
أحدها أن العرب توقع الجمع على الواحد فيقول قائلهم خرجت إلى البصرة في السفن وهو
لم يخرج إلا في سفينة واحدة
والثاني أن المكني عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها
والثالث أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالمين اللاتي لهن مثل كيدها ثم
بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين
قوله تعالى ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات في المراد بالآيات ثلاثة أقوال أحدها
أنها شق القميص وقضاء ابن عمها عليها رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها قد القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي وإعظام النار إياه رواه مجاهد
عن ابن عباس
والثالث جماله وعفته ذكره الماوردي قال وهب بن منبه فأشار النسوة عليها بسحنه رجاء
أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن وقلن متى سجنتيه قطع ذلك عنك قالة الناس التي
قد شاعت ورأوا أنك تبغضينه ويذله السجن لك فلما انصرفن عادت إلى مراودته فلم يزدد
إلا بعدا عنها فلما يئست قالت لسيدها إن هذا العبد قد فضحني وقد أبغضت رؤيته فائذن
لي في سجنه فأذن لها فسجنته وأضرت به وقال السدي قالت إما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر
بعذري وإما أن تحبسه كما حبستني فظهر للعزيز واصحابه من الرأي حبس يوسف قال الزجاج
كان العزيز أمر بالإعراض فقط ثم تغير رأيه عن ذلك قال ابن الأنباري وفي معنى الآية
قولان
أحدهما ثم بدا لهم أي ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه
والثاني
ثم بدا لهم في يوسف بدء فقالوا والله لنسجننه فاللام جواب يمين مضمرة فأما الحين
فهو يقع على قصير الزمان وطويله
وفي المراد به هاهنا للمفسرين خمسة أقوال
أحدها خمس سنين رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني سنة روي عن ابن عباس أيضا
والثالث سبع سنين قاله عكرمة والرابع إلى انقطاع القالة قاله عطاء والخامس أنه
زمان غير محدود ذكره الماوردي وهذا هو الصحيح لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة
وإنما ذكر المفسرون قدر مالبث ودخل معه السجن فتيان قال أحدها إني أريني أعصر خمرا
وقال الآخر إني أريني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنانريك من
المحسنين
قوله تعالى ودخل معه السجن فتيان قال الزجاج فيه دليل على أنه حبس وإن لم يذكر ذلك
و فتيان جائز أن يكونا حدثين أو شيخين لأنهم يسمون المملوك فتى قال ابن الأنباري
إنما قال فتيان لأهما كانا مملوكين والعرب تسمي الملموك فتى شابا كان أو شيخا قال
المفسرون عمر ملك مصر فملوه فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه فبلغه ذلك
فحبسهما فكان يوسف قال لأهل السجن إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتين هلم فلنجرب
هذا العبد العبراني
واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة أم لا على ثلاثة أقوال
أحدها أنها كانت كذبا وإنما سألاه تجريبا قاله ابن مسعود والسدي
والثاني
أنها كانت صدقا قاله مجاهد وابن إسحاق والثالث أن الذي صلب منهما كان كاذبا وكان
الآخر صادقا قاله أبو مجلز
قوله تعالى قال أحدهما يعني الساقي إني أراني أي في النوم أعصر خمرا أي عنبا وفي
تسمية العنب خمرا ثلاثة أقوال
أحدها أنه سماه باسم ما يؤول إليه لأن المعنى لا يلتبس كما يقال فلان يطبخ الآجر
ويعمل الدبس وإنما يطبخ اللبن ويصنع التمر وهذا قول أكثر المفسرين قال ابن
الأنباري وإنما كان كذلك لأن العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل كقولهم فلان
يطبخ آجرا
والثاني أن الخمر في لغة أهل عمان اسم للعنب قاله الضحاك والزجاج قال ابن القاسم
وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها والثالث أن المعنى أعصر عنب خمر وأصل خمر وسبب
خمر فحذف المضاف وخلفه المضاف إليه كقوله واسأل القرية يوسف 82 قال أبو صالح عن عن
ابن عباس رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومين فقال ما شأنكما قالا رأينا رؤيا
قال قصاها علي قال الساقي إني رأيت كأني دخلت كرما فجنيت ثلاثة عناقيد عنب فعصرتهن
في الكأس ثم أتيت به الملك فشربه وقال الخباز رايت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل
فوق رأسي ثلاث سلال من خبز فوقع طير على أعلاهن فأكل منها نبئنا بتأويله أي أخبرنا
بتفسيره وفي قوله إنا نراك من المحسنين خمسة أقوال
أحدها أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزي الحزين رواه مجاهد عن ابن عباس
والثاني إنا نراك محسنا إن أنبأتنا بتأويله قاله ابن إسحاق
والثالث
إنا نراك من العالمين قد أحسنت العلم قاله الفراء قال ابن الأنباري فعلى هذا يكون
مفعول الإحسان محذوفا كما حذف في قوله وفيه يعصرون يوسف 49 يعني العنب والسمسم
وإنما علموا أنه عالم لنشره العلم بينهم
والرابع إنا نراك ممن يحسن التأويل ذكره الزجاج
والخامس إنا نراك محسنا إلى نفسك بلزومك طاعة الله ذكره ابن الأنباري قال لا
يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني
تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم
وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد
القهار
قوله تعالى قال لا يأتيكما طعام ترزقانه في معنى الكلام قولان
أحدهما لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا أخبرتكما به قبل أن يصل إليكما لأنه
كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام وهو قول الحسن
والثاني لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في
اليقظة هذا قول السدي قال ابن عباس فقالا له وكيف تعلم ذلك ولست بساحر ولا عراف
ولا صاحب نجوم فقال ذلكما مما علمني ربي
فإن قيل هذا كله ليس بجواب سؤالهما فأين جواب سؤالهما فعنه أربعة أجوبة
أحدها أنه لما علم أن أحدهما مقتول دعاهما إلى نصيبهما من الآخرة قاله قتادة
والثاني
أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما قاله ابن جريج
والثالث أنه ابتدأ بدعائهما إلى الإيمان قبل جواب السؤال قاله الزجاج
والرابع أنه ظنهما كاذبين في رؤياهما فعدل عن جوابهما ليعرضا عن مطالبته بالجواب
فلما ألحا أجابهما ذكره ابن الأنباري فأما الملة فهي الدين وتكرير قوله هم للتوكيد
قوله تعالى ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء قال ابن عباس يريد أن الله عصمنا من
الشرك ذلك من فضل الله علينا أي اتباعنا الإيمان بتوفيق الله وعلى الناس يعني
المؤمنين بأن دلهم على دينه وقال ابن عباس ذلك من فضل الله عينا أن جعلنا أنبياء
وعلى الناس أن بعثنا إليهم ولكن أكثر الناس من أهل مصر لا يشكرون نعم الله
فيوحدونه
قوله تعالى أأرباب متفرقون يعني الأصنام من صغير وكبير خير أي أعظم صفة في المدح
أم الله الواحد القهار يعني أنه أحق بالإلهية من الأصنام فأما الواحد فقال الخطابي
هو الفرد الذي لم يزل وحده وقيل هوالمنقطع القرين المعدوم الشريك والنظير وليس
كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة فإن كل شيء سواه يدعى واحدا من جهة غير واحد من
جهات والواحد لا يثنى من لفظه لايقال واحدان والقهار الذي قهر الجبابرة من عتاة
خلقه بالعقوبة وقهر الخلق كلهم بالموت وقال غيره القهار الذي قهر كل شيء فذلله
فاستسلم وذل له ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله
بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا
إلا
إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي
ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان
قوله تعالى ما تعبدون من دونه إنما جمع في الخطاب لهما لأنه أراد جميع من شاركهما
في شركهما وقوله من دونه أي من دون الله إلا أسماء يعني الأرباب والآلهة ولا يصح
معاني تلك الأسماء للأصنام فكأنها أسماء فارغة فكأنهم يعبدون الأسماء لأنها لا تصح
معانيها ما أنزل الله بها من سلطان أي من حجة بعبادتها إن الحكم إلا لله أي ما
القضاء والأمر والنهي إلا له ذلك الدين القيم أي المستقيم يشير إلى التوحيد
ولكن أكثر الناس لا يعلمون فيه قولان
أحدهما لا يعلمون أنه لا يجوز عبادة غيره والثاني لا يعلمون ماللمطيعين من الثواب
وللعاصين من العقاب
قوله تعالى أما أحدكما فيسقي ربه خمرا الرب هاهنا السيد قال ابن السائب لما قص
الساقي رؤياه على يوسف قال له ما أحسن ما رأيت أما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام
يبعث إليك الملك عند انقضائها فيردك إلى عملك فتعود كأحسن ما كنت فيه وقال للخباز
بئس ما رأيت السلال الثلاث ثلاثة ايام ثم يبعث إليك الملك عند انقضائهن فيقتلك
ويصلبك ويأكل الطير من رأسك فقالا ما رأينا شيئا فقال قضي الأمر الذي فيه تستفتيان
أي فرغ منه وسبقع بكما صدقتما أو كذبتما
فإن قيل لم حتم على وقوع التأويل وربما صدق تأويل الرؤيا وكذب فعنه جوابان
أحدهما
أنه حتم ذلك لوحي أتاه من الله وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله فلما
قال قضي الأمر دل على أنه بوحي
والثاني أنه لم يحتم بدليل قوله وقال للذي ظن أنه ناج منهما قال أصحاب هذا الجواب
معنى قضي الأمر قطع الجواب الذي التمستماه من جهتي ولم يعن أن الأمر واقع بكما
وقال أصحاب الجواب الأول الظن هاهنا بمعنى العلم وقال للذي ظن أنه ناج منهما
اذكرني عند ربك فأنسيه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين
قوله تعالى وقال للذي ظن أنه ناج منهما يعني الساقي
وفي هذا الظن قولان
أحدهما أنه بمعنى العلم قاله ابن عباس والثاني أنه الظن الذي يخالف اليقين قاله
قتادة
قوله تعالى اذكرني عند ربك أي عند صاحبك وهو الملك وقل له إن في السجن غلاما حبس
ظلما واسم الملك الوليد بن الريان
قوله تعالى فأنساه الشيطان ذكر ربه فيه قولان
أحدهما فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال ابن
إسحاق
والثاني فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه وأمره بذكر الملك ابتغاء الفرج من عنده قاله
مجاهد ومقاتل والزجاج وهذا نسيان عمد لا نسيان سهو وعكسه القول الذي قبله
قوله
تعالى فلبث في السجن بضع سنين أي غير ما كان قد لبث قبل ذلك عقوبة له على تعلقه
بمخلوق
وفي البضع تسعة أقوال
أحدها ما بين السبع والتسع روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشا عند نزول آلم
غلبت الروم الروم 12 قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا احتطت فإن البضع ما
بين السبع إلى التسع والثاني اثنتا عشرة سنة قاله الضحاك عن ابن عباس والثالث سبع
سنين قاله عكرمة والرابع أنه ما بين الخمس إلى السبع قاله الحسن والخامس أنه ما
بين الأربع إلى التسع قاله مجاهد والسادس ما بين الثلاث والتسع والعشر قاله قتادة
والثامن أنه ما دون العشرة قاله الفراء وقال الأخفش البضع من واحد إلى عشرة
والتاسع أنه مالم يبلغ العقد ولا نصفه قاله أبو عبيدة قال ابن قتيبة يعني ما بين
الواحد إلى الأربعة وروى الأثرم عن أبي عبيدة البضع ما بين ثلاث وخمس
وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال
أحدها اثنتا عشرةسنة قاله ابن عباس والثاني أربع عشرة قاله الضحاك والثالث سبع
سنين قاله قتادة قال مالك بن دينار لما قال يوسف
للساقي
اذكرني عند ربك قيل له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فبكى وقال يارب
أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة فويل لإخوتي وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان
يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخرى يابسات يا أيها الملأ افتوني في رءياي إن
كنتم للرءيا تعبرون
قوله تعالى وقال الملك يعني ملك مصر الأكبر إني أرى يعني في المنام ولم يقل رايت
وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل أرى بمعنى رأيت قال وهب بن منبه لما انقضت
المدة التي وقتها الله تعالى ليوسف في حبسه دخل عليه جبريل إلى السجن فبشره
بالخروج وملك مصر ولقاء أبيه فلما أمسى الملك من ليلتئذ رأى سبع بقرات سمان خرجن
من البحر في آثارهن سبع عجاف فأقبلت العجاف على السمان فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إلى
القرنين ولم يزد في العجاف شيء ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات
فأكلنهن حتى أتين عليهن ولم يزدد في اليابسات شيء فدعا أشراف قومه فقصها عليهم
فقالوا أضغاث أحلام قال الزجاج والعجاف التي قد بلغت في الهزال الغاية والملأ
الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدى برأيهم واللام في قوله للرؤيا دخلت على المفعول
للتبيين المعنى إن كنتم تعبرون ثم يبن باللام فقال للرؤيا ومعنى عبرت الرؤيا
وعبرتها أخبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها واشتقاقه من عبر النهر وهو شاطئ النهر
فتأويل عبرت النهر بلغت إلى عبره أي إلى شطه وهو آخر عرضه
وذكر
ابن الأنباري في اللام قولين
أحدهما أنها للتوكيد والثاني أنها أفادت معنى إلى والمعنى إن كنتم توجهون العبارة
إلى الرؤيا قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين
قوله تعالى قالوا أضغاث أحلام قال أبو عبيدة واحدها ضغث مكسورة وهي ما لا تأويل له
من الرؤيا تراه جماعات تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش فيقال ضغث أي ملء كف منه
وقال الكسائي الأضغاث الرؤيا المختلطة وقال ابن قتيبة أضغاث أحلام أي أخلاط مثل
أضغاث النبات يجمعها الرجل فيكون فيها ضروب مختلفة وقال الزجاج الضغث في اللغة
الحزمة والباقة من الشيء كالبقل وما أشبهه فقالوا له رؤياك أخلاط أضغاث أي حزم
أخلاط ليست برؤيا بينه وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين أي ليس للرؤيا المخلتطة
عندنا تأويل وقال غيره وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين والأحلام
جمع حلم وهو ما يراه الإنسان في نومه مما يصح ومما يبطل وقال الذي نجا منهما وادكر
بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان
يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى قليلا مما تأكلون ثم يأتي
من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون
قولة
تعالي وقال اللذي نجا منهما يعني اللذي تخلص من القتل من الفتيين وهو الساقي وادكر
اي تذكر شأن يوسف وما وصاة بة قال الزجاج وأصل ادكر اذتكر ولكن التاء ابدلت منها
الدال وأدغمت الذال في الدال وقرأ الحسن واذكر بالذال المشددة وقوله بعد أمة أي
بعد حين وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن وقد سبق بيانه وقرأ ابن عابس
والحسن بعد امة أراد بعد نسيان
فإن قيل هذا يدل على أن الناسي في قوله فأنساه الشيطان ذكر ربه هو الساقي ولا شك
أن من قال إن الناسي يوسف يقول لم ينس الساقي
فالجواب أن من قال إن يوسف نسي يقول معنى قوله وادكر ذكر كما تقول العرب احتلب
بمعنى حلب واغتدى بمعنى غدا فلا يدل إذا على نسيان سبقه وقد روى أبو صالح عن ابن
عباس أنه قال إنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تأويل رؤياه
خوفا من أن يكون ذكره ليوسف سببا لذكره الذنب الذي من أجله حبس ذكر هذا الجواب ابن
الأنباري
قوله تعالى أنا أنبئكم بتأويله أي من جهة يوسف فأرسلون أثبت الياء فيها وفي ولا
تقربون يوسف 60 أن تفندون يوسف 94 يعقوب في الحالين فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع
تعظيما وقيل خاطبه وخاطب أتباعه وفي الكلام اختصار المعنى فأرسلوه فأتى يوسف فقال
يا يوسف يا أيها الصديق والصديق الكثير الصدق كما يقال فسيق وسكير وقد سبق بيانه
النساء 69
قوله
تعالى لعلي أرجع إلى الناس يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه
وفي قوله لعلهم يعلمون قولان
أحدهما يعلمون تأويل رؤيا الملك والثاني يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك
وذكر ابن الأنباري في تكرير لعلي قولين أحدهما أن لعل الأولى متعلقة بالإفتاء
والثانية مبنية على الرجوع وكلتاهما بمعنى كي
والثاني أن الأولى بمعنى عسى والثانية بمعنى كي فأعيدت لاختلاف المعنيين وهذا هو
الجواب عن قوله لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون يوسف 63 قال
المفسرون كان سيده العزيز قد مات واشتغلت عنه امرأته وقال بعضهم لم يكن العزيز قد
مات فقال يوسف للساقي قل للملك هذه سبع سنين مخصبات ومن بعدهن سبع سنين شداد إلا
أن يحتال لهن فانطلق الرسول إلى الملك فأخبره فقال له الملك ارجع إليه فقل له كيف
يصنع فقال تزرعون سبع سنين دأبا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة
والكسائي وأبو بكر عن عاصم دأبا ساكنه الهمزة إلا أن أبا عمرو كان إذا أدرج
القراءة لم يهمزها وروى حفص عن عاصم دأبا بفتح الهمزة قال أبو علي الأكثر في دأب
الإسكان ولعل الفتح لغة ومعنى دأبا أي زراعة متوالية على عادتكم والمعنى تزرعون
دائبين فناب دأب عن دائبين وقال الزجاج المعنى تدأبون دأبا ودل على تدأبون تزرعون
والدأب الملازمة للشيء والعادة
فإن قيل كيف حكم بعلم الغيب فقال تزرعون ولم يقل إن شاء الله فعنه أربعة أجوبة
أحدها
أنه كان بوحي من الله عز و جل والثاني أنه بنى على علم ما علمه الله من التأويل
الحق فلم يشك والثالث أنه أضمر إن شاء الله كما أضمر إخوته في قولهم ونمير أهلنا
ونحفظ أخانا يوسف 65 فاضمروا الاستثناء في نياتهم لأنهم على غير ثقة مما وعدوا
ذكره ابن الأنباري والرابع أنه كالآمر لهم فكأنه قال ازرعوا
قوله تعالى فذروه في سنبله فإنه أبقى له وأبعد من الفساد والشداد المجدبات التي
تشتد على الناس يأكلن أي يذهبن ما قدمتم لهن في السنين المخصبات فوصف السنين
بالأكل وإنما يؤكل فيها كما يقال ليل نائم
قوله تعالى إلا قليلا مما تحصنون أي تحرزون وتدخرون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه
يغاث الناس وفيه يعصرون
قوله تعالى ثم يأتي من بعد ذلك عام إن قيل لم أشار إلى السنين وهي مؤنثة ب ذلك
فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم
أحدهما أن السبع مؤنثه ولا علامة للتأنيث في لفظها فأشبهت المذكر كقوله السماء
منفطر به المزمل 18 فذكر منفطرا لما لم يكن في السماء علم التأنيث قال الشاعر ...
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها ...
فذكر أبقل لما وصفنا
والثاني
أن ذلك إشارة إلى الجدب وهذا قول مقاتل والأول قول الكلبي قال قتادة زاده الله علم
عام لم يسألوه عنه
قوله تعالى فيه يغاث الناس فيه قولان
أحدهما يصيبهم الغيث قاله ابن عباس والثاني يغاثون بالخصب ذكره الماوردي
قوله تعالى وفيه يعصرون قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وعاصم يعصرون
بالياء وقرأ حمزة والكسائي بالتاء فوجها الخطاب إلى المستفتين
وفي قوله يعصرون خمسة أقوال
أحدها يعصرون العنب والزيت والثمرات رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة
والجمهور
والثاني يعصرون بمعنى يحتلبون رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وروى ابن الأنباري عن
أبيه عن أحمد بن عيد قال تفسير يعصرون يحتلبون الألبان لسعة خيرهم واتساع خصبهم
واحتج بقول الشاعر ... فما عصمة الأعراب إن لم يكن لهم ... طعام ولا در من المال
يعصر ...
أي يحلب
والثالث ينجون وهو من العصر والعصر النجاء والعصرة المنجاة ويقال فلان في عصرة إذا
كان في حصن لا يقدر عليه قال الشاعر
صاديا
يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود ...
أي غياثا للمغلوب المقهور وقال عدي ... لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان
بالماء اعتصاري ...
والرابع يصيبون ما يحبون روي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال المعتصر الذي يصيب الشيء
ويأخذه ومنه هذه الآية ومنه قول ابن أحمر
فإنما العيش بريانه ... وأنت من أفنانه معتصر ...
والخامس يعطون ويفضلون لسعة عيشهم رواه ابن الأنباري عن بعض أهل الغة وقرأ سعيد بن
جبير يعصرون بضم الياء وفتح الصاد وقال الزجاج أراد يمطرون من قوله وأنزلنا من
المعصرات ماء ثجاجا النبأ 14 وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى
ربك فسئله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ
راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الئن
حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصاداقين
قوله
تعالى وقال الملك ائتوني به قال المفسرون لما رجع الساقي إلى الملك وأخبره بتأويل
رؤياه وقع في نفسه صحة ما قال فقال ائتوني بالذي عبر رؤياي فجاءه الرسول فقال أجب
الملك فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قرف به فقال ارجع إلى ربك يعني الملك
فاسأله ما بال النسوة وقرأ ابن أبي عبلة النسوة بضم النون والمعنى فاسأل الملك أن
يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي وإنما أشفق أن يراه اللمك بعين
مشكوك في أمره أو متهم بفاحشة وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده وظاهر قوله إن
ربي بكيدكن عليم أنه يعني الله تعالى وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده
العزيز والمعنى أنه يعلم براءتي وقد روي عن نبينا صلى الله عليه و سلم أنه استحسن
حزم يوسف وصبره عن التسرع إلى الخروج فقال صلى الله عليه و سلم إن الكريم بن
الكريم بن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لو لبثت في السجن
ما لبث يوسف ثم جاءني الداعي لأجبت
وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال
أحدها أنه خلطها بالنسوة لحسن عشرة فيه وأدب قاله الزجاج والثاني لأنها زوجة ملك
فصانها والثالث لأن النسوة شاهدات عليها له والرابع لأن في ذكره لها نوع تهمة ذكر
الأقوال الثلاثة الماوردي قال المفسرون فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف فدعا
الملك النسوة وفيهن
امرأة
العزيز فقال ما خطبكن أي ما شأنكن وقصتكن إذ راودتن يوسف
فإن قيل إنما راودته واحدة فلم جمعن فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه جمعهن في السؤال ليعلم عين المراودة والثاني أن أزليخا راودته على نفسه
وراوده باقي النسوة على القبول منها والثالث أنه جمعهن في الخطاب والمعنى لواحدة
منهن لأنه قد يوقع على النوع وصف الحبس إذا أمن من اللبس يدل عليه قول النبي صلى
الله عليه و سلم للنساء إنكن أكثر أهل النار فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن ذكره
ابن الأنباري
قوله تعالى قلن حاش لله قال الزجاج قرأ الحسن بتسكين الشين ولا اختلاف بين
النحويين أن الإسكان غير جائز لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز ولا هو من كلام العرب
فأعلم النسوة الملك براءة يوسف من السوء فقالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أي
برزوتبين واشتقاقه في اللغة من الحصة أي بانت حصة الحق وجهته من حصة جهة الباطل
وقال ابن القاسم
حصحص
بمعنى وضح وانكشف تقول العرب حصحص البعير في بروكة إذا تمكن وأثر في الأرض وفرق
الحصى
وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإقرار قولان
أحدهما أنها لما رأت النسوة قد برأنه قالت لم يبق إلا أن يقبلن على بالتقرير فأقرت
قاله الفراء
والثاني أنها أظهرت التوبة وحققت صدق يوسف قاله الماوردي ذلك ليعلم أني لم أخنه
بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين
قوله تعالى ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال مقاتل ذلك بمعنى هذا وقال ابن
الأنباري قال اللغويون هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه لقرب الخبر من
أصحابه فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا ولما كان متقضيا أمكن أن يشار إليه بذلك
لأن المقتضي كالغائب
واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوسف وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئا ثم تصله
بالحكاية عن آخر ونظير هذا قوله يريد أن يخرجكم من أرضكم الأعراف 110 هذا قول
الملأ فماذا تأمرون قول فرعون ومثله وجعلوا أعزة أهلها أذلة النمل 34 هذا قول
بلقيس وكذلك يفعلون قول الله تعالى ومثله من بعثنا من مرقدنا بيس 52 هذا قول
الكفار فقالت الملائكة هذا ما وعد الرحمن وإنما يجوز مثل هذا في الكلام لظهور
الدلالة على المعنى
واختلفوا
أين قال يوسف هذا على قولين
أحدهما أنه لما رجع الساقي إلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز
والنسوة للملك قال حينئذ ذلك ليعلم رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال ابن جريج
والثاني أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك رواه عطاء عن ابن عباس
قوله تعالى ذلك ليعلم أي ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك ليعلم
واختلفوا في المشار إليه بقوله ليعلم وقوله لم أخنه على أربعة أقوال
أحدها أنه العزيز والمعنى ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته بالغيب أي إذا غاب
عني رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة والجمهور
والثاني أن المشار إليه بقوله ليعلم الملك والمشار إليه بقوله لم أخنه العزيز
والمعنى ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أن المشار إليه بالشيئين الملك فالمعنى ليعلم الملك أني لم أخنه يعني
الملك أيضا بالغيب
وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان
أحدهما لكون العزيز وزيره فالمعنى لم أخنه في امرأة وزيره قاله ابن الأنباري
والثاني لم أخنه في بنت أخته وكانت أزليخا بنت أخت الملك قاله أبو سليمان الدمشقي
والرابع
أن المشار إليه بقوله ليعلم الله فالمعنى ليعلم الله أني لم أخنه روي عن مجاهد قال
ابن الأنباري نسب العلم إلى الله في الظاهر وهو في المعنى للمخلوقين كقوله حتى
نعلم المجاهدين منكم محمد 31
فإن قيل إن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك فكيف قال ليعلم ولم يقل لتعلم وهو
يخاطبه
فالجواب أنا إن قلنا إنه كان حاضرا عند الملك فإنما آثر الخطاب بالياء توقيرا
للملك كما يقول الرجل للوزير إن رأى الوزير أن يوقع في قصتي وإن قلنا إنه كان
غائبا فلا وجه لدخول التاء وكذلك إن قلنا إنه عني العزيز والعزيز غائب عن مجلس
الملك حينئذ
والقول الثاني أنه قول امرأة العزيز فعلى هذا يتصل بما قبله والمعنى ليعلم يوسف
أني لم أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه
والثالث أنه قول العزيز والمعنى ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب فلم أغفل عن
مجازاته على أمانته حكى القولين الماوردي
قوله تعالى وأن الله لا يهدي كيد الخائنين قال ابن عباس لا يصوب عمل الزناة وقال
غيره لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة
بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما
كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر
المحسنين
قوله
تعالى وما أبرئ في القائل لهذا ثلاثة أقوال وهي التي تقدمت في الآية قبلها
فالذين قالوا هو يوسف اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال
أحدها أنه لما قال ليعلم أني لم أخنه بالغيب غمزه جبريل فقال ولا حين هممت فقال
وما أبرئ نفسي رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الأكثرون
والثاني أن يوسف لما قال لم أخنه ذكر أنه قد هم بها فقال وما أبرئ نفسي رواه
العوفي عن ابن عباس
والثالث أنه لما قال ذلك خاف أن يكون قد زكى نفسه فقال وما أبرئ نفسي قاله الحسن
والرابع أنه لما قاله قال له الملك الذي معه اذكر ما هممت به فقال وما أبرئ نفسي
قاله قتادة
والخامس أنه لما قاله قالت امرأة العزيز ولا يوم حللت سراويلك فقال وما أبرئ نفسي
قاله السدي
والذين قالوا هذا قول امرأة العزيز فالمعنى وما أبرئ نفسي أني كنت راودته
والذين قالوا هو العزيز فالمعنى وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف لأنه قد خطر لي
قوله تعالى لأمارة بالسوء قرأ ابن عامر وأهل الكوفة ويعقوب إلا رويسا بالسوء إلا
بتحقيق الهمزتين وقرأ أبو عمرو وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى
وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياء وقرأ أبو جعفر وورش ورويس
بتحقيق الأولى وتليين الثانية
بين
بين مثل السوء علا وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوا وأدغمها في
الواو التي قبلها فتصير واوا مكسورة مشددة قبل همزة إلا
قوله تعالى إلا ما رحم ربي قال ابن الأنباري قال اللغويون هذا استثناء منقطع
والمعنى إلا أن رحمة ربي عليها المعتمد قال أبو صالح عن ابن عباس المعنى إلا من
عصم ربي وقيل ما بمعنى من قال الماوردي ومن قال هو قول امرأة العزيز فالمعنى إلا
من رحم ربي في قهره لشهوته أو في نزعها عنه ومن قال هو قول العزيز فالمعنى إلا من
رحم ربي بأن يكفيه سوء الظن أو يثبته فلا يعجل قال ابن الأنباري والقول بأن هذا
قول يوسف أصح لوجين
أحدهما لأن العلماء عليه والثاني لأن المرأة كانت عابدة وثن وما تضمنته الآية أليق
أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله عز و جل وقال المفسرون فلما تبين الملك
عذر يوسف وعلم أمانته قال أئتوني به أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصا لي لا يشركني
فيه أحد
فإن قيل فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك ذلك ليعلم أني لم أخنه
بالغيب فكيف قال الملك ائتوني به وهو حاضر عنده
فالجواب أن أرباب هذا القول يقولون أمر الملك باحضاره ليقلده الأعمال في غير
المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا قال وهب لما دخل يوسف على الملك وكان الملك
يتكلم بسبعين لسانا كان كلما كلمة بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان فعجب الملك وكان
يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة فقال إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها فذكرها له قال
فما ترى أيها الصديق
قال
أرى أن تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة وتجمع الطعام فيأتيك الناس فيمتارون
وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد فقال الملك ومن لي بهذا فقال يوسف اجعلني
على خزائن الأرض قال ابن عباس ويريد بقوله مكين أمين أي قد مكنتك في ملكي وائتمنتك
فيه وقال مقاتل المكين الوجيه والأمين الحافظ
قوله تعالى اجعلني على خزائن الأرض أي خزائن أرضك
وفي المراد بالخزائن قولان
أحدهما خزائن الأموال قاله الضحاك والزجاج
والثاني خزائن الطعام فحسب قاله ابن السائب قال الزجاج وإنما سأل ذلك لأن الأنبياء
بعثوا بالعدل فعلم أنه لا أحد أقوم بذلك منه
وفي قوله إني حفيظ عليم ثلاثة أقوال
أحدها حفيظ لما وليتني عليم بالمجاعة متى تكون قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني حفيظ لما استودعتني عليم بهذه السنين قاله الحسن
والثالث حفيظ للحساب عليم بالألسن قاله السدي وذلك أن الناس كانوا يردون على الملك
من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة
واختلفوا هل ولاه الملك يومئذ أم لا على ثلاثة أقوال
أحدها أنه ولاه بعد سنة روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
أنه قال رحم الله أخي يوسف لو لم يقل أجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته
ولكنه أخر ذلك سنة وذكر مقاتل أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال
لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك من وقته قال مجاهد أسلم الملك على
يد يوسف وقال أهل السير أقام في بيت الملك سنة فلما انصرمت دعاه الملك فتوجه ورداه
بسيفه وأمر له بسرير من ذهب وضرب عليه كلة من إستبرق فجلس على السرير كالقمر ودانت
له الملوك ولزم الملك بيته وفوض أمره إليه وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف
مكانه ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي فزوج الملك يوسف بامرأة قطفير فلما دخل
عليها قال أليس هذا خيرا مما تريدين فقالت أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة
حسناء في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء فغلبتني نفسي فلما بنى بها يوسف
وجدها عذراء فولدت له ابنين إفراييم وميشا واستوسق له ملك مصر
والقول الثاني أنه ملكه بعد سنة ونصف حكاه مقاتل عن ابن عباس
والثالث أنه سلم إليه الأمر من وقته قاله وهب وابن السائب
فإن قيل كيف قال يوسف إني حفيظ عليم ولم يقل إن شاء الله فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخر تمليكه على ما ذكرنا عن النبي صلى الله
عليه و سلم
والثاني أنه أضمر الاستثناء كما أضمروه في قولهم ونمير أهلها
والثالث أنه أراد أن حفظي وعلمي يزيدان على حفظ غيري وعلمه فلم يحتج هذا إلى
الاستثناء لعدم الشك فيه ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري
فإن قيل كيف مدح نفسه بهذا القول ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضع
فالجواب
أنه لما خلا مدحه لنفسه من بغي وتكبر وكان مراده به الوصول إلى حق يقيمه وعدل يحيه
وجور يبطله كان ذلك جميلا جائزا وقد قال نبينا صلى الله عليه و سلم أنا أكرم ولد
آدم على ربه وقال علي بن أبي طالب عليه السلام والله ما من آية إلا وأنا أعلم
أبليل نزلت أم بنهار وقال ابن مسعود لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل
لأتيته فهذه الأشياء خرجت مخرج الشكر لله وتعريف المستفيد ما عند المفيد ذكر هذا
محمد بن القاسم قال القاضي أبو يعلى في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للانسان أن
يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه وأنه ليس من المحظور في قوله فلا تزكوا أنفسكم
النجم 32
قوله تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الكلام محذوف تقديره اجعلني على خزائن الأرض قال
قد فعلت فحذف ذلك لأن قوله وكذلك مكنا ليوسف يدل عليه والمعنى ومثل ذلك الإنعام
الذي أنعما عليه في دفع المكروه عنه وتخليصه من السجن وتقريبه من قلب اللمك
أقدرناه على ما يريد في أرض مصر يتبوأ منها حيث يشاء قال ابن عباس ينزل حيث أراد
وقرأ ابن كثير والمفضل حيث نشاء بالنون
قوله تعالى نصيب برحمتنا أي نختص بنعمتنا من النبوة والنجاة من نشاء ولا نضيع أجر
المحسنين يعني المؤمنين يقال إن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم وحليهم ومواشيهم
وعقارهم وعبيدهم ثم بأولادهم ثم برقابهم ثم قال للملك كيف ترى صنع ربي فقال الملك
إنما نحن لك تبع قال
فإني
أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم وكان يوسف لا يشبع في
تلك الأيام ويقول إني أخاف أن أنسى الجائع ولأجر الآخرة خير للذين آمنواوكانوا
يتقون
قوله تعالى ولأجر الآخرة خير المعنى ما نعطي يوسف في الآخرة خير مما أعطيناه في
الدنيا وكذلك غيره من المؤمنين ممن سلك طريقه في الصبر وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه
فعرفهم وهم له منكرون
قوله تعالى وجاء إخوة يوسف روى الضحاك عن ابن عباس قال لما فوض الملك إلى يوسف أمر
مصر تلطف يوسف للناس ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام فآمنوا به وأحبوه فلما أصاب الناس
القحط نزل ذلك بأرض كنعان فأرسل يعقوب ولده للميرة وذاع أمر يوسف في الآفاق وانتشر
عدله ورحمته ورأفته فقال يعقوب يا بني إنه قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا فانطلقوا
إليه وأقرئوه مني السلام وانتسبوا له لعله يعرفكم فانطلقوا فدخلوا عليه فعرفهم
وأنكروه فال من أين أقبلتم قالوا من أرض كنعان ولنا شيخ يقال له يعقوب وهو يقرئك
السلام فبكى وعصر عينيه وقال لعلكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي فقالوا لا والله
ولكنا من كنعان أصابنا الجهد فأمرنا أبونا أن نأتيك فقد بلغه عنك خير قال فكم أنتم
قالوا أحد عشر أخا وكنا اثنى عشر فأكل أحدنا الذئب قال فمن يعلم صدقكم ائتوني
بأخيكم الذي من أبيكم وروى أبو صالح عن ابن عباس قال لما دخلوا عليه كلموه
بالعبرانية فأمر الترجمان فكلمهم ليشبه عليهم فقال الترجمان قل لهم أنتم عيون
بعثكم ملككم لتنظروا إلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود فقالوا لا
ولكنا
قوم لنا أب شيخ كبير وكنا اثنى عشر فهلك منا واحد في الغنم وقد خلفنا عند أبينا
أخا له من أمه فقال إن كنتم صادقين فخلفوا عندي بعضكم رهنا وائتوني بأخيكم فحبس
عنده شمعون
واختلفوا بماذا عرفهم يوسف على قولين أحدهما أنه عرفهم برؤيتهم قاله ابن عباس
والثاني أنه ما عرفهم حتى تعرفوا إليه قاله الحسن
قوله تعالى وهم له منكرون قال مقاتل لا يعرفونه
وفي علة كونهم لم يعرفوه قولان
أحدهما أنهم جاؤوه مقدرين أنه ملك كافر فلم يتأملوا منه ما يزول به عنهم الشك
والثاني أنهم عاينوا من زيه وحليته ما كان سببا لإنكارهم وقد روى أبو صالح عن ابن
عباس أنه كان لا بسا ثياب حرير وفي عنقه طوق من ذهب
فإن قيل كيف يخفى من قد أعطي نصف الحسن وكيف يشتبه بغيره
فالجواب أنهم فارقوه طفلا ورأوه كبيرا والأحوال تتغير وما توهموا أنه ينال هذه
المرتبة وقال ابن قتيبة معنى كونه أعطي نصف الحسن أن الله جعل للحسن غاية وحدا
وجعله لمن شاء من خلقه إما للملائكة أو للحور فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن فكأنه كان
حسنا مقاربا لتلك الوجوه الحسنة وليس كما يزعم الناس من أنه أعطي هذا الحسن وأعطي
الناس كلهم نصف الحسن ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون
أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون
قوله تعالى ولما جهزهم بجهازهم يقال جهزت القوم تجهيزا إذا هيأت
لهم
ما يصلحهم وجهاز البيت متاعه قال المفسرون حمل لكل رجل منهم بعيرا وقال ألا ترون
أني أوفي الكيل أي أتمه ولا أبخسه وأنا خير المنزلين يعني المضيفين وذلك أنه أحسن
ضيافتهم ثم أوعدهم على ترك الإتيان بأخيهم فقال فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي
وفيه قولان
أحدهما أنه يعني به فيما بعد وهو قول الأكثرين
والثاني أنه منعهم الكيل في الحال قاله وهب بن منبه قالوا سنراود عنه أباه وإنا
لفاعلون
قوله تعالى قالوا سنراود عنه أباه أي نطلبه منه والمراودة الاجتهاد في الطلب
وفي قوله وإنا لفاعلون ثلاثة أقوال
أحدها أن المعنى وإنا لجاؤوك به وضامنون لك المجيء به هذا مذهب الكلبي
والثاني أنه توكيد قاله الزجاج فعلى هذا يكون الفعل الذي ضمنوه عائدا إلى المراودة
فيصح معنى التوكيد
والثالث وإنما لمديمون المطالبة به لأبينا ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه وهذا غير
المراودة ذكره ابن الأنباري
فإن قيل كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه وهو يعلم مافي ذلك من إدخال الحزن على أبيه
فعنه خمسة أجوبة
أحدها أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه
وهذا الأظهر
والثاني
أنه طلبه لا ليحبسه فلما عرفه قال لا أفارقك يا يوسف قال لا يمكنني حبسك إلا أن
أنسبك إلى أمر فظيع قال أفعل ما بدا لك قاله كعب
والثالث أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف
والرابع ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه
والخامس ليعجل سرور أخيه باجتماعه به قبل إخوته وكل هذه الأجوبة مدخوله إلا الأول
فإنه الصحيح ويدل عليه ما روينا عن وهب بن منبه قال لما جمع الله بين يوسف ويعقوب
قال له يعقوب بيني وبينك هذه المسافة القريبة ولم تكتب إلى تعرفني فقال إن جبريل
أمرني أن لا أعرفك فقال له سل جبريل فسأله فقال إن الله أمرني بذلك فقال سل ربك
فسأله فقال قل ليعقوب خفت عليه الذئب ولم تؤمني وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في
رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون
قوله تعالى وقال لفتيته قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم لفتيته
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه قال أبو علي الفتية جمع فتى في العدد
القليل والفتيان في الكثير والمعنى قال لغلمانه اجعلوا بضاعته وهي التي اشتروا بها
الطعام في رحالهم والرحل كل شيء يعد للرحيل لعلهم يعرفونها أي ليعرفوها إذا
انقلبوا أي رجعوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون أي لكي يرجعوا
وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال
أحدها أنه تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى فجعل دراهمهم
في رحالهم قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني
أنه أراد أنهم إذا عرفوها لم يستحلوا إمساكها حتى يردوها قاله الضحاك
والثالث أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإخوته مع حاجتهم إليه فرده عليهم من حيث
لا يعلمون سبب رده تكرما وتفضلا ذكره ابن جرير الطبري وأبو سليمان الدمشقي
والرابع ليعلموا أن طلبه لعودهم لم يكن طمعا في أموالهم ذكره الماوردي
والخامس أنه أراهم كرمه وبره ليكون أدعى إلى عودهم فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا
أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له الحافظون قال هل آمنكم عليه
إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافضا وهو أرحم الراحمين
قوله تعالى فلما رجعوا إلى أبيهم قال المفسرون لما عادوا إلى يعقوب قالوا يا أبانا
قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا
كرامته
وفي قوله منع منا الكيل قولان قد تقدما في قوله فلا كيل لكم عندي يوسف 61
فإن قلنا إنه لم يكل لهم فلفظ منع بين
وإن قلنا إنه خوفهم منع الكيل ففي المعنى قولان
أحدهما حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت كما تقول للرجل دخلت والله النار بما
فعلت
والثاني
أن المعنى يا أبانا يمنع منا الكيل إن لم ترسله معنا فناب منع عن يمنع كقوله يحسب
أن ماله أخلده الهمزة 3 أي يخلده وقوله ونادى أصحاب النار الأعراف 50 وإذ قال الله
يا عيسى المائدة 116 أي وإذ يقول ذكرهما ابن الأنباري
قوله تعال فأرسل معنا أخانا نكتل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر
نكتل بالنون وقرأ حمزة والكسائي يكتل بالياء والمعنى إن أرسلته معنا اكتلنا وإلا
فقد منعنا الكيل قوله تعالى هل آمنكم عليه أي لا آمنكم إلا كأمني على يوسف يريد
أنه لم ينفعه ذلك الأمن إذ خانوه فالله خير حفظا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو
وابن عامر وابو بكر عن عاصم حفظا والمعنى خير حفظا من حفظكم وقرأ حمزة والكسائي
وحفص عن عاصم خير حافظا بألف قال أبو علي ونصبه على التمييز دون الحال ولما فتحوا
متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا
ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى
تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما
نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني
عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما
دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا
حاجة
في نفس يعقوب قضيها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
قوله تعالى ولما فتحوا متاعهم يعني أوعية الطعام وجدوا بضاعتهم التي حملوها ثمنا
للطعام ردت قال الزجاج الأصل رددت فأدغمت الدال الأولى في الثانية وبقيت الراء
مضمومة ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال كما فعل ذلك في قيل وبيع
ليدل على أن أصل الدال ال كسر
قوله تعالى ما نبغي في ما قولان
أحدهما أنها استفهام المعنى أي شيء نبغي وقد ردت بضاعتنا إلينا
والثاني أنها نافية المعنى ما نبغي شيئا أي لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها إليه بل
تكفينا هذه في الرجوع إليه وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعود وقرأ ابن
مسعود وابن يعمر والجحدري وأبو حيوة ما تبغي بالتاء على الخطاب ليعقوب
قوله تعالى ونمير أهلنا أي نجلب لهم الطعام قال ابن قتيبة يقال مار أهله يميرهم
ميرا وهو مائر لأهله إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده
قوله تعالى ونحفظ أخانا فيه قولان
أحدهما نحفظ أخانا بنيامين الذي ترسله معنا قاله الأكثرون
والثاني ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذه رهينة عنده قاله الضحاك عن ابن عباس
قوله تعالى ونزداد كيل بعير أي وقر بعير يعنون بذلك نصيب أخيهم لأن يوسف كان لا
يعطي الواحد أكثر من حمل بعير
قوله
تعالى ذلك كيل يسير فيه ثلاثة أقوال
أحدها ذلك كيل سريع لا حبس فيه يعنون إذا جاء معنا عجل الملك لنا الكيل قاله مقاتل
والثاني ذلك كيل سهل على الذي نمضي إليه قاله الزجاج
والثالث ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يقنعنا قاله الماوردي
قوله تعالى حتى تؤتون موثقا من الله أي تعطوني عهدا أثق به والمعنى حتى تحلفوا لي
بالله لتأتنني به أي لتردنه إلي قال ابن الأنباري وهذه اللام جواب لمضمر تلخيصه
وتقولوا والله لتأتنني به
قوله تعالى إلا أن يحاط بكم فيه قولان
أحدهما أن يهلك جميعكم قاله مجاهد
والثاني أن يحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإتيان به قاله الزجاج
قوله تعالى فلما آتوه موثقهم أي أعطوه العهد وفيه قولان
أحدهما أنهم حلفوا له بحق محمد صلى الله عليه و سلم ومنزلته من ربه قاله الضحاك عن
ابن عباس والثاني أنهم حلفوا بالله تعالى قاله السدي
قوله تعالى قال الله على ما نقول وكيل فيه قولان
أحدهما أنه الشهيد والثاني كفيل بالوفاء رويا عن ابن عباس
قوله تعالى لا تدخلوا من باب واحد قال المفسرون لما تجهزوا للرحيل قال لهم يعقوب
لا تدخلوا يعني مصر من باب واحد
وفي المراد بهذا الباب قولان
أحدهما أنه أراد بابا من أبواب مصر وكان لمصر أربعة أبواب قاله الجمهور
والثاني
أنه أراد الطرق لا الأبواب قاله السدي وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس
وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال
أحدها أنه خاف عليهم العين وكانوا أولي جمال وقوة وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أنه خاف أن يغتالوا لماظهر لهم في أرض مصر من التهمة قاله وهب بن منبه
والثالث أنه أحب أن يلقوا يوسف في خلوة قاله إبراهيم النخعي
قوله تعالى وما أغني عنكم من الله من شيء أي لن أدفع عنكم شيئا قضاه الله فإنه إن
شاء أهلككم متفرقين ومصداقة في الآية التي بعدها ما كان يغني عنهم من الله من شيء
إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم قال
الزجاج إلا حاجة استثناء ليس من الأول والمعنى لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها قال
ابن عباس قضاها أي أبداها وتكلم بها
قوله تعالى وإنه لذو علم لما علمناه فيه سبعة أقوال
أحدها إنه حافظ لما علمناه قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني وإنه لذو علم أن دخلوهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من الله شيئا قاله
الضحاك عن ابن عباس
والثالث وإنه لعامل بما علم قاله قتادة وقال ابن الأنباري سمي العمل علما لأنه
العلم أول أسباب العمل
والرابع
وإنه لمتيقن لوعدنا قاله الضحاك
والخامس وإنه لحافظ لوصيتنا قاله ابن السائب
والسادس وإنه لعالم بما علمناه أنه لا يصيب بنيه إلا ما قضاه الله قاله مقاتل
والسابع وإنه لذو علم لتعليمنا إياه قاله الفراء ولما دخلوا على يوسف آوى إليه
أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون
قوله تعالى ولما دخلوا على يوسف يعني إخوته آوى إليه أخاه يعني بنيامين وكان أخاه
لأبيه وأمه قاله قتادة وضمه إليه وأنزله معه قال ابن قتيبة يقال آويت فلانا إلي
بمد الألف إذا ضممته إليك وأويت إلى بني فلان بقصر الألف إذا لجأت إليهم
وفي قوله قال إني أنا أخوك قولان
أحدهما أنهم لما دخلوا عليه حبسهم بالباب وأدخل أخاه فقال له ما اسمك فقال بنيامين
قال فما اسم أمك قال راحيل بنت لاوي فوثب إليه فاعتنقه فقال إني أنا أخوك قاله أبو
صالح عن ابن عباس وكذلك قال ابن إسحاق أخبره أنه يوسف
والثاني أنه لم يعترف له بذلك وإنما قال أنا أخوك مكان أخيك الهالك قاله وهب بن
منبه وقيل إنه أجلسهم كل اثنين على مائدة فبقي بنيامين وحيدا يبكي وقال لو كان أخي
حيا لأجلسني معه فضمه يوسف إليه وقال إني أرى هذا وحيدا فأجسله معه على مائدته
فلما جاء الليل نام كل اثنين على منام فبقي وحيدا فقال يوسف هذا ينام معي فلما خلا
به
قال
هل لك أخ من أمك قال كان لي أخ من أمي فهلك فقال أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك
الهالك فقال أيها الملك ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف
وقام إليه فاعتنقه وقال إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس قال قتادة لا تأس ولا تحزن
وقال الزجاج لا تحزن ولا تستكن قال ابن الأنباري تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضر
والشدة أي لا يلحقنك بؤس بالذي فعلوا
قوله تعالى بما كانوا يعملون فيه ثلاثة اقوال
أحدها أنهم كانوا يعيرون يوسف وأخاه بعبادة جدهما أبي أمهما للأصنام فقال لا تبتئس
بما كانوا يعملون من التعيير لنا روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس
والثاني لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرقونك فتكون كانوا بمعنى يكونون
قال الشاعر ... فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع ... لمن كان بعدي من القصائد مصنعا
...
وقال آخر ... وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح ...
أرادك فقد كان وهذا مذهب مقاتل
والثالث لا تحزن بما عملوا من حسدنا وحرصوا على صرف وجه أبينا عنا وإلى هذا المعنى
ذهب ابن إسحاق
فلما
جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون
قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا
به زعيم
قوله تعالى فلما جهزهم بجهازهم قال المفسرون أوفى لهم الكيل وحمل ل بنيامين بعيرا
باسمه كما حمل لهم وجعل السقاية في رحل أخيه وهي الصواع فهما اسمان واقعان على شيء
واحد كالبر والحنطة والمائدة والخوان وقال بعضهم الاسم الحقيقي الصواع والسقاية
وصف كما يقال كوز وإناء فالاسم الخاص الكوز قال المفسرون جعل يوسف ذلك الصاع
مكيالا لئلا يكال بغيره وقيل كال لإخوته بذلك إكراما لهم قالوا ولما ارتحل إخوة
يوسف وأمعنوا أرسل الطلب في أثرهم فأدركوا وحبسوا ثم أذن مؤذن قال الزجاج أعلم
معلم يقال آذنته بالشيء فهو مؤذن به أي أعلمته وآذنت أكثرت الإعلام بالشيء يعني
أنه إعلام بعد إعلام أيتها العير يريد أهل العير فأنث لأنه جعلها للعير قال الفراء
لا يقال عير إلا لأصحاب الإبل وقال أبو عبيدة العير الإبل المرحولة المركوبة وقال
ابن قتيبة العير القوم على الإبل
فإن قيل كيف جاز ليوسف أن يسرق من لم يسرق فعنه أربعة أجوبة
أحدها أن المعنى إنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب قاله
الزجاج
والثاني
أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه فكان غير كاذب
في قوله قاله ابن جرير
والثالث أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف
والرابع أن المعنى إنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم كقوله ذق إنك
أنت العزيز الكريم الدخان 49 أي عند نفسك لا عندنا وقول النبي صلى الله عليه و سلم
كذب إبراهيم ثلاث كذبات أي قال قولا يشبه الكذب وليس به
قوله تعالى قالوا يعني إخوة يوسف وأقبوا عليهم فيه قولان
أحدهما على المؤذن وأصحابه والثاني أقبل المنادي ومن معه على إخوة يوسف بالدعوى
ماذا تفقدون مالذي ضل عنكم قالوا نفقد صواع الملك قال الزجاج الصواع هو الصاع
بعينه وهو يذكر ويؤنث وكذلك الصاع يذكر ويؤنث وقد قرئ صياع بياء وقرئ صوغ بغين
معجمة وقرئ صوع بعين غيرمعجمة مع فتح الصاد وضمها وقرأ أبو هريرة صاع الملك وكل
هذه لغات ترجع إلى معنى واحد إلا أن الصوغ بالغين المعجمة مصدر صغت وصف الإناء به
لأنه كان مصوغا من ذهب
واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال
أحدها أنه كان قدحا من زبرجد والثاني أنه كان من نحاس رويا عن ابن عباس والثالث
أنه كان شربة من فضة مرصعة بالجوهر قاله عكرمة
والرابع
كان كأسا من ذهب قاله ابن زيد والخامس كان من مس حكاه الزجاج
وفي صفته قولان
أحدهما أنه كان مستطيلا يشبه المكوك والثاني أنه كان يشبه الطاس
قوله تعالى ولمن جاء به يعني الصواع حمل بعير من الطعام وأنا به زعيم أي كفيل لمن
رده بالحمل يقوله المؤذن قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا
سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك
نجزي الظالمين
قوله تعالى قالوا تالله قال الزجاج تالله بمعنى والله إلا أن التاء لا يقسم بها
إلى في الله عز و جل ولا يجوز تالرحمن لأفعلن ولا تربي لأفعلن والتاء تبدل من
الوار كما قالوا في وراث تراث وقالوا يتزن وأصله يوتزن من الوزن قال ابن الأنباري
أبدلت التاء من الواو كما أبدلت في التخمة والتراث والتجاه وأصلهن من الوخمة
والوجاه لأنهن من الوخامة والوراثة والوجه ولا تقول العرب تالرحمن كما قالوا تالله
لأن الاستعمال في الإقسام كثر بالله ولم يكن بالرحمن فجاءت التاء بدلا من الواو في
الموضع الذي يكثر استعماله
قوله تعالى لقد علمتم يعنون يوسف ما جئنا لنفسد في الأرض أي لنظلم أحدا أو نسرق
فإن قيل كيف حلفوا على علم قوم لا يعرفونهم
فالجواب
من ثلاثة أوجه
أحدها أنهم قالوا ذلك لأنهم رددوا الدراهم ولا يستحلوها فالمعنى لقد علمتم أنا
رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع فكيف نستحل صاعكم رواه الضحاك عن ابن
عباس وبه قال مقاتل
والثاني لأنهم لما دخلوا مصر كعموا أفواه إبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئا وكان
غيرهم لا يفعل ذلك رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحدا
قوله تعالى فما جزاؤه المعنى قال المنادي وأصحابه فما جزاؤه قال الأخفش إن شئت
رددت الكناية إلى السارق وإن شئت رددتها إلى السرق
قوله تعالى إن كنتم كاذبين أي في قولكم وما كنا سارقين قالوا يعني إخوة يوسف جزاؤه
من وجد في رحله فهو جزاؤه أي يستعبد بذلك قال ابن عباس وهذه كانت سنة آل يعقوب
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من عاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان
ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم
قوله تعالى فبدأ بأوعيتهم قال المفسرون انصرف بهم المؤذن إلى يوسف وقال لا بد من
تفتيش أمتعتكم فبدأ يوسف بأوعيتهم قبل وعاء أخيه لإزالة التهمة فلما وصل إلى وعاء
أخيه قال ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا والله لا نبرح حتى تنظر في رحله فهو أطيب
لنفسك فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فذلك قوله ثم استخرجها
وفي
هاء الكناية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى السرقة قاله الفراء والثاني إلى السقاية قاله الزجاج والثالث
إلى الصواع على لغة من أنثه ذكره ابن الأنباري قال المفسرون فأقبلوا على بنيامين
وقالوا أي شيء صنعت فضحتنا وأزريت بأبيك الصديق فقال وضع هذا في رحلي الذي وضع
الدراهم في رحالكم وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به
قوله تعالى كذلك كدنا ليوسف فيه أربعة أقوال
أحدها كذلك صنعنا له قاله الضحاك عن ابن عباس
والثاني احتلنا له والكيد الحيلة قاله ابن قتيبة
والثالث أردنا ليوسف ذكره ابن القاسم
والرابع دبرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إلى حبسه قال ابن الأنباري لما
دبر الله ليوسف ما دبر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إخوته شبه
بالكيد من المخلوقين لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه
قوله تعالى ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في المراد بالدين هاهنا قولان
أحدهما أنه السلطان فالمعنى في سلطان الملك رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه القضاء فالمعنى في قضاء الملك لأن قضاء الملك أن من سرق إنما يضرب
ويغرم قاله أبو صالح عن ابن عباس وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه
حبسه لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب فأجرى الله على ألسنة إخوته أن جزاء السارق
الاسترقاق فكان ذلك مما كاد الله ليوسف لطفا حتى أظفره بمراده بمشيئة الله فذلك
معنى قوله إلا أن يشاء الله وقيل إلا أن يشاء الله إظهار علة يستحق بها أخاه
قوله
تعالى نرفع درجات من نشاء وقرأ يعقوب يرفع درجات من يشاء بالياء فيهما وقرأ أهل
الكوفة درجات بالتنوين والمعنى نرفع الدرجات بصنوف العطاء وأنواع الكرامات وابواب
العلوم وقهر الهوى والتوفيق للهدى كما رفعنا يوسف وفوق كل ذي علم عليم أي فوق كل
ذي علم رفعه الله بالعلم من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى والكمال
في العلم معدوم من غيره
وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أن المعنى يوسف أعلم من إخوته وفوقه من هو أعلم منه
والثاني أنه نبه على تعظيم العلم وبين أنه أكثر من أن يحاط به
والثالث أنه تعليم للعالم التواضع لئلا يعجب قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا
يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نريك من المحسنين قال
معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون
قوله تعالى قالوا يعني إخوة يوسف إن يسرق يعنون بنيامين فقد سرق أخ له من قبل
يعنون يوسف قال المفسرون عوقب يوسف ثلاث مرات قال للساقي اذكرني عند ربك فلبث في
السجن بضع سنين وقال للعزيز ليعلم أني لم أخنه بالغيب فقال له جبريل ولا حين هممت
فقال وما أبرئ نفسي وقال لإخوته إنكم لسارقون فقالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل
وفي
ما عنوا بهذه السرقة سبعة اقوال
أحدها أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني المجاعة فيطعمه للمساكين رواه
عطاء عن ابن عباس
والثاني أنه سرق مكحلة لخالته رواه أبو مالك عن ابن عباس
والثالث أنه سرق صنما لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق فعيره إخوته بذلك قاله
سعيد بن جبير ووهب بن منبه وقتادة
والرابع أن عمه يوسف وكانت أكبر ولد إسحاق كانت تحضن يوسف وتحبه حبا شديدا فلما
ترعرع طلبه يعقوب فقالت ما أقدر أن يغيب عني فقال والله ما أنا بتاركه فعمدت إلى
منطقة إسحاق فربطتها على يوسف تحت ثيابه ثم قالت لقد فقدت منطقة إسحاق فانظروا من
أخذها فوجدوها مع يوسف فأخبرت يعقوب ذلك وقالت والله إنه لي أصنع فيه ما شئت فقال
أنت وذاك فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت فذاك الذي عيره به إخوته رواه ابن أبي نجيح
عن مجاهد
والخامس أنه جاءه سائل يوما فسرق شيئا فأعطاه السائل فعيروه بذلك وفي ذلك الشيء
ثلاثة اقوال أحدهما أنه كان بيضه قاله مجاهد والثاني أنه شاة قاله كعب والثالث
دجاجة قاله سفيان بن عيينة
والسادس أن بني يعقوب كانوا على طعام فنظر يوسف إلى عرق فخبأه فعيروه بذلك قاله
عطية العوفي وإدريس الأودي قال ابن الأنباري وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب
السرقة لكنها تشبه السرقة فعيره إخوته بذلك عند الغضب
والسابع
أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه قاله الحسن وقرأ أبو رزين وابن أبي عبلة فقد سرق
بضم السين وكسر الراء وتشديدها
قوله تعالى فأسرها يوسف في نفسه في هاء الكناية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الكلمة التي ذكرت بعد هذا وهي قوله أنتم شر مكانا روى هذا
المعنى العوفي عن ابن عباس
والثاني أنها ترجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه وهي قولهم فقد سرق أخ له من قبل
وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس فعلى هذا يكون المعنى أسر جواب الكلمة فلم
يجبهم عليها
والثالث أنها ترجع إلى الحجة المعنى فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة
ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى أنتم شر مكانا فيه قولان
أحدهما شر صنيعا من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم قاله ابن عباس
والثاني شر منزلة عند الله ذكره الماوردي
قوله تعالى والله أعلم بما تصفون فيه قولان
أحدهما تقولون قاله مجاهد والثاني بما تكذبون قاله قتادة قال الزجاج المعنى والله
أعلم أسرق أخ له أم لا وذكر بعض المفسرين أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه نقر
الصواع ثم أدناه من أذنه فقال إن صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثنى عشر رجلا وأنكم
انطلقتم بأخ لكم فبعتموه فقال بنيامين أيها الملك سل صواعك عن أخي أحي هو فنقره ثم
قال
هو
حي وسوف تراه فقال سل صواعك من جعله في رحلي فنقره وقال إن صواعي هذا غضبان وهو
يقول كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت فغضب روبيل وكان بنو يعقوب إذا غضبوا
لم يطاقوا فإذا مس أحدهم الآخر ذهب غضبه فقال والله أيها الملك لتتركنا أو لأصيحن
صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا ألقت ما في بطنها فقال يوسف لابنه قم إلى جنب
روبيل فامسسه ففعل الغلام فذهب غضبه فقال روبيل ما هذا إن في هذا البلد من ذرية
يعقوب قال يوسف ومن يعقوب فقال أيها الملك لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله بن
ذبيح الله بن خليل الله فلما لم يجدوا إلى خلاص أخيهم سبيلا سألوه أن يأخذ منهم
بديلا به فذلك قوله يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا أي في سنة وقيل في قدره
فخذ أحدنا مكانه أي تستعبده بدلا عنه إنا نراك من المحسنين فيه قولان
أحدهما فيما مضى والثاني إن فعلت قال معاذ الله قد سبق تفسيره يوسف 33 والمعنى
أعوذ بالله أن نأخذ بريئا بسقيم فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم
تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح
الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين إرجعوا إلى أبيكم فقولوا
يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين
قوله تعالى فلما استيأسوا منه أي أيسوا
وفي
هاء منه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى يوسف فالمعنى يئسوا من يوسف أن يخلي سبيل أخيهم
والثاني إلى أخيهم فالمعنى يئسوا من أخيهم
قوله تعالى خلصوا نجيا أي اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم يتناجون ويتناظرون
ويتشاورون يقال قوم نجي والجمع أنجيه قال الشاعر ... إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
... واضطربت أعناقهم كالأرشية ...
وإنما وحد نجيا لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد
وقال الزجاج انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم
قوله تعالى قال كبيرهم فيه قولان
أحدهما أنه كبيرهم في العقل ثم فيه قولان أحدهما أنه يهوذا ولم يكن أكبرهم سنا
وإنما كان أكبرهم سنا روبيل قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك ومقاتل
والثاني أنه شمعون قاله مجاهد
والثاني أنه كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة والسدي
قوله تعالى ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثق من الله في حفظ
أخيكم
ورده إليه ومن قبل ما فرطتم في يوسف قال الفراء ما في موضع رفع كأنه قال ومن قبل
هذا تفريطكم في يوسف وإن شئت جعلتها نصبا المعنى ألم تعلموا هذا وتعلموا من قبل
تفريطكم في يوسف وإن شئت جعلت ما صلة كأنه قال ومن قبل فرطتم في يوسف قال الزجاج
وهذا أجود الوجوه أن تكون ما لغوا
قوله تعالى فلن أبرح الأرض أي لن أخرج من أرض مصر يقال برح الرجل براحا إذا تنحى
عن موضعه حتى يأذن لي قال ابن عباس حتى يبعث إلي أن آتيه أو يحكم الله لي فيه
ثلاثة أقوال
أحدها أو يحكم الله لي فيرد أخي علي والثاني يحكم الله لي بالسيف فأحارب من حبس
أخي والثالث يقضي في أمري شيئا وهو خير الحاكمين أي أعدلهم وأفضلهم
قوله تعالى إن ابنك سرق وقرأ ابن عباس والضحاك وابن أبي سريج عن الكسائي سرق بضم
السين وتشديد الراء وكسرها
قوله تعالى وما شهدنا إلا بما علمنا فيه قولان
أحدهما وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمنا لأنا رأينا المسروق في رحله قاله أبو
صالح عن ابن عباس
والثاني وما شهدنا عن يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إلا بما علمنا من دينك قاله ابن
زيد
وفي قوله وما كنا للغيب حافظين ثمانية أقوال
أحدها أن الغيب هو الليل والمعنى لم نعلم ما صنع بالليل قاله أبو صالح عن ابن عباس
وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلا
والثاني
ما كنا نعلم أن ابنك يسرق رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال عكرمة وقتادة ومكحول
قال ابن قتيبة فالمعنى لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينك به أنه يسرق فيؤخذ
والثالث لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق رواه عبد الوهاب عن مجاهد
والرابع لم نعلم أنه سرق للملك شيئا ولذلك حكمنا باسترقاق السارق قاله ابن زيد
والخامس أن المعنى قد رأينا السرقة قد أخذت من رحله ولا علم لنا بالغيب فلعلهم
سرقوه قاله ابن إسحاق
والسادس ما كنا لغيب ابنك حافظين إنما نقدر على حفظه في محضره فإذا غاب عنا خفيت
عنا أموره
والسابع لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به ذكرهما ابن
الأنباري
والثامن لم نعلم أنك تصاب به كما أصبت بيوسف ولو علمنا لم نذهب به قاله ابن كيسان
وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون
قوله تعالى واسأل القرية المعنى قولوا لأبيكم سل أهل القرية التي كنا فيها يعنون
مصر والعير التي أقبلنا فيها أي وأهل العير وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين قال
ابن الأنباري ويجوز أن يكون المعنى وسل القرية والعير فإنها تعقل عنك لأنك نبي
والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم فعلى هذا تسلم الآية من إضمار
قال
بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن ياتيني بهم جميعا إنه هو العليم
الحكيم
قوله تعالى قال بل سولت لكم أنفسكم في الكلام اختصار والمعنى فرجعوا إلى أبيهم فقالوا
له ذلك فقال لهم هذا وقد شرحناه في اول السورة يوسف 18
واختلفوا لأي علة قال لهم هذا القول على ثلاثة أقوال
أحدها أنه ظن أن الذي تخلف منهم إنما تخلف حيلة ومكرا ليصدقهم قاله وهب بن منبه
والثاني أن المعنى سولت لكم أنفسكم أن خروجكم بأخيكم يجلب نفعا فجر ضررا قاله ابن
الأنباري
والثالث سولت لكم أنه سرق وما سرق
قوله تعالى عسى اله أن يأتيني بهم جميعا يعني يوسف وبنيامين وأخاهما المقيم بمصر
وقال مقاتل أقام بمصر يهوذا وشمعون فاراد بقوله أن يأتيني بهم يعني الأربعة
قوله تعالى إنه هو العليم أي بشدة حزني وقيل بمكانهم الحكيم فيما حكم علي وتولي
عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم
قوله تعالى وتولى عنهم أي أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب وانفرد بحزنه وهيج عليه
ذكر يوسف وقال يا أسفى على يوسف قال ابن
عباس
يا طول حزني على يوسف قال ابن قتيبة الأسف أشد الحسرة قال سعيد بن جبير لقد أعطيت
هذه الأمة عند المصيبة مالم يعط الأنبياء قبلهم إنا لله وإنا إليه راجعون البقرة
156 ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب إذ يقول يا أسفى على يوسف
فإن قيل هذا لفظ الشكوى فأين الصبر
فالجواب من وجهين
أحدهما أنه شكا إلى الله تعالى لا منه والثاني أنه أراد به الدعاء فالمعنى يارب
ارحم أسفي على يوسف وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال نداء يعقوب الأسف
في اللفظ من المجاز الذي يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي
أو أنت راء أسفي وهذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى في المعنى سواه كما قال
يا حسرتنا والمعنى يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا قال والحزن ونفور النفس من المكروه
والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم ولم يشك إلا إلى ربه
فلما كان قوله يا أسفي شكوى إلى ربه كان غير ملوم وقد روي عن الحسن أن أخاه مات
فجزع الحسن جزعا شديدا فعوتب في ذلك فقال ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث
قال يا أسفي على يوسف
قوله تعالى وابيضت عيناه من الحزن أي انقلبت إلى حال البياض وهل ذهب بصره أم لا
فيه قولان
أحدهما أنه ذهب بصره قاله مجاهد
والثاني ضعف بصره لبياض تغشاه من كثرة البكاء ذكره الماوردي وقال مقاتل لم يبصر
بعينيه ست سنين
قال
ابن عباس وقوله من الحزن أي من البكاء يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه فلما كان
الحزن سببا للبكاء سمي البكاء حزنا وقال ثابت البناني دخل جبريل على يوسف فقال
أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب قال نعم قال ما فعل قال ابيضت عيناه
قال ما بلغ حزنه قال حزن سبعين ثكلى قال فهل له على ذلك من أجر قال أجر مائة شهيد
وقال الحسن البصري ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة وما جفت عينه وما أحد يومئذ
أكرم على الله منه حين ذهب بصره
قوله تعالى فهو كظيم الكظيم بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قاله ابن
قتيبة وقد شرحنا هذا عند قوله والكاظمين الغيظ آل عمران 134 قالوا تالله تفتؤا
تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله
وأعلم من الله مالا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من
روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون
قوله تعالى قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف قال ابن الأنباري معناه والله وجواب هذا
القسم لا المضمرة التي تأويلها تالله لا تفتأ فلما كان موضعها معلوما خفف الكلام
بسقوطها من ظاهره كما تقول العرب والله أقصدك أبدا يعنون لا أقصدك قال امرؤ القيس
فقلت
يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ...
يريد لا أبرح وقالت الخنساء ... فأقسمت آسى على هالك ... أو اسأل نائحة مالها ...
أرادت لا آسى وقال الآخر ... لم يشعر النعش ما عليه من ال ... عرف ولا الحاملون ما
حملوا ...
... تالله أنسى مصيبتي أبدا ... ما أسمعتني حنينها الإبل ...
وقرأ أبو عمران وابن محيصن وأبو حيوة قالوا بالله بالباء وكذلك كل قسم في القرآن
وأما قوله تفتأ فقال المفسرون وأهل اللغة معنى تفتأ تزال فمعنى الكلام لا تزال
تذكر يوسف وأنشد أبو عبيدة ... فما فتئت خيل تثوب وتدعي ... ويلحق منها لا حق
وتقطع ...
وأنشد ابن القاسم ... فما فتئت منا رعال كأنها ... رعال القطا حتى احتوين بني صخر
...
قوله تعالى حتى تكون حرضا فيه أربعة أقوال
أحدها أنه الدنف قاله أبو صالح عن ابن عباس قال ابن قتيبة يقال
أحرضه
الحزن أي أدنفه قال أبو عبيدة الحرض الذي قد أذابه الحزن أو الحب وهي في موضع محرض
وأنشد ... إني امرؤ لج بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم أي أذابني وقال
الزجاج الحرض الفاسد في جسمه والمعنى حتى تكون مدنفا مريضا
والثاني أنه الذاهب العقل قاله الضحاك عن ابن عباس وقال ابن إسحق الفاسد العقل قال
الزجاج وقد يكون الحرض الفاسد في أخلاقه
والثالث أنه الفاسد في جسمه وعقله يقال رجل حارض وحرض فحارض يثني ويجمع ويؤنث وحرض
لا يجمع ولا يثنى لأنه مصدر قاله الفراء
والرابع أنه الهرم قاله الحسن وقتادة وابن زيد
قوله تعالى أو تكون من الهالكين يعنون الموتى
فإن قيل كيف حلفوا على شيء يجوز أن يتغير
فالجواب أن في الكلام إضمارا تقديره إن هذا في تقديرنا وظننا
قوله تعالى إنما أشكو بثي قال ابن قتيبة البث أشد الحزن سمي بذلك لأن صاحبه لا
يصبر عليه حتى يبثه
قوله تعالى إلى الله المعنى إني لا أشكو إليكم وذلك لما عنفوه بما تقدم ذكره وروى
الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن
مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب مالذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال جبريل الله أعلم بما تشكو ثم قال يعقوب أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد علي ريحاني أشمه شمة قبل الموت ثم اصنع بي يا رب ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرأ عليك السلام ويقول أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك اصنع طعاما للمساكين فإن أحب عبادي إلي المساكين وتدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا لأنكم ذبحتم شاة فأتاكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى من كان صائما فليفطر مع يعقوب وقال وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وجبست عنك يوسف ثمانين سنة قال لا
قال
لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن
يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها وهي تخور فلم يرحمها
فإن قيل كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا
فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى وهو الأظهر
والثاني لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله شدة فاقتهم
والثالث أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور والصحيح أن ذلك
كان عن أمر الله تعالى ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء وكان يوسف يلاقي من
الحزن لأجل حزن أبيه عظيما ولا يقدر على دفع سببه
قوله تعالى وأعلم من الله مالا تعلمون فيه أربعة أقوال
أحدها أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنا سنسجد له رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أعلم من سلامة يوسف مالا تعلمون قال ابن السائب وذلك أن ملك الموت أتاه
فقال له يعقوب هل قبضت روح ابني يوسف قال لا
والثالث أعلم من رحمة الله وقدرته مالا تعلمون قاله عطاء
والرابع أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز طمع أن يكون هو يوسف قاله السدي قال
ولذلك قال لهم اذهبوا فتحسسوا وقال وهب بن منبه لما قال له ملك الموت ما قبضت روح
يوسف تباشر عند ذلك ثم أصبح فقال لبنيه اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه قال أبو
عبيدة تحسسوا أي تخبروا والتمسوا في المظان
فإن
قيل كيف قال من يوسف والغالب أن يقال تحسست عن كذا فعنه جوابان ذكرهما ابن
الأنباري
أحدهما أن المعنى عن يوسف ولكن نابت عنها من كما تقول العرب حدثني فلان من فلان
يعنون عنه
والثاني أن من أوثرت للتبعيض والمعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف
قوله تعالى ولا تيأسوا من روح الله فيه ثلاثة أقوال
أحدها من رحمة الله قاله ابن عباس والضحاك والثاني من فرج الله قاله ابن زيد
والثالث من توسعة الله حكاه ابن القاسم قال الأصمعي الروح الاستراحة من غم القلب
وقال أهل المعاني لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله إنه لاييأس من روح الله
إلا القوم الكافرون لأن المؤمن يرجوا الله في الشدائد فلما دخلوا عليه قالوا يا
أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعةمزجة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن
الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك
لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا
يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب
عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه
أبي يأت بصيرا وائتوني بأهلكم أجمعين
قوله
تعالى فلما دخلوا عليه في الكلام محذوف تقديره فخرجوا إلى مصر فدخلوا على يوسف ف
قالوا يا أيها العزيز وكانوا يسمون ملكهم بذلك مسنا وأهلنا الضر يعنون الفقر
والحاجة وجئنا ببضاعة مزجاه
أحدها أنها كانت دراهم رواه العوفي عن ابن عباس والثاني أنها كانت متاعا رثا
كالحبل والغرارة رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس والثالث كانت أقطا قاله الحسن
والرابع كانت نعالا وأدما رواه جويبر عن الضحاك والخامس كانت سويق المقل روي عن
الضحاك أيضا والسادس حبة الخضراء وصنوبر قاله أبو صالح والسابع كانت صوفا وشيئا من
سمن قاله عبد الله بن الحارث
وفي المزجاة خمسة أقوال
أحدها أنها القليلة روى العوفي عن ابن عباس قال دراهم غير طائلة وبه قال مجاهد
وابن إسحاق وابن قتيبة قال الزجاج تأويله في اللغة أن التزجية الشيء الذي يدافع به
يقال فلان يزجي العيش أي يدفع بالقليل ويكتفي به فالمعنى جئنا ببضاعة إنما ندافع
بها ونتقوت وليست مما يتسع به قال الشاعر
الواهب
المائة الهجان وعبدها ... عوذا تزجي خلفها أطفالها ...
أي تدفع أطفالها
والثاني أنها الرديئة رواه الضحاك عن ابن عباس قال أبو عبيدة إنما قيل للرديئة
مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها قال وهي من الإزجاء والإزجاء عند
العرب السوق والدفع وأنشد ... ليبك على ملحان ضيف مدفع ... وأرملة تزجي من الليل
أرملا ... أي تسوقه
والثالث الكاسدة رواه الضحاك أيضا عن ابن عباس
والرابع الرثة وهي المتاع الخلق رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس
والخامس الناقصة رواه أبو حصين عن عكرمة
قوله تعالى فأوف لنا الكيل أي أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا
قوله تعالى وتصدق علينا فيه ثلاثة أقوال
أحدها تصدق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة قاله سعيد بن جبير والسدي قال ابن
الأنباري كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدق وليس به
والثاني برد أخينا قال ابن جريج قال وذلك أنهم كانوا أنبياء والصدقة لا تحل
للأنبياء
والثالث
وتصدق علينا بالزيادة على حقنا قاله ابن عيينة وذهب إلى أن الصدقة قد كانت تحل
للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه و سلم حكاه أبو سليمان الدمشقي وأبو الحسن
الماوردي وابو يعلى بن الفراء
قوله تعالى إن الله يجزي المتصدقين أي بالثواب قال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك
إن تصدقت علينا لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن
قوله تعالى هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه في سبب قوله لهم هذا ثلاثة اقوال
أحدها أنه أخرج إليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر وفي
آخر الكتاب وكتب يهوذا فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا هذا كتاب كتبناه
على أنفسنا عند بيع عبد كان لنا فقال يوسف عند ذلك إنكم تستحقون العقوبة وأمر بهم
ليقتلوا فقالوا إن كنت فاعلا فاذهب بأمتعتنا إلى يعقوب ثم أقبل يهوذا على بعض
إخوته وقال قد كان ابونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده فكيف به إذا أخبر بهلكنا أجمعين
فرق يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره وقال لهم هذا القول رواه أبو صالح عن ابن عباس
الثاني أنهم لما قالوا مسنا وأهلنا الضر أدركته الرحمة فقال لهم هذا قاله ابن
إسحاق
والثالث أن يعقوب كتب إليه كتابا إن رددت ولدي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من
ولدك فبكى وقال لهم هذا
وفي هل قولان
أحدهما أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام قال ابن
الأنباري
والمعنى ما أعظم ما ارتكبتم وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق وهذا
مثل قول العربي أتدري من عصيت هل تعرف من عاديت لا يرد بذلك الاستفهام ولكن يريد
تفظيع الأمر قال الشاعر ... أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ...
لم يرد الاستفهام إنما أراد أن هذا غير مرجو عندهم قال ويجوز أن يكون المعنى هل
علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه وهذه الآية تصديق
قوله لتنبئنهم بأمرهم
والثاني أن هل بمعنى قد ذكره بعض أهل التفسير
فإن قيل فالذي فعلوا بيوسف معلوم فما الذي فعلوا بأخيه وما سعوا في حبسه ولا
أرادوه
فالجواب من وجوه أحدها أنهم فرقوا بينه وبين يوسف فنغصوا عيشه بذلك والثاني أنهم
آذوه بعد فقد يوسف والثالث أنهم سبوه لما قذف بسرقة الصاع
وفي قوله إذ أنتم جاهلون أربعة أقوال
أحدها إذ أنتم صبيان قاله ابن عباس والثاني مذنبون قاله مقاتل والثالث جاهلون
بعقوق الأب وقطع الرحم وموافقة الهوى والرابع جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف
ذكرهما ابن الأنباري
قوله تعالى أئنك لأنت يوسف قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن إنك على الخبر وقرأه
آخرون بهمزتين محققتين وأدخل بعضهم بينهما ألفا
واختلف
المفسرون هل عرفوه أم شبهوه على قولين
أحدهما أنهم شبهوه بيوسف قاله ابن عباس في رواية
والثاني أنهم عرفوه قاله ابن إسحاق وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال
أحدها أنه تبسم فشبهوا ثناياه بثنايا يوسف قاله الضحاك عن ابن عباس
والثاني أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها
ولسارة مثلها فلما وضع التاج عن رأسه عرفوه رواه عطاء عن ابن عباس
والثالث أنه كشف الحجاب فعرفوه قاله ابن إسحاق
قوله تعالى قال أنا يوسف قال ابن الأنباري إنما أظهر الاسم ولم يقل أنا هو تعظيما
لما وقع به من ظلم إخوته فكأنه قال أنا المظلوم المستحل منه المراد قتله فكفى ظهور
الاسم من هذه المعاني ولهذا قال وهذا أخي وهم يعرفونه وإنما قصد وهذا المظلوم
كظلمي
قوله تعالى قد من الله علينا فيه ثلاثة أقوال
أحدها بخير الدنيا والآخرة والثاني بالجمع بعد الفرقة والثالث بالسلامة ثم
بالكرامة
قوله تعالى إنه من يتق ويصبر قرأ ابن كثير في رواية قنبل من يتقي ويصبر بياء في
الوصل والوقف وقرأ الباقون بغير ياء الحالين
وفي معنى الكلام أربعة أقوال
أحدها من يتق الزنى ويصبر على البلاء والثاني من يتق الزنى ويصبر
على
العزبة والثالث من يتق الله ويصبر على المصائب رويت هذه الأقوال عن ابن عباس
والرابع يتق معصية الله ويصبر على السجن قاله مجاهد
قوله تعالى فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي أجر من كان هذا حاله
قوله تعالى لقد آثرك الله علينا أي اختارك وفضلك
وبماذا عنوا أنه فضله فيه أربعة أقوال
أحدها بالملك قاله الضحاك عن ابن عباس والثاني بالصبر قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث بالحلم والصفح عنا ذكره أبو سليمان الدمشقي والرابع بالعلم والعقل والحسن
وسائر الفضائل التي أعطاه
قوله تعالى وإن كنا لخاطئين قال ابن عباس لمذنبين آثمين في أمرك قال ابن الأنباري
ولهذا اختير خاطئين على مخطئين وإن كان أخطأ على ألسن الناس أكثر من خطئ يخطأ لأن
معنى خطئ يخطأ فهو خاطئ آثم ومعنى أخطأ يخطئ فهو مخطئ ترك الصواب ولم يأثم قال
الشاعر ... عبادك يخطأون وأنت رب ... بكفيك المنايا والحتوم ...
أراد يأثمون قال ويجوز أن يكون آثر خاطئين على مخطئين لموافقة رؤوس الآيات لأن
خاطئين أشبه بما قبلها
وذكر الفراء في معنى إن قولين
أحدهما وقد كنا خاطئين والثاني وما كنا إلا خاطئين
قوله تعالى لا تثريب عليكم اليوم قال أبو صالح عن ابن عباس لا أعيركم بعد اليوم
بهذا أبدا قال ابن الأنباري إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو وسبيل
العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة وقال ثعلب قد ثرب
فلان
على فلان إذا عدد عليه ذنوبه وقال ابن قتيبة لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما
صنعتم وأصل التثريب الإفساد يقال ثرب علينا إذا أفسد وفي الحديث إذا زنت أمة أحدكم
فليجلدها الحد ولا يثرب أي لا يعيرها بالزنى قال ابن عباس جعلهم في حل وسأل الله
المغفرة لهم وقال السدي لما عرفهم نفسه سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه فأعطاهم
قميصه وقال اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وهذا القميص كان في
قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف لما ألقي في الجب وكان من الجنة وقد سبق ذكره يوسف
1825 26 27 28
قوله تعالى يأت بصيرا قال أبو عبيدة يعود مبصرا
فإن قيل من أين قطع على الغيب
فالجواب أن ذلك كان بالوحي إليه قاله مجاهد
قوله تعالى وائتوني بأهلكم أجمعين قال الكلبي كان أهله نحوا من سبعين إنسانا ولما
فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون
قوله تعالى ولما فصلت العير أي خرجت من مصر متوجهة إلى كنعان وكان الذي حمل القميص
يهوذا قال السدي قال يهوذا ليوسف أنا الذي حملت القميص إلى يعقوب بدم كذب فأحزنته
وأنا الآن أحمل قميصك لأسرة فحمله قال ابن عباس فخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة
أرغفة لم يستوف أكلها
قوله
تعالى قال لهم أبوهم يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده إني لأجد ريح
يوسف ومعنى أجد أشم قال الشاعر ... وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنها أصلاب
قوم تقصف ...
... وليس فتيق المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف ...
فإن قيل كيف وجد يعقوب ريحه وهو بمصر ولم يجد ريحه من الجب وبعد خروجه منه
والمسافة هناك أقرب
فعنه جوابان أحدهما أن الله تعالى أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع
البلية التي يتكامل بها الأجر وأوجده ريحه من المكان النازح عند تقضي البلاء ومجيء
الفرج
والثاني أن هذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه
فلما نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب فعلم أن الرائحة من جهة ذلك
القميص قال مجاهد هبت ريح فضربت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب
فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن
ثم قال إني لأجد ريح يوسف وقيل إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف
قبل البشير فأذن لها فلذلك يستروح كل محزون إلى ريح الصبا ويجد المكروبون لها روحا
وهي ريح لينة تأتي من ناحية المشرق قال أبو صخر الهذلي ... إذا قلت هذا حين اسلو
يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر ...
قال ابن عباس وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخا
قوله
تعالى لولا أن تفندون فيه خمسة أقوال
أحدها تجهلون رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مقاتل
والثاني تسفهون رواه عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس وبه قال عطاء وقتادة
ومجاهد في رواية وقال في رواية أخرى لولا أن تقولوا ذهب عقلك
والثالث تكذبون رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والضحاك
والرابع تهرمون قاله الحسن ومجاهد في رواية قال ابن فارس الفند إنكار العقل من هرم
والخامس تعجزون قاله ابن قتيبة وقال أبو عبيدة تسفهون وتعجزون وتلومون وأنشد ...
يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمر بمردود ...
قال ابن جرير وأصل التفنيد الإفساد وأقوال المفسرين تتقارب معانيها وسمعت الشيخ
أبا محمد إبن الخشاب يقول قوله لولا أن تفندون فيه إضمار تقديره لأخبرتكم أنه حي
قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم
قوله تعالى قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم قال ابن عباس بنو بنيه خاطبوه بهذا
وكذلك قال السدي هذا قول بني بنيه لأن بنيه كانوا بمصر
وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال
أحدها
أنه بمعنى الخطأ قاله ابن عباس وابن زيد والثاني أنه الجنون قاله سعيد بن جبير
والثالث الشقاء والعناء قاله مقاتل يريد بذلك شقاء الدنيا فلما أن جاء البشير ألقه
على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون قالوا يا
أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور
الرحيم
قوله تعالى فلما أن جاء البشير فيه قولان
أحدهما أنه يهوذا قاله أبو صالح عن ابن عباس وبه قال وهب بن منبه والسدي والجمهور
والثاني أنه سمعون قاله الضحاك
فإن قيل ما الفرق بين قوله هاهنا فلما أن جاء وقال في موضع فلما جاءهم البقرة 89
فالجواب أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعا فدخول أن لتوكيد مضي الفعل
وسقوطها للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى ألقاه يعني القميص على وجهه يعني يعقوب فارتد بصيرا الارتداد رجوع
الشيء إلى حال قد كان عليها قال ابن الأنباري إنما قال ارتد ولم يقل رد لأن هذا من
الأفعال المنسوبة إلى المفعولين كقولهم طالت النخلة والله أطالها وتحركت الشجرة
والله حركها قال الضحاك رجع إليه بصره بعد العمى وقوته بعد الضعف وشبابه بعد الهرم
وسروره بعد الحزن
وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال لما جاء البشير يعقوب قال على أي دين تركت يوسف
قال على الإسلام قال الآن تمت النعمة
قوله
تعالى ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا
بقليل
قوله تعالى يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا سألوه يستغفر لهم ما أتوا لأنه نبي مجاب
الدعوة قال سوف أستغفر لكم ربي في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال
أحدهما أنه أخرهم لانتظار الوقت الذي هو مظنة الإجابة ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها
أنه أخرهم إلى ليلة الجمعة رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
وهب كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة والثاني إلى وقت السحر من ليلة
الجمعة رواه أبو صالح عن ابن عباس قال طاووس فوافق ذلك ليلة عاشوراء والثالث إلى
وقت السحر رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود وابن عمر وقتادة والسدي
ومقاتل قال الزجاج إنماأراد الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء لا أنه ضن عليهم
بالاستغفار وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام
والقول الثاني أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى
الشباب أسهل منها عند الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف لا تثريب عليكم اليوم وإلى قول
يعقوب سوف أستغفر لكم ربي
والثالث أنه أخرهم ليسأل يوسف فإن عفا عنهم استغفر لهم قاله الشعبي وروي عن أنس بن
مالك أنهم قالوا يا أبانا إن عفا الله عنا وإلا فلا
قرة
عين لنا في الدنيا فدعا يعقوب وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة ثم جاء جبريل فقال
إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعفا عما صنعوا به واعتقد مواثيقهم من بعد على
النبوة قال المفسرون وكان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة
وسأله أن يأتيه بأهله وولده فلما ارتحل يعقوب ودنا من مصر استأذن يوسف الملك الذي
فوقه في تلقي يعقوب فأذن له وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه فخرج في أربعة آلاف
من الجند وخرج معهم أهل مصر
وقيل إن الملك خرج معهم أيضا فلما التقى يعقوب ويوسف بكيا جميعا فقال يوسف يا أبت
بكيت علي حتى ذهب بصرك أما علمت أن القيامة تجمعني وإياك قال أي بني خشيت أن تسلب
دينك فلا نجتمع
وقيل إن يعقوب ابتدأه بالسلام فقال السلام عليكم يا مذهب الأحزان فلما دخلوا على
يوسف آوى إليه ابويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين
قوله تعالى فلما دخلوا على يوسف يعني يعقوب وولده
وفي هذا الدخول قولان
أحدهما أنه دخول أرض مصر ثم قال لهم ادخلوا مصر يعني البلد
والثاني أنه دخول مصر ثم قال لهم ادخلوا مصر أي استوطنوها
وفي قوله آوى إليه أبويه قولان
أحدهما أبوه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت قاله ابن عباس والجمهور
والثاني أبوه وأمه قاله الحسن وابن إسحاق
وفي
قوله إن شاء الله آمنين أربعة أقوال
أحدها أن في الكلام تقديما وتأخيرا فالمعنى سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله إنه هو
الغفور الرحيم هذا قول ابن جريج
والثاني أن الاستثناء يعود إلى الأمن ثم فيه قولان أحدهما أنه لم يثق بانصراف
الحوادث عنهم والثاني أن الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر فلا يدخلون إلا
بجوارهم
والثالث أنه يعود إلى دخول مصر لأنه قال لهم هذا حين تلقاهم قبل دخولهم على ما سبق
بيانه
والرابع أن إن بمعنى إذ كقوله إن أردن تحصنا النور 33 قال ابن عباس دخلوا مصر
يومئذ وهم نيف وسبعون من ذكر وأنثى وقال ابن مسعود دخلوا وهم ثلاثة وتسعون وخرجوا
مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا
أبت هذا تأويل رءياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء
بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو
العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات
والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين
قوله تعالى ورفع أبويه على العرش في أبويه قولان قد تقدما في
الآية
التي قبلها والعرش هاهنا سرير المملكة أجلس أبويه عليه وخروا له يعني أبويه وإخوته
وفي هاء له قولان
أحدهما أنها ترجع إلى يوسف قاله الجمهور قال أبو صالح عن ابن عباس كان سجودهم
كهيأة الركوع كما يفعل الأعاجم وقال الحسن أمرهم الله بالسجود لتأويل الرؤيا قال
ابن الأنباري سجدوا له على جهة التحية لا على معنى العبادة وكان أهل ذلك الدهر
يحيى بعضهم بعضا بالسجود والانحناء فحظره رسول الله صلى الله عليه و سلم فروى أنس
بن مالك قال قال رجل يا رسول الله أحدنا يلقى صديقه اينحني له قال لا
والثاني أنها ترجع إلى الله فالمعنى وخروا لله سجدا رواه عطاء والضحاك عن ابن عباس
فيكون المعنى أنهم سجدوا شكرا لله إذ جمع بينهم وبين يوسف
قوله تعالى هذا تأويل رؤياي اي تصديق ما رأيت وكان قد رآهم في المنام يسجدون له
فأراه الله ذلك في اليقظة
واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال
أحدها أربعون سنة قاله سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد بن الهاد ومقاتل والثاني
اثنتان وعشرون سنة قاله أبو صالح عن ابن عباس والثالث ثمانون سنة قاله الحسن
والفضيل بن عياض والرابع ست وثلاثون سنة
قاله
سعيد بن جبير وعكرمة والسدي والخامس خمس وثلاثون سنة قاله قتادة والسادس سبعون سنة
قاله عبد الله بن شوذب السابع ثماني عشرة سنة قاله ابن إسحاق
قوله تعالى وقد أحسن بي أي إلي والبدو البسط من الأرض وقال ابن عباس البدو البادية
وكانوا أهل عمود وماشية
قوله تعالى من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي أفسد بيننا قال أبو عبيدة
يقال نزغ بينهم ينزغ أي أفسد وهيج وبعضهم يكسر زاي ينزغ إن ربي لطيف لما يشاء أي
عالم بدقائق الأمور وقد شرحنا معنى اللطيف في الأنعام 102
فإن قيل قد توالت على يوسف نعم خمسة فما اقتصاره على ذكر السجن وهلا ذكرالجب وهو
أصعب
فالجواب من وجوه
أحدها أنه ترك ذكر الجب تكرما لئلا يذكر إخوته صنيعهم وقد قال لا تثريب عليكم
اليوم
والثاني أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك فكانت هذه النعمة أوفى
والثالث أن طول لبثه في السجن كان عقوبة له بخلاف الجب فشكر الله على عفوه
قال العلماء بالسير أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة وقال بعضهم سبع
عشرة سنة في أهنأ عيش فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف
أن
يحمل إلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ففعل به ذلك وكان عمره مائة وسبعا
وأربعين سنة ثم إن يوسف تاق إلى الجنة وعلم أن الدنيا لا تدوم فتمنى الموت قال ابن
عباس وقتادة ولم يتمن الموت نبي قبله فقال رب قد آتيتني من الملك يعني ملك مصر
وعلمتني من تأويل الأحاديث وقد سبق تفسيرها يوسف 6
وفي من قولان
أحدهما أنها صلة قاله مقاتل والثاني أنها للتبعيض لأنه لم يؤت كل الملك ولا كل
تأويل الأحاديث
قوله تعالى فاطر السموات والأرض قد شرحناه في الأنعام 6
أنت وليي أي الذي تلي أمري توفني مسلما قال ابن عباس يريد لا تسلبني الإسلام حتى
تتوفاني عليه وكان ابن عقيل يقول لم يتمن يوسف الموت وإنما سأل أن يموت على صفة
والمعنى توفني إذا توفيتني مسلما قال الشيخ وهذا الصحيح
قوله تعالى وألحقني بالصالحين والمعنى ألحقني بدرجاتهم وفيهم قولان
أحدهما أنهم أهل الجنة قاله عكرمة
والثاني آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب قاله الضحاك قالوا فلما احتضر يوسف أوصى إلى
يهوذا ومات فتشاح الناس في دفنه كل يحب أن يعرفن في محلته رجاء البركة فاجتمعوا
على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إلى الجميع فدفنوه في صندوق من رخام فكان
هنالك إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان قال الحسن مات يوسف وهو
ابن مائة وعشرين سنة وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين
ذلك
من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من
الأخبار التي كانت غائبة عنك فأنزله الله عليك دليلا على نبوتك وما كنت لديهم أي
عند إخوة يوسف إذ أجمعوا أمرهم أي عزموا على إلقائه في الجب وهم يمكرون بيوسف وفي
هذا احتجاج على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم لأنه لم يشاهد تلك القصة ولا
كان يقرأ الكتاب وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز فدل على أنه أخبر بوحي ووما
أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسئلهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين
قوله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين قال ابن الأنباري إن قريشا واليهود
سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحها شرحا شافيا وهو
يؤمل ان يكون ذلك سبا لإسلامهم فخالفوا ظنه فحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم
فعزاه الله تعالى بهذه الآية قال الزجاج ومعناها وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت
على أن تهديهم وما تسألهم عليه أي على القرآن وتلاوته وهدايتك إياهم من أجر إن هو
أي ما هو إلا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم وكأين من آية في السموات والأرض
يمرون عليها وهم عنها معرضون
قوله تعالى وكأين أي وكم من آية أي علامة ودلالة تدلهم
على
توحيد الله من أمر السموات والأرض يمرون عليها أي يتجاوزونها غير متفكرين ولا
معتبرين وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المشركون ثم في معناها المتعلق بهم قولان أحدهما أنهم يؤمنون بأن الله
خالقهم ورازقهم وهم يشركون به رواه أبوصالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة
والشعبي وقتادة والثاني أنها نزلت في تلبية مشركي العرب كانوا يقولون لبيك اللهم
لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني انهم النصارى يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم ومع ذلك يشركون به رواه العوفي
عن ابن عباس
والثالث أنهم المنافقون يومنون في الظاهر رئاء الناس وهم في الباطن كافرون قاله
الحسن
فإن قيل كيف وصف المشرك بالإيمان
فالجواب أنه ليس المراد به حقيقة الإيمان وإنما المعنى أن أكثرهم مع إظهارهم
الإيمان بألسنتهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة
بغتة وهم لا يشعرون
قوله تعالى أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله قال ابن قتيبة الغاشية المجللة
تغشاهم وقال الزجاج المعنى يأتيهم ما يغمرهم من العذاب والبغتة الفجأة من حيث لم تتوقع
قل
هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من
المشركين
قوله تعالى قل هذه سبيلي المعنى قل يا محمد للمشركين هذه الدعوة التي أدعو إليها
والطريقة التي أنا عليها سبيلي أي سنتي ومنهاجي والسبيل تذكر وتؤنث وقد ذكرنا ذلك
في آل عمران 195 أدعوا إلى الله على بصيرة أي على يقين قال ابن الأنباري وكل مسلم
لا يخلو من الدعاء إلى الله عز و جل لأنه إذا تلا القرآن فقد دعا إلى الله بما فيه
ويجوز أن يتم الكلام عند قوله إلى الله ثم ابتدأ فقال على بصيرة أنا ومن اتبعني
قوله تعالى وسبحان الله المعنى وقل سبحان الله تنزيها له عما أشركوا وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون
قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا هذا نزل من أجل قولهم هلا بعث الله ملكا
فالمعنى كيف تعجبوا من إرسالنا إياك وسائر الرسل كانوا على مثل حالك يوحى إليهم
وقرأ حفص عن عاصم نوحي بالنون والمراد بالقرى المدائن وقال الحسن لم يبعث الله
نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء قال قتادة لأن أهل القرى أعلم
وأحلم من اهل العمود
قوله تعالى أفلم يسيروا في الأرض يعني المشركين المنكرين نبوتك فينظروا إلى مصارع
الأمم المكذبة فيعتبروا بذلك ولدار الآخرة يعني الجنة خير من الدنيا للذين اتقوا
الشرك قال الفراء أضيفت الدار إلى الآخرة وهي الآخرة لأن العرب قد تضيف الشيء إلى
نفسه إذا
اختلف
لفظه كقوله لهو حق اليقين الواقعة 96 والحق هو اليقين وقولهم أتيتك عام الأول ويوم
الخميس
قوله تعالى أفلا يعقلون قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص والمفضل ويعقوب تعقلون
بالتاء وقرأ الآخرون بالياء والمعنى أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا حتى إذا استيئس الرسل
وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين
قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره وما أرسلنا
من قبلك إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا
استيأس الرسل وفيه قولان
أحدهما استيأسوا من تصديق قومهم قاله ابن عباس
والثاني من أن نعذب قومهم قاله مجاهد وظنوا أنهم قد كذبوا قرأ ابن كثير ونافع وأبو
عمرو وابن عامر كذبوا مشددة الذال مضمومة الكاف والمعنى وتيقن الرسل أن قومهم قد
كذبوهم فيكون الظن هاهنا بمعنى اليقين هذا قول الحسن وعطاء وقتادة وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي كذبوا خفيفة والمعنى ظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من النصر
لأن الرسل لا يظنون ذلك وقرأ أبو رزين ومجاهد والضحاك كذبوا بفتح الكاف والذال
خفيفة والمعنى ظن قومهم أيضا أنهم قد كذبوا قاله الزجاج
قوله تعالى جاءهم نصرنا يعني الرسل فننجي من نشاء قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو
وحمزة والكسائي فننجي بنونين الأولى
مضمومة
والثانية ساكنة والياء ساكنة وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحفص جميعا عن عاصم ويعقوب
فنجي مشدده الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة يعني المؤمنين نجوا عند نزول العذاب لقد
كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه
وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
قوله تعالى لقد كان في قصصهم اي في خبر يوسف وإخوته وروى عبد الوارث كسر القاف وهي
قراءة قتادة وأبي الجوزاء عبرة أي عظة لأولي الألباب أي لذوي العقول السليمة وذلك
من وجهين
أحدهما ما جرى ليوسف من إعزازه وتمليكه بعد استعباده فإن من فعل ذلك به قادر على
إعزاز محمد صلى الله عليه و سلم وتعلية كلمته
والثاني أن من تفكر علم أن محمدا صلى الله عليه و سلم مع كونه أميا لم يأت بهذه
القصة على موافقة ما في التوراة من قبل نفسه فاستدل بذلك على صحة نبوته
قوله تعالى ما كان حديثا يفترى في المشار إليه قولان
أحدهما أنه القرآن قاله قتادة
والثاني ما تقدم من القصص قاله ابن إسحاق فعلى القول الأول يكون معنى قوله ولكن
تصديق الذي بين يديه ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتب وتفصيل كل شيء يحتاج
إليه من أمور الدين وهدى بيانا
ورحمة لقوم يؤمنون أي يصدقون بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وعلى القول الثاني وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإخوته
سورة
الرعد
فصل في نزولها
اختلفوا في نزولها على قولين
أحدهما أنها مكية رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وسعيد بن جبير
وعطاء وقتادة وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية إلا آيتين منها قوله ولا يزال
الذين كفروا تعيبهم بما صنعوا قارعة إلى آخر الآية الرعد 31 وقوله ويقول الذين
كفروا لست مرسلا الرعد 43
والثاني أنها مدنية رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس وبه قال جابر ابن زيد وروي عن
ابن عباس أنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة وهما قوله ولو ان قرآنا سيرت به الجبال
إلى آخرها الرعد 31 وقال بعضهم المدني منها قوله هو الذي يريكم البرق إلى قوله له
دعوة الحق الرعد 14
بسم الله الرحمن الرحيم آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك
الحق
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على
العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء
ربكم توقنون
قوله تعالى آلمر قد ذكرنا في سورة البقرة جملة من الكلام في معاني هذه الحروف وقد
روي عن ابن عباس في تفسير هذه الكلمة ثلاثة أقوال
أحدها أن معناها أنا الله أعلم وأرى رواه أبو الضحى عنه والثاني أنا الله أرى رواه
سعيد بن جبير عنه والثالث أنا الله الملك الرحمن رواه عطاء عنه
قوله تعالى تلك آيات الكتاب في تلك قولان وفي الكتاب قولان قد تقدمت في أول يونس
قوله تعالى و الذي أنزل إليك من ربك الحق يعني القرآن وغيره من الوحي ولكن أكثر
الناس لا يؤمنون قال ابن عباس يعني أهل مكة قال الزجاج لما ذكر أنهم لا يؤمنون عرف
الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال الله الذي رفع السموات بغير عمد قال أبو
عبيدة العمد متحرك الحروف بالفتحة وبعضهم يحركها بالضمة لأنها جمع عمود وهو القياس
لأن كل كلمة هجاؤها أربعة أحرف الثالث منها ألف أو ياء أو واو فجميعه مضموم الحروف
نحو رسول والجمع رسل وحمار والجمع حمر غير أنه قد جاءت أسامي استعملوا جميعها
بالحركة والفتحة نحو عمود وأديم وإهاب قالوا ادم
وأهب
ومعنى عمد سوار ودعائم وما يعمد البناء وقرأ أبو حيوة بغير عمد بضم العين والميم
وفي قوله ترونها قولان
أحدهما أن هاء الكناية ترجع إلى السموات فالمعنى ترونها بغير عمد قاله أبو صالح عن
ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة والجمهور وقال ابن الأنباري ترونها خبر مستأنف
والمعنى رفع السموات بلا دعامة تمسكها ثم قال ترونها أي ما تشاهدون من هذا الأمر
العظيم يغنيكم عن إقامة الدلائل عليه
والثاني أنها ترجع إلى العمد فالمعنى إنها بعمد لا ترونها رواه عطاء والضحاك عن
ابن عباس وقال لها عمد على قاف ولكنكم لا ترون العمد وإلى هذا القول ذهب مجاهد
وعكرمة والأول أصح
قوله تعالى وسخر الشمس والقمر اي ذللهما لما يراد منهما كل يجري لأجل مسمى أي إلى
وقت معلوم وهو فناء الدنيا يدبر الأمر أي يصرفه بحمته يفصل الآيات أي يبين الآيات
التي تدل أنه قادر على البعث لكي توقنوا بذلك وقرأ أبو دزيني وقتادة والنخعي ندبر
الأمر نفصل الآيات بالنون فيهما
وهو
الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي
الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
قوله تعالى وهو الذي مد الأرض قال ابن عباس بسطها على الماء
قوله تعالى وجعل فيها رواسي قال الزجاج أي جبالا ثوابت يقال رسا الشي يرسوا رسوا
فهر راس إذا ثبت و جعل فيها زوجين اثنين أي نوعين والزوج الواحد الذي له قريب من
جنسه قال المفسرون ويعني بالزوجين الحلو والحامض والعذب والملح والأبيض والأسود
قوله تعالى يغشى الليل النهار قد شرحناه في الأعراف 54 وفي الأرض قطع متجاورات
وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض
في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
قوله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات فيها قولان
أحدهما أنها الأرض السبخة والأرض العذبة تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت هذا قول
ابن عباس وأبي العالية ومجاهد والضحاك
والثاني أنها القرى المتجاورات قاله قتادة وابن قتيبة وهو يرجع إلى معنى الأول
قوله تعالى وزرع ونخيل قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وزرع ونخيل صنوان وغير
صنوان رفعا في الكل وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وزرع
ونخيل صنوان
وغير
صنوان خفضا في الكل قال أبو علي من دفع فالمعنى وفي الأرض قطع متجاورات وجنات وفي
الأرض زرع ومن خفض حمله على الأعناب فالمعنى جنات من أعناب ومن زرع ومن نخيل
قوله تعالى صنوان وغير صنوان هذا من صفة النخيل قال الزجاج الصنوان جمع صنو وصنو
ومعناه أن يكون الأصل واحدا وفيه النخلتان والثلاث والأربع وكذلك قال المفسرون
الصنوان النخل المجتمع وأصله واحد وغير صنوان المتفرق وقرأ أبو رزين وابو عبد
الرحمن السلمي وابن جبير وقتادة صنوان بضم الصاد قال الفراء لغة أهل الحجاز صنوان
بكسر الصاد وتميم وقيس يضمون الصاد
قوله تعالى تسقى بماء واحد قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو تسقى بالتاء ونفضل بالنون
وقرأ حمزة والكسائي تسقى بالتاء أيضا لكنهما أمالا القاف وقرأ الحسن ويفضل بالياء
وقرأ عاصم وابن عامر يسقى بالياء ونفضل بالنون وكلهم كسر الضاد وروى الحلبي عن عبد
الوارث ضم الياء من يفضل وفتح الضاد بعضها برفع الضاد وقال الفراء من قرأ تسقى
بالتاء ذهب إلى تأنيث الزرع والجنات والنخيل ومن كسر ذهب إلى النبت وذلك كله يسقى
بماء واحد وأكله مختلف حامض وحلو ففي هذا آية قال المفسرون الماء الواحد ماء المطر
والأكل الثمر بعضه أكبر من بعض وبعضه أفضل من بعض وبعضه حامض وبعضه حلو إلى غير
ذلك وفي هذا دليل على بطلان قول الطبائعيين لأنه لو كان حدوث الثمر على طبع الأرض
والهواء والماء وجب أن يتفق ما يحدث لاتفاق ما أوجب
الحدوث
فلما وقع الاختلاف دل على مدبر قادر إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون أنه لا تجوز
العبادة إلا لمن يقدر على هذا وإن تعجب فعجب قولهم ءإذا كنا ترابا ءإنا لفي خلق
جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون
قوله تعالى وإن تعجب أي من تكذيبهم وعبادتهم مالا ينفع ولا يضر بعدما رأوا من
تأثير قدرة الله عز و جل في خلق الأشياء فانكارهم البعث موضع عجب وقيل المعنى وإن
تعجب بما وقفت عليه من القطع المتجاورات وقدرة ربك في ذلك فعجب جحدهم البعث لأنه
قد بان لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل من القدرة
قوله تعالى أإذا كنا ترابا قرأ ابن كثير وأبو عمرو آيذا كنا ترابا آينا جميعا
بالاستفهام غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة وابن كثير يأتي بياء
ساكنة بعد الهمزة من غير مد وقرأ نافع آيذا مثل أبي عمرو واختلف عنه في المد وقرأ
إنا لفي خلق مكسورة على الخبر وقرأ عاصم وحمزة أإذا كنا أإنا بهمزتين فيهما وقرأ
ابن عامر إذا كنا ترابا مكسورة الألف من غير استفهام أإنا يهمز ثم يمد ثم يهمز على
وزن عاعنا وروي عن ابن عامر أيضا أإذا بهمزتين لا ألف بينهما
والأغلال جمع غل وفيها قولان أحدهما أنها أغلال يوم القيامة قاله الأكثرون والثاني
أنها الأعمال التي هي أغلال قاله الزجاج
ويستعجلونك
بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
وإن ربك لشديد العقاب ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر
ولكل قوم هاد الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده
بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال
قوله تعالى ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنهانزلت في كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتيهم
بالعذاب استهزاء منهم بذلك قاله ابن عباس
والثاني في مشركي العرب قاله قتادة
والثالث في النضر بن الحارث حين قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك قاله مقاتل
وفي السيئة والحسنة قولان
أحدهما بالعذاب قبل العافية قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني بالشر قبل الخير قاله قتادة
فأما المثلات فقرأ الجمهور بفتح الميم وقرأ عثمان وأبو رزين وأبو مجلز وسعيد بن
جبير وقتادة والحسن وابن أبي عبلة برفع الميم
ثم في معناها قولان
أحدهما أنها العقوبات قاله ابن عباس وقال الزجاج المعنى قد تقدم
من
العذاب ما هو مثله وما فيه نكال لو أنهم اتعظوا وقال ابن الأنباري المثلة العقوبة
التي تبقي في المعاقب شينا بتغيير بعض خلقه من قولهم مثل فلان بفلان إذا شان خلقه
بقطع أنفه أو أذنه أو سمل عينيه أو نحو ذلك
والثاني أن المثلات الأمثال التي ضربها الله عز و جل لهم قاله مجاهد وأبو عبيدة
قوله تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم قال ابن عباس لذو تجاوز عن المشركين
إذا آمنوا وإنه لشديد العقاب للمصرين على الشرك وقال مقاتل لذو تجاوز عن شركهم في
تأخير العذاب وإنه لشديد العقاب إذا عذب
فصل
وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به
النساء 48 والمحققون على أنها محكمة
قوله تعالى لولا أنزل عليه آية من ربه لولا بمعنى هلا والآية التي طلبوها مثل عصا
موسى وناقة صالح ولم يقنعوا بما رأوا فقال الله تعالى إنما أنت منذر أي مخوف عذاب
الله وليس لك من الآيات شيء
وفي قوله لكل قوم هاد ستة أقوال
أحدها
أن المراد بالهادي الله عز و جل رواه العوفي عنب ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي فيكون المعنى إنما إليك الإنذار والله الهادي
والثاني أن الهادي الداعي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أن الهادي النبي صلى الله عليه و سلم قاله الحسن وعطاء وقتادة وابن زيد
فالمعنى ولكل قوم نبي ينذرهم
والرابع أن الهادي رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضا قاله عكرمة وأبو الضحى
والمعنى أنت منذر وأنت هاد
والخامس أن الهادي العمل قاله أبو العالية
والسادس أن الهادي القائد إلى الخير أو إلى الشر قاله أبو صالح عن ابن عباس
وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال
لمانزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على صدره فقال أنا
المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي فقال أنت الهادي يا علي بك يهتدى من بعدي قال
المصنف وهذا من موضوعات الرافضة
ثم
إن الله تعالى أخبرهم عن قدرته ردا على منكري البعث فقال الله يعلم ما تحمل كل
أنثى أي من علقة أو مضغة أو زائد أو ناقص أو ذكر أو أنثى أو واحد أو اثنين أو أكثر
وما تغيض الأرحام أي وما تنقص وما تزداد وفيه أربعة أقوال
أحدها ما تغيض بالوضع لأقل من تسعة أشهر وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر رواه
الضحاك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل وابن قتيبة والزجاج
والثاني وما تغيض بالسقط الناقص وما تزداد بالولد التام رواه العوفي عن ابن عباس
وعن الحسن كالقولين
والثالث وما تغيض بإراقة الدم في الحمل حتى يتضاءل الولد وما تزداد إذا أمسكت الدم
فيعظم الولد قاله مجاهد
والرابع ما تغيض الأرحام من ولدته من قبل وما تزداد من تلده من بعد روي عن قتادة
والسدي
قوله تعالى وكل شيء عنده بمقدار أي بقدر قال أبو عبيدة هو مفعال من القدر قال ابن
عباس علم كل شيء فقدره تقديرا
قوله تعالى عالم الغيب والشهادة قد شرحنا ذلك في الأنعام 6 و الكبير بمعنى العظيم
ومعناه يعود إلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلو فهو أكبر من كل كبير لأن كل كبير
يصغر بالإضافة إلى عظمته ويقال الكبير الذي كبر عن مشابهة المخلوقين
فأما المتعال فقرأ ابن كثير المتعالي بياء في الوصل والوقف وكذلك
روى
عبد الوارث عن أبي عمرو واثبتها في الوقف دون الوصل ابن شنبوذ عن قنبل والباقون
بغير ياء في الحالين والمتعالي هو المتنزه عن صفات المخلوقين قال الخطابي وقد يكون
بمعنى العالي فوق خلقه وروي عن الحسن أنه قال المتعالي عما يقول المشركون سواء
منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار
قوله تعالى سواء منكم قال ابن الأنباري ناب سواء عن مستو والمعنى مستو منكم من اسر
القول أي أخفاه وكتمه ومن جهر به أعلنه وأظهره والمعنى أن السر والجهر سواء عنده
قوله تعالى ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار فيه قولان
أحدهما أن المستخفي هو المستتر المتواري في ظلمة الليل والسارب بالنهار الظاهر
المتصرف في حوائجة يقال سربت الإبل تسرب إذا مضت في الأرض ظاهرة وأنشدوا ... أرى
كل قوم قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي
ذاهب ومعنى الكلام أن الظاهر والخفي عنده سواء هذا قول الأكثرين وروى العوفي عن
ابن عباس ومن هو مستخف قال صاحب ريبة بالليل فإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء
من الإثم
والثاني أن المستخفي بالليل الظاهر والسارب بالنهار المستتر يقال انسرب الوحش إذا
دخل في كناسه وهذا قول الأخفش وذكره قطرب أيضا واحتج له ابن جرير بقولهم خفيت
الشيء إذا أظهرته ومنه أكاد أخفيها طه 15 بفتح الألف أي أظهرها قال وإنما قيل
للمتوارى سارب لأنه صار في السرب مستخفيا له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه
من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم
سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال
قوله تعالى له معقبات في هاء له أربعة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس
والثاني إلى الملك من ملوك الدنيا رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث إلى الإنسان قاله الزجاج
والرابع إلى الله تعالى ذكره ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي
وفي المعقبات قولان
أحدهما أنها الملائكة رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد والحسن وقتادة في
آخرين قال الزجاج والمعنى للإنسان ملائكة يعتقبون يأتي بعضهم بعقب بعض وقال أكثر
المفسرين هم الحفظة اثنان بالنهار
واثنان
بالليل إذا مضى فريق خلف بعده فريق ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر وقال قوم منهم
ابن زيد هذه الآية خاصة في رسول الله صلى الله عليه و سلم عزم عامر بن الطفيل
وأربد بن قيس على قتله فمنعه الله منهما وأنزل هذه الآية
والقول الثاني أن المعقبات حراس الملوك الذين يتعاقبون الحرس وهذا مروي عن ابن
عباس وعكرمة وقال الضحاك هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى
وفي قوله يحفظونه من أمر الله سبعة أقوال
أحدها يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون هذا على قول من قال هي في المشركين
المحترسين من أمر الله
والثاني أن المعنى حفظهم له من أمر الله قاله ابن عباس وابن جبير فيكون تقدير
الكلام هذا الحفظ مما أمرهم الله به
والثالث يحفطونه بأمر الله قاله الحسن ومجاهد وعكرمة قال اللغويون والباء تقوم
مقام من وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض
والرابع
يحفظونه من الجن قاله مجاهد والنخعي وقال كعب لولا أن الله تعالى وكل بكم ملائكة
يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتخطفتكم الجن وقال مجاهد ما من عبد
إلا وملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فإذا أراده شيء قال
وراءك وراءك إلا شيء قد قضي له أن يصيبه وقال أبو مجلز جاء رجل من مراد إلى علي
عليه السلام فقال احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك فقال إن مع كل رجل ملكين
يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة
والخامس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والمعنى له معقبات من أمر الله يحفظونه قاله
أبو صالح والفراء
والسادس يحفظونه لأمر الله فيه حتى يسلموه إلى ما قدر له ذكره أبو سليمان الدمشقي
واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال يحفظونه من أمر الله حتى إذا جاء القدر
خلوا عنه وقال عكرمة يحفظونه لأمر الله
والسابع يحفظون عليه الحسنات والسيئات قاله ابن جريج قال الأخفش وإنما أنث
المعقبات لكثرة ذلك منها نحو النسابة والعلامة ثم ذكر في قوله يحفظونه لأن المعنى
مذكر
قوله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم أي لايسلبهم نعمه حتى يغيروا ما بأنفسهم
فيعملوا بمعاصيه قال مقاتل ويعني بذلك كفار مكة
قوله تعالى وإذا أراد الله بقوم سوءا فيه قولان
أحدهما أنه العذاب والثاني البلاء
قوله تعالى فلا مرد له أي لا يرده شيء ولا تنفعه المعقبات
وما
لهم من دونه يعني من دون الله من وال أي من ولي يدفع عنهم العذاب والبلاء هو الذي
يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال
قوله تعالى هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا فيه أربعة أقوال
أحدها خوفا للمسافر وطمعا للمقيم قاله أبو صالح عن ابن عباس قال قتادة فالمسافر
خاف أذاه ومشقته والمقيم يرجو منفعته
والثاني خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الحسن
والثالث خوفا للبلد الذي يخاف ضرر المطر وطمعا لمن يرجو الانتفاع به ذكره الزجاج
والرابع خوفا من العقاب وطمعا في الثواب ذكره الماوردي وكان ابن الزبير إذا سمع
صوت الرعد يقول إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض
قوله تعالى وينشئ السحاب الثقال أي ويخلق السحاب الثقال بالماء قال الفراء السحاب
وإن كان لفظه واحدا فإنه جمع واحدته سحابة جعل نعته على الجمع كما قال متكئين على
رفرف خضر وعبقري حسان الرحمن 76 ولم يقل أخضر ولا حسن ويسبح الرعد بحمده والملئكة
من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال
قوله تعالى ويسبح الرعد بحمده فيه قولان
أحدهما
أنه إسم الملك الذي يزجر السحاب وصوته تسبيحه قاله مقاتل
والثاني أنه الصوت المسموع وإنما خص الرعد بالتسبيح لأنه من أعظم الأصوات قال ابن
الأنباري وإخباره عن الصوت بالتسبيح مجاز كما يقول القائل قد غمني كلامك
قوله تعالى والملائكة من خيفته في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله عز و جل وهو الأظهر قال ابن عباس يخافون الله وليس كخوف
ابن آدم لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره ولا يشغله عن عبادة الله شيء
والثاني أنها ترجع إلى الرعد ذكره الماوردي
قوله تعالى ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في أربد بن قيس وعامر ابن الطفيل أتيا إلى رسول الله صلى الله
عليه و سلم يريدان الفتك به فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فأما أربد فأرسل الله
عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وأما عامر فأصابته غدة فهلك فأنزل الله تعالى
هذه الآية هذا قول الأكثرين منهم ابن جريج وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأمه
والثاني
أنها نزلت في رجل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال حدثني يا محمد عن
إلهك أياقوت هو اذهب هو فنزلت على السائل صاعقة فأحرقته ونزلت هذه الآية قاله علي
عليه السلام قال مجاهد وكان يهوديا وقال أنس بن مالك بعث رسول الله صلى الله عليه
و سلم إلى بعض فراعنة العرب يدعوه إلى الله تعالى فقال للرسول وما الله أمن ذهب هو
أم من فضة أم من نحاس فرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال ارجع إليه
فادعه فرجع فأعاد عليه الكلام إلى أن رجع إليه ثالثة فبينما هما يتراجعان الكلام
إذ بعث الله سحابة حيال رأسه فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف راسه ونزلت هذه الآية
والثالث أنها في رجل أنكر القرآن وكذب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل الله
عليه صاعقة فأهلكته ونزلت هذه الآية قاله قتادة
قوله تعالى وهم يجادلون في الله فيه قولان
أحدهما يكذبون بعظمة الله قاله ابن عباس
والثاني يخاصمون في الله حيث قال قائلهم أهو من ذهب أم من فضة على ما تقدم بيانه
قوله تعالى وهو شديد المحال فيه خمسة أقوال
أحدها
شديد الأخذ قاله علي عليه السلام
والثاني شديد المكر شديد العداوة رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث شديد العقوبة قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال مجاهد في رواية عنه شديد
الانتقام وقال أبو عبيدة شديد العقوبة والمكر والنكال وأنشد للأعشى ... فرع نبع
يهتز في غصن المجد ... غزير الندى شديد المحال ...
إن يعاقب يكن غراما وإن يغط ... جزيلا فإنه لا يبالي ...
وقال ابن قتيبة شديد المكر واليد وأصل المحال الحيلة
والرابع شديد القوة قاله مجاهد قال الزجاج يقال ما حلته محالا إذا قاويته حتى تبين
له أيكما الأشد والمحل في اللغة الشدة
والخامس شديدالحقد قاله الحسن البصري فيما سمعناه عنه مسندا من طرق وقد رواه عنه
جماعة من المفسرين منهم ابن الأنباري والنقاش ولا يجوز هذا في صفات الله تعالى قال
النقاش هذا قول منكر عند أهل الخبر والنظر في اللغة لا يجوز أن تكون هذه صفة من
صفات الله عز و جل والذي أختاره في هذا ما قاله علي عليه السلام شديد الأخذ يعني
أنه إذا أخذ الكافر والظالم لم يفلته من عقوباته
له
دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء
ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال
قوله تعالى له دعوة الحق فيه قولان
أحدهما أنها كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله قاله علي وابن عباس والجمهور
فالمعنى له من خلقه الدعوة الحق فأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف اللفظين
والثاني أن الله عز و جل هو الحق فمن دعاه دعا الحق قاله الحسن
قوله تعالى والذين يدعون من دونه يعني الأصنام يدعونها آلهة قال أبو عبيدة المعنى
والذين يدعون غيره من دونه
قوله تعالى لا يستجيبون لهم أي لا يجيبونهم
قوله تعالى إلا كباسط كفيه إلى الماء فيه خمسة أقوال
أحدها أنه العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه قاله علي
عليه السلام وعطاء
والثاني أنه الرجل العطشان قد وضع كفيه في الماء وهو لا يرفعهما رواه العوفي عن
ابن عباس
والثالث أنه العطشان يرى خياله في الماء من بعيد فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر
عليه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أنه الرجل يدعو الماءبلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا قاله مجاهد
والخامس أنه الباسط كفيه ليقبض على الماء حتى يؤديه إلى فيه لا يتم
له
ذلك والعرب تقول من طلب مالا يجد فهو القابض على الماء وأنشدوا ... وإني وإياكم
وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله ...
أي لم تحمله والوسق الحمل وقال آخر ... فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود
مثل القابض الماء باليد ...
هذا قول أبي عبيدة وابن قتيبة
قوله تعالى وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فيه قولان
أحدهما وما دعاء الكافرين ربهم إلى في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله رواه
الضحاك عن ابن عباس
والثاني وما عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسران وباطل قاله مقاتل ولله يسجد من
في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
قوله تعالى ولله يسجد من في السموات أي من الملائكة ومن في الأرض من المؤمنين طوعا
وكرها
وفي معنى سجود الساجدين كرها ثلاثة اقوال
أحدها أنه سجود من دخل في الإسلام بالسيف قاله ابن زيد
والثاني أنه سجود ظل الكافر قاله مقاتل
والثالث
أن سجود الكاره تذلله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر
قوله تعالى وظلالهم أي وتسجد ظلال الساجدين طوعا وكرها وسجودها تمايلها من جانب
إلى جانب وانقيادها للتسخير بالطول والقصر قال ابن الأنباري قال اللغويون الظل ما
كان بالغدوات قبل انبساط الشمس والفيء ما كان بعد انصراف الشمس وإنما سمى فيئا
لأنه فاء أي رجع إلى الحال التي كان عليها قبل ان تنبسط الشمس وما كان سوى ذلك فهو
ظل نحو ظل الإنسان وظل الجدار وظل الثوب وظل الشجرة قال حميد ابن ثور ... فلا الظل
من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق ...
وقال لبيد
بينما الظل ظليل مونق ... طلعت شمس عليه فأضمحل ...
وقال آخر ... أيا أثلات القاع من بطن توضح ... حنيني إلى أظلالكن طويل ...
وقيل إن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد الله وقد شرحنا معنى الغدو والآصال في
الأعراف 7
قل
من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا
ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله
شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
قوله تعالى قل من رب السموات والأرض قل الله إنما جاء السؤال والجواب من جهة لأن
المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء فلما لم ينكروا كان كأنهم أجابوا ثم
ألزمهم الحجة بقوله قل أفاتخذتم من دونه أولياء يعني الأصنام توليتموهم فعبدتموهم
وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف لغيرهم ثم ضرب مثلا للذي يعبد الأصنام
والذي يعبد الله بقوله قل هل يستوي الأعمى والبصير يعني المشرك والمؤمن أم هل
تستوي الظلمات والنور وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم تستوي
بالتاء وقرأ حمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم يستوي بالياء قال أبو علي التأنيث حسن
لأنه فعل مؤنث والتذكير سائغ لأنه تأنيث غير حقيقي ويعني الظلمات والنور الشرك
والإيمان أم جعلوا الله شركاء قال ابن الأنباري معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا
كخلقه فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء وهذا استفهام إنكار والمعنى ليس الأمر على هذا
بل إذا فكروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق وغيره لا يخلق شيئا
قوله تعالى قل الله خالق كل شيء قال الزجاج قل ذلك وبينه بما أخبرت به من الدلالة
في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شيء وقد ذكرنا في يوسف 39 معنى الواحد
القهار
أنزلنا
من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في
النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب
جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا
لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه
لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأويهم جهنم وبئس المهاد
قوله تعالى أنزل من السماء ماء يعني المطر فسالت أودية وهي جمع واد وهو كل منفرج
بين جبلين يجتمع إليه ماء المطر فيسيل بقدرها أي بمبلغ ما تحمل فإن صغر الوادي قل
الماء وإن هو اتسع كثر وقرأ الحسن وابن جبير وابو العالية وايوب وابن يعمر وأبو
حاتم عن يعقوب بقدرها باسكان الدال وقوله فسالت أودية توسع في الكلام والمعنى سالت
مياهها فحذف المضاف وكذلك قوله بقدرها أي بقدر مياهها فاحتمل السيل زبدا رابيا أي
عاليا فوق الماء فهذا مثل ضربه الله عز و جل ثم ضرب مثلا آخر فقال ومما توقدون
عليه في النار قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم توقدون
عليه بالتاس وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء قال أبو علي من قرأ بالتاء
فلما قبله من الخطاب وهو قوله أفاتخذتم ويجوز أن يكون خطابا عاما للكافة ومن قرأ
بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله أم جعلوا لله شركاء
ويعني
بقوله ومما توقدون عليه ما يدخل إلى النار فيذاب من الجواهر ابتغاء حلية يعني
الذهب والفضة أو متاع يعني الحديد والصفر والنحاس والرصاص تتخذ منه الأواني
والأشياء التي ينتفع بها زبد مثله أي له زبد إذا أذيب مثل زبد السيل فهذا مثل آخر
وفيما ضرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال
أحدها أنه القرآن شبه نزوله من السماء بالماء وشبه قلوب العباد بالأودية تحمل منه
على قدر اليقين والشك والعقل والجهل فيستكن فيها فينتفع المؤمن بما في قلبه
كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شكه وكفره
فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبد وكخبث الحديد لا ينتفع به
والثاني أنه الحق والباطل فالحق شبه بالماء الباقي الصافي والباطل مشبه بالزبد
الذاهب فهو وإن علا على الماء فإنه سيمحق كذلك الباطل وإن ظهر على الحق في بعض
الأحوال فإن الله سيبطله
والثالث أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فمثل المؤمن واعتقاده وعمله كالماء
المنتفع به ومثل الكافر واعتقاده وعمله كالزبد
قوله تعالى كذلك أي كما ذكر هذا يضرب الله مثل الحق والباطل وقال أبو عبيدة كذلك
يمثل الله الحق ويمثل الباطل
فأما الجفاء فقال ابن قتيبة هو ما رمى به الوادي إلى جنباته يقال أجفأت القدر
بزبدها إذا ألقته عنها قال ابن فارس الجفاء ما نفاه السيل ومنه اشتقاق الجفاء وقال
ابن الأنباري جفاء أي باليا متفرقا قال ابن عباس إذا مس الزبد لم يكن شيئا
قوله
تعالى وأما ما ينفع الناس من الماء والجواهر التي زال زبدها فيمكث في الأرض فينتفع
به كذلك يبقى الحق لأهلهقوله تعالى للذين استجابوا لربهم يعني المؤمنين والذين لم
يستجيبوا له يعني الكفار قال أبو عبيدة استجبت لك واستجبتك سواء وهو بمعنى أجبت
وفي الحسنى ثلاثة اقوال
أحدها أنها الجنة قاله ابن عباس والجمهور والثاني أنها الحياة والرزق قاله مجاهد
والثالث كل خير من الجنة فما دونها قاله أبو عبيدة
قوله تعالى لا فتدوا به اي لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب ولا يقبل منهم وفي سوء
الحساب ثلاثة أقوال
أحدها أنها المناقشة بالأعمال رواه ابو الجوزاء عن ابن عباس وقال النخعي هو أن
يحاسب بذنبه كله فلا يغفر له منه شيء
والثاني أن لا تقبل منهم حسنة ولا يتجاوز لهم عن سيئة
والثالث أنه التوبيخ والتقريع عند الحساب أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق
كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب
قوله تعالى أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى قال ابن عباس نزلت
في حمزة وأبي جهل إنما يتذكر أي إنما يتعظ ذوو العقول والتذكر الاتعاظ
الذين
يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون
ربهم ويخافون سوء الحساب
قوله تعالى الذين يوفون بعهد الله في هذا العهد قولان
أحدهما أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم
والثاني ما أمرهم به وفرضه عليهم وفي الذي أمر الله به عز و جل أن يوصل ثلاثة
أقوال قد نسبناها إلى قائلها في أول سورة البقرة 27 وقد ذكرنا سوء الحساب آنفا
والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية
ويدرؤن بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم
وأزواجهم وذرياتهم والملئكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم
عقبى الدار
قوله تعالى والذين صبروا أي على ما أمروا به ابتغاء وجه ربهم أي طلبا لرضاه
وأقاموا الصلاة أتموها وأنفقوا مما رزقناهم من الأموال في طاعة الله قال ابن عباس
يريد بالصلاة الصلوات الخمس وبالإنفاق الزكاة
قوله تعالى ويدرؤون أي يدفعون بالحسنة السيئة وفي المراد بهما خمسة أقوال
أحدها يدفعون بالعمل الصالح الشر من العمل قاله ابن عباس وفي الثاني يدفعون
بالمعروف المنكر قاله سعيد بن جبير والثالث بالعفو الظلم قاله
جويبر
والرابع بالحلم السفه كأنهم إذا سفه عليهم حلموا قاله ابن قتيبة
والخامس بالتوبة الذنب قاله ابن كيسان
قوله تعالى أولئك لهم عقبى الدار قال ابن عباس يريد عقباهم الجنة أي تصير الجنة
آخر أمرهم
قوله تعالى ومن صلح وقرأ ابن أبي عبلة صلح بضم اللام ومعنى صلح آمن وذلك أن الله
تعالى ألحق المؤمن أهله المؤمنين إكراما له لتقر عينه بهم والملائكة يدخلون عليهم
من كل باب قال ابن عباس بالتحية من الله والتحفة والهدايا
قوله تعالى سلام عليكم قال الزجاج أضمر القول هاهنا لأن في الكلام دليلا عليه وفي
هذا السلام قولان
أحدهما أنه التحية المعروفة يدخل الملك فيسلم وينصرف قال ابن الأنباري وفي قول
المسلم سلام عليكم قولان أحدهما أن السلام الله عز و جل والمعنى الله عليكم أي على
حفظكم والثاني أن المعنى السلامة عليكم فالسلام جمع سلامة
والثاني أن معناه إنما سلمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرها بصبركم في الدنيا
وفيما صبروا عليه خمسة أقوال
أحدها أنه أمر الله قاله سعيد بن جبير والثاني فضول الدنيا قاله الحسن والثالث
الدين والرابع الفقر رويا عن أبي عمران الجوني والخامس أنه فقد المحبوب قاله ابن
زيد
والذين
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض
أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار
قوله تعالى والذين ينقضون عهد الله قد سبق تفسيره في سورة البقرة 27 وقال مقاتل
نزلت في كفار أهل الكتاب
قوله تعالى أولئك لهم اللعنة أي عليهم الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا
بالحيوة الدنيا وما الحيوة الدنيا في الآخرة إلا متاع
قوله تعالى الله يبسط الرزق لمن يشاء أي يوسع على من يشاء ويقدر أي يضيق وفرحوا
بالحياة الدنيا قال ابن عباس يريد مشركي مكة فرحوا بما نالوا من الدنيا فطغوا
وكذبوا الرسل
قوله تعالى وما الحياة الدنيا في الآخرة أي بالقياس إليها إلا متاع أي كالشيء الذي
يتمتع به ثم يفنى ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من
يشاء ويهدي إليه من أناب
قوله تعالى ويقول الذين كفروا نزلت في مشركي مكة حين طلبوا من رسول الله صلى الله
عليه و سلم مثل آيات الأنبياء قل إن الله يضل من يشاء أي يرده عن الهدى كما ردكم
بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها ويهدي
إليه
من أناب أي رجع إلى الحق وإنما يرجع إلى الحق من شاء الله رجوعه فكأنه قال ويهدي
من يشاء الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين
آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
قوله تعالى الذين آمنوا هذا بلد من قوله أناب والمعنى يهدي الذين آمنوا وتطمئن
قلوبهم بذكر الله في هذا الذكر قولان
أحدهما أنه القرآن والثاني ذكر الله على الإطلاق
وفي معنى هذه الطمأنينة قولان
أحدهما أنها الحب له والأنس به والثاني السكون إليه من غير شك بخلاف الذين إذا ذكر
الله اشمأزت قلوبهم
قوله تعالى ألا بذكر الله قال الزجاج ألا حرف تنبيه وابتداء والمعنى تطمئن القلوب
التي هي قلوب المؤمنين لأن الكافر غير مطمئن القلب
قوله تعالى طوبى لهم فيه ثمانية أقوال
قوله تعالى طوبى لهم فيه ثمانية أقوال
أحدها أنه اسم شجرة في الجنة روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم أن رجلا قال يا رسول الله ما طوبى قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل
الجنة تخرج من أكمامها وقال أبو هريرة طوبى شجرة في الجنة يقول الله عز و جل لها
تفتقي لعبدي عما شاء فتتفتق له عن
الخيل
بسروجها ولجمها وعن الإبل بأزمتها وعما شاء من الكسوة وقال شهر بن حوشب طوبى شجرة
في الجنة كل شجر الجنة منها أغصانها من وراء سور الجنة وهذا مذهب عطية وشمر بن
عطية ومغيث بن سمي وأبي صالح
والثاني أنه اسم الجنة بالحبشية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال المصنف وقرأت
على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مسجوح قال طوبى اسم الجنة بالهندية وممن ذهب إلى
أنه اسم الجنة عكرمة وعن مجاهد كالقولين
والثالث أن معنى طوبى لهم فرح وقرة عين لهم رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أن معناه نعمى لهم قاله عكرمة في رواية وفي رواية أخرى عنه نعم مالهم
والخامس غبطة لهم قاله سعيد بن جبير والضحاك
والسادس أن معناه خير لهم قاله النخعي في رواية وفي أخرى عنه قال الخير والكرامة
اللذان أعطاهم الله وروى معمر عن قتادة قال يقول الرجل للرجل طوبى لك أي أصبت خيرا
وهي كلمة عربية
والسابع حسنى لهم رواه سعيد عن قتادة عن الحسن
والثامن أن المعنى العيش الطيب لهم و طوبى عند النحويين فعلى من الطيب هذا قول
الزجاج وقال ابن الأنباري تأويلها الحال
المستطابة
والخلة المستلذة وأصلها طيبى فصارت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها كما صارت
في موقن والأصل فيه ميقن لأنه مأخوذ من اليقين فغلبت الضمة فيه الياء فجعلتها واوا
قوله تعالى وحسن مآب المآب المرجع والمنقلب كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها
أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو
عليه توكلت وإليه متاب
قوله تعالى كذلك أرسلناك أي كما أرسنا الأنبياء قبلك
قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قال لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا وما
الرحمن فنزلت هذه الآية وقيل لهم إن الرحمن الذي أنكرتم هو ربي هذا قول الضحاك عن
ابن عباس
والثاني أنهم لما أرادوا كتاب الصلح يوم الحديبية كتب علي عليه السلام بسم الله
الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فنزلت هذه الآية قاله
قتادة وابن جريج ومقاتل
والثالث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوما في الحجر يدعو وأبو جهل يستمع
إليه وهو يقول يا رحمن فولى مدبرا إلى المشركين فقال إن محمدا كان ينهانا عن عبادة
الآلهة وهو يدعو إلهين فنزلت هذه الآية ذكره علي بن أحمد النيسابوري
قوله تعالى وإليه متاب قال أبو عبيدة هو مصدر تبت إليه
ولو
أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا
أفلم يايئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا
تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى ياتي وعد الله إن الله لا يخلف
الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب
قوله تعالى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى
الله عليه و سلم لو وسعت لنا أودية مكة بالقرآن وسرت جبالها فاحترثناها وأحييت من
مات منا فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس وقال الزبير بن العوام قالت قريش
لرسول الله صلى الله عليه و سلم ادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض
أنهارا فنزرع أو يحيى لنا موتانا فنكلمهم أو يصير هذه الصخرة ذهبا فتغنينا عن رحلة
الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات فنزلت هذه الآية ونزل قوله ومامنعنا أن نرسل
بالآيات إلا أن كذب بها الأولون الاسراء 59 ومعنى قوله أو قطعت به الأرض أي شققت
فجعلت أنهارا أو كلم به الموتى أي أحيوا حتى كلموا
واختلفوا في جواب لو على قولين
أحدهما أنه محذوف وفي تقدير الكلام قولان أحدهما أن تقديره لكان هذا القرآن ذكره
الفراء وابن قتيبة قال قتادة لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم والثاني أن
تقديره لو كان هذا كله لما آمنوا
ودليله
قوله تعالى ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة إلى آخر الآية الأنعام 111 قاله الزجاج
والثاني أن جواب لو مقدم والمعنى وهم يكفرون بالرحمن ولو أنزلنا عليهم ما سالوا
ذكره الفراء أيضا
قوله تعالى بل لله الأمر جميعا أي لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ لم ينفع ما
اقترحوا من الآيات ثم أكد ذلك بقوله أفلم ييأس الذين آمنوا وفيه أربعة أقوال
أحدها أفلم يتبين رواه العوفي عن ابن عباس وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك
ويقول أظن الكاتب كتبها وهو ناعس وهذا قول مجاهد وعكرمة وأبي مالك ومقاتل
والثاني أفلم يعلم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة وابن زيد
وقال ابن قتيبة ويقال هي لغة للنخع ييأس بمعنى يعلم قال الشاعر ... أقول لهم
بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ...
وإنما وقع اليأس في مكان العلم لأن في علمك الشيء وتيقنك به يأسك من غيره
والثالث
أن المعنى قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا واحدا ولو شاء الله لهدى الناس جميعا قاله
أبو العالية
والرابع أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون قاله الكسائي وقال الزجاج
المعنى عندي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا
يؤمنون لأنه لو شاء لهدى الناس جميعا
قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا فيهم قولان
أحدهما أنهم جميع الكفار قاله ابن السائب والثاني كفار مكة قاله مقاتل
فأما القارعة فقال الزجاج هي في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم
وفي المراد بها هاهنا قولان
أحدهما أنها عذاب من السماء رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني السرايا والطلائع التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله
عكرمة
وفي قوله أو تحل قريبا من دارهم قولان
أحدهما أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمعنى أو تحل أنت يا محمد رواه سعيد
بن جبير عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة
والثاني أنها القارعة قاله الحسن
وفي قوله حتى يأتي وعد الله قولان
أحدهما فتح مكة قاله ابن عباس ومقاتل والثاني القيامة قاله الحسن أفمن هو قائم على
كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم
بظاهر
من
القول بل زين للذين كفروامكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله في له من هاد
قوله تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت يعني نفسه عز و جل ومعنى القيام
هاهنا التولي لأمور خلقه والتدبير لأرزاقهم وآجالهم وإحصاء أعمالهم للجزاء والمعنى
أفمن هو مجازي كل نفس بما كسبت يثيبها إذا أحسنت ويأخذها بما جنت كمن ليس بهذه
الصفة من الأصنام قال الفراء فترك جوابه لأن المعنى معلوم وقد بينه بعد هذا بقوله
وجعلوا لله شركاء كأنه قيل كشركائهم
قوله تعالى قل سموهم أي بما يستحقونه من الصفات وإضافة الأفعال إليهم إن كانوا
شركاء لله كما يسمى الله بالخالق والرازق والمحيي والمميت ولو سموهم بشيء من هذا
لكذبوا
قوله تعالى أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض هذا استفهام منقطع مما قبله والمعنى
فإن سموهم بصفات الله فقل لهم أتنبئونه أي أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم
لنفسه شريكا ولو كان لعلمه
قوله تعالى أم بظاهر من القول فيه ثلاثة أقوال
أحدهما أم بظن من القول قاله مجاهد والثاني بباطل قاله قتادة والثالث بكلام لا أصل
له ولا حقيقة
قوله تعالى بل زين للذين كفروا مكرهم قال ابن عباس زين لهم الشيطان الكفر
قوله تعالى وصدوا عن السبيل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وصدوا بفتح
الصاد ومثله في حم المؤمن غافر 37 وقرأ
عاصم
وحمزة والكسائي وصدوا بالضم فيهما فمن فتح أراد صدوا المسلمين إما عن الإيمان أو
عن البيت الحرام ومن ضم أراد صدهم الله عن سبيل الهدى لهم عذاب في الحيوة الدنيا
ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق
قوله تعالى لهم عذاب في الحياة الدنيا وهو القتل والأسر والسقم فهو لهم في الدنيا
عذاب وللمؤمنين كفارة ولعذاب الآخرة أشق أي أشد وما لهم من الله من واق أي مانع
يقيهم عذابه مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها
تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار
قوله تعالى مثل الجنة أي صفتها أن الأنهار تجري من تحتها هذا قول الجمهور وقال ثعلب
خبر المثل مضمر قبله والمعنى فيما نصف لكم مثل الجنة وفيما نقصه عليكم خبر الجنة
أكلها دائم قال الحسن يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا وظلها لأنه لا يزول
ولا تنسخه الشمس
قوله تعالى تلك عقبى الذين اتقوا أي عاقبة أمرهم المصير إليها والذين آتيناهم الكتاب
يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا
أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب
قوله تعالى والذين آتيناهم الكتاب فيه ثلاثة أقوال
أحدها
أنهم مسلمو اليهود قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل هم عبد الله بن سلام
وأصحابه
والثاني أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله قتادة
والثالث مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى ذكره الماوردي والذي أنزل إليه
القرآن فرح به المسلمون وصدقوه وفرح به مؤمنو أهل الكتاب لأنه صدق ما عندهم وقيل
إن عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع
كثرة ذكره في التوراة فلما نزل ذكره فرحوا وكفر المشركون به فنزلت هذه الآية
فأما الأحزاب فهم الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم
بالمعاداة وفيهم أربعة أقوال
أحدها أنهم اليهود والنصارى قاله قتادة والثاني أنهم اليهود والنصارى والمجوس قاله
ابن زيد والثالث بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزى قاله مقاتل
والرابع كفار قريش ذكره الماوردي
وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال
أحدها أنه ذكر الرحمن والبعث ومحمد صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل
والثاني أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوته
والثالث أنهم عرفوا صدقه وأنكروا تصديقه ذكرهما الماوردي وكذلك أنزلناه حكما عربيا
ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق
قوله تعالى وكذلك أنزلناه أي وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء
بلغاتهم
أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا قال ابن عباس يريد ما فيه من الفرائض وقال أبو
عبيدة دينا عربيا
قوله تعالى ولئن اتبعت أهواءهم فيه قولان
أحدهما في صلاتك إلى بيت المقدس بعد ما جاءك من العلم أن قبلتك الكعبة قاله ابن
السائب
والثاني في قبول ما دعوك إليه من ملة آبائك قاله مقاتل
قوله تعالى مالك من الله من ولي أي مالك من عذاب الله من قريب ينفعك ولا واق يقيك
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا
بإذن الله لكل أجل كتاب
قوله تعالى ولقد أرسلنا رسلا من قبلك الآية سبب نزولها أن اليهود عيروا رسول الله
صلى الله عليه و سلم بكثرة التزويج وقالوا لو كان نبيا كما يزعم شغلته النبوة عن
تزويج النساء فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس ومعنى الآية أن الرسل
قبلك كانوا بشرا لهم أزواج يعني النساء وذرية يعني الأولاد وما كان لرسول أن يأتي
بآية إلا بإذن الله أي بأمره وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات
قوله تعالى لكل أجل كتاب فيه ثلاثة أقوال
أحدها لكل أجل من آجال الخلق كتاب عند الله قاله الحسن
والثاني أنه من المقدم والمؤخر والمعنى لكل كتاب ينزل من السماء أجل قاله الضحاك
والفراء
والثالث
لكل أجل قدره الله عز و جل ولكل أمر قضاه كتاب أثبت فيه ولا تكون آية ولا غيرها
إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب هذا معنى قول ابن جرير يمحوا الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب
قوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويثبت ساكنة
الثاء خفيفة الباء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويثبت مشددة الباء مفتوحة الثاء
قال أبو علي المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال
أحدهها أنه عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة وهذا مذهب عمر وابن مسعود وأبي
وائل والضحاك وابن جريج
والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن
قتيبة يمحو الله ما يشاء أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه
وهو المحكم
والثالث أنه يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت رواه سعيد بن
جبير عن ابن عباس ودليل هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذامضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول
الملك الموكل أذكر أم أنثى فيقضي
الله
تعالى ويكتب الملك فيقول أشقى أم سعيد فيقضي الله ويكتب الملك فيقول عمله وأجله
فيقضي الله ويكتب الملك ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها
والرابع يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة لا يغيران قاله مجاهد
والخامس يمحو من جاء أجله ويثبت من لم يجئ أجله قاله الحسن
والسادس يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها روي عن سعيد
بن جبير
والسابع يمحو ما يشاء بالتوبة ويثبت مكانها حسنات قاله عكرمة
والثامن يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب
قاله الضحاك وأبو صالح وقال ابن السائب القول كله يكتب حتى إذا كان في يوم الخميس
طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب مثل قولك أكلت شربت دخلت خرجت ونحوه وهو
صادق ويثبت ما فيه الثواب والعقاب
قوله تعالى وعنده أم الكتاب قال الزجاج أصل الكتاب قال المفسرون
وهو
اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما يكون ويحدث وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال إن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب
الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت وروى عكرمة عن ابن عباس قال هما
كتابان كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب لا يغير منه
شيء وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب
قوله تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم أي من العذاب وأنت حي أو نتوفينك قبل أن
نريك ذلك فليس عليك إلا أن تبلغ وعلينا الحساب قال مقاتل يعني الجزاء وروى ابن أبي
طلحة عن ابن عباس أن قوله فإنما عليك البلاغ نسخ بآية السيف وفرض الجهاد وبه قال
قتادة أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو
سريع الحساب
قوله تعالى أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها فيه خمسة أقوال
أحدها
أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن
والضحاك قال مقاتل أولم يروا يعني كفار مكة أنا نأتي الأرض يعني أرض مكة ننقصها من
أطرافها يعني ما حولها
والثاني أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها رواه عكرمة عن ابن عباس وبه
قال عكرمة
والثالث أنه نقص أهلها وبركتها رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال الشعبي نقص
الأنفس والثمرات
والرابع أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها رواه عطاء عن ابن عباس
والخامس أنه موت أهلها قاله مجاهد وعطاء وقتادة
قوله تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه قال ابن قتيبة لا يتقعبه أحد بتغيير ولا نقص
وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة البقرة 202 وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر
جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار
قوله تعالى وقد مكر الذين من قبلهم يعني كفار الأمم الخالية
مكروا
بأنبيائهم يقصدون قتلهم كمامكرت قريش برسول الله صلى الله عليه و سلم ليقتلوه فلله
المكر جميعا يعني أن مكر الماكرين مخلوق له ولا يضر إلا بإرادته وفي هذا تسلية
لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتسكين له يعلم ماتكسب كل نفس من خير وشر ولا يقع
ضرر إلا بإذنه وسيعلم الكافر قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وسيعلم الكافر قال ابن
عباس يعني أبا جهل وقال الزجاج الكافر هاهنا اسم جنس وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة
والكسائي الكفار على الجمع
قوله تعالى لمن عقبى الدار أي لمن الجنة آخر الأمر ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل
كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
قوله تعالى ويقول الذين كفروا فيهم قولان
أحدهما أنهم اليهود والنصارى والثاني كفار قريش قل كفى بالله شهيدا اي شاهدا بيني
وبينكم بما أظهر من الآيات وابان من الدلالات على نبوتي
قوله تعالى ومن عنده علم الكتاب فيه سبعة أقوال
أحدها أنهم علماء اليهود والنصارى رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه عبد الله بن سلام قاله الحسن ومجاهد وعكرمة وابن زيد وابن السائب
ومقاتل
والثالث أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق منهم عبد الله بن سلام وسلمان
الفارسي وتميم الداري قاله قتادة
والرابع
أنه جبريل عليه السلام قاله سعيد بن جبير
والخامس أنه علي بن أبي طالب قاله ابن الحنفية
والسادس أنه بنيامين قاله شمر
والسابع أنه الله تعالى روي عن الحسن ومجاهد واختاره الزجاج واحتج له بقراءة من
قرأ ومن عنده علم الكتاب وهي قراءة ابن السميفع وابن أبي عبلة ومجاهد وأبي حيوة
ورواية ابن أبي سريج عن الكسائي ومن بكسر الميم عنده بكسر الدال علم بضم الميم
وكسر اللام وفتح الميم الكتاب بالرفع وقرأ الحسن ومن بكسر الميم عنده بكسر الدال
علم بكسر العين وضم الميم الكتاب مضاف كأنه قال أنزل من علم الله عز و جل
سورة
إبراهيم عليه السلام
وهي مكية من غير خلاف علمناه بينهم إلا ما روي عن ابن عباس وقتاده أنهما قالا سوى
آيتين منها وهما قوله ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا والتي بعدها إبراهيم
28 29
بسم الله الرحمن الرحيم آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور
بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل
للكافرين من عذاب شديد
قوله تعالى آلر قد سبق بيانه يونس 1 وقوله كتاب قال الزجاج المعنى هذا كتاب
والكتاب القرآن
وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال
أحدها أن الظلمات الكفر والنور الإيمان رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أن الظلمات الضلالة والنور الهدى قاله مجاهد وقتادة
والثالث
أن الظلمات الشك والنور اليقين ذكره الماوردي
وفي قوله بإذن ربهم ثلاثة أقوال
أحدها بأمر ربهم قاله مقاتل والثاني بتوفيق ربهم قاله أبو سليمان والثالث أنه
الإذن نفسه فالمعنى بما أذن لك من تعليمهم قاله الزجاج قال ثم بين ما النور فقال
إلى صراط العزيز الحميد قال ابن الأنباري وهذا مثل قول العرب جلست إلى زيد إلى
العاقل الفاضل وإنما تعاد إلى بمعنى التعظيم للأمر قال الشاعر ... إذا خدرت رجلي
تذكرت من لها ... فناديت لبني باسمها ودعوت ... دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ...
لألقيتها من حبها وقضيت ... فأعاد دعوت لتفخيم الأمر
قوله تعالى الله الذي له ما في السموات قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة
والكسائي الحميد الله على البدل وقرأ نافع وابن عامر وأبان والمفضل الحميد الله
رفعا على الاستئناف وقد سبق بيان ألفاظ الآية الذين يستحبون الحيوة الدنيا على ا
لآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد وما أرسلنا من رسول
إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء
ويهدي
من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى
النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذ قال موسى لقومه اذكروا
نعمة الله عليكم إذ أنجيكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم
قوله تعالى الذين يستحبون الحياة الدنيا أي يؤثرونها على الآخرة قال ابن عباس
يأخذون ما تعجل لهم منها تهاونا بأمر الآخرة
قوله تعالى ويصدون عن سبيل أي يمنعون الناس من الدخول في دينه ويبغونها عوجا قد
شرحناه في آل عمران 99
قوله تعالى أولئك في ضلال أي في ذهاب عن الحق بعيد من الصواب
قوله تعالى إلا بلسان قومه أي بلغتهم قال ابن الأنباري ومعنى اللغة عند العرب
الكلام المنطوق به وهو مأخوذ من قولهم لما الطائر يلغو إذا صوت في الغلس وقرأ أبو
رجاء وأبو المتوكل والجحدري إلا بلسن قومه برفع اللام والسين من غير ألف وقرأ أبو
الجوزاء وأبو عمران بلسن قومه بكسر اللام وسكون السين من غير ألف
قوله تعالى ليبين لهم أي الذي أرسل به فيفهمونه عنه وهذا نزل لأن قريشا قالوا ما
بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي
قوله تعالى أن أخرج قومك قال الزجاج أن مفسر والمعنى قلنا له أخرج قومك وقد سبق
بيان الظلمات والنور البقرة 257
وفي
قوله وذكرهم بأيام الله ثلاثة أقوال
أحدها أنها نعم الله رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال مجاهد
وقتادة وابن قتيبة
والثاني أنها وقائع الله في الأمم قبلهم قاله ابن زيد وابن السائب ومقاتل
والثالث أنها أيام نعم الله عليهم وأيام نقمه ممن كفر من قوم نوح وعاد وثمود قاله
الزجاج
قوله تعالى إن في ذلك يعني التذكير لآيات لكل صبار على طاعة الله وعن معصيته شكور
لأنعمه والصبار الكثير الصبر والشكور الكثير الشكر وإنما خصه بالآيات لانتفاعه بها
وما بعد هذا مشروح في سورة البقرة 49 وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم
إن عذابي لشديد وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد
ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا
الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما ارسلتم
به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض
يدعوكم
ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن
تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر
مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن
الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدينا سبلنا
ولنصبرن على ما أذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا لرسلهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم
الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد
قوله تعالى وإذ تأذن ربكم مذكور في الأعراف 167
وفي قوله لئن شكرتم لأزيدنكم ثلاثة اقوال
أحدها لئن شكرتم نعمي لأزيدنكم من طاعتي قاله الحسن
والثاني لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي قاله الربيع
والثالث لئن وحدتموني لأزيدنكم خيرا في الدنيا قاله مقاتل
وفي قوله ولئن كفرتم قولان
أحدهما أنه كفر بالتوحيد والثاني كفران النعم
قوله تعالى فإن الله لغني حميد أي غني عن خلقه محمود في أفعاله لأنه إما متفضل
بفعله أو عادل
قوله
تعالى لا يعلمهم إلا الله قال ابن الأنباري أي لا يحصي عددهم إلا هو على أن الله
تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها فانقطعت أخبارهم وعفت آثارهم فليس يعلمهم أحد إلا
الله
قوله تعالى فردوا أيديهم في أفواههم فيه سبعة أقوال
أحدها أنهم عضوا أصابعهم غيظا قاله ابن مسعود وابن زيد وقال ابن تيبة في هاهنا
بمعنى إلى ومعنى الكلام عضوا عليها حنقا وغيظا كما قال الشاعر ... يردون في فيه
عشر الحسود ...
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه العشر ونحوه قول الهذلي ... قد افنى
أنامله أزمه ... فأضحى يعض علي الوظيفا ...
يقول قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعض فأضحى يعض علي وظيف بالذارع
والثاني أنهم كانوا إذا جاءهم الرسول فقال إني رسول قالوا له اسكت واشاروا
بأصابعهم إلى أفواه أنفسهم ردا عليه وتكذيبا رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث
أنهم لماسمعوا كتاب الله عجوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم رواه العوفي عن ابن عباس
والرابع أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل ردا لقولهم قاله الحسن
والخامس أنهم كذبوهم بأفواههم وردوا عليهم قولهم قاله مجاهد وقتادة
والسادس أنه مثل ومعناه أنهم كفوا عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال رد
فلان يده إلى فمه أي أمسك فلم يجب قاله أبو عبيدة
والسابع ردوا مالوا قبلوه لكان نعما وايادي من الله فتكون الأيدي بمعنى الأيادي و
في بمعنى الباء والمعنى ردوا الأيادي بأفواههم ذكره الفراء وقال قد وجدنا من العرب
من يجعل في موضع الباء فيقول أدخلك الله بالجنة يريد في الجنة وأنشدني بعضهم ...
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ... ولكنني عن سنبس لست أرغب ...
فقال ارغب فيها يعني بنتا له يريد أرغب بها وسنبس قبيلة
قوله تعالى وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به اي على زعمكم أنكم أرسلتم لا أنهم
أقروا بإرسالهم وباقي الآية قد سبق تفسيره هود 62 قالت رسلهم أفي الله شك هذا
استفهام إنكار والمعنى لا شك في الله أي في
توحيده
يدعوكم بالرسل والكتب ليغفر لكم ذنوبكم قال أبو عبيدة من زائدة كقوله فما منكم من
أحد عنه حاجزين الحاقة 47 قال أبو ذؤيب ... جزيتك ضعف الحب لما شكوته ... وما إن
جزاك الضعف من أحد قبلي ...
أي أحد وقوله ويؤخركم إلى أجل مسمى وهو الموت والمعنى لا يعاجلكم بالعذاب قالوا
للرسل إن أنتم أي ما أنتم إلا بشر مثلنا أي ليس لكم علينا فضل والسلطان الحجة قالت
الرسل إن نحن إلا بشر مثلكم فاعترفوا لهم بذلك ولكن الله يمن على من يشاء يعنون
بالنبوة والرسالة وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله أي ليس ذلك من قبل
أنفسنا
قوله تعالى وقد هدانا سبلنا فيه قولان
أحدهما بين لنا رشدنا والثاني عرفنا طريق التوكل وإنما قص هذه وأمثاله على نبينا ص
- ليقندي بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم
قوله تعالى لنهلكن الظالمين يعني الكافرين بالرسل وقوله تعالى من بعدهم أي بعد
هلاكهم ذلك الإسكان لمن خاف مقامي قال ابن عباس خاف مقامه بين يدي قال الفراء
العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها وإلى ما أوقعت عليه فتقول قد ندمت على ضربي إياك
وندمت على ضربك فهذا من ذاك ومثله وتجعلون رزقكم الواقعة 82 أي رزقي إياكم
قوله
تعالى وخاف وعيد أثبت ياء وعيدي في الحالين يعقوب وتابعه ورش في الوصل
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد
يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ
قوله تعالى واستفتحوا يعني استنصروا وقرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة وحميد وابن محيص
واستفتحوا بكسر التاء على الأمر وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم الرسل قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أنهم الكفار واستفتاحهم سؤالهم العذاب كقولهم ربنا عجل لنا قطنا ص 16
وقولهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية الانفال 32 هذا قول ابن زيد
قوله تعالى وخاب كل جبار عنيد قال ابن السائب خسر عند الدعاء وقال مقاتل خسر عند
نزول العذاب وقال أبو سليمان الدمشقي يئس من الإجابة وقد شرحنا معنى الجبار
والعنيد في هود 59 قوله تعالى من ورائه جهنم فيه قولان
أحدهما أنه بمعنى القدام قال ابن عباس يريد أمامه جهنم وقال أبو عبيدة من ورائه أي
قدامه وأمامه يقال الموت من ورائك وأنشد
أترجو
بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا ...
والثاني أنها بمعنى بعد قال ابن الأنباري من ورائه أي من بعد يأسه فدل خاب على
اليأس فكنى عنه وحملت وراء على معنى بعد كما قال النابغة ... حلفت فلم أترك لنفسك
ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب ...
أراد ليس بعد الله مذهب قال الزجاج والوراء يكون بمعنى الخلف والقدام لأن ما بين
يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك قال الشاعر ... أليس ورائي إن تراخت
منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع ...
قال وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة وسئل ثعلب لم قيل الوراء
للأمام فقال الوراء اسم لما توارى عن عينك سواء أكان أمامك أو خلفك وقال الفراء
إنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر تقول وراءك برد شديد وبين
يديك برد شديد ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك هو وراءك ولا للرجل وراءك هو
بين يديك
قوله تعالى ويسقي من ماء صديد قال عكرمة ومجاهد واللغويون الصديد القيح والدم قاله
قتادة وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه
وقال
القرظي هو غسالة أهل النار وذلك مايسيل من فروج الزناة وقال ابن قتيبة المعنى يسقى
الصديد مكان الماء قال ويجوز أن يكون على التشبيه أي مايسقي ماء كأنه صديد
قوله تعالى يتجرعه والتجرع تناول المشروب جرعة جرعة لا في مرة واحدة وذلك لشدة
كراهته له وأنما يكرهه على شربه
قوله تعالى ولا يكاد يسيغه قال الزجاج لا يقدر على ابتلاعه تقول ساغ لي الشيء
وأسغته وروى أبو أمامة عن رسول الله ص - أنه قال يقرب إليه فيكرهه فاذا أدني منه
شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فاذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره
قوله تعالى ويأتيه الموت أي هم الموت وكربه وألمه من كل مكان وفيه ثلاثة أقوال
أحدها من كل شعرة في جسده رواه عطاء عن ابن عباس وقال سفيان الثوري من كل عرق وقال
ابن جريج تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فتموت ولا ترجع إلى مكانها فتجد
راحة
والثاني
من كل جهة من فوقه وتحته وعن يمينه وشماله وخلفه وقدامه قاله ابن عباس أيضا
والثالث أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا قاله الأخفش
قوله تعالى وما هو بميت أي موتا تنقطع معه الحياة ومن ورائه أي من بعد هذا العذاب
قال ابن السائب من بعد الصديد عذاب غليظ وقال إبراهيم التيمي بعد الخلود في النار
والغليظ الشديد
مثل الذبن كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما
كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد
قوله تعالى مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد قال الفراء أضاف المثل إليهم
وإنما المثل للأعمال فالمعنى مثل أعمال الذين كفروا ومثله ويوم القيامة ترى الذين
كذبوا على الله وجهوهم مسودة الزمر 60 أي ترى وجوههم وجعل العصوف تابعا لليوم في
إعرابه وإنما العصوف للريح وذلك جائز على جهتين
احدهما أن العصوف وإن كان للريح فان اليوم يوصف به لأن الريح فيه تكون فجاز أن
تقول يوم عاصف كما تقول يوم بارد ويوم حار
والوجه الآخر أن تريد في يوم عاصف الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت في أول الكلام
كما قال الشاعر ... ويضحك عرفان الدروع جلودنا ... إذا كان يوم مظلم الشمس كاسف
يريد
كاسف الشمس وروي عن سيبويه أنه قال في هذه الآية إضمار والمعنى ومما نقص عليك مثل
الذين كفروا ثم ابتدأ فقال أعمالهم كرماد وقرأ النخعي وابن يعمر والجحدري في يوم
عاصف بغير تنوين اليوم
قال المفسرون ومعنى الآية أن كل ما يتقرب به المشركون يحبط ولا ينتفعون به كالرماد
الذي سفته الريح فلا يقدر على شيء منه فهم لا يقدرون مما كسبوا في الدنيا على شيء
في الآخرة أي لايجدون ثوابه ذلك هو الضلال البعيد من النجاة ألم ترى أن الله خلق
السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز قوله
تعالى ألم ترى فيه قولان
أحدهما أن معناه ألم تخبر قاله ابن السائب
والثاني ألم تعلم قاله مقاتل وأبو عبيدة
قوله تعالى خلق السموات والأرض بالحق قال المفسرون أي لم يخلقهن عبثا وإنما خلقهن
لأمر عظيم إن يشأ يذهبكم قال ابن عباس يريد يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوما
غيركم خيرا منكم وأطوع وهذا خطاب لأهل مكة
قوله تعالى وما ذلك على الله بعزيز أي بممتنع متعذر
وبرزوا لله جميعا فقال الضعفؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون
عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدنا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا
ما لنا من محيص
قوله
تعالى وبرزوا لله جميعا لفظه لفظ الماضي ومعناه المستقبل والمعنى خرجوا من قبورهم
يوم البعث واجتمع التابع والمتبوع فقال الضعفاء وهم الأتباع للذين استكبروا وهم
المتبوعون إنا كنا لكم تبعا قال الزجاج هو جمع تابع يقال تابع وتبع مثل غائب وغيب
والمعنى تبعناكم فيما دعوتمونا إليه
قوله تعالى فهل أنتم مغنون عنا أي دافعون عنا من عذاب الله من شيء قال القادة لو
هدانا الله أي لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم يريدون أن الله أضلنا فدعوناكم إلى
الضلال سواء علينا أجزعنا أم صبرنا قال ابن زيد إن أهل النار قال بعضهم لبعض
تعالوا نبكي ونضرع فانما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم فبكوا وتضرعوا فلما
رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا تعالوا نصبر فانما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر فصبروا
صبرا لم ير مثله قط فلم ينفعهم ذلك فعندها قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما
لنا من محيص وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال جزعوا مائة سنة وصبروا مائة سنة
وقال مقاتل جزعوا خمس مائة عام وصبروا خمس مائة عام وقد شرحنا معنى المحيص في سورة
النساء 121
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتم وما كان لي
عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلومني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم
وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم وأدخل
الذبن
آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم
فيها سلام
قوله تعالى وقال الشيطان قال المفسرون يعني به إبليس لما قضي الأمر أي فرغ منه فدخل
أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فحينئذ يجتمع أهل النار باللوم على إبليس فيقوم
فيما بينهم خطيبا ويقول إن الله وعدكم وعد الحق أي وعدكم كون هذا اليوم فصدقكم
ووعدتكم أنه لا يكون فأخلفتكم الوعد وما كان لي عليكم من سلطان أي ما أظهرت لكم
حجة على ما ادعيت وقال بعضهم ما كنت أملككم فأكرهكم إلا أن دعوتكم وهذا من
الأستثناء المنقطع والمعنى لكن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم حيث
أجبتموني من غير برهان ما أنا بمصرخكم أي بمغيثكم وما أنتم بمصرخي أي بمغيثي قرأ
حمزة بمصر خي فحرك الياء إلى الكسر وحركها الباقون إلى الفتح قال قطرب هي لغة في
بني يربوع يعني قراءة حمزة قال اللغويون يقال أستصرخني فلان فأصرخته أي أستغاثني
فأغثته إني كفرت اليوم باشراككم إياي في الدنيا مع الله في الطاعة إن الظالمين
يعني المشركين
قوله تعالى باذن ربهم أي بأمر ربهم وقوله تحيتهم فيها سلام قد ذكرناه في يونس 10
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي
أكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون
قوله تعالى ألم تر كيف ضرب الله مثلا قال المفسرون ألم تر بعين
قلبك
فتعلم باعلامي إياك كيف ضرب الله مثلا أي بين شبها كلمة طيبة قال ابن عباس هي
شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة أي طيبة الثمرة فترك ذكر الثمرة اكتفاء
بدلالة الكلام عليه وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال
أحدها أنها النخلة وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي ص - وقد رواه سعيد بن
جبير عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود وأنس بن مالك ومجاهد وعكرمة والضحاك في آخرين
والثاني أنها شجرة في الجنة رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والثالث أنها المؤمن وأصله الثابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عمله السماء وقوله تؤتي
أكلها كل حين فالمؤمن يذكر الله كل ساعة من النهار رواه عطية عن ابن عباس
قوله تعالى أصلها ثابت أي في الأرض وفرعها أعلاها عال في السماء أي نحو السماء
وأكلها ثمرها وفي الحين ها هنا ستة أقوال
أحدها
أنه ثمانية أشهر قال علي عليه السلام
والثاني ستة أشهر رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة وقتادة
والثالث أنه بكرة وعشية رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والرابع أنه السنة روي عن ابن عباس أيضا وبه قال مجاهد وابن زيد
والخامس أنه شهران قاله سعيد بن المسيب
والسادس أنه غدوة وعشية وكل ساعة قاله ابن جرير
فمن قال ثمانية أشهر أشار إلى مدة حملها باطنا وظاهرا ومن قال ستة أشهر فهي مدة
حملها إلى حين صرامها ومن قال بكرة وعشية أشار إلى الأجتناء منها ومن قال سنة أشار
إلى أنها لاتحمل في السنة إلا مرة ومن قال شهران فهو مدة صلاحها قال ابن المسيب لا
يكون في النخلة أكلها إلا شهرين ومن قال كل ساعة أشار إلى أن ثمرتها تؤكل دائما
قال قتادة تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف قال ابن جرير الطلع في الشتاء من أكلها
والبلح والبسر والرطب والتمر في الصيف
فأما الحكمة في تمثيل الإيمان بالنخلة فمن أوجه
أحدها أنها شديدة الثبوت فشبه ثبات الإيمان في قلب المؤمن بثباتها
والثاني أنها شديدة الأرتفاع فشبه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها
والثالث أن ثمرتها تأتي كل حين فشبه ما يكسب المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل
وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها فالمؤمن كلما قال لا إله إلا
الله صعدت إلى السماء ثم جاءه خيرها ومنفعتها
والرابع
أنها أشبه الشجر بالإنسان فان كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها إلا هي
إذا قطع رأسها يبست ولأنها لاتحمل حتى تلقح ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما
يروى
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
قوله تعالى ومثل كلمة خبيثة قال ابن عباس هي الشرك
وقوله كشجرة خبيثة فيها خمسة أقوال
أحدها أنها الحنظلة رواه أنس بن مالك عن النبي ص - وبه قال أنس ومجاهد
والثاني أنها الكافر رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وروى العوفي عنه أنه قال
الكافر لا يقبل عمله ولا يصعد إلى الله تعالى فليس له أصل في الأرض ثابت ولا فرع
في السماء
والثالث أنها الكشوثى رواه الضحاك عن ابن عباس
والرابع أنه مثل وليست بشجرة مخلوقة رواه أبوظبيان عن ابن عباس
والخامس
أنها الثوم روي عن ابن عباس أيضا
قوله تعالى اجتثت قال ابن قتيبة استؤصلت وقطعت قال الزجاج ومعنى اجتثت الشي في
اللغة أخذت جثته بكمالها
وفي قوله مالها من قرار قولان
أحدهما مل لها من أصل لم تضرب في الأرض عرقا
والثاني ما لها من ثبات
ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح ولا قول طيب ولا
لقوله أصل ثابت يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة
ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا أي
يثبتهم على الحق بالقول الثابت وهو شهادة أن لا إله إلا الله قوله تعالى في الحياة
الدنيا وفي الآخرة فيه قولان
أحدهما أن الحياة الدنيا زمان الحياة على وجه الأرض والآخرة زمان المساءلة في
القبر وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب وفيه أحاديث تعضده
والثاني أن الحياة الدنيا زمن السؤال في القبر والآخرة السؤال في القيامة وإلى هذا
المعنى ذهب طاووس وقتادة قال المفسرون هذه الآية وردت في فتنة القبر وسؤال الملكين
وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحق عند السؤال وتثبيته إياه على الحق ويضل الله
الظالمين يعنى المشركين يضلهم عن هذه الكلمة ويفعل الله ما يشاء من هداية المؤمن
وإضلال الكافر
ألم
تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس
القرار
قوله تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا في المشار إليهم سبعة أقوال
أحدها أنهم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن
أبي طالب
والثاني أنهم منافقو قريش رواه أبو الطفيل عن علي
والثالث بنو أمية وبنو المغيرة ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إلى بدر رواه
أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أهل مكة رواه عطاء عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والخامس المشركون من أهل بدر قاله جاهد وابن زيد
والسادس أنهم الذين قتلوا ببدر من كفار قريش قاله سعيد بن جبير وأبو مالك
والسابع أنها عامة في جميع المشركين قاله الحسن قال المفسرون وتبديلهم نعمة الله
كفرا أن الله أنعم عليهم برسوله وأسكنهم حرمه فكفروا بالله وبرسوله ودعوا قومهم
إلى الكفر به فذلك قوله وأحلوا قومهم دار البوار أي الهلاك ثم فسر الدار بقوله
جهنم يصلونها أي يقاسون حرها وبئس القرار أي بئس المقر هي
وجعلوا الله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار
قوله
تعالى وجعلوا لله أندادا قد بيناه في سورة البقرة 22 واللام في ليضلوا لام العاقبة
وقد سبق شرحها يونس 88 ومن قرأ ليضلوا بضم الياء أراد ليضلوا الناس عن دين الله
قوله تعالى قل تمتعوا أي في حياتكم الدنيا وهذا وعيد لهم قال ابن عباس لو كان
الكافر مريضا لا ينام جائعا لا يأكل ولا يشرب لكان هذا نعيما يتمتع به بالقياس إلى
ما يصير إليه من العذاب ولو كان المؤمن في أنعم عيش لكان بؤسا عندما يصير إليه من
نعيم الآخرة قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من
السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره
وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم اليل والنهار وآتيكم من
كل ماسأ لتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وإذ قال
إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا
من الناس فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم
قوله تعالى قل لعبادي الذين آمنوا أسكن ابن عامر وحمزة والكسائي ياء عبادي
قوله تعالى يقيموا الصلاة قاله ابن الأنباري معناه قل لعبادي
أقيموا
الصلاة وأنفقوا يقيموا وينفقوا فحذف الأمران وترك الجوابان قال الشاعر ... فأي
امرىء أنت أي امرىء ... إذا قيل في الحرب من يقدم ...
أراد إذا قيل من يقدم تقدم ويجوز أن يكون المعنى قل لعبادي أقيموا الصلاة وأنفقوا
يقيموا وينفقوا فحذف الأمران وترك الجوابان قال الشاعر ... فأي امرىء أنت أي امرىء
... إذا قيل في الحرب من يقدم ...
أراد إذا قيل من يقدم تقدم ويجوز أن يكون المنهى قل لعبادي أقيموا الصلاة وأنفقوا
فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر ويجوز أن يكون المعنى قل لهم ليقيموا الصلاة
ولينفقوا فحذف لام الأمر لدلالة قل عليها قال ابن قتيبة والخلال مصدر خاللت فلانا
خلالا ومخالة والاسم الخلة وهي الصداقة
قوله تعالى وسخر لكم الأنهار أي ذللها تجري حيث تريدون وتركبون فيها حيث تشاؤون
وسخر لكم الشمس والقمر لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما دائبين في إصلاح ما
يصلحانه من النبات وغيره لا يفتران ومعنى الدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة
جارية فيه وسخر لكم الليل لتسكنوا فيه راحة لأبدانكم والنهار لتنتفعوا بمعاشكم
وآتاكم من كل ما سألتموه وفيه خمسة أقوال
أحدها أن المعنى من كل الذي سألتموه قاله الحسن وعكرمة
والثاني من كل ما سألتموه لو سألتوه قاله الفراء
والثالث وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فأضمر الشيء كقوله وأوتيت من كل شيء النمل
23 أي من كل شيء في زمانها شيئا قاله الأخفش
والرابع من كل ما سألتموه وما لم تسألوه لأنكم لم تسألوا شمسا ولا قمرا
ولا
كثيرا من النعم التي ابتدأ كم بها فاكتفي بالأول من الثاني كقوله سرابيل تقيكم
الحر النحل 81 قاله ابن الأنباري
الخامس على قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن وعكرمة وقتادة وأبان عن عاصم وأبي
حاتم عن يعقوب من كل ما بالتنوين من غير إضافة فالمعنى آتاكم من كل ما لم تسألوه
قاله قتادة والضحاك
قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله أي إنعامه لا تحصوها لا تطيقوا الإتيان على جميعها
بالعد لكثرتها إن الإنسان قال ابن عباس يريد أبا جهل وقال الزجاج الإنسان اسم
للجنس يقصد به الكافر خاصة
قوله تعالى لظلوم كفار الظلوم هاهنا الشاكر غير من أنعم عليه والكفار الجحود لنعم
الله تعالى قوله تعالى اجعل هذا البلد آمنا قد سبق تفسيره في سورة البقرة 126
قوله تعالى واجنبني وبني أي جنبني وإياهم والمعنى ثبتني على اجتناب عبادتها رب
إنهن أضللن كثيرا من الناس يعني الأصنام وهي لا توصف بالإضلال ولا بالفعل ولكنهم
لما ضلوا بسببها كانت كأنها أضلتهم فمن تبعني عل ديني التوحيد فانه مني أي فهو على
ملتي ومن عصاني فانك غفور رحيم فيه ثلاثة أقوال
أحدها ومن عصاني ثم تاب فانك غفور رحيم قاله السدي
والثاني ومن عصاني فيما دون الشرك قاله مقاتل بن حيان
والثالث ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى التوحيد قاله
مقاتل بن سليمان وقال ابن الأنباري يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يعلمه الله
تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه
ربنا
إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
قوله تعالى ربنا إني أسكنت من ذريتي في من قولان
أحدهما أنها للتبعيض قاله الأخفش والفراء
والثاني أنها للتوكيد والمعنى أسكنت ذريتي ذكره ابن الأنباري
قوله تعالى بواد غير ذي زرع يعني مكة ولم يكن فيها حرث ولا ماء عند بيتك المحرم
إنما سمي محرما لأنه يحرم استحلال محرماته والاستخفاف بحقه فان قيل ما وجه قوله
عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ إنما بناه إبراهيم بعد ذلك بمدة فالجواب
من ثلاثة وجوه
أحدها أن الله تعالى حرم موضع البيت منذ خلق السموات والأرض قاله ابن السائب
والثاني عند بيتك الذي كان قبل أن يرفع أيام الطوفان
والثالث عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث ها هنا ذكرهما ابن جرير وكان
أبو سليمان الدمشقي يقول ظاهر الكلام يدل على أن هذا الدعاء إنما بعد أن بني البيت
وصارت مكة بلدا والمفسرون على خلاف ما قال وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إبراهيم
خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكة وبها ناس يقال
لهم العماليق خارجا من
مكة
والبيت يومئذ ربوة حمراء فقال إبراهيم لجبريل أها هنا أمرت أضعهما قال نعم
فأنزلهما في مكان من الحجر وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا ثم قال ربنا إني أسكنت من
ذريتي الآية وفتح أهل الحجاز وأبو عمرو ياء إني أسكنت
قوله تعالى ربنا ليقيموا الصلاة في متعلق هذه اللام قولان
أحدهما أنها تتعلق بقوله واجنبني وبني أن نعبد الأصنام فالمعنى جنبهم الأصنام
ليقيموا الصلاة هذا قول مقاتل
والثاني أنها تتعلق بقوله أسكنت فالمعنى أسكنتهم عند بيتك ليقيموا الصلاة لأن بيتك
قبلة الصلوات ذكره الماوردي
قوله تعالى فاجعل أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس قال ابن الأنباري وإنما عبر
عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد ومجاورته قال امرؤ القيس ... رمتني بسهم
أصاب الفؤاد ... غداة الرحيل فلم أنتصر ...
وقال آخر ... كأن فؤادي كلما مر راكب ... جناح غراب رام نهضا إلى وكر ...
وقال آخر ... وإن فؤادا قادني لصبابة ... إليك على طول الهوى لصبور ...
يعنون بالفؤاد القلب
قوله تعالى تهوي إليهم قال ابن عباس تحن إليهم وقال قتادة
تنزع
إليهم وقال الفراء تريدهم كما تقول رأيت فلانا يهوي نحوك أي يريدك وقرأ يعضهم تهوى
إليهم بمعنى تهواهم كقوله ردف لكم النمل 72 أي ردفكم وإلى توكيد للكلام وقال ابن
الأنباري تهوي إليهم تنحط إليهم وتنحدر وفي معنى هذا الميل قولان
أحدهما أنه الميل إلى الحج قاله الأكثرون
والثاني أنه حب سكنى مكة رواه عطية عن ابن عباس وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس
قال لو كان إبراهيم قال فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجة اليهود والنصارى ولكنه
قال من الناس
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء
قوله تعالى ربنا إنك تعلم ما نخفي قال أبو صالح عن ابن عباس ما نخفي من الوجد
بمفارقة إسماعيل وما نعلن من الحب له قال المفسرون إنما قال هذا لما نزل إسماعيل
الحرم وأراد فراقه
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسمعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم
الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء
قوله تعالى الحمد لله الذي وهب لي على الكبر أي بعد الكبر إسماعيل وإسحاق قال ابن
عباس ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتعسين وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة
سنة
قوله
تعالى ربنا وتقبل دعائي قرأ ابن كثير وأبو عمرة وحمزة وهبيرة عن حفص عن عاصم وتقبل
دعائي بياء في الوصل وقال البزي عن ابن كثير يصل ويقف بياء وقال قنبل عن ابن كثير
يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف الباقون دعاء بغير ياء في
الحالين قال أبو علي الوقف والوصل بياء هو القياس والإشمام جائز لدلالة الكسرة على
الياء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب
قوله تعالى ربنا اغفر لي ولوالدي قال ابن الأنباري استغفر لأبويه وهما حيان طمعا
في أن يهديا إلى الإسلام وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وقرأ ابن مسعود وأبي النخعي
والزهري ولولدي يعني إسماعيل وإسحاق يدل عليه ذكرهما قبل ذلك وقرأ مجاهد ولوالدي
علي التوحيد وقرأ عاصم الجحدري ولولدي بضم الواو وقرأ يحي بن يعمر والجوني ولولدي
بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد يوم يقوم الحساب أي يظهر الجزاء على الأعمال
وقيل معناه يوم يقوم الناس للحساب فاكتفي بذكر الحساب من ذكر الناس إذ كان المعنى
مفهوما
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين
مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء
قوله تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون قال ابن عباس هذا وعيد للظالم
وتعزية للمظلوم
قوله
تعالى إنما يؤخرهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين وقتادة نؤخرهم بالنون أي
يؤخر جزاءهم ليوم تشخص فيه الأبصار أي تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض
قوله تعالى مهطعين فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الإهطاع النظر من غير أن يطرف الناظر رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال
مجاهد والضحاك وأبو الضحى
والثاني أنه الإسراع قاله الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وأبو عبيدة وقال ابن قتيبة
يقال أهطع البعير في سيرة واستهطع إذا أسرع
وفي ما أسرعوا إليه قولان أحدهما إلى الداعي قاله قتادة والثاني إلى النار قاله
مقاتل
والثالث أن المهطع الذي لا يرفع رأسه قاله ابن زيد وفي قوله مقنعي رؤوسهم قولان
أحدهما رافعي رؤوسهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة
وأبو عبيدة وأنشد أبو عبيدة ... أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطعما
...
وقال ابن قتيبة المقنع رأسه الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه وقال الزجاج
رافعي رؤوسهم ملتصقة بأعناقهم ومهطعين مقنعي رؤوسهم نصب على الحال المعنى ليوم
تشخص فيه أبصارهم مهطعين
والثاني
ناكسي رؤوسهم حكاه الماوردي عن المؤرج
قوله تعالى لا يرتد إليهم طرفهم أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة
قال ابن قتيبة والمعنى أن نظرهم إلى شيء واحد قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة
إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد
قوله تعالى وأفئدتهم هواء الأفئدة مساكن القلوب وفي معنى الكلام أربعة أقوال
أحدها أن القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر رواه عطاء عن ابن عباس وقال
قتادة خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم فأفئدتهم هواء ليس فيها شيء
والثاني وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث وأفئدتهم منخرقة لا تعى شيئا قاله مرة بن شراحبيل وقال الزجاج متخرقة لا
تعي شيئا من الخوف
والرابع وأفئدتهم جوف لا عقول لها قاله أبو عبيدة وأنشد لحسان ... ألا أبلغ أبا
سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء ...
فعلى هذا يكون المعنى أن قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الهول والعرب تسمي كل
أجوف خاو هواء قال ابن قتيبة ويقال أفئدتهم منخوبة من الخوف والجبن
وأنذر
الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك
ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال
قوله تعالى وأنذر الناس أي خوفهم يوم يأتيهم العذاب يعني به يوم القيامة وإنما خصه
بذكر العذاب وإن كان فيه ثواب لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعصاة قال ابن عباس
يريد بالناس هاهنا أهل مكة
قوله تعالى فيقول الذين ظلموا أي أشركوا ربنا أخرنا إلى أجل قريب أي أمهلنا مدة
يسيرة وقال مقاتل سألوا الرجوع إلى الدنيا لأن الخروج من الدنيا قريب نجب دعوتك
يعني التوحيد فيقال لهم أولم تكونوا أقسمتم من قبل أي حلفتم في الدنيا أنكم لا
تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة
وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال
قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم أي نزلتم في أماكنهم وقراهم كالحجر
ومدين والقرى التي عذب أهلها ومعنى ظلموا أنفسهم أي ضروها بالكفر والمعصية وتبين
لكم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل الناجي وتبين بضم التاء كيف فعلنا
بهم يعني كيف عذبناهم يقول فكان ينبغي لكم أن تنزجروا عن المخالفة اعتبارا
بمساكنهم بعدما علمتم فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال قال ابن عباس يريد الأمثال
التي في القرآن
وقد
مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف
وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام
قوله تعالى وقد مكروا مكرهم في المشار إليهم أربعة أقوال
أحدها أنه نمرود الذي حاج إبراهيم في ربه قال لا أنتهي حتى أنظر إلى السماء فأمر
بفرخي نسر فربيا حتى سمنا واستعلجا ثم أمر بتابوت فنحت ثم جعل في وسطه خشبه وجعل
على رأس الخشبه لحما شديد الحمرة ثم جوعهما وربط أرجلهما بأوتار إلى قوائم التابوت
ودخل هو وصاحب له في التابوت وأغلق بابه ثم أرسلهما فجعلا يريدان اللحم فصعدا في
السماء ما شاء الله ثم قال لصاحبه افتح وانظر ماذا ترى ففتح فقال أرى الأرض كأنها
الدخان فقال له أغلق ثم صعد ما شاء الله ثم قال افتح فانظر ففتح فقال ما أرى إلا
السماء وما نزداد منه إلا بعدا قال فصوب خشبتك فصوبها فا نقضت النسور تريد اللحم
فسمعت الجبال هدتها فكادت تزول عن مراتبها هذا قول علي ابن أبي طالب وفي رواية عنه
كانت النسور أربعة وروى السدي عن أشياخه أنه مازال يصعد إلى أن رأى الأرض يحيط بها
بحر فكأنها فلكة في ماء ثم صعد حتى وقع في ظلمة فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته
ففزع فصوب اللحم فانقضت النسور فلما نزل أخذ في بناء الصرح ثم صعد منه مع النسور
فلما لم يقدر على السماء اتخذه حصنا فأتى الله بنيانه من القواعد وقال عكرمة كان
معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرم بسهم فعاد إليه ملطخا بالدم فقال
كفيت إله السماء وذلك من دم سمكة في بحر معلق في الهواء فلما هاله الأرتفاع
قال
لصاحبه صوب الخشبة فصوبها فانحطت النسور فظنت الجبال أنه أمر نزل من السماء فزالت
عن مواضعها وقال غيره لما رأت الجبال ذلك ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول وإلى هذا
المعنى ذهب سعيد بن جبير وأبو مالك
والقول الثاني أنه بختنصر وأن هذه القصة له جرت وأن النسور لما ارتفعت تطلب اللحم
إلى حيث شاء الله نودي يا أيها الطاغية أين تريد ففرق ثم سمع الصوت فوقه فنزل فلما
رأت الجبال ذلك ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول وهذا قول مجاهد
والثالث أن المشار إليهم الأمم المتقدمة قال ابن عباس وعكرمة مكرهم شركهم
والرابع أنهم الذين مكروا برسول الله ص - حين هموا بقتله وإخراجه
وفي قوله وعند الله مكرهم قولان
أحدهما أنه محفوظ عنده حتى يجازيهم به قاله الحسن وقتادة
والثاني وعند الله جزاء مكركم
قوله تعالى وإن كان مكرهم وقرأ ابو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبي وابن عباس
وعكرمة وأبو العالية وإن كان مكرهم بالدال لتزول منه الجبال وقرأ الأكثرون لتزول
بكسر اللام الأولى من لتزول وفتح الثانية أراد وما كان مكرهم لتزول من الجبال أي
هو أضعف وأوهن كذلك فسرها الحسن البصري وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام الأولىوضم
الثانية أراد قد كادت الجبال تزول من مكرهم كذلك فسرها ابن الأنباري
وفي المراد بالجبال قولان
أحدهما أنها الجبال المعروفة قاله الجمهور
والثاني أنها ضربت مثلا لأمر النبي ص - وثبوت دينه كثبوت الجبال
الراسية
والمعنى لو بلغ كيدهم إلى إزالة الجبال لما زال أمر الأسلام قاله الزجاج
قال أبو علي ويدل على صحة هذا قوله فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله أي فقد وعدك
الظهور عليهم قال ابن عباس يريد بوعده النصر والفتح والنصر وإظهار الدين إن الله
عزيز أي منيع ذو انتقام من الكافرين وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم يوم تبدل
الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار
قوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض وروى أبان يوم نبدل بالنون وكسر الدال الأرض
بالنصب والسموات بخفض التاء ولا خلاف في نصب غير
وفي معنى تبديل الأرض قولان
أحدهما أنها تلك الأرض وإنما يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها
وشجرها وتمد مد الأديم روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وقد روى أبو هريرة عن
النبي ص - يوم تبدل الأرض غير الأرض قال ببسطها ويمدها مد الأديم
والثاني
أنها تبدل بغيرها ثم فيه أربعة أقوال أحدها أنها تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم
يعمل عليها خطيئة رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود وعطاء عن ابن عباس وبه قال
مجاهد
والثاني أنها تبدل نارا قاله أبي بن كعب
والثالث أنها تبدل بأرض من فضة قاله أنس بن مالك
والرابع تبدل بخبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه قاله أبوهريرة وسعيد بن جبير
والقرظي وقال غيرهم يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغ من حسابهم
فأما تبديل السموات فيه ستة أقوال
أحدها أنها تجعل من ذهب قاله علي عليه السلام
والثاني أنها تصير جنانا قاله أبي بن كعب
والثالث أن تبديلها تكوير شمسها وتناثر نجومها قاله ابن عباس
والرابع أن تبديلها اختلاف أحوالها فمرة كالمهل ومرة تكون كالدهان قاله ابن
الأنباري
والخامس أن تبديلها أن تطوى كطي السجل للكتاب
والسادس أن تنشق فلا تظل ذكرهما الماوردي
قوله تعالى وبرزوا لله الواحد القهار أي خرجوا من القبور
وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار
ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب
قوله تعالى وترى المجرمين يعني الكفار مقرنين يقال قرنت الشيء إلى الشيء إذا وصلته
به
وفي
معنى مقرنين ثلاثة أقواال
أحدها أنهم يقرنون مع الشياطين قاله ابن العباس
والثاني أن أيديهم وأرجلهم قرنت إلى رقابهم قاله ابن زيد
والثالث يقرن بعضهم إلى بعض قاله ابن قتيبة
وفي الأصفاد ثلاثة أقوال
أحدها أنها الأغلال قاله ابن عباس وابن زيد وأبو عبيدة وابن قتيبة وابن الأنباري
والثاني القيود والأغلال قاله قتادة
والثالث القيود قاله أبو سليمان الدمشقي
فأما السرابيل فقال أبو عبيدة هي القمص واحدها سربال وقال الزجاج السربال كل ما
لبس وفي القطران ثلاث لغات فتح القاف وكسر الطاء وفتح القاف مع تسكين الطاء وفي
معناه قولان
أحدهما أنه النحاس المذاب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه قطران الإبل قاله الحسن وهو شيء يتحلب من شجر تهنأ به الأبل قال
الزجاج وإنما جعل لهم القطران لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد الله
تعالى المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم ما يعرفون حقيقته وقرأ ابن
عباس وأبو رزين وأبو مجاز وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة وأبو حاتم عن يعقوب من قطر
بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين آن بقطع الهمزة وفتحها ومدها والقطر النحاس وآن
قد انتهت حره
قوله
تعالى وتغشى وجوهم النار أي تعلوها واللام في ليجزي متعلقة بقوله وبرزوا
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب
قوله تعالى هذا بلاغ للناس في المشار إليه قولان
أحدهما أنه القرآن والثاني الإنذار والبلاغ الكفاية قال مقاتل والمراد بالناس أهل
مكة
قوله تعالى ولينذروا به أي أنزل لينذروا به وليعلموا بما فيه من الحجج أنما هو إله
واحد وليذكر أي وليتعظ أولو الألباب
سورة
الحجر وهي مكية كلها من غير خلاف نعلمه
بسم الله الرحمن الرحيم
آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين
قوله تعالى آلر تلك آيات الكتاب قد سبق بيانه يونس 1
قوله تعالى وقرآن مبين فيه قولان
أحدهما ان القرآن هو الكتاب جمع له بين الأسمين
والثاني أن الكتاب هو التوراة والإنجيل والقرآن كتابنا وقد ذكرنا في أول يوسف معنى
المبين
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين
قوله تعالى ربما وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ربما مشددة
وقرأ نافع وعاصم وعبد الوارث ربما بالتخفيف قال الفراء أسد وتميم يقولون ربما
بالتشديد وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون ربما بالتخفيف وتيم الرباب يقولون ربما
بفتح الراء وقيل إنما قرئت بالتخفيف لما فيها من التضعيف والحروف
المضاعفة
قد تحذف نحو إن ولكن فانهم قد خففوها قال الزجاج يقولون رب رجل جاءني ورب رجل
جاءني وأنشد ... أزهير إن يشب القذال فانني ... رب هيضل مرس لففت بهيضل ...
هذا البيت لأبي كبير الهذلي وفي ديوانه ... رب هيضل لجب لففت بهيضل ... والهيضل
جمع هيضلة وهي الجماعة يغزى بهم يقول لففتهم بأعدائهم في القتال ورب كلمة موضوعة
للتقليل كما أن كم للتكثير وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني
وربما جاءني زيد وقال الأخفش أدخل مع رب ما ليتكلم بالفعل بعدها وإن شئت جعلت ما
بمنزلة شيء فكأنك قلت رب شيء أي رب ود يوده الذين كفروا وقال أبو سليمان الدمشقي ما
ها هنا بمعنى حين فالمعنى رب حين يودون فيه
واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار على قولين
أحدهما أنه في الآخرة ومتى يكون ذلك فيه أربعة أقوال
أحدها أنه إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال
الكفار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد
صرتم معنا في النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فسمع الله ما قالوا فأمر بمن
كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك الكفار قالوا يا ليتنا كنا
مسلمين فنخرج كما أخرجوا رواه أبو موسى الأشعري عن النبي ص
وذهب
إليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم
والثاني أنه ما يزال الله يرحم ويشفع حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة
فذلك حين يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين رواه مجاهد عن ابن عباس
والثالث أن الكفار إذا عاينوا القيامة ودوا لو كانوا مسلمين ذكره الزجاج
والرابع أنه كلما رأى أهل الكفر حالا من أحوال القيامة يعذب فيها الكافر ويسلم من
مكروهها المؤمن ودوا ذلك ذكره ابن الأنباري
والقول الثاني أنه في الدنيا إذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم
ودوا ذلك قاله الضحاك
فان قيل إذا قلتم إن رب للتقليل وهذه الآية خارجه مخرج الوعيد فانما يناسب الوعيد
تكثير ما يتواعد به فعنه ثلاثة أجوبة ذكرهما ابن الأنباري
أحدهن أن ربما تقع على التقليل والتكثير كما يقع الناهل على العطشان والريان
والجون على الأسود والأبيض
والثاني أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثر عليهم فاذا عادت إليهم
عقولهم ودوا ذلك
والثالث
أن هذا الذي خوفوا به لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب أو كان الإنسان
يخاف الندم إذا حصل فيه ولا يتيقنه لوجب عليه اجتنابه
فان قيل كيف جاء بعد ربما مستقبل وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي تقول ربما لقيت
عبدالله فالجواب أن ما وعد الله حق فمستقبله بمنزلة الماضي يدل عليه قوله وإذ قال
الله يا عيسى ابن مريم المائدة 116 وقوله ونادى أصحاب الجنة الأعراف ولو ترى إذا
فزعوا فلا فوت سبأ 51 على أن الكسائي والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون ربما يندم
فلان قال الشاعر ... ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال ...
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون
قوله تعالى ذرهم يأكلوا أي دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا ويلههم الأمل أي
ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإيمان والطاعة فسوف يعلمون إذا
وردوا القيامة وبال ما صنعوا وهذا وعيد وتهديد وهذه الآية عند المفسرين منسوخه
بآية السيف
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون
قوله تعالى وما أهلكنا من قرية أي ما عذبنا من أهل قرية إلا
ولها
كتاب معلوم أي أجل مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر عنه ما تسبق من أمة أجلها من صلة
والمعنى ما تتقدم وقتها الذي قدر لها بلوغه ولا تستأخر عنه قال الفراء إنما قال
أجلها لأن الأمة لفظها مؤنث وإنما قال يستأخرون إخراجا له على معنى الرجال
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من
الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين
قوله تعالى وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر قال مقاتل نزلت في عبد الله بن أبي
أمية والنضر بن الحارث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة قال ابن عباس والذكر
القرآن وإنما قالوا هذا استهزاء لو أيقنوا أنه نزل عليه الذكر ما قالوا إنك لمجنون
قال أبو علي الفارس وجواب هه الآية في سورة أخرى في قوله ما أنت بنعمة ربك بمجنون
القلم 2
قوله تعالى لو ما تأتينا قال الفراء لوما ولولا لغتان معناهما هلا وكذلك قال أبو
عبيدة هما بمعنى واحد وأنشد لابن مقبل ... لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ...
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
قال المفسرون إنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه وأن الله أرسله فأجابهم الله
تعالى بقوله ماتنزل الملائكة إلا بالحق قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ما
تنزل بالتاء المفتوحة الملائكة بالرفع وروى أبو بكر
عن
عاصم ما تنزل بضم التاء على ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف
ما ننزل بالنون والزاي المشددة الملائكة نصبا
وفي المراد بالحق أربعة أقوال
أحدها أنه العذاب إن لم يؤمنوا قاله الحسن
والثاني الرساله قاله مجاهد
والثالث قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب
والرابع أنه القرآن حكاه الماوردي
قوله تعالى وما كانوا يعني المشركين إذا منظرين أي عند نزول الملائكة إذا نزلت
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر من عادة الملوك إذا فعلوا شيئا قال أحدهم نحن
فعلنا يريد نفسه وأتباعه ثم صار هذا عادة للملك في خطابه وإن انفرد بفعل الشيء
فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها والذكر القرآن في قول جميع المفسرين
وفي هاء له قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الذكر قاله الأكثرون قال قتادة أنزله الله ثم حفظه فلا
يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولاينقص منه حقا
والثاني أنها ترجع إلى النبي ص - فالمعنى وإنا له لحافظون من الشياطين والأعداء
لقولهم إنك لمجنون هذا قول ابن السائب ومقاتل
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين
قوله تعالى ولقد أرسلنا من قبلك يعني رسلا فحذف المفعول
لدلالة
الإرسال عليه والشيع الفرق وحكي عن الفراء أنه قال الشيعة الأمة المتابعة بعضها
بعضا فيما يجتمعون عليه من أمر
وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن هذا تعزية للنبي ص - والمعنى
إن كل نبي قبلك كان مبتلى بقومه كما ابتليت
كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين
قوله تعالى كذلك نسلكه في المشار إليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن زيد
والثاني أنه الأستهزاء قاله قتادة
والثالث التكذيب قاله ابن جريج والفراء
ومعنى الآية كما سلكنا في قلوب شيع الأولين ندخل في قلوب هؤلاء التكذيب فلا يؤمنوا
ثم أخبر عن هؤلاء المشركين فقال لايؤمنون به وفي المشار إليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الرسول
والثاني القرآن والثالث العذاب
قوله تعالى وقد خلت سنة الأولين فيه قولان
أحدهما مضت سنة الله في إهلاك المكذبين
والثاني مضت سنتهم بتكذيب الأنبياء
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فطلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن
قوم مسحورون
قوله
تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء يعني كفار مكة فظلوا فيه يعرجون أي يصعدون يقال
ظل يفعل كذا إذا فعله بالنهار
وفي المشار إليهم بهذا الصعود قولان
أحدهما أنهم الملائكة قاله ابن عباس والضحاك فالمعنى لو كشف عن أبصار هؤلاء فرأوا
بابا مفتوحا في السماء والملائكة تصعد فيه لما آمنوا به
والثاني أنهم المشركون قاله الحسن وقتادة فيكون المعنى لو وصلناهم إلى صعود السماء
لم يستشعروا إلا الكفر لعنادهم
قوله تعالى لقالوا إنما سكرت أبصارنا قرأ الأكثرون بتشديد الكاف وقرأ ابن كثير
وعبد الوارث بتخفيفها قال الفراء ومعنى القراءتين متقارب والمعنى حبست من قولهم
سكرت الريح إذا سكنت وركدت وقال أبو عمرو بن العلاء معنى سكرت بالتخفيف مأخوذ من
سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل مايقع بالرجل السكران
من تغير العقل قال ابن الأنباري إذا كان هذا كان معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد
به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة وقال أبو عبيد سكرت بالتشديد من السكور التي تمنع
الماء الجرية فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري وقال
الزجاج سكرت بالتشديد فسروها أغشيت وسكرت بالتخفيف تحيرت وسكنت عن أن تنظر والعرب
تقول سكرت الريح تسكر إذا سكنت وروى العوفي عن ابن عباس إنما سكرت أبصارنا قال أخذ
بأبصارنا وشبه علينا وإنما سحرنا وقال مجاهد سكرت سدت بالسحر فيتماثل لأبصارنا غير
ما ترى
ولقد
جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق
السمع فأتبعه شهاب مبين
قوله تعالى ولقد جعلنا في السماء بروجا في البروج ثلاثة أقوال
أحدها أنها بروج الشمس والقمر أي منازلها قاله ابن عباس وأبوعبيدة في آخرين قال
ابن قتيبة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان
والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت
والثاني أنها قصور روي عن ابن عباس أيضا وقال عطية هي قصور في السماء فيها الحرس
وقال ابن قتيبة أصل البروج الحصون
والثالث أنها الكواكب قاله مجاهد وقتادة ومقاتل قال أبو صالح هي النجوم العظام قال
قتادة سميت بروجا لظهورها
قوله تعالى وزيناها أي حسناها بالكواكب
وفي المراد بالناظرين قولان أحدهما أنهم المبصرون والثاني المعتبرون
قوله تعالى وحفظناها من كل شيطان رجيم أي حفطناها أن يصل إليها شيطان أو يعلم من
أمرها شيئا إلا استراقا ثم يتبعه الشهاب والرجيم مشروح في آل عمران
واختلف العلماء هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه و سلم
أم لا على قولين
أحدهما أنها لم ترم حتى بعث صلى الله عليه و سلم وهذا المعنى مذكور في رواية
سعيد
بن جبير عن ابن عباس وقد أخرج في الصحيحين من حديث سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال
انطلق رسول الله ص - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين
وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك قال
الزجاج ويدل على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله ص - أن شعراء العرب الذين
يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المنقضة فلما حدثت
بعد مولد نبينا ص - استعملت الشعراء ذكرها فقال ذو الرمة ... كذا كوكب في إثر
عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب ...
والثاني أنه قد كان ذلك قبل نبينا ص - فروى مسلم في صحيحه
من
حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال بينما النبي ص - جالس في نفر من أصحابه إذ رمي
بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول
يموت عظيم أو يولد عظيم قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا
قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه
السماء ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ثم يستخبر
أهل كل سماء أهل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن ويرمون فما جاؤوا
به على وجهه فهو حق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون وروي عن ابن عباس أن الشاطين كانت
لا تحجب عن السموات فلما ولد عيسى منعت من ثلاث سموات فلما ولد رسول الله ص -
منعوا من السموات كلها وقال الزهري قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله ولكنها
غلظت حين بعث ص - وهذا مذهب ابن قتيبة قال وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قال بشر بن
أبي خازم وهو جاهلي ... والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض
الكوكب ...
وقال أوس بن حجر وهو جاهلي
فانقض
كالدريء يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا ...
قوله تعالى إلا من استرق السمع أي اختطف ما سمعه من كلام الملائكة قال ابن فارس
استرق السمع إذا سمع مستخفيا فأتبعه أي لحقه شهاب مبين قال ابن قتيبة كوكب مضيء
وقيل مبين بمعنى ظاهر يراه أهل الأرض وإنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض
فأما وحي الله عز و جل فقد صانه عنهم
واختلفوا هل يقتل الشهاب أم لا على قولين
أحدهما أنه يحرق ويخبل ولا يقتل قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني أنه يقتل قاله الحسن فعلى هذا القول هل يقتل الشيطان قبل أن يخبر بما سمع
فيه قولان
أحدهما أنه يقتل قبل ذلك فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء قال ابن
عباس ولذلك انقطعت الكهانة
والثاني أنه يقتل بعد إلقائه ما سمع إلى غيره من الجن ولذلك يعودون إلى الاستراق
ولو لم يصل لقطعوا الاستراق
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها
معايش ومن لستم له برازقين
قوله تعالى والأرض مددناها أي بسطناها على وجه الماء وألقينا فيها رواسي وهي
الجبال الثوابت وأنبتنا فيها في المشار إليه قولان
أحدهما أنها الأرض قاله الأكثرون
والثاني الجبال قاله الفراء
وفي
قوله ومن كل شيء موزون قولان
أحدهما أن الموزون المعلوم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد ابن جبير والضحاك
وقال مجاهد وعكرمة في آخرين الموزون المقدور فعلى هذا يكون المعنى معلوم القدر
كأنه قد وزن لأن أهل الدنيا لما كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه أخبر الله تعالى عن
هذا أنه معلوم القدر عنده بأنه موزون وقال الزجاج المعنى أنه جرى على وزن من قدر
الله تعالى لا يجاوز ما قدره الله تعالى عليه ولا يستطيع خلق زيادة فيه ولا نقصانا
والثاني أنه عنى به الشيء الذي يوزن كالذهب والفضة والرصاص والحديد والكحل ونحو
ذلك وهذا المعنى مروي عن الحسن وعكرمة وابن زيد وابن السائب واختاره الفراء
قوله تعالى وجعلنا لكم فيها معايش في المشار إليهما قولان
أحدهما أنها الأرض
والثاني أنها الأشياء التي أنبتت والمعايش جمع معيشة والمعنى جعلنا لكم فيها
أرزاقا تعيشون بها
وفي قوله تعالى ومن لستم له برازقين أربعة أقوال
أحدها أنه الدواب والأنعام رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والثاني الوحوش رواه منصور عن مجاهد وقال ابن قتيبة الوحش والطير والسباع وأشباه
ذلك مما لا يرزقه ابن آدم
والثالث العبيد والإماء قاله الفراء
والرابع العبيد والأنعام والدواب قاله الزجاج قال الفراء ومن
في
موضع نصب فالمعنى جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء ويقال إنها في موضع خفض
فالمعنى جعلنا لكم فيها معايش ولمن لمستم له برازقين
وقال الزجاج المعنى جعلنا لكم الدواب والعبيد وكفيتم مؤونة أرزاقها
فان قيل كيف قلتم إن من ها هنا للوحوش والدواب وإنما تكون لمن يعقل فالجواب أنه
لما وصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس فيقال للآدمي
معاش ولا يقال للفرس معاش جرت مجرى الناس كما قال يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم
النمل 18 وقال رأيتهم لي ساجدين يوسف 4 وقال كل في فلك يسبحون الأنبياء وإن قلنا أريد
به العبيد والوحوش فانه إذا اجتمع الناس وغيرهم غلب الناس على غيرهم لفضيلة العقل
والتمييز
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
قوله تعالى وإن من شيء أي وما من شيء إلا عندنا خزائنه وهذا الكلام عام في كل شيء
وذهب قوم من المفسرين إلى أن المراد به المطر خاصة فالمعنى عندهم وما من شيء من
المطر إلا عندنا خزائنه أي في حكمنا وتدبيرنا ومما ننزله كل عام إلا بقدر معلوم
لايزيد ولا ينقص فما من عام أكثر مطرا من عام غير أن الله تعالى يصرفه إلى من يشاء
ويمنعه من يشاء
وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا
لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون
قوله
تعالى وأرسلنا الرياح لواقح وقرأ حمزة وخلف الريح وكان أبو عبيدة يذهب إلى أن
لواقح بمعنى ملاقح فسقطت الميم منه قال الشاعر ... ليبك يزيد بائس لضراعة ...
وأشعث ممن طوحته الطوائح ...
أراد المطاوح فحذف الميم فمعنى الآية عنده وأرسلنا الرياح ملقحة فيكون ها هنا فاعل
بمعنى مفعل كما أتى فاعل بمعنى مفعول كقوله ماء دافق الطارق 6 أي مدفوق و عيشة
راضية الحاقة 21 والقارعة 7 أي مرضية وكقولهم ليل نائم أي منوم فيه ويقولون أبقل
النبت فهو باقل أي مبقل قال ابن قتيبة يريد أبو عبيدة أنها تلقح الشجر وتلقح
السحاب كأنها تنتجه ولست أدري ما أضطره إلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد
العرب تسمي الرياح لواقح والريح لاقحا قال الطرماح وذكر بردا مده على أصحابه في
الشمس يستظلون به ... قلق لأفنان الرياح ... للاقح منها وحائل ...
فاللاقح الجنوب والحائل الشمال ويسمون الشمال أيضا عقيما والعقيم التي لا تحمل كما
سموا الجنوب لا قحا قال كثير ... ومر بسفاسف التراب عقيمها ... يعني الشمال وإنما
جعلوا الريح لاقحا أي حاملا لأنها تحمل السحاب
وتقلبه
وتصرفه ثم تحله فينزل فهي على هذا حامل ويدل على هذا قوله حتى إذا أقلت سحابا
الأعراف أي حملت قال ابن الأنباري شبه ما تحمله الريح من الماء وغيره بالولد التي
تشتمل عليه الناقة وكذلك يقولون حرب لاقح لما تشتمل عليه من الشر فعلى قول أبو
عبيدة يكون معنى لواقح أنها ملقحة لغيرها وعلى قول ابن قتيبة أنها لاقحة نفسها
وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول قال عبد الله ابن مسعود يبعث الله الرياح
لتلقح السحاب فتحمل الماء فتمجه ثم تمريه فيدر كما تدر اللقحة وقال الضحاك يبعث
الله الرياح على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء قال النخعي تلقح السحاب ولا تلقح الشجر
وقال الحسن في آخرين تلقح السحاب والشجر الشجر يعنون أنها تلقح السحاب حتى يمطر
والشجر حتى يثمر
قوله تعالى فأنزلنا من السماء يعني السحاب ماء يعني المطر فأسقيناكموه أي جعلناه
سقيا لكم قال الفراء العرب مجتمعون على أن يقولوا سقيت الرجل فأنا أسقيه إذا سقيته
لشفته فاذا أجروا للرجل نهرا قالوا أسقيته وسقيته وكذلك السقيا من الغيث قالوا
فيها سقيت وأسقيت وقال أبو عبيدة كل ما كان من السماء ففيه لغتان أسقاه الله وسقاه
الله قال لبيد
سقى
قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال ...
فجاء باللغتين وتقول سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغيره وليس فيه إلا لغة واحدة
بغير ألف إذا كان في الشفه وإذا جعلت له شربا فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله ولا
يكون غير هذا وكذلك إذا استسقيت له كقول ذي الرمة ... وقفت على رسم لمية ناقتي ...
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه ...
... وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه ...
فاذا وهبت له إهابا ليجعله سقاء فقد أسقيته إياه
قوله تعالى وما أنتم له يعني الماء المنزل بخازنين وفيه قولان
أحدهما بحافظين أي ليست خزائنه بأيديكم قاله مقاتل
والثاني بمانعين قاله سفيان الثوري
قوله تعالى ونحن الوارثون يعني أنه الباقي بعد فناء الخلق ولقد علمنا المستقدمين
منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشركم إنه حكيم عليم
قوله تعالى ولقد علمنا المستقدمين منكم يقال استقدم الرجل بمعنى تقدم واستأخر
بمعنى تأخر
وفي سبب نزولها قولان
أحدهما
أن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله ص - فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أول صف
لئلا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف فاذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت هذه
الآية رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس
والثاني أن النبي ص - حرض على الصف الأول فازدحموا عليه وقال قوم بيوتهم قاصية عن
المدينة لنبيعن دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المتقدم فنزلت
هذه الأية ومعناها إنما تجزون على النيات فاطمأنوا وسكنوا رواه أبو صالح عن ابن
عباس
وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخرين ثمانية أقوال
أحدها التقدم في الصف الأول والتأخر عنه وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها
فعلى الأول هو التقدم للتقوى والتأخر للخيانة بالنظر وعلى الثاني هو التقدم لطلب
الفضيلة والتأخر للعذر
والثاني أن المستقدمين من مات والمستأخرين من هو حي لم يمت رواه العوفي عن ابن
عباس وخصيف عن مجاهد وبه قال عطاء والضحاك والقرظي
والثالث أن المستقدمين من خرج من الخلق وكان والمستأخرين الذين في أصلاب الرجال
رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال عكرمة
والرابع
أن المستقدمين من مضى من الأمم والمستأخرين أمة محمد ص - رواه ابن أبي نجيح عن
مجاهد
والخامس أن المستقدمين المتقدمون في الخير والمستأخرون المثبطون عنه قاله الحسن
وقتادة
والسادس أن المستقدمين في صفوف القتال والمستأخرين عنها قاله الضحاك
والسابع أن المستقدمين من قتل في الجهاد والمستأخرين من لم يقتل قاله القرظي
والثامن أن المستقدمين أول الخلق والمستأخرين آخر الخلق قاله الشعبي
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم وإذ
قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فذا سويته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين
قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان يعني آدم من صلصال وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الطين اليابس الذي لم تصبه النار فاذا نقرته صل فسمعت له صلصلة قاله ابن
عباس وقتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة
والثاني أنه الطين المنتن قاله مجاهد والكسائي وأبو عبيد ويقال صل اللحم إذا تغيرت
رائحته
والثالث أنه طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره قاله الفراء فأما الحمأ فقال أبو
عبيدة هو جمع حمأة وهو الطين المتغير وقال ابن الأنباري لا خلاف أن الحمأ الطين
الأسود المتغير الريح وروى السدي عن أشياخه قال بل التراب حتى صار طينا ثم ترك حتى
أنتن وتغير
وفي
المسنون أربعة أقوال
أحدها المنتن أيضا رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة في آخرين قال ابن
قتيبة المسنون المتغير الرائحة
والثاني أنه الطين الرطب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنه المصبوب قاله أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيد
والرابع أنه المحكوك ذكره ابن الأنباري قال فمن قال المسنون المنتن قال هو من
قولهم قد تسنى الشيء إذا أنتن ومنه قوله تعالى لم يتسنه البقرة 259 وإنما قيل له
مسنون لتقادم السنين عليه ومن قال الطين الرطب قال سمي مسنونا لأنه يسيل وينبسط
فيكون كالماء المسنون المصبوب ومن قال المصبوب احتج بقول العرب قد سننت علي الماء
إذا صببته ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال من قوله رأيت سنة وجهه أي صورة
وجهه قال الشاعر ... تريك سنة وجهه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب ...
ومن قال المحكوك احتج بقول العرب سننت الحجر على الحجر إذا حككته عليه وسمي المسن
مسنا لأن الحديد يحك عليه قال وإنما كررت من لأن الأولى المتعلقة ب خلقنا والثانية
متعلقة بالصلصال تقديره ولقد خلقنا الإنسان من الصلصال الذي هو من حمأ مسنون
قوله تعالى والجان فيه ثلاثة أقوال
أحدها
أنه مسيخ الجن كما أن القردة والخنازير مسيخ الإنس رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني أنه أبو الجن قاله أبو صالح عن ابن عباس وروى عنه الضحاك أنه قال الجان
أبو الجن وليسوا بشياطين والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون
ومنهم المؤمن ومنهم الكافر
والثالث أنه إبليس قاله الحسن وعطاء وقتادة ومقاتل
فان قيل أليس أبو الجن هو إبليس فعنه جوابان
أحدهما أنه هو فيكون هذا القول هو الذي قبله
والثاني أن الجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين فبينهما إذا فرق على ما ذكرناه عن
ابن عباس قال العلماء وإنما سمي جانا لتواريه عن العيون
قوله تعالى من قبل يعني قبل خلق آدم من نار السموم
وقال
ابن مسعود من نار الريح الحارة وهي جزء من سبعين جزءا من نار جهنم والسموم في
اللغة الريح الحارة وفيها نار قال ابن السائب وهي نار لا دخان لها فسجد الملئكة
كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك ألا تكون مع
الساجدين قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال فاخرج منها فإنك
رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من
المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم
أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم
قوله تعالى فإذا سويته أي عدلت صورته وأتممت خلقته ونفخت فيه من روحي هذه الروح هي
التي يحيا بها الإنسان ولا تعلم ما هيتها وإنما أضافها إليه تشريفا لآدم وهذه
إضافة ملك وإنما سمي إجراء الروح فيه نفخا لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح
فيه
قوله تعالى فقعوا أمر من الوقوع وقوله كلهم أجمعون قال فيه سيبويه والخليل هو
توكيد بعد توكيد وقال المبرد أجمعون يدل على اجتماعهم في السجود فالمعنى سجدوا
كلهم في حالة واحدة قال ابن الأنباري
وهذا
لأن كلا تدل على اجتماع القوم في الفعل ولا تدل على اجتماعهم في الزمان قال الزجاج
وقول سيبويه أجود لأن أجمعين معرفة ولا تكون حالا
قوله تعالى وإن عليك اللعنة قال المفسرون معناه يلعنك أهل السماء والأرض إلى يوم
الحساب قال ابن الأنباري وإنما قال إلى يوم الدين لأنه يوم له أول وليس له آخر
فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى والمعنى عليك اللعنة أبدا
قوله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم يعني المعلوم بموت الخلائق فيه فأراد أن يذيقه
ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم
قوله تعالى لأزينن لهم في الأرض مفعول التزيين محذوف والمعنى لأزينن لهم الباطل
حتى يقعوا فيه ولأغوينهم أي ولأضلنهم والمخلصون الذين أخلصوا دينهم لله عن كل
شائبة تناقض الإخلاص وما أخللنا به من الكلمات هاهنا فقد سبق تفسيرها في الأعراف
16 وغيرها
قوله تعالى قال هذا صراط علي مستقيم اختلوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يعني بقوله هذا الإخلاص فالمعنى إن الإخلاص طريق إلي مستقيم و علي بمعنى
إلي
والثاني هذا طريق علي جوازه لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وهو خارج مخرج الوعيد
كما تقول للرجل تخاصمه طريقك علي فهو كقوله إن ربك لبالمرصاد الفجر 14
والثالث هذا صراط علي استقامته أي أنا ضامن لاستقامته بالبيان
والبرهان
وقرأ قتادة ويعقوب هذا صراط علي بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها أي رفيع إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة
أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم
قوله تعالى إن عبادي فيهم أربعة أقوال
أحدها أنهم المؤمنون والثاني المعصومون رويا عن قتادة والثالث المخلصون قاله مقاتل
والرابع المطيعون قاله ابن جرير فعلى هذه الأقوال تكون الآية من العام الذي أريد
به الخاص
وفي المراد بالسلطان قولان
أحدهما أنه الحجة قاله ابن جرير فيكون المعنى ليس لك حجة في إغوائهم
والثاني أنه القهر والغلبة إنما له أن يغر ويزين قاله أبو سليمان الدمشقي وسئل
سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عفوي
عنه
قوله تعالى وإن جهنم لموعدهم أجمعين يعني الذين اتبعوه
قوله تعالى لها سبعة أبواب وهي دركاتها بعضها فوق بعض قال علي عليه السلام أبواب
جهنم ليست كأبوابكم هذه ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض ووصف الراوي عنه
بيده وفتح أصابعه قال ابن جرير لها سبعة أبواب أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم
السعير ثم سقر ثم
الجحيم
ثم الهاوية وقال الضحاك هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها فيه أهل التوحيد
يعذبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون والثاني فيه النصارى والثالث فيه اليهود والرابع
فيه الصائبون والخامس فيه المجوس والسادس فيه مشركو العرب والسابع فيه المنافقون
قال ابن الأنباري لما اتصل العذاب بالباب وكان الباب من سببه سمي باسمه للمجاورة
كتسميتهم الحدث غائطا
قوله تعالى لكل باب منهم أي من أتباع إبليس جزء مقسوم والجزء بعض الشيء إن المتقين
في جناب وعيون أدخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر
متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين
قوله تعالى إن المتقين في جنات وعيون قد شرحنا في سورة البقرة 2 و 25 معنى التقوى
والجنات فأما العيون فهي عيون الماء والخمر والسلسبيل والتسنيم وغير ذلك مما ذكر
أنه من شراب الجنة
قوله تعالى ادخلوها بسلام المعنى يقال لهم ادخلوها بسلام وفيه ثلاثة أقوال
أحدها بسلامة من النار والثاني بسلامة من كل آفة والثالث بتحية من الله
وفي قوله آمنين أربعة أقوال
أحدها آمنين من عذاب الله والثاني من الخروج والثالث من الموت والرابع من الخوف
والمرض
قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل قد ذكرنا تفسيرها في سورة
الأعراف
43 فإن المفسرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول
قوله تعالى إخوانا منصوب على الحال والمعنى أنهم متوادون
فإن قيل كيف نصب إخوانا على الحال فأوجب ذلك أن التآخي وقع مع نزع الغل وقد كان
التآخي بينهم في الدنيا
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال ما مضى من التآخي قد كان تشويه ضغائن وشحناء وهذا
التآخي بينهم الموجود عند نزع الغل هو تآخي المصافاة والإخلاص ويجوز أن ينتصب على
المدح المعنى اذكر إخوانا فأما السرور فجمع سرير قال ابن عباس على سرر من ذهب
مكللة بالزبرجد والدر والياقوت السرير مثل ما بين عدن إلى أيلة متقابلين لا يرى
بعضهم قفا بعض حيثما التفت رأى وجها يحبه يقابله
قوله تعالى لايمسهم فيها نصب أي لا يصيبهم في الجنة إعياء وتعب نبئ عبادي أني أنا
الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه
فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم
قوله تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم سبب نزولها ما روى ابن المبارك باسناد
له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال طلع علينا رسول الله من
الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا
كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال إني لما
خرجت
جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد يقول الله تعالى لم تقنط عبادي نبئ عبادي أني
أنا الغفور الرحيم وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بتحريك ياء عبادي وياء أني أنا
واسكنها الباقون
قوله تعالى ونبئهم عن ضيف إبراهيم قد شرحنا القصة في هود 69 وبينا هنالك معنى
الضيف والسبب في خوفه منهم وذكرنا معنى الوجل في الأنفال 2
قوله تعالى بغلام عليم أي إنه يبلغ ويعلم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم
تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا
الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ألا آل لوط
إنا لمنجوهم أجمعين ألا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون
قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا
لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل وابع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث
تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين
قوله
تعالى قال أبشرتموني أي بالولد على أن مسني الكبر أي على حالة الكبر والهرم فبم
تبشرون قرأ أبو عمر وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي تبشرون بفتح النون وقرأ نافع
بكسر النون ووافقه ابن كثير في كسرها لكنه شددها وهذا استفهام تعجب كأنه عجب من
الولد على كبره قالوا بشرناك بالحق أي بما قضى الله أنه كائن فلا تكن من القانطين
يعني الآيسين قال ومن يقنط قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة ومن يقنط
بفتح النون في جميع القرآن وقرأ أبو عمرو والكسائي يقنط بكسر النون وكلهم قرؤوا من
بعد ما قنطوا الشورى 28 بفتح النون وروى خارجة عن أبي عمرو ومن يقنط بضم النون قال
الزجاج يقال قنط يقنط وقنط يقنط والقنوط بمعنى اليأس ولم يكن إبراهيم قانطا ولكنه
استبعد وجود الولد قال فما خطبكم أي ما أمركم قالوا إنا أرسلنا أي بالعذاب وقوله
إلا آل لوط استثناء ليس من الأول فأما آل لوط فهم اتباعه المؤمنون
قوله تعالى إنا لمنجوهم قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر لمنجوهم
مشددة الجيم وقرأ حمزة والكسائي لمنجوهم خفيفة
قوله تعالى إلا امرأته المعنى أنا لمنجوهم إلا امرأته قدرنا وروى أبو بكر عن عاصم
قدرنا بالتخفيف والمعنى واحد يقال قدرت وقدرت والمعنى قضينا إنها لمن الغابرين
يعني الباقين في العذاب
قوله تعالى إنكم قوم منكرون يعني لا أعرفكم قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون
يعنون العذاب كانوا يشكون في نزوله وأتيناك بالحق أي بالأمر الذي لا شك فيه من
عذاب قومك
قوله
تعالى واتبع أدبارهم أي سر خلفهم وامضواحيث تؤمرون أي حيث يأمركم جبريل
وفي المكان الذي أمروا بالمضي إليه قولان
أحدهما أنه الشام قاله ابن عباس والثاني قرية من قرى قوم لوط قاله ابن السائب
قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أي أوحينا إليه ذلك الأمر أي الأمر بهلاك قومه
قال الزجاج فسر ما الأمر بباقي الآية والمعنى وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع
مصبحين فأما الدابر فقد سبق تفسره الأنعام 45 والمعنى إن آخر من يبقى منكم يهلك
وقت الصبح وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله
ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين
قوله تعالى وجاء أهل المدينة وهم قوم لوط واسمها سدوم يستبشرون بأضياف لوط طمعا في
ركوب الفاحشة فقال لهم لوط إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون أي بقصدكم إياهم بالسوء يقال
فضحه يفضحه إذا أبان من أمره ما يلزمه به العار وقد أثبت يعقوب ياء تفضحون ولا
تخزون في الوصل والوقف
قوله تعالى أولم ننهك عن العالمين أي عن ضيافة العالمين
قوله تعالى بناتي إن كنتم حرك ياء بناتي نافع وأبو جعفر
لعمرك
إنهم لفي سكرتهم بعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم
حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية
للمؤمنين
قوله تعالى لعمرك فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه وحياتك يا محمد رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس
والثاني لعيشك رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الأخفش وهو يرجع إلى معنى
الأول
والثالث أن معناه وحقك على أمتك تقول العرب لعمر الله لا أقوم يعنون وحق الله ذكره
ابن الأنباري قال وفي العمر ثلاث لغات عمر وعمر و عمر وهو عند العرب البقاء وحكى
الزجاج أن الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا العمر والعمر في معنى واحد فإذا
استعمل في القسم فتح لا غير وإنما آثروا الفتح في القسم لأن الفتح أخف عليهم وهم
يؤكدون القسم ب لعمري و لعمرك فلما كثر استعمالهم إياه لزموا الأخف عليهم قال وقال
النحويون ارتفع لعمرك بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي ولعمرك ما أقسم
به وحذف الخبر لأن في الكلام دليلا عليه المعنى أقسم إنهم لفي سكرتهم يعمهون
وفي المراد بهذه السكرة قولان
أحدهما أنها بمعنى الضلالة قاله قتادة
والثاني بمعنى الغفلة قاله الأعمش وقد شرحنا معنى العمة في سورة
البقرة
15 وفي المشار إليهم بهذا قولان أحدهما أنهم قوم لوط قاله الأكثرون والثاني قوم
نبينا صلى الله عليه و سلم قاله عطاء
قوله تعالى فأخذتهم الصيحة يعني صيحة العذاب وهي صيحة جبريل عليه السلام مشرقين
قال الزجاج يقال أشرقنا فنحن مشرقون إذا صادفوا شروق الشمس وهو طلوعها كما يقال
أصبحنا إذا صادفوا الصبح يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت هذا أكثر
اللغة وقد قيل شرقت وأشرقت في معنى واحد إلا أن مشرقين في معنى مصادفين لطلوع
الشمس
قوله تعالى فجعلنا عاليها سافلها قد فسرنا الآية في سورة هود 82
وفي المتوسمين أربعة أقوال
أحدها أنهم المتفرسون روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
اتقوا فراسه المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال
المتفرسين وبهذا قال مجاهد وابن قتيبة قال ابن قتيبة يقال توسمت في فلان الخير أي
تبينته وقال الزجاج المتوسمون في اللغة النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا
حقيقة سمة الشيء يقال
توسمت
في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك فيه وقال غيره المتوسم الناظر في السمة الدالة على
الشيء والثاني المعتبرون قاله قتادة والثالث الناظرون قاله الضحاك والرابع
المتفكرون قاله ابن زيد والفراء
قوله تعالى وإنها يعني قرية قوم لوط لبسبيل مقيم فيه قولان
أحدهما لبطريق واضح رواه نهشل عن الضحاك عن ابن عباس وبه قال قتادة والزجاج وقال
ابن زيد لبطريق متبين
والثاني لبهلاك رواه أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس والمعنى إنها بحال هلاكها لم
تعمر حتى الآن فالاعتبار بها ممكن وهي على طريق قريش إذا سافروا إلى الشام وإن كان
أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين
قوله تعالى وإن كان أصحاب الأيكة الظالمين قال الزجاج معنى إن واللام التوكيد
والأيك الشجر الملتف فالفصل بين واحده وجمعه الهاء فالمعنى أصحاب الشجرة قال
المفسرون هم قوم شعيب كان مكانهم ذا شجر فكذبوا شعيبا فأهلكوا بالحر كما بينا في
سورة هود 87
قوله تعالى وإنهما في المكنى عنهما قولان أحدهما أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط قاله
الأكثرون والثاني لوط وشعيب ذكره ابن الأنباري
وفي قوله لبامام مبين قولان
أحدهما لبطريق ظاهر قاله ابن عباس قال ابن قتيبة وقيل للطريق إمام لأن المسافر
يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده
والثاني
لفي كتاب مستبين قاله السدي قال ابن الأنباري وإنهما يعني لوطا وشعيبا بطريق من
الحق يؤتم به ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين
قوله تعالى ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين يعني بهم ثمود قال ابن عباس كانت
منازلهم بالحجر بين المدينة والشام
وفي الحجر قولان أحدهما أنه اسم الوادي الذي كانوا به قاله قتادة والزجاج والثاني
اسم مدينتهم قاله الزهري ومقاتل
قال المفسرون والمراد بالمرسلين صالح وحده لأن من كذب نبيا فقد كذب الكل
والمراد بالآيات الناقة قال ابن عباس كان في آيات خروجها من الصخرة ودنو نتاجها
عند خروجها وعظم خلقها فلم تشبهها ناقة وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا فكانوا
عنها معرضين لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين
فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون وما خلقنا السموات والأرض وما
بينهما إلا الحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم
قوله تعالى وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا قد شرحناه في الأعراف 74
وفي قوله آمنين ثلاثة أقوال
أحدها آمنين ان تقع عليهم والثاني آمنين من خرابها والثالث من عذاب اللة عز و جل وفي قولة تعالي ماكانوا يكسبون قولان احدهما ما كانوا يعملون من نحت الجبال والثاني ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام قولة تعالي إلا بالحق أي للحق ولإظهار الحق وهو ثواب المصدق وعقاب المكذب وإن الساعة لآتية أي وإن القيامة لتأتي فيجازى المشركون بأعمالهم فأصفح الصفح الجميل عنهم وهو الإعراض الخالي من جزع وفحش قال المفسرون وهذا منسوخ بآية السيف فأما الخلاق فهو خالق كل شيئ و العليم قد سبق شرحة البقرة 29 ولقد اتيناك سبعا من المثاني والقران العظيم لاتمدن عينيك إلى ما متعنا بة ازواجا منهم ولاتحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني انا النذير المبين قولة تعالى ولقد اتيناك سبعا من المثانى سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البز والطيب والجواهر ققال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله هذه الآية وقال أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل ويدل على صحة هذا قوله لا تمدن عينيك الآية قاله الحسين بن الفضل
وفي
المراد بالسبع المثاني أربعة أقوال
أحدها أنها فاتحة الكتاب قاله عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود في رواية
وابن عباس في رواية الأكثرين عنه وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير في رواية ومجاهد
في رواية وعطاء وقتادة في آخرين فعلى هذا إنما سميت بالسبع لأنها سبع آيات
وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال أحدها لأن الله استثناها لأمة محمد صلى الله عليه
و سلم فلم يعطها أمة قبلهم رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني لأنها تثنى في
كل ركعة رواه أبو صالح عن ابن عباس قال ابن الأنباري والمعنى آتيناك السبع الآيات
التي تثنى في كل ركعة وإنما دخلت من للتوكيد كقوله ولهم فيها من كل الثمرات محمد
15 وقال ابن قتيبة سمي الحمد مثاني لأنها تثنى في كل صلاة والثالث لأنها ما أثنى
به على الله تعالى لأن فيها حمد الله وتوحيده وذكر مملكته ذكره الزجاج والرابع لأن
فيها الرحمن الرحيم مرتين ذكره أبو سليمان الدمشقي عن بعض اللغويين وهذا على قول
من يرى التسمية منها والخامس لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده ويدل عليه
حديث أبي هريرة قسمت الصلاة بيني وبين عبدي والسادس
لأنها
نزلت مرتين ذكره الحسين بن الفضل والسابع لأن كلماتها مثناه مثل الرحمن الرحيم
إياك إياك الصراط صراط عليهم عليهم غير غير ذكره بعض المفسرين ومن أعظم فضائلها أن
الله تعالى جعلها في حيز والقرآن كله في حيز وامتن عليه بها امتن عليه بالقرآن كله
والقول الثاني أنها السبع الطول قاله ابن مسعود في رواية وابن عباس في رواية وسعيد
بن جبير في رواية ومجاهد في رواية والضحاك فالسبع الطول هي البقرة و آل عمران و
النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف وفي السابعة ثلاثة أقوال أحدها أنها يونس
قاله سعيد بن جبير والثاني براءة قاله أبو مالك والثالث الأنفال و براءة جميعا
رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم قال ابن قتيبة وكانوا يرون الأنفال و براءة
سورة واحدة ولذلك لم يفصلوا بينهما قال شيخنا أبو منصور اللغوي هي الطول ولا تقلها
بالكسر فعلى هذا في تسميتها بالمثاني قولان أحدهما لأن الحدود والفرائض والأمثال
ثنيت فيها قاله ابن عباس والثاني لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية
ذكره الماوردي
والقول الثالث أن السبع المثاني سبع معان أنزلت في القرآن أمر ونهي وبشارة وإنذار
وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم قاله زياد بن أبي مريم
والقول الرابع أن المثاني القرآن كله قاله طاووس والضحاك وأبو مالك فعلى هذا في
تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال
أحدها
لأن بعض الآيات يتلو بعضا فتثنى الآخرة على الأولى ولها مقاطع تفصل الآية بعدالآية
حتى تنقضي السورة قاله أبو عبيدة
والثاني أنه سمي بالمثاني لما يتردد فيه من الثناء على الله عز و جل
والثالث لما يتردد فيه من ذكر الجنة والنار والثواب والعقاب
والرابع لأن الأقاصيص والأخبار والمواعظ والآداب ثنيت فيه ذكرهن ابن الأنباري وقال
ابن قتيبة قد يكون المثاني سور القرآن كله قصارها وطوالها وإنما سمي مثاني لأن
الأنباء والقصص تثنى فيه فعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن ويكون في
الكلام إضمار تقديره وهي القرآن العظيم
فأما قوله في المثاني ففي من قولان
أحدهما أنها للتبعيض فيكون المعنى آتيناك سبعا من جملة الآيات التي يثنى بها على
الله تعالى وآتيناك القرآن
والثاني أنها للصفة فيكون السبع هي المثاني ومنه قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان
الحج 30 لا أن بعضها رجس ذكر الوجهين الزجاج وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريبا من
هذا المعنى
قوله تعالى والقرآن العظيم يعني العظيم القدر لأنه كلام الله تعالى ووحيه
وفي المراد به هاهنا قولان
أحدهما أنه جميع القرآن قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك و الثاني أنه
الفاتحة أيضا قاله أبو هريرة وقد روينا فيه حديثا في أول
تفسير
الفاتحة قال ابن الأنباري فعلى القول الأول يكون قد نسق الكل على بعض كما يقول
العربي رأيت جدار الدار والدار وإنما يصلح هذا لأن الزيادة التي في الثاني من كثرة
العدد أشبه بها ما يغاير الأول فجوز ذلك عطفه عليه وعلى القول الثاني نسق الشيء
على نفسه لما زيد عليه معنى المدح والثناء كما قالوا روي ذلك عن عمر وابن الخطاب
يريدون ابن الخطاب الفاضل العالم الرفيع المنزلة فلما دخلته زيادة أشبه ما يغاير
الأول فعطف عليه
ولما ذكر الله تعالى منته عليه بالقرآن نهاه عن النظر إلى الدنيا ليستغني بما آتاه
من القرآن عن الدنيا فقال لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم أي أصنافا من
اليهود والمشركين والمعنى أنه نهاه عن الرغبة في الدنيا
وفي قوله ولا تحزن عليهم قولان
أحدهما لا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا والثاني لا تحزن بما أنعمت عليهم في الدنيا
قوله تعالى واخفض جناحك للمؤمنين أي ألن جانبك لهم وخفض الجناح عبارة عن السكون
وترك التصعب والإباء قال ابن عباس ارفق بهم ولا تغلظ عليهم
قوله تعالى وقل إني أنا النذير المبين حرك ياء إني ابن كثير وأبو عمرو ونافع وذكر
بعض المفسرين أن معناها منسوخ بآية السيف كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا
القرآن عضين فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون
قوله تعالى كما أنزلنا على المقتسمين في هذه الكاف قولان
أحدهما
أنها متعلقة بقوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني ثم في معنى الكلام قولان أحدهما أن
المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني كما أنزلنا الكتب على المقتسمين قاله مقاتل
والثاني أن المعنى ولقد شرفناك وكرمناك بالسبع المثاني كما شرفناك وأكرمناك بالذي
أنزلناه على المقتسمين من العذاب والكاف بمعنى مثل و ما بمعنى الذي ذكره ابن
الأنباري
والثاني أنهامتعلقة بقوله إني أنا النذير والمعنى إني أنا النذير أنذرتكم مثل الذي
أنزل على المقتسمين من العذاب وهذا معنى قول الفراء فخرج في معنى أنزلنا قولان
أحدهما أنزلنا االكتب على قول مقاتل والثاني المذاب على قول الفراء
وفي المقتسمين ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود والنصارى رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد فعلى
هذا في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال أحدها أنهم آمنواببعض القرآن وكفروا ببعضه
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني أنهم اقتسموا القرآن فقال بعضهم هذه السورة
لي وقال آخر هذه السورة لي استهزاء به قاله عكرمة والثالث أنهم اقتسموا كتبهم فآمن
بعضهم ببعضها وكفر ببعضها وآمن آخرون بما كفر به غيرهم قاله مجاهد
والثاني أنهم مشركو قريش قاله قتادة وابن السائب فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين
قولان أحدهما أن أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة
وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين منهم الأسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة وعدي
بن قيس السهمي والعاص
ابن
وائل قاله قتادة والثاني أنهم اقتسموا على عقاب مكة قال ابن السائب هم رهط من أهل
مكة اقتسموا على عقاب مكة حين حضر الموسم قال لهم الوليد ابن المغيرة انطلقوا
فتفرقوا على عقاب مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عنه يعني رسول الله صلى
الله عليه و سلم فليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم شاعر وبعضكم غاو فإذا انتهوا
إلي صدقتكم ومنهم حنظلة ابن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة
وأبو جهل والعاص ابن هشام وابو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أبي أمية
وهلال ابن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام
وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة
والثالث أنهم قوم صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله النمل 49 فكفاه الله
شرهم قاله عبد الرحمن بن زيد فعلى هذا هو من القسم لا من القسمة
قوله تعالى الذين جعلوا القرآن عضين في المراد بالقرآن قولان
أحدهما أنه كتابنا وهو الأظهر وعليه الجمهور والثاني أن المراد به كتب المتقدمين
قبلنا
وفي عضين قولان
أحدهما أنه مأخوذ من الأعضاء قال الكسائي وأبو عبيدة اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاء
ثم في ما فعلوا فيه قولان
أحدهما أنهم عضوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه والمعضي المفرق والتعضية تجزئة
الذبيحة أعضاء قال علي عليه السلام لا تعضية في ميراث أراد تفريق ما يوجب تفريقه
ضررا على الورثة كالسيف ونحوه وقال رؤبة
وليس
دين الله بالمعضى ...
وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنهم عضوا القول فيه أي فرقوا فقالوا شعر وقالوا سحر وقالوا كهانة وقالوا
أساطير الأولين وهذا المعنى في رواية ابن جريج عن مجاهد وبه قال قتادة وابن زيد
والثاني أنه مأخوذ من العضه والعضه بلسان قريش السحر ويقولون للساحرة عاضهة وفي
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن العاضهة والمستعضهة فيكون المعنى
جعلوه سحرا وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس وبه قال عكرمة والفراء
قوله تعالى فوربك لنسألنهم أجميعن عما كانوا يعملون هذا سؤال توبيخ يسألون عما
عملوا في ما أمروا به من التوحيد والإيمان فيقال لهم لم عصيتهم وتركتم الإيمان
فتظهر فضيحتهم عند تعذر الجواب قال أبو العالية يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن
خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا المرسلين
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان
الرحمن 39 فعنه جوابان
أحدهما
أنه لا يسألهم هل عملتم كذا لأنه أعلم وإنما يقول لم عملتم كذا رواه ابن أبي طلحة
عن ابن عباس
والثاني أنهم يسألون في بعض مواطن القيامة ولا يسألون في بعضها رواه عكرمة عن ابن
عباس فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين
قوله تعالى فاصدع بما تؤمر فيه ثلاثة أقوال
أحدها فامض لما تؤمر قاله ابن عباس
والثاني أظهر أمرك رواه ليث عن مجاهد قال ابن قتيبة فاصدع بما تؤمر أي أظهر ذلك
وأصله الفرق والفتح يريد اصدع الباطل بحقك وقال الزجاج اظهر بما تؤمر به أخذ ذلك
من الصديع وهو الصبح قال الشاعر ... كأن بياض غرته صديع ...
وقال الفراء إنما لم يقل بما تؤمر به لأنه أراد فاصدع بالأمر وذكر ابن الأنباري أن
به مضمرة كما تقول مررت بالذي مررت
والثالث أن المراد به الجهر بالقرآن في الصلاة رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال
موسى بن عبيدة ما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية
فخرج هو وأصحابه
وفي قوله وأعرض عن المشركين ثلاثة أقوال
أحدها اكفف عن حربهم
والثاني
لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار أمرك
والثالث أعرض عن الاهتمام باستهزائهم وأكثر المفسرين على أن هذا القدر من الآية
منسوخ بآية السيف إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف
يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد
ربك حتى يأتيك اليقين
قوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين المعنى فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئن وهم قوم
كانوا يستهزئون به وبالقرآن وفي عددهم قولان
أحدهما أنهم كانوا خمسة الوليد بن المغيرة وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث والعاص
بن وائل والحارث بن قيس قاله ابن عباس واسم أبي زمعة الأسود بن المطلب وكذلك ذكرهم
سعيد بن جبير إلا أنه قال مكان الحارث بن قيس الحارث بن غيطلة قال الزهري غيطلة
امه وقيس أبوه فهو واحد وإنما ذكرت ذلك لئلا يظن أنه غيره وقد ذكرت في كتاب
التلقيح من ينسب إلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وسميت آباءهم ليعرفوا إلى
أي الأبوين نسبوا وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث ابن قيس عدي بن قيس
والثاني أنهم كانوا سبعة قاله الشعبي وابن أبي بزة وعدهم ابن أبي بزة فقال العاص
بن وائل والوليد بن المغيرة والحارث بن عدي والأسود ابن المطلب والأسود بن عبد
يغوث وأصرم وبعكك ابنا عبدالحارث بن السباق
وكذلك
عدهم مقاتل إلا أنه قال مكان الحارث بن عدي الحارث بن قيس السهمي وقال أصرم وبعكك
ابنا الحجاج بن السباق
ذكر ما أهلكهم الله به وكفى رسوله صلى الله عليه و سلم أمرهم
قال المفسرون أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم والمستهزئون يطوفون بالبيت
فمر الوليد بن المغيرة فقال جبريل يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبد الله قال قد
كفيت وأومأ إلى ساق الوليد فمر الوليد برجل يريش نبلا له فتعلقت شظية من نبل
بازاره فمنعه الكبر أن يطامن لينزعها وجعلت تضرب ساقه فمرض ومات وقيل تعلق سهم
بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات ومر العاص بن وائل فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد
فقال بئس عبد الله فأشار إلى أخمص رجله وقال قد كفيت فدخلت شوكة في أخمصه فانتخفت
رجله ومات ومر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا قال عبد سوء فأشار بيده إلى
عينيه فعمي وهلك وقيل جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه فقال
لا أرى أحدا يصنع بك هذا غير نفسك فمات وهو يقول قتلني رب محمد ومر الأسود بن عبد
يغوث فقال جبريل كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فقال قد كفيت واشار إلى بطنه فسقى
بطنه فمات وقيل أصاب عينه شوك فسالت حدقتاه وقيل خرج عن أهله فأصابه السموم فاسود
حتى عاد حبشيا فلما أتى أهله لم يعرفوه فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات
ومر
به الحارث بن قيس فقال كيف تجد هذا قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال قد كفيت
فانتفخ رأسه فمات وقيل أصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انقد بطنه وأما أصرم
وبعكك فقال مقاتل أخذت أحدهما الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا جميعا قال عكرمة هلك
المستهزئون قبل بدر وقال ابن السائب أهلكوا جميعا في يوم وليلة
قوله تعالى ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فيه قولان
أحدهما أنه التكذيب والثاني الاستهزاء
قوله تعالى فسبح بحمد ربك فيه قولان
أحدهما قل سبحان الله وبحمده قاله الضحاك والثاني فصل بأمر ربك قاله مقاتل
وفي قوله وكن من الساجدين قولان
أحدهما من المصلين والثاني من المتواضعين رويا عن ابن عباس
قوله تعالى حتى يأتيك اليقين فيه قولان أحدهما أنه الموت قاله ابن عباس ومجاهد
والجمهور وسمي يقينا لأنه موقن به وقال الزجاج معنى الآية اعبد ربك أبدا ولو قيل
اعبد ربك بغير توقيت لاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعا فلما قال حتى يأتيك
اليقين أمر بالإقامة على العبادة ما دام حيا
والثاني أنه الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك حكاه الماوردي
سورة
النحل
فصل في نزولها
روىمجاهد وعطية وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وكذلك روي عن الحسن وعكرمة
وعطاء أنهامكية كلها وقال ابن عباس في رواية إنه نزل منها بعد قتل حمزة وإن عاقتبم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به النحل 126 وقال في رواية هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن
بالمدينة وهي قوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله يعملون النحل 9597
وقال الشعبي كلها مكية إلى قوله وإن عاقبتم إلى آخر الآيات النحل 126 128 وقال
قتادة هي مكية إلاخمس آيات ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا الآيتين النحل 9596
ومن قوله وإن عاقبتم إلى آخرها النحل 126 وقال ابن السائب هي مكية إلا خمس آيات
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا الآية النحل 41 وقوله ثم إن ربك للذين
هاجروا من بعد ما فتنوا الآية النحل 110 وقوله وإن عاقبتم إلى آخرها النحل 126
وقال مقاتل مكية إلا سبع آيات قوله ثم إن ربك للذين هاجروا الآية النحل 110 وقوله
من كفر بالله من بعد إيمانه الآية النحل 106 وقوله والذين هاجروا في الله الآية
النحل 41 وقوله وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة الآية النحل 112 وقوله
وإن
عاقبتم إلى آخرها النحل 126 قال جابر بن زيد أنزل من أول النحل أربعون آية بمكة
وبقيتها بالمدينة وروى حماد عن علي بن زيد قال كان يقال لسورة النحل سورة النعم
يريد لكثرة تعداد النعم فيها بسم الله الرحمن الرحيم أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه
وتعالى عما يشركون ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا
أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون
قوله تعالى أتى أمر الله قرأ حمزة والكسائي بالإمالة
سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى اقتربت الساعة القمر 1 فقال الكفار بعضهم لبعض
إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر فلما
رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا فأنزل الله تعالى اقترب للناس حسابهم
الأنبياء 1 فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى
شيئا مما تخوفنا به فأنزل الله تعالى أتى أمر الله فوثب رسول الله صلى الله عليه و
سلم ورفع الناس رؤوسهم فنزل فلا تستعجلوه فاطمأنوا قاله ابن عباس
وفي
قوله أتى ثلاثة أقوال
أحدها أتى بمعنى يأتي كما يقال أتاك الخير فأبشر أي سيأتيك قاله ابن قتيبة وشاهده
ونادى أصحاب الجنة الأعراف 44 وإذ قال الله يا عيسى المائدة 116 ونحو ذلك
والثاني أتى بمعنى قرب قال الزجاج أعلم الله تعالى أن ذلك في قربه بمنزلة ما قد
أتى
والثالث أن أتى للماضي والمعنى أتى بعض عذاب الله وهو الجدب الذي نزل بهم والجوع
فلا تستعجلوه فينزل بكم مستقبلا كما نزل ماضيا قاله ابن الأنباري
وفي المراد ب أمر الله خمسة أقوال
أحدها أنها الساعة وقد يخرج على قول ابن عباس الذي قدمناه وبه قال ابن قتيبة
والثاني خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه الضحاك عن ابن عباس يعني أن
خروجه من أمارات الساعة
وقال ابن الأنباري أتى أمر الله من أشراط الساعة فلا تستعجلوا قيام الساعة والثالث
أنه الأحكام والفرائض قاله الضحاك والرابع عذاب الله ذكره ابن الأنباري والخامس
وعيد المشركين ذكره الماوردي
قوله تعالى فلا تستعجلوه أي لا تطلبوه قبل حينه سبحانه أي تنزيه له وبراءة من
السوء عما يشركون به من الأصنام
قوله تعالى ينزل الملائكة قرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل
باسكان
النون وتخفيف الزاي وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ينزل بالتشديد وروى
الكسائي عن أبي بكر عن عاصم تنزل بالتاء مضمومة وفتح الزاي مشددة الملائكة رفع قال
ابن عباس يريد بالملائكة جبريل عليه السلام وحده
وفي المراد بالروح ستة أقوال
أحدها الوحي رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه النبوة رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أن المعنى تنزل الملائكة بأمره رواه العوفي عن ابن عباس فعلى هذا يكون
المعنى أن أمر الله كله روح قال الزجاج الروح ما كان فيه من أمر الله حياة النفوس
بالإرشاد
والرابع أنه الرحمة قاله الحسن وقتادة
والخامس أن أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح قاله مجاهد
والسادس أنه القرآن قاله ابن زيد فعلى هذا سماه روحا لأن الدين يحيا به كما أن
الروح تحيي البدن وقال بعضهم الباء في قوله بالروح بمعنى مع فالتقدير مع الروح من
أمره أي بأمره على من يشاء من عباده يعني الأنبياء أن أنذروا قال الزجاج والمعنى
أنذروا أهل الكفر والمعاصي أنه لا إله إلا أنا أي مروهم بتوحيدي وقال غيره أنذروا
بأنه لا اله إلا أنا أي مروهم بالتوحيد مع تخويفهم إن لم يقروا خلق الإنسان من
نطفة فإذا هو خصيم مبين
قوله تعالى خلق الإنسان من نطفة قال المفسرون أخذ أبي بن خلف
عظما
رميما فجعل يفته ويقول يامحمد كيف يبعت الله هذا بعدما رم
فنزلت فيه هذه الآية والخصيم المخاصم والمبين الظاهر الخصومه
والمعنى أنه مخلوق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث أفلا يستدل بأولة على
آخرة وأن من قدر على إيجادة أولا يقدر على إعادتة ثانية وفية تنبية علي إنعام اللة
علية حين نقلة من حال ضعف النطفة إلى القوة التي أمكنة معها الخصام والأنعام خلقها
لكم فيها دف ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل
أثقالكم إلي بلد لم تكونوا بالغية إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤف رحيم قولة تعالي
والأنعام خلقها لكم الأنعام الإبل والبقر والغنم
قوله تعالى لكم فيها دفء فيه قولان
أحدهما أنه ما استدفئ به من أوبارها تتخذ ثيابا وأخبية وغير ذلك روى العوفي عن ابن
عباس أنه قال يعني بالدفء اللباس وإلى هذا المعنى ذهب الأكثرون
والثاني أنه نسلها روى عكرمة عن ابن عباس فيها دفء قال الدفء
نسل
كل دابة وذكر ابن السائب قال يقال الدفء أولادها ومن لا يحمل من الصغار وحكى ابن
فارس اللغوي عن الأموي قال الدفء عند العرب نتاج الإبل وألبانها
قوله تعالى ومنافع أي سوى الدفء من الجلود والألبان والنسل والركوب والعمل عليها
إلى غير ذلك ومنها تأكلون يعني من لحوم الأنعام
قوله تعالى ولكم فيها جمال أي زينة حين تريحون أي حين تردونها إلى مراحلها وهو
المكان الذي تأوي إليه فترجع عظام الضروع والأسنمة فيقال هذا مال فلان وحين تسرحون
ترسلونها بالغداة إلى مراعيها
فإن قيل لم قدم الرواح وهو مؤخر
فالجواب أنها في حال الرواح تكون أجمل لأنها قد رعت وامتلأت ضروعها وامتدت أسنمتها
قوله تعالى وتحمل أثقالكم الإشارة بهذا إلى ما يطيق الحمل منها والأثقال جمع ثقل
وهو متاع المسافر
وفي قوله تعالى إلى بلد قولان
أحدهما أنه عام في كل بلد يقصده المسافر وهو قول الأكثرين
والثاني أن المراد به مكة قاله عكرمة والأول أصح والمعنى أنها تحملكم إلى كل بلد
لو تكلفتم أنتم بلدغه لم تبلغوه إلا بشق الأنفس
وفي معنى شق الأنفس قولان
أحدهما أنه المشقة قاله الأكثرون قال ابن قتيبة يقال نحن بشق من
العيش
أي بجهد وفي حديث أم زرع وجدني في أهل غنيمة بشق
والثاني أن الشق النصف فكان الجهد ينقص من قوة الرجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه ذكره
الفراء
قوله تعالى إن ربكم لرؤوف رحيم أي حين من عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون
قوله تعالى والخيل أي وخلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال الزجاج
المعنى وخلقها زينة
فصل
ويجوز أكل لحم الخيل وإنما لم يذكر في الآية لأنه ليس هو المقصود وإنما معظم
المقصود بهأ الركوب والزينة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا تؤكل لحوم
الخيل
قوله تعالى ويخلق مالا تعلمون ذكر قوم من المفسرين أن المراد به
عجائب
المخلوقات في السموات والأرض التي لم يطلع عليها مثل ما يروى أن لله ملكا من صفته
كذا وتحت العرش نهر من صفته كذا وقال قوم هو ما أعد الله لأهل الجنة فيها ولأهل
النار وقال أبو سليمان الدمشقي في الناس من كره تفسير هذا الحرف وقال الشعبي هذا
الحرف من أسرار القرآن وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لعذابكم أجمعين هو
الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع
والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا
قصد بك ما تريد قال الزجاج المعنى وعلى الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه
بالحجج والبرهان
قوله تعالى ومنها جائر قال أبو عبيدة السبيل لفظه لفظ الواحد وهو في موضع الجميع
فكأنه قال ومن السبل سبيل جائر قال ابن الأنباري لما ذكر السبيل دل على السبل
فلذلك قالك ومنها جائر كما دل الحدثان على الحوادث في قول العبدي ... ولا يبقى على
الحدثان حي ... فهل يبقى عليهن السلام ...
أراد فهل يبقى على الحوادث والسلام الصخور قال ويجوز أن يكون إنما قال ومنها لأن
السبيل تؤنث وتذكر فالمعنى من السبيل جائر وقال ابن قتيبة المعنى ومن الطرق جائر
لا يهتدون فيه والجائر العادل عن
القصد
قال ابن عباس ومنها جائر الأهواء المختلفة وقال ابن المبارك الأهواء والبدع
قوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر لكم منه شراب وهو ما تشربونه
ومنه شجر ذكر ابن الأنباري في معناه قولين
أحدهما ومنه سقي شجر وشرب شجر فخلف المضاف إليه المضاف كقوله وأشربوا في قلوبهم
العجل البقرة 93
والثاني أن المعنى ومن جهة الماء شجر ومن سقيه شجر ومن ناحيته شجر فحذف الأول
وخلفه الثاني قال زهير ... لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر ...
أي من ممر حجج قال ابن قتيبة والمراد بهذه الشجر المرعى وقال الزجاج كل ما نبت على
الأرض فهو شجر قال الشاعر يصف الخيل ... يعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في
إطعامها اللحم ضرر ...
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض و تسيمون بمعنى ترعون يقال سامت
الإبل فهي سائمة إذا رعت وإنما أخذ ذلك من السومة وهي العلامة وتأويلها أنها تؤثر
في الأرض برعيها علامات
قوله تعالى ينبت لكم به الزرع وروى أبو بكر عن عاصم ننبت بالنون قال ابن عباس يريد
الحبوب وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى والنجوم سخرات بأمره قال الأخفش المعنى
وجعل النجوم مسخرات
فجاز
إضمار فعل غير الأول لأن هذا المضمر في المعنى مثل المظهر وقد تفعل العرب أشد من
هذا قال الراجز ... تسمع في أجوافهن صردا ... وفي اليدين جسأة وبددا ...
المعنى وترى في اليدين والجسأة اليبس والبدد السعة وقال غيره قوله تعالى مسخرات
حال مؤكدة لأن تسخيرها قد عرف بقوله تعالى وسخر وقرأ ابن عامر والشمس والقمر والنجوم
مسخرات رفعا كله وروى حفص عن عاصم بالنصب كالجمهور إلا قوله تعالى والنجوم مسخرات
فإنه رفعها وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك
لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك
مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم
وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون
قوله تعالى وما ذرأ لكم أي وسخر ما ذرأ لكم وذرأ بمعنى خلق و سخر البحر اي ذلله
للركوب والغوص فيه لتأكلوا منه لحما طريا يعني السمك وتستخرجوا منه حلية تلبسونها
يعني الدر واللؤلؤ والمرجان
وفي
هذا دلالة على أن حالفا لو حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث وقال أبو حنيفة
لا يحنث
قوله تعالى وترى الفلك يعني السفن وفي معنى مواخر قولان
أحدهما جواري قاله ابن عباس قال اللغويون يقال مخرت السفينة مخرا إذا شقت الماء في
جريانها
والثاني المواقر يعني المملوءة قاله الحسن
وفي قوله تعالى ولتبتغوا من فضله قولان
أحدهما بالركوب فيه للتجارة ابتغاء الربح من فضل الله
والثاني بما تستخرجون من حليته وتصيدون من حيتانه قال ابن الأنباري وفي دخول الواو
في قوله تعالى ولتبتغوا من فضله وجهان
أحدهما أنهامعطوفة على لام محذوفة تقديره وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك
ولتبتغوا
والثاني أنها دخلت لفعل مضمر تقديره وفعل ذلك لكي تبتغوا
قوله تعالى وألقى في الأرض رواسي أي نصب فيها جبالا ثوابت أن تميد أي لئلا تميد
وقال الزجاج كراهة أن تميد يقال ماد الرجل يميد ميدا إذا أدير به وقال ابن قتيبة
الميد الحركة والميل يقال فلان يميد في مشيته أي يتكفأ
قوله تعالى وأنهارا قال الزجاج المعنى وجعل فيها سبلا لأن معنى ألقى جعل فأما
السبل فهي الطرق ولعلكم تهتدون أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم
قوله
تعالى وعلامات فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها معالم الطرف بالنهار وبالنجم هم يهتدون وبالليل رواه العوفي عن ابن
عباس
والثاني أنها النجوم أيضا منها ما يكون علامة لا يهتدى به ومنها ما يهتدى به قاله
مجاهد وقتادة والنخعي
والثالث الجبال قاله ابن السائب ومقاتل
وفي المراد بالنجم أربعة أقوال
أحدها أنه الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي قاله السدي
والثاني أنه الجدي والفرقدان قاله ابن السائب
والثالث أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه ذكره الماوردي
والرابع أنه اسم جنس والمراد جميع النجوم قاله الزجاج وقرأ الحسن والضحاك وأبو
المتوكل ويحيى بن وثاب وبالنجم بضم النون وإسكان الجيم وقرأ الجحدري وبالنجم بضم
النون والجيم وقرأ مجاهد وبالنجوم بواو على الجمع
وفي المراد بهذا الاهتداء قولان
أحدهما الاهتداء إلى القبلة والثاني إلى الطريق في السفر أفمن يخلق كمن لا يخلق
أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما
تسرون وما تعلنون
قوله
تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق يعني الأوثان وإنما عبر عنها ب من لأنهم نحلوها العقل
والتمييز أفلا تذكرون يعني المشركين يقول أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون قال
الفراء وإنما جاز أن يقول كمن لا يخلق لأنه ذكر مع الخالق كقوله فمنهم من يمشي على
بطنه ومنهم من يمشي على رجلين النور 45 والعرب تقول اشتبه علي الراكب وجمله فما
أدري من ذا من ذا لأنهم لما جمعوا بين الإنسان وغيره صلحت من فيهما جميعا
قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قد فسرناه في إبراهيم 34
قوله تعالى إن الله لغفور أي لما كان منكم من تقصيركم في شكر نعمه رحيم بكم إذ لم
يقطعها عنكم بتقصيركم
قوله تعالى والله يعلم ما تسرون وما تعلنون روى عبد الوارث إلا القزاز يسرون و
يعلنون بالياء والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير
أحياء وما يشعرون أيان يبعثون
قوله تعالى والذين تدعون من دون الله قرأ عاصم يدعون بالياء
قوله تعالى أموات غير أحياء يعني الأصنام قال الفراء ومعنى الأموات هاهنا أنها لا
روح فيها قال الأخفش وقوله غير أحياء توكيد
قوله تعالى وما يشعرون أيان يبعثون أيان بمعنى متى
وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنها الأصنام عبر عنها كما يعبر عن الآدميين قال ابن عباس
وذلك
أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبادتهم ثم يؤمر
بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار
والثاني أنهم الكفار لا يعلمون متى بعثهم قاله مقاتل إلهكم إله واحد فالذين لا
يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما
يزرون قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من
فوقهم وأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركاءي
الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين
قوله تعالى إلهكم إله واحد قد ذكرناه في سورة البقرة 163
قوله تعالى فالذين لايؤمنون بالآخرة أي بالبعث والجزاء قلوبهم منكرة أي جاحدة لا
تعرف التوحيد وهم مستكبرون أي ممتنعون من قبول الحق
قوله تعالى لا جرم قد فسرناه في هود 22 ومعنى الآية أنه يجازيهم بسرهم وعلنهم لأنه
يعلمه والمستكبرون المتكبرون عن التوحيد والإيمان وقال مقاتل ما يسرون حين بعثوا
في كل طريق من يصد الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يعلنون حين أظهروا
العداوة لرسول الله
قوله
تعالى وإذا قيل لهم يعني المستكبرين ماذا أنزل ربكم على محمد صلى الله عليه و سلم
قال الزجاج ماذا بمعنى مالذي و أساطير الأولين مرفوعة على الجواب كأنهم قالوا الذي
أنزل أساطير الأولين أي الذي تذكرون أنتم أنه منزل أساطير الأولين وقد شرحنا معنى
الأساطير في الأنعام 25 قال مقاتل الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكة يصدون
الناس عن الإيمان ويقول بعضهم إن محمدا ساحر ويقول بعضهم شاعر وقد شرحنا هذا
المعنى في الحجر 90 في ذكر المقتسمين
قولة تعالى ليحملوا اوزارهم هذة لام العاقبة وقد شرحناهافي غير موضع والأوز الاثام
وإنما قال كاملة لأنه لم يكفر منها شيء بما يصيبهم من نكبة وأبو بلية كما يكفر عن
المؤمن ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم أي أنهم أضلوهم بغير دليل وإنما حملوا من
اوزار الأتباع لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلالة وقد ذكر ابن الأنباري في من
وجهين
أحدهما أنها للتبعيض فهم يحملون ما شركوهم فيه فأما ما ركبه أولئك باختيارهم من
غير تزيين هؤلاء فلا يحملونه فيصح معنى التبعيض
والثاني أن من مؤكدة والمعنى وأوزار الذين يضلونهم ألا ساء ما يزرون أي بئس
ماحملوا على ظهورهم
قوله تعالى قد مكر الذين من قبلهم قال المفسرون يعني به النمرود ابن كنعان وذلك
أنه بنى صرحا طويلا واختلفوا في طوله فقال ابن عباس
خمسة
آلاف ذراع وقال مقاتل كان طوله فرسخين قالوا ورام أن يصعد إلى السماء ليقاتل أهلها
بزعمه ومعنى المكر هاهنا التدبير الفاسد
وفي الهاء والميم من قبلهم قولان
أحدهما أنها للمقتسمين على عقاب مكة قاله ابن السائب
والثاني لكفار مكة قاله مقاتل
قوله تعالى فأتى الله بنيانهم من القواعد أي من الأساس قال المفسرون أرسل الله
ريحا فألقت رأس الصرح في البحر وخر عليهم الباقي
قال السدي لما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا
فلذلك سميت بابل وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وهذا قول مردود لأن
التبلبل يوجب الاختلاط والتكلم بشيء غير مستقيم فأما أن يوجب إحداث لغة مضبوطة
الحواشي فباطل وإنما اللغات تعليم من الله تعالى
فإن قيل إذا كان الماكر واحدا فكيف قال الذين ولم يقل الذي فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه كان الماكر ملكا له أتباع فأدخلوا معه في الوصف
والثاني أن العرب توقع الجمع على الواحد فيقول قائلهم خرجت إلى البصرة على البغال
وإنما خرج على بغل واحد
والثالث أن الذين غير موقع على واحد معين لكنه يراد به قد مكر الجبارون الذين من
قبلهم فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري قال وذكر
بعض العلماء أنه إنما قال من فوقهم
لينبه
على أنهم كانوا تحته إذ لو لم يقل ذلك لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته لأن العرب تقول
سقط علينا البيت وخر علينا الحانوت وتداعت علينا الدار وليسوا تحت ذلك
قوله تعالى وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون أي من حيث ظنوا أنهم آمنون فيه قال
السدي أخذوا من مأمنهم وروى عطية عن ابن عباس قال خر عليهم عذاب من السماء وعامة
المفسرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط وقال ابن قتيبة هذا مثل والمعنى أهلكهم
الله كما هلك من هدم مسكنه من أسفله فخر عليه
قوله تعالى ثم يوم القيامة يخزيهم أي يذلهم بالعذاب ويقول أين شركائي قرأ نافع
وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي شركائي الذين بهمزة وفتح الياء وقال
البزي عن ابن كثير شركاي مثل هداي والمعنى أين شركائي على زعمكم هلا دفعوا عنكم
الذين كنتم تشاقون فيهم أي تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله وقرأ نافع
تشاقون بكسر النون أراد تشاقونني فحذف النون الثانية وأبقى الكسرة تدل عليها
والمعنى كنتم تنازعونني فيهم وتخالفون أمري لأجلهم
قوله تعالى قال الذين أوتوا العلم فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الملائكة قاله ابن عباس والثاني الحفظة من الملائكة قاله مقاتل والثالث
أنهم المؤمنون
فأما الخزي فقد شرحناه في مواضع آل عمران 192 و السوء هاهنا العذاب الذين تتوفيهم
الملئكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم
تعملون
فادخلوا
أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين
قوله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قال عكرمة هؤلاء قوم كانوا بمكة
أقروا بالإسلام ولم يهاجروا فأخرجهم المشركون كرها إلى بدر فقتل بعضهم وقد شرحنا
هذا في سورة النساء 97
قوله تعالى فألقوا السلم قال ابن قتيبة انقادوا واستسلموا والسلم الاستسلام قال
المفسرون وهذا عندالموت يتبرؤون من الشرك وهم قولهم ماكنا نعمل من سوء وهو الشرك
فترد عليهم الملائكة فتقول بلى وقيل هذا رد خزنة جهنم عليهم بلى إن الله عليم بما
كنتم تعملون من الشرك والتكذيب ثم يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم وقد سبق تفسير ألفاظ
الآية النساء 97 و الحجر 44 وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين
أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها
تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفيهم
الملئكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلو الجنة بما كنتم تعملون
قوله تعالى وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم روى أبو صالح عن ابن عباس أن مشركي
قريش بعثوا ستة عشر رجلا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس ففرقوهم على كل
عقبة أربعة رجال ليصدوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا لهم من
أتاكم من الناس يسألكم عن محمد فليقل بعضكم شاعر وبعضكم كاهن وبعضكم مجنون وألا
تروه ولا يراكم خير لكم فإذا
انتهوا
إلينا صدقانكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث إلى كل أربعة منهم
أربعة من المسلمين فيهم عبد الله بن مسعود فأمروا أن يكذبوهم فكان الناس إذا مروا
على المشركين فقالوا ما قالوا رد عليهم المسلمون وقالوا كذبوا بل يدعو إلى الحق
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير فيقولون وما هذا الخير الذي يدعوا
إليه فيقولون للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة
قوله تعالى قالوا خيرا أي أنزل خيرا ثم فسر ذلك الخير فقال للذين أحسنوا في هذه
الدنيا قالوا لا إله إلا الله وأحسنوا العمل حسنة أي كرامة من الله تعالى في
الآخرة وهي الجنة وقيل للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي ما رزقهم من
خيرها وطاعته فيها ولدار الآخرة يعني الجنة خير من الدنيا
وفي قوله تعالى ولنعم دار المتقين قولان
أحدهما أنها الجنة قاله الجمهور قال ابن الأنباري في الكلام محذوف تقديره ولنعم
دار المتقين الآخرة غير أنه لما ذكرت أولا عرف معناها آخرا ويجوز أن يكون المعنى
ولنعم دار المتقين جنات عدن
والثاني أنها الدنيا قال الحسن ولنعم دار المتقين الدنيا لأنهم نالوا بالعمل فيها
ثواب الآخرة
قوله تعالى جنات عدن قد شرحناه في براءة 72
قوله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة وقرأ حمزة يتوفاهم بياء مع الإمالة وفي معنى
طيبين خمسة أقوال
أحدها مؤمنين والثاني طاهرين من الشرك والثالث زاكية أفعالهم
وأقوالهم
والرابع طيبة وفاتهم سهل خروج أرواحهم والخامسة طيبة أنفسهم بالموت ثقة بالثواب
قوله تعالى يقولون يعني الملائكة سلام عليكم
وفي أي وقت يكون هذا السلام فيه قولان
أحدهما عند الموت قال البراء بن عازب يسلم عليه ملك الموت إذا دخل عليه وقال
القرظي ويقول له الله عز و جل يقرأ عليك السلام ويبشره بالجنة
والثاني عند دخول الجنة قال مقاتل هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة يقولون سلام
عليكم هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيآت ما عملوا وحاق بهم ما كانوا
به يستهزؤن
قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة وقرأ حمزة والكسائي يأتيهم بالياء
وهذا تهديد للمشركين وقد شرحناه في البقرة 210 وآخر الأنعام 158
وفي قوله تعالى أو يأتي أمر ربك قولان
أحدهما أمر الله فيهم قاله ابن عباس والثاني العذاب في الدنيا قاله مقاتل
قوله تعالى كذلك فعل الذين من قبلهم يريد كفار الأمم الماضية كذبوا كما كذب هؤلاء
وما ظلمهم الله باهلاكهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون
بالشرك فأصابهم سيئات ما عملو أي جزاؤها قال ابن عباس جزاء ما عملوا من الشرك وحاق
بهم قد بيناه في الأنعام 10 والمعنى أحاط بهم ما كانوا به يستهزؤن من العذاب وقال
الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من
دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلى البلاغ المبين ولقد بعثنا
في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت
عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هديهم
فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين
قوله تعالى وقال الذين أشركوا يعني كفار مكة لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء
يعين الأصنام أي لو شاء ما أشركنا ولا حرمنا من دونه من شيء من البحيرة والسائبة
والوصيلة والحام والحرث وذلك أنه لما نزل وماتشاؤون إلا أن يشاء الله الدهر 30
قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد وقيل معنى كلامهم لو لم يأمرنا
بهذا ويرده منا لم نأته
قوله تعالى كذلك فعل الذين من قبلهم أي من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله فهل على
الرسل إلا البلاغ المبين يعني ليس عليهم إلا التبليغ فأما الهداية فهي إلى الله
تعالى وبين ذلك بقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أي كما بعثناك في هؤلاء أن
اعبدوا الله أي وحدوه واجتنبوا الطاغوت وهو الشيطان فمنهم من هدى الله أي أرشده
ومنهم
من حقت عليه الضلالة أي وجبت في سابق علم الله فأعلم الله عز و جل أنه إنما بعث
الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء الإضلال والهداية فسيروا في الأرض أي معتبرين
بآثار الأمم المكذبة ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي فقال إن تحرص على
هداهم أي إن تطلب هداهم بجهدك فإن الله لا يهدي من يضل قرأ ابن كثير وأبو عمرو
ونافع وابن عامر لا يهدى برفع الياء وفتح الدال والمعنى من أضله فلا هادي له وقرأ
عاصم وحمزة والكسائي يهدي بفتح الياء وكسر الدال ولم يختلفوا في يضل أنها بضم
الياء وكسر الضاد وهذه القراءة تحتمل معنيين ذكرهما ابن الأنباري
أحدهما لا يهدي من طبعه ضالا وخلقه شقيا
والثاني لا يهدي أي لا يهتدي من أضله أي من أضله الله لا يهتدي فيكون معنى يهدي
يهتدي تقول العرب قد هدي فلان الطريق يريدون اهتدى واقسموا بالله جهد أيمانهم لا
يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي
يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن
نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة
ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون
قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على
رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به والذي
أرجوه
بعد الموت فقال المشرك وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فأقسم بالله لا يبعث الله من
يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية و جهد أيمانهم مفسر في المائدة 53 وقوله
بلى رد عليهم قال الفراء والمعنى بلى ليبعثنهم وعدا عليه حقا
قوله تعالى ليبين لهم الذي يختلفون فيه قال الزجاج يجوز أن يكون متعلقا بالبعث
فيكون المعنى بلى يبعثهم فيبين لهم ويجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى ولقد بعثنا
في كل أمة رسولا ليبين لهم
وللمفسرين في قوله ليبين لهم قولان
أحدهما أنهم جميع الناس قاله قتادة
والثاني أنهم المشركون يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه
قوله تعالى أنهم كانوا كاذبين أي فيما أقسموا عليه من نفي البعث ثم أخبر بقدرته
على البعث بقوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون قرأ ابن كثير
ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة فيكون رفعا وكذلك في كل القرآن وقرأ ابن عامر
والكسائي فيكون نصبا قال مكي بن إبراهيم من رفع قطعه عما قبله والمعنى فهو يكون
ومن نصب عطفه على يقول وهذا مثل قوله وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقد
فسرناه في البقرة 117
فإن قيل كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئا
فالجواب أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما قد عوين
وشوهد
قوله تعالى والذين هاجروا في الله اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها
أنهانزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بلال وعمار وصهيب وخباب
بن الأرت وعايش وجبر موليان لقريش أخذهم أهل مكة فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن
الإسلام قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو قاله داود بن أبي هند
والثالث أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله قتادة
ومعنى هاجروا في الله أي في طلب رضاه وثوابه من بعد ما ظلموا بما نال المشركون
منهم لنبوئنهم في الدنيا حسنة وفيها خمسة أقوال أحدها لننزلنهم المدينة روى هذا
المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن والشعبي وقتادة فيكون المعنى لنبوئنهم
دارا حسنة وبلدة حسنة والثاني لنرزقنهم في الدنيا الرزق الحسن قاله مجاهد والثالث
النصر على العدو قاله الضحاك والرابع أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن وصار
لأولادهم من الشرف ذكره الماوردي وقد روي معناه عن مجاهد فروى عنه ابن أبي نجيح
أنه قال لنبوئنهم في الدنيا حسنة قال لسان صادق والخامس أن المعنى لنحسنن إليهم في
الدنيا قال بعض أهل المعاني فتكون على هذه الأقوال لنبوئنهم على سبيل الاستعارة
إلا على القول الأول
قوله تعالى ولأجر الآخرة أكبر قال ابن عباس يعني الجنة لو كانوا يعلمون يعني أهل
مكة
ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أعطى الرجل من
المهاجرين
عطاءه قال خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة
أفضل ثم يتلو هذه الآية
ثم إن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال الذين صبروا أي على دينهم لم يتركوه
لأذى نالهم وهم في ذلك واثقون بربهم وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم
فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون
قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا قال المفسرون لما أنكر مشركو قريش نبوة
محمد صلى الله عليه و سلم وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا
ملكا فنزلت هذه الآية والمعنى أن الرسل كانوا مثلك آدميين إلا أنهم يوحى إليهم
وقرأ حفص عن عاصم نوحي بالنون وكسر الحاء فاسألوا يامعشر المشركين أهل الذكر وفيهم
أربعة أقوال
أحدها أنهم أهل التوراة والإنجيل قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني أهل التوراة
قاله مجاهد والثالث أهل القرآن قاله ابن زيد والرابع العلماء بأخبار من سلف ذكره
الماوردي
وفي قوله تعالى إن كنتم لا تعلمون قولان
أحدهما لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولا من البشر
والثاني لا تعلمون أن محمدا رسول الله فعلى القول الأول جائز أن
يسأل
من آمن برسول الله ومن كفر لأن أهل الكتاب والعلم بالسير متفقون على أن الأنبياء
كلهم من البشروعلى الثاني إنما يسأل من آمن من أهل الكتاب وقد روي عن مجاهد
فاسألوا أهل الذكر قال عبد الله بن سلام وعن قتادة قال سليمان الفارسي
قوله تعالى بالبينات والزبر في هذه الباء قولان
أحدهما أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلناهم
بالبينات والزبر الكتب وقد شرحنا في آل عمران 184
قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر وهو القرآن باجماع المفسرين لتبين للناس ما نزل
إليهم فيه من حلال وحرام ووعد ووعيد ولعلهم يتفكرون في ذلك فيعتبرون أفأمن الذين
مكروا السيآت أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم
في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم
قوله تعالى أفأمن الذين مكروا السيئات قال المفسرون أراد مشركي مكة ومكرهم السيئات
شركهم وتكذيبهم وسمي ذلك مكرا لأن المكر في اللغة السعي بالفساد وهذا استفهام
إنكار ومعناه ينبغي أن لا يأمنوا العقوبة وكان مجاهد يقول عنى بهذا الكلام نمرود
بن كنعان
قوله تعالى أو يأخذهم في تقلبهم فيه اربعة أقوال
أحدها في أسفارهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة
والثاني
في منامهم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث في ليلهم ونهارهم قاله الضحاك وابن جريج ومقاتل
والرابع أنه جميع ما يتقلبون فيه قاله الزجاج
قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فيه قولان
أحدهما على تنقص قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك قال ابن قتيبة التخوف التنقص ومثله
التخون يقال تخوفته الدهور وتخونته إذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه وقال الهيثم بن
عدي التخوف التنقص بلغة أزد شنوءة
ثم في هذا التنقص ثلاثة اقوال أحدها أنه تنقص من أعمالهم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني أخذ واحد بعد واحد روي عن ابن عباس أيضا والثالث تنقص أموالهم وثمارهم حتى
يهلكهم قاله الزجاج
والثاني أنه التخوف نفسه ثم فيه قولان أحدهما يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز
قاله قتادة والثاني أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى قاله الضحاك وقال الزجاج
يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها فعلى هذا خوفهم قبل هلاكهم
فلم يتوبوا فاستحقوا العذاب
قوله تعالى فإن ربكم لرؤوف رحيم إذ لم يعجل بالعقوبة وأمهل للتوبة أولم يروا إلى
ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله
يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملئكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من
فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
قوله
تعالى أولم يروا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر أولم يروا بالياء وقرأ
حمزة والكسائي تروا بالتاء واختلف عن عاصم
قوله تعالى إلى ما خلق الله من شيء أراد من شيء له ظل من جبل أو شجر أو جسم قائم
يتفيأ قرأ الجماعة بالياء وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتاء ضلاله وهو جمع ظل وإنما جمع
وهو مضاف إلى واحد لأنه واحد يراد به الكثرة كقوله تعالى لتستووا على ظهوره الزخرف
13 قال ابن قتيبة ومعنى يتفيأ ظلاله يدور ويرجع من جانب إلى جانب والفيء الرجوع
ومنه قيل للظل بالعشي فيئ لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق قال المفسرون إذا طلعت
الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك فإذا ارتفعت كان عن يمينك فإذا كان
بعد ذلك كان خلفك وإذا دنت للغروب كان على يسارك وإنما وحد اليمين والمراد به
الجمع ايجازا في اللغظ كقوله تعالى ويولون الدبر القمر 45 ودلت الشمائل على أن المراد
به الجميع وقال الفراء إنما وحد اليمين وجمع الشمائل ولم يقل الشمال لأن كل ذلك
جائز في اللغة وأنشد ... الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
...
ولم يقل جلود ومثله ... كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص ...
وإنما جاز التوحيد لأن أكثر الكلام يواجه به الواحد
وقال
غيره اليمين راجعة إلى لفظ ما وهو واحد والشمائل راجعة إلى المعنى
قوله تعالى سجدا لله قال ابن قتيبة مستسلمة منقادة وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله
تعالى وظلالهم بالغدو والآصال الرعد 15
وفي قوله تعالى وهم داخرون قولان
أحدهما والكفار صاغرون
والثاني وهذه الاشياء داخرة مجبولة على الطاعة قال الأخفش إنما ذكر من ليس من
الإنس لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإنس في الفعل
قوله تعالى ولله يسجد مافي السموات الآية الساجدون على ضربين
أحدهما من يعقل فسجوده عبادة
والثاني من لا يعقل فسجوده بيان أثر الصنعة فيه والخضوع الذي يدل على أنه فمخلوق
هذا قول جماعة من العلماء واحتجوا في ذلك بقول الشاعر ... بجيش تضل البلق في
حجراته ... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
قال
ابن قتيبة حجراته أي جوانبه يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتىخشعت
وانخفضت فأما الشمس والقمر والنجوم فألحقها جماعة بمن يعقل فقال أبو العالية
سجودها حقيقة ما منها غارب إلا خر ساجدا بين يدي الله عز و جل ثم لا ينصرف حتى
يؤذن له ويشهد لقول أبي العالية حديث أبي ذر قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه و
سلم في المسجد حين وجبت الشمس فقال يا أبا ذر تدري أين ذهبت الشمس قلت الله ورسوله
أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز و جل فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها
فكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها ثم قرأ والشمس
تجري لمستقر لها يس 38 أخرجه البخاري ومسلم وأما النبات والشجر فلا يخلو سجوده من
أربعة أشياء
أحدها أن يكون سجودا لا نعلمه وهذا إذا قلنا إن الله يودعه فهما والثاني أنه تفيؤ
ظلاله والثالث بيان الصنعة فيه والرابع الانقياد لما سخر له
قوله تعالى والملائكة إنما أخرج الملائكة من الدواب لخروجهم بالأجنحة عن صفة
الدبيب
وفي قوله وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون قولان
أحدهما أنه من صفة الملائكة خاصة قاله ابن السائب ومقاتل
والثاني أنه عام في جميع المذكورات قاله أبو سليمان الدمشقي
وفي
قوله من فوقهم قولان ذكرهما ابن الأنباري
أحدهما أنه ثناء على الله تعالى وتعظيم لشأنه وتلخيصه يخافون ربهم عاليا رفيعا
عظيما
والثاني أنه حال وتلخيصه يخافون ربهم معظمين له عالمين بعظيم سلطانه وقال الله لا
تتخذوا آلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله مافي السموات والأرض وله
الدين واصبا أفغير الله تتقون
قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا آلهين اثنين سبب نزولها أن رجلا من المسلمين دعا
الله في صلاته ودعا الرحمن فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم
يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين فنزلت هذه الآية قاله مقاتل قال
الزجاج ذكر الاثنين توكيد كما قال تعالى إنما هو إله واحد
قوله تعالى وله الدين واصبا في المراد بالدين أربعة أقوال
أحدها أنه الإخلاص قاله مجاهد والثاني العبادة قاله سعيد بن جبير
والثالث شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الحدود والفرائض قاله عكرمة والرابع
الطاعة قاله ابن قتيبة
وفي معنى واصبا أربعة أقوال
أحدها دائما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد والضحاك
وقتادة وابن زيد والثوري واللغويون قال أبو الأسود الدؤلي
لا
أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا ...
قال ابن قتيبة معنى الكلام أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال
أو هلكه غير الله عز و جل فإن الطاعة تدوم له
والثاني واجبا رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث خالصا قاله الربيع بن أنس
والرابع وله الدين موصبا أي متعبا لأن الحق نقيل وهو كما تقول العرب هم ناصب أي
منصب قال النابغة ... كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيىء الكواكب ...
ذكره ابن الأنباري قال الزجاج ويجوز أن يكون المعنى له الدين والطاعة رضي العبد
بما يؤمر به وسهل عليه أو لم يسهل فله الدين وإن كان فيه الوصب والوصب شدة التعب
وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا
فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون
قوله تعالى وما بكم من نعمة قال الزجاج المعنى ما حل بكم من نعمة من صحة في جسم أو
سعة في رزق أو متاع من مال وولد فمن الله وقرأ ابن أبي عبلة فمن الله بتشديد النون
قوله
تعالى ثم إذا مسكم الضر قال ابن عباس يريد الأسقام والأمراض والحاجة
قوله تعالى فإليه تجأرون قال الزجاج تجأرون ترفعون أصواتكم إليه بالاستغاثة يقال
جأر يجأر جؤارا والأصوات مبنية على فعال و فعيل فأما فعال فنحو الصراخ و الخوار
وأما الفعيل فنحو العويل و الزئير والفعال أكثر
قوله تعالى إذا فريق منكم قال ابن عباس يريد أهل النفاق قال ابن السائب يعني
الكفار
قوله تعالى ليكفروا بما آتيناهم قال الزجاج المعنى ليكفروا بأنا أنعمنا عليهم
فجعلوا نعمنا سببا إلى الكفر وهو كقوله تعالى ربنا إنك آتيت فرعون إلى قوله ليضلوا
عن سبيلك يونس 88 ويجوز أن يكون ليكفروا أي ليجحدوا نعمة الله في ذلك
قوله تعالى فتمتعوا تهدد فسوف تعلمون عاقبة أمركم ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما
رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به
أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون
قوله تعالى ويجعلون لما لا يعلمون يعني الأوثان
وفي الذين لا يعلمون قولان
أحدهما
أنهم الجاعلون وهم المشركون والمعنى لما لا يعلمون لها ضرا ولا نفعا فمفعول العلم
محذوف وتقديره ما قلنا هذا قول مجاهد وقتادة
والثاني أنها الأصنام التي لا تعلم شيئا وليس لها حس ولا معرفة وإنما قال يعلمون
لأنهم لما نحولها الفهم أجراها مجرى من يعقل على زعمهم قاله جماعة من أهل المعاني
قال المفسرون وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم كالبحيرة
والسائبة وغير ذلك مما شرحناه في الأنعام 139
قوله تعالى تالله لتسألن رجع عن الإخبار عنهم إلى الخطاب لهم وهذا سؤال توبيخ
قوله تعالى ويجعلون لله البنات قال المفسرون يعني خزاعة وكنانة زعموا أن الملائكة
بنات الله سبحانه أي تنزه عما زعموا ولهم ما يشتهون يعني البنين قال أبوسليمان
المعنى ويتمنون لأنفسهم الذكور
قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى أي أخبر أنه قد ولد له بنت ظل وجهه مسودا قال
الزجاج أي متغير تغير مغتم يقال لكل من لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا
قوله تعالى وهو كظيم أي يكظم شدة وجده فلا يظهره وقد شرحناه في سورة يوسف 84
قوله تعالى يتوارى من القوم قال المفسرون وهذا صنيع مشركي العرب كان أحدهم إذا ضرب
امرأته المخاض توارى إلى أن يعلم ما يولد له فان كان ذكرا سر به وإن كانت أنثى لم
يظهر أياما يدبر كيف يصنع في أمرها وهو قوله تعالى أيمسكه على هون فالهاء ترجع إلى
ما في قوله ما بشر به والهون في كلام العرب الهوان وقرأ ابن مسعود وابن
أبي
عبلة والجحدري على هوان والدس إخفاء الشيء في الشيء وكانوا يدفنون البنت وهي حية
ألا ساء ما يحكمون إذ جعلوا لله البنات اللاتي محلهن منهم هذا ونسبوه إلى الولد
وجعلوا لأنفسهم البنين
للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم
قوله تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء أي صفة السوء من احتياجهم إلى الولد
وكراهتهم للاناث خوف الفقر والعار ولله المثل الأعلى أي الصفة العليا من تنزهه
وبراءته عن الولد
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فاذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
قوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم أي بشركهم ومعاصيهم كلما وجد شيء منهم
أوخذوا به ما ترك على ظهرها يعني الأرض وهذه كناية عن غير مذكور غير أنه مفهوم لأن
الدواب إنما هي على الأرض
وفي قوله من دابة ثلاثة أقوال
أحدها أنه عنى جميع ما يدب على وجه الأرض قاله ابن مسعود قال قتادة وقد فعل ذلك في
زمن نوح عليه السلام وقال السدي المعنى لأقحط المطر فلم تبق دابة إلا هلكت وإلى نحوه
ذهب مقاتل
والثاني أنه أراد من الناس خاصة قاله ابن جريج
والثالث من الإنس والجن قاله ابن السائب وهو اختيار الزجاج
قوله
تعالى ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو منتهى آجالهم وباقي الآية قد تقدم الأعراف 34
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار
وأنهم مفرطون
قوله تعالى ويجعلون لله ما يكرهون المعنى ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم وهو
البنات وتصف ألسنتهم الكذب أي تقول الكذب وقرأ أبو العالية والنخعي وابن أبي عبلة
الكذب بضم الكاف والذال ثم فسر ذلك الكذب بقوله أن لهم الحسنى وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها البنون قاله مجاهد وقتادة ومقاتل
والثاني أنها الجزاء الحسن من الله تعالى قاله الزجاج
والثالث أنها الجنة وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة قال المشركون إن كان ما
تقولونه حقا لندخلنها قبلكم ذكره أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى لا جرم قد شرحناها فيما مضى هود 22 وقال الزجاج لا رد لقولهم والمعنى
ليس ذلك كما وصفوا جرم أن لهم النار المعنى جرم فعلهم أي كسب فعلهم هذا أن لهم
النار وأنهم مفرطون وفيه أربعة أوجه قرأ الأكثرون مفرطون بسكون الفاء وتخفيف الراء
وفتحها وفي معناها قولان
أحدهما متركون قاله ابن عباس وقال الفراء منسيون في النار
والثاني معجلون قاله ابن عباس أيضا وقال ابن قتيبة معجلون إلى النار قال الزجاج
معنى الفرط في اللغة المتقدم فمعنى مفرطون
مقدمون
إلى النار ومن فسرها متركون فهو كذلك أيضا أي قد جعلوا مقدمين إلى العذاب أبدا
متروكين فيه وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو وقتيبة عن الكسائي مفرطون بسكون الفاء
وكسر الراء وتخفيفها قال الزجاج ومعناها أنهم أفرطوا في معصية الله وقرأ أبو جعفر
وابن أبي عبلة مفرطون بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها قال الزجاج ومعناها أنهم
فرطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة وتصديق هذه القراءة يا حسرتي على ما فرطت
في جنب الله الزمر 56 وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر مفرطون بفتح الفاء والراء
وتشديدها قال الزجاج وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى فالمفرط والمفرط بمعنى واحد
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم
عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم
يؤمنون
قوله تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك قال المفسرون هذه
تعزية
للنبي ص - فزين لهم الشيطان أعمالهم الخبيثة حتى عصوا وكذبوا فهو وليهم اليوم فيه
قولان
أحدهما أنه يوم القيامة قاله ابن السائب ومقاتل كأنهما أرادا فهو وليهم يوم تكون
لهم النار
والثاني أنه الدنيا فالمعنى فهو مواليهم في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة قاله
أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى إلا لتبين لهم يعني الكفار الذي اختلفوا فيه أي ما خالفوا فيه المؤمنين
من التوحيد والبعث والجزاء فالمعنى أنزلناه بيانا لما وقع فيه الاختلاف
والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث و دم لبنا خالصا سائغا
للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية
لقوم يعقلون
قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء يعني المطر فأحيا به الأرض بعد موتها أي بعد
يبسها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون أي يعتبرون
قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم قرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة
والكسائي نسقيكم بضم النون ومثله في المؤمنين 21 وقرأ نافع وابن عامر وأبوبكر عن
عاصم نسقيكم بفتح النون فيهما وقرأ أبو جعفر تسقيكم بتاء مفتوحة وكذلك في المؤمنين
21
وقد
سبق بيان الأنعام وذكرنا معنى العبرة في آل عمران 13 والفرق بين سقى وأسقى في
الحجر 22
فأما قوله مما في بطونه فقال الفراء النعم والأنعام شيء واحد وهما جمعان فرجع
التذكير إلى معنى النعم إذ كان يؤدي عن الأنعام أنشدني بعضهم ... وطاب ألبان
اللقاح وبرد ... فرجع إلى اللبن لأن اللبن والألبان في معنى قال وقال الكسائي أراد
نسقيكم مما في البطون ما ذكرنا وهو صواب أنشدني بعضهم ... مثل الفراخ نتفت حواصله
...
وقال المبرد هذا فاش في القرآن كقوله للشمس هذا ربي الأنعام 78 يعني هذا الشيء
الطالع وكذلك وإني مرسلة إليهم بهدية ثم قال فلما جاء سليمان النمل35 36 ولم يقل
جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا وقال أبو عبيدة الهاء في بطونه للبعض
والمعنى نسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن لأنه ليس لكل الأنعام لبن وقال ابن
قتيبة ذهب بقوله مما في بطونه إلى النعم والنعم تذكر وتؤنث والفرث ما في الكرش
والمعنى أن اللبن كان طعاما فخلص من ذلك الطعام دم وبقي منه فرث في الكرش وخلص من
ذلك الدم لبنا خالصا سائغا للشاربين أي سهلا في الشرب لا يشجى به شاربه ولا يغص
وقال بعضهم سائغا أي لا تعافه النفس وإن كان قد خرج من بين فرث ودم
وروى
أبو صالح عن ابن عباس قال إذا استقر العلف في الكرش طحنه فصار أسفله فرثا وأعلاه
دما وأوسطه لبنا والكبد مسلطه على هذه الأصناف الثلاثة فيجري الدم في العروق
واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش
قوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تقدير الكلام ولكم من ثمرات النخيل والأعناب
ما تتخذون منه سكرا والعرب تضمر ما كقوله وإذا رأيت ثم الإنسان 20 أي ما ثم
والكناية في منه عائدة على ما المضمرة وقال الأخفش إنما لم يقل منهما لأنه أضمر
الشيء كأنه قال ومنها شيء تتخذون منه سكرا
وفي المراد بالسكر ثلاثة أقوال
أحدها أنه الخمر قاله ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وابراهيم
ابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة وروى عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال السكر ما حرم
من ثمرتها وقال هؤلاء المفسرون وهذه الآية نزلت إذ كانت الخمرة مباحة ثم نسخ ذلك
بقوله فاجتنبوه المائدة 90 وممن ذكر أنها منسوخة سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي
والنخعي
والثاني أن السكر الخل بلغة الحبشة رواه العوفي عن ابن عباس وقال الضحاك هو الخل
بلغة اليمن
والثالث أن السكر الطعم يقال هذا له سكر أي طعم وأنشدوا ... جعلت عيب الأكرمين
سكرا
قاله
أبو عبيدة فعلى هذين القولين الآية محكمة فأما الرزق الحسن فهو ما أحل منهما
كالتمر والعنب والزبيب والخل ونحو ذلك
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل
الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن
في ذلك لآية لقوم يتفكرون
قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل في هذا الوحي قولان
أحدهما أنه إلهام رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد والضحاك ومقاتل
والثاني أنه أمر رواه العوفي عن ابن عباس وروى ابن مجاهد عن أبيه قال أرسل إليها
والنحل زنابير العسل واحدتها نحلة ويعرشون يجعلونه عريشا وقرأ ابن عامر وأبو بكر
عن عاصم يعرشون بضم الراء وهما لغتان يقال يعرش ويعرش مثل يعكف ويعكف ثم فيه قولان
أحدهما ما يعرشون من الكروم قاله ابن زيد
والثاني أنها سقوف البيوت قاله الفراء وقال ابن قتيبة كل شيء عرش من كرم أو نبات
أو سقف فهو عرش ومعروش وقيل المراد مما يعرشون مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي
فيها تلقي فيها العسل ولولا التسخير ما كانت تأوي إليها
قوله تعالى ثم علي من كل الثمرات قال ابن قتيبة أي من الثمرات
وكل
هاهنا ليست على العموم ومثله قوله تدمر كل شيء الأحقاف 25 قال الزجاج فهي تأكل
الحامض والمر ومالا يوصف طعمه فيحيل الله عز و جل من ذلك عسلا
قوله تعالى فاسلكي سبل ربك السبل الطرق وهي التي يطلب فيها الرعي والذلل جمع ذلول
وفي الموصوف بها قولان
أحدهما أنها السبل فالمعنى اسلكي اسبل مذللة لك فلا يتوعر عليها مكان سلكته وهذا
قول مجاهد واختيار الزجاج
والثاني انها النحل فالمعنى إنك مذللة بالتسخير لبني آدم وهذا وقول قتادة واختيار
ابن قتيبة
قوله تعالى يخرج من بطونها شراب يعني العسل مختلف ألوانه قال ابن عباس منه أحمر
وأبيض وأصفر قال الزجاج يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها وإنما قال من
بطونها لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج
من فم ابن آدم قوله تعالى فيه شفاء للناس في هاء الكنابة ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى العسل رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود واختلفوا هل
الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره أم لا على قولين أحدهما أنه عام في كل مرض قال
ابن مسعود العسل شفاء من كل داء وقال قتادة فيه شفاء للناس من الأدواء وقد روى أبو
سعيد الخدري قال جاء رجل إلى رسول الله ص - فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه
عسلا فسقاه ثم أتى فقال قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا قال اسقه
عسلا
فذكر الحديث إلى أن قال فشفي إما في الثالثة وإما في الرابعة فقال رسول الله ص -
صدق الله وكذب بطن أخيك أخرجه البخاري ومسلم ويعني بقوله صدق الله هذه الآية
والثاني فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه قاله السدي والصحيح أن ذلك خرج مخرج
الغالب قال ابن الأنباري الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء ويدخل في الأدوية
فإذا لم يوافق آحاد المرضى فقد وافق الأكثرين وهذا كقول العرب الماء حياة كل شيء
وقد نرى من يقتله الماء وإنما الكلام على الأغلب
والثاني أن الهاء ترجع إلى الاعتبار والشفاء بمعنى الهدى قاله الضحاك
والثالث أنها ترجع إلى القرآن قاله مجاهد والله خلقكم ثم يتوفيكم ومنكم من يرد إلى
أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير
قوله تعالى والله خلقكم أي أو جدكم ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو أردؤه وأدونه وهي حالة الهرم وفي مقداره من
السنين ثلاثة أقوال
أحدها خمس وسبعون سنة قاله علي عليه السلام والثاني تسعون سنة قاله قتادة والثالث
ثمانون سنة قاله قطرب
قوله تعالى لكي لا يعلم بعد علم شيئا قال الفراء لكي لا يعقل من بعد عقله الأول
شيئا وقال ابن قتيبة أي حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا لشدة هرمه وقال الزجاج
المعنى أن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا
فيصير
بعد أن كان عالما جاهلا ليريكم من قدرته كما قدر على إماتته وإحيائه أنه قادر على
نقله من العلم إلى الجهل وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ليس هذا في المسلمين
المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلا ومعرفة وقال عكرمة
من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر
والله فضل بعضكم على بعض في الزرق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت
أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون
قوله تعالى والله فضل بعضكم على بعض في الرزق يعني فضل السادة على المماليك فما
الذين فضلوا يعني السادة برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فعبرت ما عن من لأنه
موضع إبهام تقول ما في الدار فيقول المخاطب رجلان أو ثلاثة ومعنى الآية أن المولى
لا يرد على ما ملكت يمينه من ماله حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء وهو مثل
ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له والأصنام ملكا له يقول إذا
لم يكن عبيدكم معكم في الملك سواء فكيف تجعلون عبيدي معي سواء وترضون لي ما تأنفون
لأنفسكم منه وروى العوفي عن ابن عباس قال لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم
ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله تعالى
قوله تعالى أفبنعمة الله يجحدون قرأ أبو بكر عن عاصم تجحدون بالتاء وفي هذه النعمة
قولان
أحدهما حجته وهدايته والثاني فضله ورزقه
والله
جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل
يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السموات
والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
قوله تعالى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يعني النساء وفي معنى من أنفسكم قولان
أحدهما أنه خلق آدم ثم خلق زوجته منه قاله قتادة
والثاني من أنفسكم أي من جنسكم من بني آدم قاله ابن زيد وفي الحفدة خمسة أقوال
أحدها أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته قاله ابن مسعود وابن عباس في رواية
ومجاهد في رواية وسعيد بن جبير والنخعي وأنشدوا من ذلك ... ولو أن نفسي طاوعتني
لأصبحت ... لها حفد مما يعد كثير ... ولكنها نفس علي أبيه ... عيوف لأصهار اللئام
قذور ...
والثاني أنهم الخدم رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مجاهد في رواية الحسن وطاووس
وعكرمة في رواية الضحاك وهذا القول يحتمل وجهين أحدهما أنه يراد بالخدم الأولاد
فيكون المعنى أن الأولاد يخدمون قال ابن قتيبة الحفدة الخدم والأعوان فالمعنى هم
بنون وهم خدم وأصل
الحفد
مداركة الخطو والإسراع في المشي وإنما يفعل الخدم هذا فقيل لهم حفدة ومنه يقال في
دعاء الوتر وإليك نسعى ونحفد والثاني أن يراد بالخدم المماليك فيكون معنى الآية وجعل
لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم حفدة من غير الأزواج ذكره ابن الأنباري
والثالث أنهم بنو امرأة الرجل من غيره رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والرابع أنهم ولد الولد رواه مجاهد عن ابن عباس
والخامس أنهم كبار الأولاد والبنون صغارهم قاله ابن السائب ومقاتل قال مقاتل
وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم قال الزجاج وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى
جعل من الأزواج بنين ومن يعاون على ما يحتاج إليه بسرعة وطاعة
قوله تعالى ورزقكم من الطيبات قاله ابن عباس يريد من أنواع الثمار والحبوب
والحيوان
قوله تعالى أفبالباطل يؤمنون فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الأصنام قاله ابن عباس
والثاني أنه الشريك والصاحبة والولد فالمعنى يصدقون أن لله ذلك قاله عطاء
والثالث أنه الشيطان أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة فصدقوا وفي المراد ب نعمة الله
ثلاثة أقوال
أحدها أنها التوحيد قاله ابن عباس والثاني القرآن والرسول
والثالث الحلال الذي أحله الله لهم
قوله
تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا وفي المشار إليه قولان
أحدهما أنها الأصنام قاله قتادة والثاني الملائكة قاله مقاتل
قوله تعالى من السموات يعني المطر و من الأرض النبات والثمر
قوله تعالى شيئا قال الأخفش جعل شيئا بدلا من الرزق والمعنى لا يملكون رزقا قليلا
ولا كثيرا ولا يستطيعون أي لا يقدرون على شيء قال الفراء وإنما قال في أول الكلام
يملك وفي آخره يستطيعون لأن ما في مذهب جمع لآلهتهم فوحد يملك على لفظ ما وتوحيدها
وجمع في يستطيعون على المعنى كقوله ومنهم من يستمعون إليك يونس 42
قوله تعالى فلا تضربوا لله الأمثال أي لا تشبهوه بخلقه لأنه لا يشبه شيئا ولا
يشبهه شيء فالمعنى لا تجعلوا له شريكا
وفي قوله إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أربعة أقوال
أحدها يعلم ضرب المثل وأنتم لا تعلمون ذلك قاله ابن السائب
والثاني يعلم أنه ليس له شريك وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك قاله مقاتل
والثالث يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه
والرابع يعلم ما كان ويكون وأنتم لا تعلمون قدر عظمته حين أشركتم به ونسبتموه إلى
العجز عن بعث خلقه
ضرب
الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا
وجهرا هل يستون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم
لا يقدر على شيء وهو كل على موليه أينما يوجهه لايأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر
بالعدل وهو على صراط مستقيم
قوله تعالى ضرب الله مثلا أي بين شبها فيه بيان المقصود وفيه قولان
أحدهما انه مثل للمؤمن والكافر فالذي لا يقدر على شيء هو الكافر لأنه لا خير عنده
وصاحب الرزق هو المؤمن ابن لما عنده من الخير هذا قول عباس وقتادة
والثاني أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان لأنه مالك كل شيء وهي لا تملك
شيئا هذا قول مجاهد والسدي وذكر في التفسير أن هذا المثل ضرب بقوم كانوا في زمن
رسول الله ص - وفيهم قولان
أحدهما أن المملوك أبو الجوار وصاحب الرزق الحسن سيده هشام ابن عمرو رواه عكرمة عن
ابن عباس وقال مقاتل المملوك أبو الحواجر
والثاني أن المملوك أبو جهل بن هشام وصاحب الرزق الحسن أبو بكر الصديق رضي الله
عنه قاله ابن جريج فأما قوله هل يستوون ولم يقل يستويان لأن المراد الجنس وقال ابن
الأنباري لفظ من لفظ توحيد ومعناها معنى الجمع ولم يقع المثل بعيد معين ومالك معين
لكن عني
بهما
جماعة عبيد وقوم مالكون فلما فارق من تأويل الجمع جمع عائدها لذلك
وقوله تعالى الحمدالله أي هو المستحق للحمد لأنه المنعم ولا نعمة للأصنام بل
أكثرهم يعني المشركين لا يعلمون أن الحمد الله قال العلماء وصف أكثرهم بذلك
والمراد جميعهم
قوله تعالى وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم قد فسرنا البكم في البقرة 18 ومعنى
لايقدر على شيء أي من الكلام لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه وهو كل على مولاه قال ابن
قتيبة أي ثقل على وليه وقرابته وفيمن أريد بهذا المثل أربعة أقوال
أحدها أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فالكافر هو الأبكم والذي يأمر
بالعدل هو المؤمن رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في عثمان بن عفان هو الذي يأمر بالعدل وفي مولى له كان يكره
الإسلام وينهى عثمان عن النفقة في سبيل الله وهو الأبكم رواه إبراهيم بن يعلى بن
منية عن ابن عباس
والثالث أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن فالوثن هو الأبكم والله تعالى هو
الآمر بالعدل وهذا قول مجاهد وقتادة وابن السائب ومقاتل
والرابع أن المراد بالأبكم أبي بن خلف وبالذي يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان
وعثمان بن مظعون قاله عطاء فيخرج على هذه الأقوال في معنى مولاه قولان
أحدهما أنه مولى حقيقة إذا قلنا إنه رجل من الناس
والثاني أنه بمعنى الولي إذا قلنا إنه الصنم فالمعنى وهو ثقل على
وليه
الذي يخدمه ويزينه ويخرج في معنى أينما توجه قولان إن قلنا إنه رجل في فالمعنى
أينما يرسله والتوجيه الإرسال في وجه من الطريق
وإن قلنا إنه الصنم ففي معنى الكلام قولان
أحدهما أينما يدعوه لا يجيبه قاله مقاتل
والثاني أينما توجه تأميله إياه ورجاه له لا يأته ذلك بخير فحذف التأميل وخلفه
الصنم كقوله ما وعدتنا على رسلك آل عمران 194 أي على ألسنة رسلك وقرأ البزي عن ابن
محيصن أينما توجهه بالتاء على الخطاب
فأما قوله لا يأت بخير فان قلنا هو رجل فانما كان كذلك لأنه لا يفهم ما يقال له
ولا يفهم عنه إما لكفره وجحوده أو لبكم به وإن قلنا إنه الصنم فلكونه جمادا هل
يستوي هو أي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل أي ومن هو قادر على التكلم ناطق الحق
ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل
شيء قدير
قوله تعالى ولله غيب السموات والأرض قد ذكرناه في آخر هود 123 وسبب نزول هذه الآية
أن كفار مكة سألوا رسول الله ص - متى الساعة فنزلت هذه قاله مقاتل وقال ابن السائب
المراد بالغيب ها هنا قيام الساعة
قوله تعالى وما أمر الساعة يعني القيامة إلا كلمح البصر واللمح النظر بسرعة
والمعنى إن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق كلمح العين لأن الله تعالى يقول
كن فيكون البقرة 117 أو هو أقرب قال مقاتل بل هو أسرع وقال الزجاج ليس المراد أن
الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ولكنه يصف سرعة القدرة على الأتيان بها متى شاء
والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم
تشكرون
قوله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم قرأ حمزة إمهاتكم بكسر الألف والميم وقرأ
الكسائي بكسر الإلف وفتح الميم والباقون بضم الألف وفتح الميم وكذلك في النور 61 و
الزمر 6 و النجم 32 ولا خلاف بينهم في الابتداء
قوله تعالى وجعل لكم السمع لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع وقد بينا علة ذلك في
أول البقرة 7 والأفئدة جمع فؤاد قال الزجاج مثل غراب وأغربة ولم يجمع فؤاد على
أكثر العدد لم يقل فيه فئدان مثل غراب وغربان وقال أبو عبيدة وإنما جعل لهم السمع
والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم غير أن العرب تقدم وتؤخر وأنشد ... ضخم تعلق
أشناق الديات به ... إذا المؤون أمرت فوقه حملا ...
الشنق ما بين الفريضتين والمؤون أعظم من الشنق فبدأ بالأقل قبل الأعظم
قال المفسرون ومقصود الآية أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهالا
بالأشياء وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إلى العلم
ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم
يؤمنون
قوله تعالى مسخرات في جو السماء قال الزجاج هو الهواء البعيد من الأرض
قوله
تعالى ما يمسكهن إلا الله فيه قولان
أحدهما ما يمسكهن عند قبض أجنحتهن وبسطها أن يقعن على الأرض إلا الله قاله
الأكثرون
والثاني ما يمسكهن أن يرسلن الحجارة على شرار هذه الأمة كما فعل بغيرهم إلا الله
قاله ابن السائب والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا
تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأو بارها وأشعارها أثاثا ومتاعا
إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل
تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا
فانما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون
قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي موضعا تسكنون فيه وهي المساكن المتخذة
من الحجر والمدر تستر العورات والحرم وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة
التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وهي القباب
والخيم المتخذة من الأدم تستخفونها أي يخف عليكم حملها يوم ظعنكم قرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو ظعنكم بفتح العين وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي
بتسكين
العين وهما لغتان كالشعر والنهر والنهر والمعنى إذا سافرتم ويوم إقامتكم أي لا
تثقل عليكم في الحالين ومن أصوافها يعني الضأن وأوبارها يعني الإبل وأشعارها يعني
المعز أثاثا قال الفراء الأثاث المتاع لا واحد له كما أن المتاع لا واحد له والعرب
تقول جمع المتاع أمتعه ولو جمعت الأثاث لقلت ثلاثة أإثة وأثث مثل أغثه وغثث لا غير
وقال ابن قتيبة الأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية قال أبو زيد واحد الأثاث
أثاثة وقال الزجاج يقال قد أث يأث أثا إذا صار ذا أثاث وروي عن الخليل أنه قال
أصله الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض ومنه شعر أثيث
فأما قوله ومتاعا فقيل إنما جمع بينة وبين الأثاث لاختلاف اللفظين
وفي قوله إلى حين قولان
أحدهما أنه الموت والمعنى ينتفعون به إلى حين الموت قاله ابن عباس ومجاهد
والثاني انه إلى حين البلى فالمعنى إلى أن يبلى ذلك الشيء قاله مقاتل
قوله تعالى والله جعل لكم مما خلق ظلالا أي مال يقيكم حر الشمس وفيه خمسة أقوال
أحدها أنه ظلال الغمام قاله ابن عباس والثاني ظلال البيوت قاله ابن السائب والثالث
ظلال الشجر قاله قتادة والزجاج والرابع ظلال الشجر والجبال وقاله ابن قتيبة
والخامس انه كل شيء له ظل من حائط وسقف وشجر وجبل وغير ذلك قاله أبو سليمان
الدمشقي
قوله
تعالى وجعل لكم من الجبال أكنانا أي ما يكنكم من الحر والبرد وهي الغيران والأسراب
وواحد الأكنان كن وكل شيء وقى شيئا وسترة فهو كن وجعل لكم سرابيل وهي القمص تقيكم
الحر ولم يقل البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد وأنشد ... وما أدري إذا يممت أرضا
... أريد الخير أيهما يليني ...
وقال الزجاج إنما خص الحر لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناة له من البرد وهذا
مذهب عطاء الخراساني
قوله تعالى وسرابيل تقيكم بأسكم يريد الدروع التي يتقون بها شدة الطعن والضرب في
الحرب
قوله تعالى كذلك يتم نعمته عليكم أي مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء يتم نعمته
عليكم في الدنيا لعلكم تسلمون والخطاب لأهل مكة وكان أكثرهم حينئذ كفارا ولو قيل
إنه خطاب للمسلمين فالمعنى لعلكم تدومون على الإسلام وتقومون بحقه وقرأ ابن عباس
وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو رجاء لعلكم تسلمون بفتح التاء واللام على معنى لعلكم
إذا لبستم الدروع تسلمون من الجراح في الحرب
قوله تعالى فان تولوا أعرضوا عن الإيمان فانما عليك البلاغ المبين وهذه عند
المفسرين منسوخة بآية السيف
قوله تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وفي هذه النعمة قولان
أحدهما أنها المساكن نعم الله عز و جل عليهم في الدنيا وفي إنكارها ثلاثة
أقوال
أحدها أنهم يقولون هذه ورثناها عن آبائنا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال نعم الله
المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا
هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم وهذا عن مجاهد والثاني أنهم يقولون لولا فلان لكان
كذا فهذا إنكارهم قال عون بن عبد الله والثالث يعرفون أن النعم من الله ولكن
يقولون هذه بشفاعة آلهتنا قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة
والثاني أن المراد بالنعمة هاهنا محمد ص - يعرفون أنه نبي ثم يكذبونه وهذا مروي عن
مجاهد والسدي والزجاج
قوله تعالى وأكثرهم الكافرون قال الحسن وجميعهم كفار فذكر الأكثر والمراد به
الجميع
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأ الذين
ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأ الذين أشركوا شركاءهم قالوا
ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون
وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى يوم نبعث من كل أمة شهيدا يعني يوم القيامة وشاهد كل أمة نبيها يشهد
عليها بتصديقها وتكذبيها ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار ولا هم يستعتبون أي
لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى ما أمر الله به لأن الآخرة ليست بدار تكليف
قوله
تعالى وإذا رأى الذين ظلموا أي أشركوا العذاب يعني النار فلا يخفف عنهم العذاب ولا
هم ينظرون لا يؤخرون ولا يمهلون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يعني الأصنام التي
جعلوها شركاء لله في العبادة وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه فيقول المشركون
ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو أي نعبد من دونك
فان قيل فهذا معلوم عند الله تعالى فما فائدة قولهم هؤلاء شركاؤنا فعنه جوابان
أحدهما أنهم لما كتموا الشرك في قولهم والله ما كنا مشركين عاقبهم الله تعالى
باصمات ألسنتهم وإنطاق جوارحهم فقالوا عند معاينه آلهتهم رنبا هؤلاء شركاؤنا أي قد
أقررنا بعد الجحد وصدقنا بعد الكذب التماسا للرحمة وفرارا من الغضب وكأن هذا القول
منهم على وجه الاعتراف بالذنب لا على وجه إعلام من لا يعلم
والثاني أنهم لما عاينوا عظم غضب الله تعالى قالوا هؤلاء شركاؤنا تقدير أن يعود
عليهم من هذا القول روح وأن تلزم الأصنام إجرامهم أو بعض ذنوبهم إذ كانوا يدعون
لها العقل والتمييز فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم
قوله تعالى فألقوا إليهم القول أي أجابوهم وقالوا لهم إنكم لكاذبون قال الفراء ردت
عليهم آلهتهم قولهم وقال أبو عبيدة فألقوا أي قالوا لهم يقال ألقيت إلى فلان كذا
أي قلت له قال العلماء كذبوهم في عبادتهم إياهم وذلك أن الأصنام كانت جمادا لا
تعرف عابديها فظهرت فضيحتهم يومئذ إذ عبدوا من لم يعلم بعبادتهم وذلك كقوله
سيكفرون بعبادتهم مريم 83
قوله
تعالى وألقوا إلى الله يومئذ السلم المعنى أنهم استسلموا له وفي المشار إليهم
قولان
أحدهما أنهم المشركون قاله الأكثرون ثم في معنى استسلامهم قولان أحدهما أنهم
استسلموا له بالإقرار بتوحيده وربوبيته والثاني أنهم استسلموا لعذابه
والثاني أنهم المشركون والأصنام كلهم قال الكلبي والمعنى أنهم استسلموا لله
منقادين لحكمه
قوله تعالى وضل عنهم ما كانوا يفترون فيه قولان
أحدهما بطل قولهم أنها تشفع لهم والثاني ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان أن لله شريكا
وولدا
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم
نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين
قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قال ابن عباس منعوا الناس من طاعة الله
والإيمان بمحمد ص -
قوله تعالى زدناهم عذابا فوق العذاب إنما نكر العذاب الأول لأنه نوع خاص لقوم
بأعيانهم وعرف العذاب الثاني لأنه العذاب الذي يعذب به أكثر أهل النار فكان في
شهرته بمنزلة النار في قول القائل نعوذ بالله من النار وقد قيل إنما زيدوا هذا
العذاب على ما يستحقونه من عذابهم بصدهم عن سبيل الله
وفي
صفة هذا العذاب الذي زيدوا أربعة أقوال
أحدها أنها عقارب كأمثال النحل الطوال رواه مسروق عن ابن مسعود
والثاني أنها حيات كأمثال الفيلة وعقارب كأمثال البغال رواه زر عن ابن مسعود
والثالث أنها خمسة أنهار من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة على
مقدار الليل واثنان على مقدار النهار قاله ابن عباس
والرابع أنه الزمهرير ذكره ابن الأنباري
قال الزجاج يخرجون من حر النار إلى المزمهرية فيتبادرون من شدة برده إلى النار
قوله تعالى وجئنا بك شهيدا على هؤلاء وفي المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم قومه قال ابن عباس
والثاني أمته قاله مقاتل وتم الكلام هاهنا ثم قال ونزلنا عليك الكتاب تبيانا قال
الزجاج التبيان اسم في معنى البيان
فأما قوله تعالى لكل شيء فقال العلماء بالمعاني لكل شيء من أمور الدين إما بالنص
عليه أو بالإحالة على ما يوجب العلم مثل بيان رسول الله ص - أو إجماع المسلمين
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاىء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم
ما
تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم
أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيمة ما كنتم
فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء
ولتسئلن عما كنتم تعملون
قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل فيه أربعة أقوال
أحدها أنه شهادة أن لا إله إلا الله رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أنه الحق رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أن استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى قاله سفيان بن عيينة
والرابع أنه القضاء بالحق ذكره الماوردي قال أبو سليمان العدل في كلام العرب
الإنصاف وأعظم الإنصاف الاعتراف للمنعم بنعمته
وفي المراد بالإحسان خمسة أقوال
أحدها أنه أداء الفرائض رواه أبي طلحة عن ابن عباس والثاني العفو رواه الضحاك عن
ابن عباس والثالث الإخلاص رواه أبو صالح عن ابن عباس والرابع أن تعبد الله كأنك
تراه رواه عطاء عن ابن عباس والخامس أن تكون السريرة أحسن من العلانية قاله سفيان
بن عيينة
فأما قوله تعالى وإيتاء ذي القربي فالمراد به صلة الأرحام وفي الفحشاء قولان
أحدهما أنها الزنا قاله ابن عباس والثاني المعاصي قاله مقاتل
وفي
المنكر أربعة أقوال
أحدها أنه الشرك قال مقاتل والثاني أنه ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والثالث أنه
ما وعد الله عليه النار ذكرهما ابن السائب والرابع أن تكون علانية الإنسان أحسن من
سريرته قاله سفيان بن عيينة
فأما البغي فقال ابن عباس هو الظلم وقد سبق شرحه في مواضع البقرة 173 والأعراف 33
ويونس 23 90
قوله تعالى يعظكم قال ابن عباس يؤدبكم وقد ذكرنا معنى الوعظ في سورة النساء 58 و
تذكرون بمعنى تتعظون قال ابن مسعود هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر وقال
الحسن والله ما ترك العدل والإحسان شيئا من طاعة الله إلا جمعاه ولا تركت الفحشاء
والمنكر والبغي شيئا من معصية الله إلا جمعوه
قوله تعال وأوفوا بعهد الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في حلف أهل الجاهلية قاله مجاهد وقتادة
والثاني أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله ص - قال المفسرون العهد الذي يجب
الوفاء به هو الذي يحسن فعله فإذا عاهد العبد عليه وجب الوفاء به والوعد من العهد
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها أب بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين
بخلاف لغو اليمين ووكدت الشيء توكيدا لغة أهل الحجاز فأما أهل نجد فيقولون أكدته
تأكيدا وقال الزجاج يقال وكدت الأمر وأكدت لغتنان جيدتان والأصل الواو والهمزة بدل
منها
قوله
تعالى وقد جعلتم الله عليكم كفيلا أي بالوفاء وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل
الله بالوفاء بما حلف عليه
وللمفسرين في معنى كفيلا ثلاثة أقوا أحدها شهيدا قاله سعيد بن جبير والثاني وكيلا
قاله مجاهد
والثالث حفيظا مراعيا لعقدكم قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها قال مجاهد هذا فعل نساء أهل نجد تنقض
إحداهن حبلها ثم تنفشه ثم تخلطه بالصوف فتعزله وقال مقاتل هي امرأة من قريش تسمى
ريطة بنت عمرو بن كعب كانت إذا غزلت نقضته وقال ابن السائب اسمها رائطة وقال ابن
الأنباري اسمها ريطة بنت عمرو المرية ولقبها الجعراء وهي من أهل مكة وكانت معروفة
عند المخاطبين فعرفوها بوصفها ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك كانت متناهية الحمق
تغزل الغزل من القطن أو الصوف فتحكمه ثم تأمر جاريتها بتقطيعه وقال بعضهم كانت
تغزل هي وجواريها ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن فضربها الله مثلا لناقضي العهد ونقضت
بمعنى تنقض كقوله ونادى أصحاب الجنة الأعراف 43 بمعنى وينادي
وفي المراد بالغزل قولان
أحدهما أنه الغزل المعروف سواء كان من قطن أو صوف أو شعر وهو قول الأكثرين
والثاني أنه الحبل قاله مجاهد وقوله من بعد قوة قال قتادة من بعد إبرام وقوله
أنكاثا أي أنقاضا قال ابن قتيبة الأنكاث ما نقض من غزل الشعر وغيره وواحدها نكث
يقول لا تؤكدوا على
أنفسكم
الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك
النسج فجعلته أنكاثا
قوله تعالى تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أي دغلا ومكرا وخديعة وكل شيء دخله عيب فهو
مدخول وفيه دخل
قوله تعالى أن تكون أمة قال ابن قتيبة لأن تكون أمة هي أربى أي هي أغنى من أمة
وقال الزجاج المعنى بأن تكون أمة هي أكثر يقال ربا الشيء يربو إذا كثر قال ابن
الأنباري قال اللغويون أربى أزيد عددا قال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون
أكثر منهم وأعز فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون اولئك فنهوا عن ذلك وقال الفراء المعنى
لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو قلتكم وكثرتهم وقد غررتموهم بالأيمان
قوله تعالى إنما يبلوكم الله به في هذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الكثرة قاله سعيد بن جبير وابن السائب ومقاتل فيكون المعنى
إنما يختبركم الله بالكثرة فإذا كان بين قومين عهد فكثر أحدهما فلا ينبغي أن يفسخ
الذي بينه وبين الأقل فإن قيل إذا كنى عن الكثرة فهلا قيل بها فقد أجاب عنه ابن
الأنباري بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقيا فحملت على معنى التذكير كما حملت الصيحة
على معنى الصباح
والثاني أنها ترجع إلى العهد فإنه لدلالة الأيمان عليه يجرى مجرى المظهر ذكره ابن
الأنباري
والثالث أنها ترجع إلى الأمر بالوفاء ذكه بعض المفسرين
قوله تعالى ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة قد فسرناه في آخر هود 118
قوله
تعالى ولكن يضل من يشاء صريح في تكذيب القدرية حيث أضاف الإضلال والهداية إليه
وعلقهما بمشيئته
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن
سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير
لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون
قوله تعالى ولا تتخذوا أيمانكم دخلا هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة فتزل قدم
بعد ثبوتها قال أبو عبيدة هذا مثل يقال لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد
سلامة زلت به قدمه قال مقاتل ناقض العهد يزل في دينه كما تزل قدم الرجل بعد
الاستقامة قال المفسرون وهذا نهى للذين بايعوا رسول الله ص - على الإسلام ونصرة
الدين عن نقض العهد ويدل عليه قوله يتعالى وتذوقوا السوء يعني العقوبة بما صددتم
عن سبيل الله يريد أنهم إذا نقضوا عهدهم مع رسول الله ص - صدوا الناس عن الإسلام
فاستحقوا العذاب
وقوله تعالى ولكم عذاب عظيم يعني في الآخرة ثم أكد ذلك بقوله ولا تشتروا بعهد الله
ثمنا قليلا قال أبو صالح عن ابن عباس نزلت في رجلين اختصما إلى رسول الله ص - في
أرض يقال لأحدهما عيدان بن أشوع وهو صاحب الأرض وللآخر امرؤ القيس وهو المدعى عليه
فهم امرؤ القيس أن يحلف فأخره رسول الله ص - فنزلت هذه الآية وذكر أبو بكر الخطيب
أن اسم صاحب الأرض ربيعة بن عبدان وقيل عيدان
بفتح
العين وياء معجمه باثنتين ومعنى الآية لاتنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضا يسيرا
من الدنيا إن ما عندالله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل
ما عندكم ينفذ أي يفنى وما عندالله في الآخرة باق وقف بالياء ابن كثير في رواية
عنه ولا خلاف في حذفها في الوصل ولنجزين الذين صبروا قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر
وحمزة والكسائي وليجزين بالياء وقرأ ابن كثير وعاصم ولنجزين بالنون
ولم يختلفوا في ولنجزينهم أجرهم أنها بالنون ومعنى هذه الآية وليجزين الذين صبروا
على أمره بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا ويتجاوز عن سيئاتهم
من عمل صالحا من ذكر أو وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن
ما كانوا يعملون
قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن في سبب نزولها قولان أحدهما أن
امرأ القيس المتقدم ذكره أقر بالحق الذي هم أن يحلف عليه فنزلت فيه من عمل صالحا
وهو إقراره بالحق قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن ناسا من أهل التوارة وأهل الأنجيل وأهل الأوثان جلسوا فتفاضلوا فنزلت
هذه الآية قاله أبو صالح
قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة
أقوال أحدها أنها في الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال
أحدها أنها القناعة قال علي عليه السلام وابن عباس في رواية والحسن في
رواية
ووهب بن منبه
والثاني أنها الرزق الحلال رواه أبو مالك عن ابن عباس وقال الضحاك يأكل حلالا
ويلبس حلالا
والثالث أنها السعادة رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أنها الطاعة قاله عكرمة
والخامس أنها رزق يوم بيوم قاله قتادة
والسادس أنها الرزق الطيب والعمل الصالح قاله إسماعيل بن أبي خالد
والسابع أنها حلاوة الطاعة قاله أبو بكر الوراق
والثامن العافية والكفاية
والتاسع الرضى بالقضاء ذكرهما الماوردي
والثاني أنها في الآخرة قاله الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد وذلك
إنما يكون الجنة
والثالث أنها في القبر رواه أبو غسان عن شريك
فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين
آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا
بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين
قوله تعالى فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن المعنى فاذا أردت القراءة فاستعذ ومثله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم المائدة 6 وقوله وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الأحزاب 53
وقوله إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة المجادلة 12
ومثله في الكلام إذا أكلت فقل باسم الله هذا قول عامة العلماء واللغويين
والثاني
أنه على ظاهره وأن الاستعاذة بعد القراءة روي عن أبي هريرة وداود
والثالث أنه من المقدم والمؤخر فالمعنى فاذا استعذت بالله فاقرأ قاله أبو حاتم
السجستاني والأول أصح
فصل
والاستعاذة عند القراءة سنة في الصلاة وغيرها
وفي صفتها عن أحمد روايتان
إحدها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم رواها أبو بكر
المروزي
والثانية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم
رواها حنبل وقد بينا معنى أعوذ في أول الكتاب ص7 وشرحنا اشتقاق الشيطان في البقرة
14 والرجيم في آل عمران 36
قوله تعالى إنه ليس له سلطان على الذين امنوا في المراد بالسلطان قولان
أحدهما أنه التسلط
ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها ليس له عليهم سلطان بحال لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين الحجر 42
والثاني ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه
والثالث ليس له قدره على أن يحملهم على ذنب لا يغفر
والثاني أنه الحجة فالمعنى ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي قاله مجاهد
فأما
قوله يتولونه معناه يطيعونه
وفي هاء الكناية في قوله والذين هم به مشركون قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى قاله مجاهد والضحاك
والثاني أنها ترجع إلى الشيطان فالمعنى الذين هم من أجله مشركون بالله وهذا كما
يقال صار فلان بك عالما أي من أجلك هذا قول ابن قتيبة وقال ابن الأنباري المعنى
والذين هم باشراكهم إبليس في العبادة مشركون بالله تعالى
قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزل الآية
فيعمل بها مدة ثم ينسخها فقال كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر من أصحابه يأمرهم
اليوم بأمر ويأتيهم غدا بما هو أهون عليهم منه فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن
ابن عباس والمعنى إذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء
التلاوة والله أعلم بما ينزل من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في
ذلك قالوا إنما أنت مفتر أي كاذب بل أكثرهم لايعلمون فيه قولان
أحدهما لايعلمون أن الله أنزله
والثاني لايعلمون فائدة النسخ
قوله تعالى قل نزله يعني القرآن روح القدس يعني جبريل وقد شرحنا هذا الاسم في
البقرة 87
قوله تعالى من ربك أي من كلامه بالحق أي بالأمر الصحيح ليثبت الذين آمنوا بما فيه
من البينات فيزدادوا يقينا
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي
مبين إن الذين
لا
يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا
يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون
قوله تعالى ولقد نعلم أنهم يقولون يعني قريشا إنما يعلمه بشر أي آدمي وما هو من
عند الله
وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال
أحدها أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له يعيش يقرأ التوراة فقالوا منه يتعلم محمد
فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس وقال عكرمة في رواية كان هذا الغلام لبني
عامر بن لؤي وكان روميا
والثاني أنه فتى كان بمكة يسمى بلعام وكان نصرانيا أعجميا وكان رسول الله ص -
يعلمه فلما رأى المشركون دخوله إليه وخروجه قالوا ذلك روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله ص - فيملى عليه سميع عليم فيكتب هو
عزيز حكيم أو هذا فقال رسول الله ص - أي ذلك كتبت فهو كذلك فافتتن وقال إن محمدا
يكل ذلك إلي فأكتب ما شئت روي عن سعيد بن المسيب
والرابع أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له جابر وكان جابر يأتي رسول الله ص -
فيتعلم منه فقال المشركون إنما يتعلم محمد من هذا قاله سعيد بن جبير
والخامس
أنهم عنوا سلمان الفارسي قاله الضحاك وفيه بعد من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة وهذه
الآية مكية
والسادس أنهم عنوا به رجلا حدادا كان يقال بحنس النصراني قاله ابن زيد
والسابع أنهم عنوا به غلاما لعامر بن الحضرمي وكان يهوديا أعجميا واسمه يسار ويكنى
أبا فكيهة قاله مقاتل وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا إلا أنه لم يقل إنه كان
يهوديا
والثامن أنهم عنوا غلاما أعجميا اسمه عايش وكان مملوكا لحويطب وكان قد أسلم قاله
الفراء والزجاج
والتاسع أنهما رجلان قال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبدان من أهل عين التمر
يقال لأحدهما يسار و للآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن الإنجيل فربما مر
بهما النبي ص - وهما يقرآن فيقف يستمع فقال المشركون إنما يتعلم منهما قال ابن
الأنباري فعلى هذا القول يكون البشر واقعا على اثنين والبشر من أسماء الأجناس يعبر
عن اثنين كما يعبر أحد عن الاثنين والجميع والمذكر والمؤنث
قوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمي قرأ ابن كثير ونافع وأبوعمرو وابن عامر
وعاصم يلحدون بضم الياء وكسر الحاء وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء
فأما القراءة الأولى فقال
ابن
قتيبة يلحدون أي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمه وأصل الإلحاد الميل وقال الفراء
يلحدون بضم الميم يعترضون ومنه قول ومن يرد فيه بالحاد بظلم الحج 25 أي باعتراض
ويلحدون بفتح الياء يميلون وقال الزجاج يلحدون إليه أي يميلون القول فيه أنه أعجمي
قال ابن قتيبة لا يكاد عوام الناس يفرقون بين العجمي والأعجمي والعربي والأعرابي
فالأعجمي الذي لا يفصح وإن كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان
فصيحا والأعرابي هو البدوي والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا
قوله تعالى وهذا لسان يعني القرآن عربي قال الزجاج أي أن صاحبه يتكلم بالعربية
قوله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله أي الذين إذا رأوا الآيات
التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها وأولئك هم الكاذبون أي أن الكذب نعت لازم
لهم وعادة من عاداتهم وهذا رد عليهم إذ قالوا إنما أنت مفتر النحل 101 وهذه الآية
من أبلغ الزجر عن الكذب لأنه خص به من لا يؤمن
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر
صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على
الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين
طبع
الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم
الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من
بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا
يظلمون
قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه قال مقاتل نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي
سرح القرشي ومقيس بن صبابه وعبدالله بن أنس ابن خطل وطعمه بن أبيرق وقيس بن الوليد
بن المغيرة وقيس بن الفاكه المخزومي
فأما قوله تعالى إلا من أكره فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال
أحدها أنه نزل في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه فأعطاهم ما أرادوا بلسانه
رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال قتادة
والثاني أنه لما نزل قوله إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى آخر الآيتين
اللتين في سورة النساء 96 97 كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى من كان بمكة
فخرج ناس ممن أقر بالإسلام فاتبعهم المشركون فأدركوهم حتى أعطوا الفتنة فنزل إلا
من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثالث أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة كان قد هاجر فحلفت أمه ألا تستظل ولا تشبع
من طعام حتى يرجع فرجع إليها فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون قاله ابن
سيرين
والرابع أنه نزل في جبر غلام ابن الحضرمي كان يهوديا فأسلم فضربه سيده
حتى
رجع إلى اليهودية قاله مقاتل وأما قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا فقال مقاتل هم
النفر المسمون في أول الآية
فأما التفسير فاختلف النحاة في قوله من كفر وقوله ولكن من شرح فقال الكوفيون
جوابهما جمعيا في قوله فعليهم غضب فقال البصريون بل قوله من كفر مرفوع بالرد على
الذين لا يؤمنون قال ابن الأنباري ويجوز أن يكون خبر من كفر محذوفا لوضوح معناه
تقديره من كفر بالله فالله عليه غضبان
قوله تعالى وقلبه مطمئن بالإيمان أي ساكن إليه راض به ولكن من شرح بالكفر صدرا قال
قتادة من أتاه بإيثار واختيار وقال ابن قتيبة من فتح له صدره بالقبول وقال أبو
عبيدة المعنى من تابعته نفسه وانبسط إلى ذلك يقال ما ينشرح صدري بذلك أي ما يطيب
وجاء قوله فعليهم غضب على معنى الجميع لأن من تقع على الجميع
فصل
الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان
إحداهما أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمر به
والثانية أن التخويف لا يكون إكراها حتى ينال بعذاب وإذ ثبت جواز التقية فالأفضل
ألا يفعل نص عليه أحمد في أسير خير بين القتل
وشرب
الخمر فقال إن صبر على القتل فله الشرف وإن لم يصبر فله الرخصة فظاهر هذا الجواز
وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التقية في شرب الخمر فقال إنما التقية في القول فظاهر
هذا أنه لا يجوز له ذلك فأما إذا أكره على الزنا لم يجز له الفعل ولم يصح إكراهه
نص عليه أحمد فان أكره على الطلاق لم يقع طلاقه نص عليه أحمد وهو قول مالك
والشافعي وقال أبو حنيفة يقع
قوله تعالى ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا في المشار إليه بذلك قولان
أحدهما أنه الغضب والعذب قاله مقاتل الثاني أنه شرح الصدر للكفر واستحبوا بمعنى
أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة
قوله تعالى وأن الله أي وبأن الله لا يريد هدايتهم وما بعد هذا قد سبق شرحه البقرة
7 والنساء 155 والمائدة 67 إلى قوله وأولئك هم الغافلون ففيه قولان
أحدهما الغافلون عما يراد بهم قاله ابن عباس والثاني عن الآخرة قاله مقاتل
قوله تعالى لا جرم قد شرحناها في هود 22
قوله تعالى ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا اختلفوا فيمن نزلت على أربعة
أحدها أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكة من أصحاب رسول الله ص - رواه سعيد بن جبير عن
ابن عباس
والثاني أن قوما من المسلمين خرجوا للهجرة فلحقهم المشركون فأعطوهم
الفتنة
فنزل فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب
الله العنكبوت 10 فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى
من نجا وقتل من قتل فنزلت فيهم هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان الشيطان قد أزله حتى لحق
بالكفار فأمر به رسول الله ص - أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره
رسول الله ص - وهذا مروي عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومنهبعد لأن المشار إليه وإن
كان قد عاد إلى الإسلام فان الهجرة انقطعت بالفتح
والرابع أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل عمرو وعبدالله بن أسيد
الثقفي قاله مقاتل
فأما قوله تعالى من بعد ما فتنوا فقرأ الأكثرون فتنوا بضم الفاء وكسر التاء على
معنى من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم قال ابن عباس فتنوا بمعنى عذبوا وقرأ عبد
الله بن عامر فتنوا بفتح الفاء والتاء على معنى من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله
يشير إلى من أسلم من المشركين وقال أبو علي من بعد ما فتنوا أنفسهم باظهار ما
أظهروا للتقية لأن الرخصة لم تكن نزلت بعد
قوله تعالى ثم جاهدوا أي قاتلوا مع رسول الله ص - وصبروا على الدين والجهاد إن ربك
من بعدها في المكني عنها أربعة أقوال
أحدها الفتنة وهو مذهب مقاتل والثاني الفعلة التي فعلوها قاله الزجاج
والثالث
المجاهدة والمهاجرة والصبر والربع المهاجرة ذكرهما واللذين قبلهما ابن الأنباري
قوله تعالى يوم تأتي قال الزجاج هو منصوب على أحد شيئين إما على معنى إن ربك لغفور
يوم تأتي وإما على معنى اذكر يوم تأتي ومعنى تجادل عن نفسها أي عنها والمراد أن كل
إنسان يجادل عن نفسه وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار يا كعب خوفنا
فقال إن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع جاثيا على ركبتيه حتى
إن إبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا
نفسي وإن تصديق ذلك في كتاب الله يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقد شرحنا معنى
الجدال في هود 32
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم
الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون
قوله تعالى وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة في هذه القرية قولان
أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح
والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم
الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقعدون قاله الحسن فأما ما يروى عن
حفصة
أنها قالت هي المدينة فذلك على سبيل التمثيل لا على وجه التفسير وبيانه ما روى
سليم بن عنز قال صدرنا من الحج مع حفصة وعثمان محصور بالمدينة فرأت راكبين
فسألنهما عنه فقالا قتل فقالت والذي نفسي بيده إنها للقرية تعني المدنية التي قال
الله تعالى في كتابه و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة تعني حفصة أنها كانت
على قانون الاستقامة في أيام النبي ص - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكفرت بأنعم
الله عند قتل عثمان رضي الله عنه ومعنى كانت آمنة أي ذات أمن يأمن فيها أهلها أن
يغار عليهم مطمئنة أي ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق وقد
شرحنا معنى الرغد في البقرة 35 58
وقوله من كل مكان أي يجلب إليها من كل بلد وذلك كله بدعوة إبراهيم عليه السلام
فكفرت بأنعم الله بتكذيبهم رسول الله ص - وفي واحد الأنعم قولان
أحدهما أن واحدها نعم قاله أبو عبيدة وابن قتيبة
والثاني نعمة قاله الزجاج قال ابن قتيبة ليس قول من قال هو جمع نعمة بشيء لأن فعلة
لا تجمع على أفعل وإنما هو جمع نعم يقال يوم نعم ويوم بؤس ويجمع أنعما وأبؤسا
قوله تعالى فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وروى عبيد بن عقيل وعبد الوارث عن أبي
عمرو والخوف بنصب الفاء وأصل الذوق إنما هو بالفم وهذا استعارة منه وقد شرحنا هذا
المعنى في آل عمران 106 185 وإنما ذكر اللباس هاهنا تجوزا لما يظهر عليهم من أثر
الجوع والخوف فهو كقوله ولباس التقوى الأعراف 26 وذلك لما يظهر على المتقي من أثر
التقوى
قال المفسرون عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة فأما
الخوف فهو خوفهم من رسول الله ص - ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم والكلام وفي
هذه الآية خرج على القرية والمراد أهلها ولذلك قال بما كانوا يصنعون يعني به
بتكذيبهم لرسول الله ص - وإخراجهم إياه وما هموا به من قتله
ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون
قوله تعالى ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني محمدا ص - فكذبوه فأخذهم
العذاب وفيه قولان
أحدهما أنه الجوع قاله ابن عباس والثاني القتل ببدر قاله مجاهد قال ابن السائب وهم
ظالمون أي كافرون
فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم
عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد
فان الله غفور رحيم
قوله تعالى فكلوا مما رزقكم الله في المخاطبين بهذا قولان
أحدهما أنهم المسلمون وهو قول الجمهور
والثاني أنهم أهل مكة المشركون لما اشتدت مجاعتهم كلم رؤساؤهم رسول الله ص -
فقالوا إن كنت عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان فأذن رسول الله ص - للناس أن
يحملوا الطعام إليهم حكاه الثعلبي وذكر نحوه الفراء وهذه الآية والتي تليها
مفسرتان في البقرة 172 173
ولا
تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين
يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم
قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب قال ابن الأنباري اللام في لما بمعنى
من أجل وتلخيص الكلام ولا تقولوا هذه الميتة حلال وهذه البحيرة حرام من أجل كذبكم
وإقدامكم على الوصف والتخرص لما لا أصل له فجرت اللام هاهنا مجراها في قوله وإنه
لحب الخير لشديد العاديات 8 أي وإنه من أجل حب الخير لبخيل وما بمعنى المصدر
والكذب منصوب ب تصف والتلخيص لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب وقرأ ابن أبي عبلة
الكذب قال ابن القاسم هو نعت الألسنة وهو جمع كذوب قال المفسرون والمعنى أن
تحليلكم وتحريمكم ليس له معنى إلا الكذب والإشارة بقوله هذا حلال وهذا حرام إلى ما
كانوا يحلون ويحرمون لتفتروا على الله الكذب وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل
والتحريم إلى الله تعالى ويقولون هو أمرنا بهذا
وقوله متاع قليل أي متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل
وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من
بعدها لغفور رحيم
قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل يعني به
ما
ذكر في الأنعام 126 وهو قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وما ظلمناهم
بتحريمنا ما حر منا عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالبغي والمعاصي
قوله تعال ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة قد شرحناه في سورة النساء 17 وشرحنا
في البقرة 160 التوبة والاصلاح وذكرنا معنى قوله من بعدها آنفا إن إبرهيم كان أمة
قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتبيه وهديه إلى صراط مستقيم
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين
قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة قال ابن الأنباري هذا مثل قول العرب فلان رحمة
وفلان علامة ونسابه ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه
والعرب قد توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله فنادته الملائكة آل
عمران 39 وإنما ناداه جبريل وحده وللمفسرين في المراد بالأمة هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أن الأمة الذي يعلم الخير قاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة
والثاني أنه المؤمن وحده في زمانه روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس وبه قال
مجاهد
والثالث أنه الإمام الذي يقتدى به قاله قتادة ومقاتل أو عبيدة وهو في معنى القول
الأول فأما القانت فقال ابن مسعود هو المطيع وقد شرحنا القنوت في البقرة 116 238
وكذلك الحنيف البقرة 135
قوله
تعال ولم يك قال الزجاج أصلها لم يكن وإنما حذفت النون عند سيبويه لكثرة استعمال
هذا الحرف وذكر الجلة من البصرين أنها إنما احتملت الحذف لأنه اجتمع فيها كثرة
الاستعمال وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف وأنها قد أشبهت حروف
اللين وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة وأنها غنة تخرج من الأنف فلذلك
احتملت الحذف
قوله تعالى شاكرا لأنعمه انتصب بدلا من قوله أمه قانتا وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفا
وشرحنا معنى الاجتباء في الأنعام 87 قال مقاتل والمراد بالصراط المستقيم هاهنا
الإسلام
قوله تعالى وآتيناه في الدنيا حسنة فيها ستة أقوال
أحدها أنه الذكر الحسن قاله ابن عباس والثاني النبوة قاله الحسن
والثالث لسان صدق قاله مجاهد والرابع اجتماع المل على ولايته فكلهم يتولونه
ويرضونه قاله قتادة والخامس أنها الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على محمد ص - قاله
مقاتل بن حيان والسادس الأولاد الأبرار على الكبر حكاه الثعلبي وباقي الآية مفسر
في البقرة 130 ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبرهيم حنيفا وما كان من المشركين
قوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ملته دينه وفيما أمر باتباعه من
ذلك قولان
أحدهما أنه أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه وهذا هو الظاهر
والثاني اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام قاله
أبو
جعفر الطبري
وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول لأن رسولنا أفضل الرسل وإنما أمر
باتباعه لسبقه إلى القول بالحق
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا
فيه يختلفون
قوله تعالى إنما جعل السبت أي إنما فرض تعظيمه وتحريمه وقرأ الحسن وأبو حيوة إنما
جعل بفتح الجيم والعين السبت بنصب التاء على الذين اختلفوا فيه والهاء ترجع إلى
السبت
وفي معنى اختلافهم فيه قولان
أحدهما أن موسى قال لهم تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه في يوم الجمعة
ولا تعملوا فيه شيئا من صنيعكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نبتغي إلا اليوم
الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه رواه أبو صالح
عن ابن عباس وقال مقاتل لما أمرهم موسى بيوم الجمعة قالوا نتفرغ يوم السبت فان
الله لم يخلق فيه شيئا فقال إنما أمرت بيوم الجمعة فقال أحبارهم انتهوا إلى أمر
نبيكم فأبوا فذلك اختلافهم فلما رأى موسى حرصهم على السبت أمرهم به فاستحلوا فيه
المعاصي وروى سعيد بت جبير عن ابن عباس قال رأى موسى رجلا يحمل قصبا يوم السبت
فضرب عنقه وعكفت عليه الطير أربعين صباحا وذكر ابن قتيبة في مختلف الحديث أن الله
تعالى بعث موسى بالسبت ونسخ السبت بالمسيح
والثاني أنه بعضهم استحله وبعضهم حرمه قاله قتادة
ادع
إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن
ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
قوله تعالى ادع إلى سبيل ربك قال ابن عباس نزلت مع الآية التي بعدها وسنذكر هناك
السبب فأما السبيل فقال مقاتل هو دين الإسلام
وفي المراد بالحكمة ثلاثة أقوال
أحدها أنها القرآن رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الفقه قاله الضحاك عن ابن عباس
والثالث النبوة ذكره الزجاج
وفي الموعظة الحسنة قولان
أحدهما مواعظ القرآن قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني الأدب الجميل الذي يعرفونه قاله الضحاك عن ابن عباس
قوله تعالى وجادلهم في المشار إليه قولان
أحدهما أنهم أهل مكة قاله أبوصالح
والثاني أهل الكتاب قاله مقاتل
وفي قوله بالتي هي أحسن ثلاثة أقوال
أحدها جادلهم بالقرآن
والثاني ب لاآله إلا الله روي القولان عن ابن عباس
والثالث جادلهم غير فظ ولا غليظ وألن لهم جانبك قاله الزجاج وقال بعض علماء
التفسير وهذا منسوخ بآية السيف
قوله تعالى إن ربك هو أعلم المعنى هو أعلم بالفريقين فهو يأمرك فيهما بما فيه
الصلاح
وإن
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا
بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون
قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رسول الله ص - أشرف على حمزة فرآه صريعا فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه
فقال والله لأمثلن بسبعين منهم فنزل جبريل والنبي ص - واقف بقوله وإن عاقبتم إلى
أخرها فصبر رسول الله وكفر عن يمينه قاله أبو هريرة وقال ابن عباس رأى رسول الله ص
- حمزة قد شق بطنه وجدعت أذناه فقال لولا أن تحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته
حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير ولأقتلن مكانه سبعين رجلا منهم فنزل قوله
أدع إلى سبيل ربك إلى قوله وما صبرك إلا بالله وروى الضحاك عن ابن عباس أن رسول
الله ص - قال يومئذ لئن ظفرت بقاتل حمزة لأمثلن به مثلة تتحدث بها العرب وكانت هند
وآخرون معها قد مثلوا به فنزلت هذه الآية
والثاني أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة
ومثلوا بقتلاهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما من الدهر لنزيدن على عدتهم
مرتين فنزلت هذه الآية قاله أبي بن كعب
وروى
أبو صالح عن ابن عباس أن المسلمين قالوا لئن أمكننا الله منهم لنمثلن بالأحياء
فضلا عن الأموات فنزلت هذه الآية يقول إن كنتم فاعلين فمثلوا بالأموات كما مثلوا
بأمواتكم قال ابن الأنباري وإنما سمى فعل المشركين معاقبة وهم ابتدؤوا بالمثلة
ليزدوج اللفظان فيخف على اللسان كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها الشورى 40
فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا على قولين
أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر رسول الله ص - أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ
بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد قاله ابن عباس والضحاك فعلى هذا يكون المعنى ولئن
صبرتم عن القتال ثم نسخ هذا بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5
والثاني أنها محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم ظلامه فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر
مما ناله الظالم منه قاله مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري وعلى هذا يكون
المعنى ولئن صبرتم عن المثلة لا عن القتال
قوله تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله أي بتوفقيه ومعونته وهذا أمر بالعزيمة
وفي قوله ولا تحزن عليهم قولان
أحدهما على كفار مكة إن لم يسلموا قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني ولا تحزن على قتلى أحد فانهم أفضوا إلى رحمة الله ذكره علي بن أحمد
النيسابوري
قوله
تعالى ولا تك في ضيق قرأ الأكثرون بنصب الضاد وقرأ ابن كثير في ضيق بكسر الضاد ها هنا
وفي النمل 70 قال الفراء الضيق بفتح الضاد ما ضاق عنه صدرك والضيق ما يكون في الذي
يضيق ويتسع مثل الدار والثوب وأشباه ذلك وقال ابن قتيبة الضيق تخفيف ضيق مثل هين
ولين وهو إذا كان على هذا التأويل صفه كأنه قال لا تك في أمر ضيق من مكرهم قال
ويقال مكان ضيق وضيق بمعنى واحد كما يقال رطل ورطل وهذا أعجب إلي فأما مكرهم
المذكور ها هنا فقال أبوصالح عن ابن عباس فعلهم وعملهم
قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا ما نهاهم عنه وأحسنوا فيما أمرهم به بالعون
والنصر
سورة
بني اسرئيل
فصل في نزولها
هي مكية في قول الجماعة الا ان بعضهم يقول فيها مدني فروي عن ابن عباس انه قال هي
مكية الا ثمان آيات من قوله وان كادوا ليفتنونك الى قوله نصيرا الإسراء 73 - 75
هذا قول قتادة وقال مقاتل فيها من المدني وقل رب أدخلني مدخل صدق الاسراء 80 وقوله
ان الذين أوتوا العلم من قبله الاسراء 107 وقوله ان ربك أحاط بالناس الاسراء 60
وقوله وان كادوا ليفتنونك الاسراء 73 وقوله وان كادوا ليستفزونك الاسراء 76 وقوله
ولو لا ان ثبتناك والتي تليها الاسراء 7475 بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله
لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير
قوله تعالى سبحان روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه سئل عن تفسير سبحان الله
فقال تنزيه لله عن كل سوء وقد ذكرنا هذا المعنى في البقرة 32
قال
الزجاج واسرى بمعنى سير عبده يقال أسريت وسريت اذا سرت ليلا وقد جاءت اللغتان في
القرآن قال الله تعالى والليل اذا يسر الفجر 4
وفي معنى التسبيح هاهنا قولان
أحدهما ان العرب تسبح عند الامر المعجب فكأن الله تعالى عجب العباد مما أسدى الى
رسوله من النعمة
والثاني ان يكون خرج مخرج الرد عليهم لأنه لما حدثهم بالاسراء كذبوه فيكون المعنى
تنزه الله ان يتخذ رسولا كذابا ولا خلاف ان المراد بعبده هاهنا محمد صلى الله عليه
و سلم
وفي قوله من المسجد الحرام قولان
احدهما انه اسري به من نفس المسجد قاله الحسن وقتاده ويسنده حديث مالك بن صعصعة
وهو في الصحيحين بينا ان في الحطيم وربما قال بعض الرواة في الحجر
والثاني انه اسري به من بيت ام هانئ وهو قول اكثر المفسرين
فعلى
هذا يعني بالمسجد الحرام الحرم والحرم كله مسجد ذكره القاضي ابو يعلى وغيره
فأما المسجد الاقصى فهو بيت المقدس وقيل له الاقصى لبعد المسافة بين المسجدين
ومعنى باركنا حوله ان الله اجرى حوله الانهار وانبت الثمار وقيل لأنه مقر الانبياء
ومهبط الملائكة
واختلف العلماء هل دخل بيت المقدس ام لا فروى ابو هريرة انه دخل بيت المقدس وصلى
فيه بالانبياء ثم عرج به الى السماء وقال حذيفة بن اليمان لم يدخل بيت المقدس ولم
يصل فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به
فان قيل ما معنى قوله الى المسجد الاقصى وانتم تقولون صعد الى السماء
فالجواب ان الاسراء كان الى هنالك والمعراج كان من هنالك
وقال ان الحكمة في ذكر ذلك انه لو اخبر بصعوده الى السماء في بدء الحديث لاشتد
انكارهم فلم اخبر ببيت المقدس وبان لهم صدقه فيما اخبرهم به من العلامات الصادقة
اخبر بمعراجه
قوله تعالى لنريه من آياتنا يعني ما رأى أي تلك الليلة من العجائب التي اخبر بها
الناس انه هو السميع لمقالة قريش البصير بها وقد ذكرنا في كتابنا المسمى ب الحدائق
احاديث المعراج وكرهنا الاطالة هاهنا
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني اسرائيل الا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من
حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا
قوله
تعالى وآتينا موسى الكتاب لما ذكر في الاية الاولى اكرام محمد صلى الله عليه و سلم
ذكر في هذه كرامة موسى والكتاب التوراة وجعلناه هدى لبني اسرائيل أي دللناهم به
على الهدى الا تتخذوا قرأ ابو عمرو يتخذوا بالياء والمعنى هديناهم لئلا يتخذوا
وقرأ الباقون بالتاء قال ابو علي وهو على الانصراف الى الخطاب بعد الغيبة مثل
الحمد لله ثم قال اياك نعبد
قوله تعالى وكيلا قال مجاهد شريكا وقال الزجاج ربا قال ابن الانباري وانما قيل
للرب وكيل لكفايته وقيامه بشأن عباده من اجل ان الوكيل عند الناس قد علم انه يقوم
بشؤون اصحابه وتفقد امورهم فكان الرب وكيلا من هذه الجهة لا على معنى ارتفاع منزلة
الموكل وانحطاط امر الوكيل
قوله تعالى ذرية من حملنا قال مجاهد هو نداء ياذرية من حملنا قال ابن الانباري من
قرأ الا تتخذوا بالتاء فانه يقول بعد الذرية مضمر حذف اعتمادا على دلالة ما سبق
تلخيصه يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلا ويجوز ان يستغني عن الاضمار بقوله
انه كان عبدا شكورا لأنه بمعنى اشكروني كشكره ومن قرأ لا يتخذوا بالياء جعل النداء
متصلا بالخطاب والذرية تنتصب بالنداء ويجوز نصبها بالاتخاذ على انها مفعول ثان
تلخيص الكلام ان لا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا قال قتادة الناس كلهم ذرية
من انجى الله في تلك السفينة
قال العلماء ووجه الانعام على الخلق بهذا القول أنهم كانوا في صلب من نجا
قوله تعالى انه كان عبدا شكورا قال سلمان الفارسي كان اذا اكل
قال
الحمد لله واذا شرب قال الحمد لله وقال غيره كان اذا لبس ثوبا قال الحمد لله فسماه
الله عبدا شكورا
وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فاذا
جاء وعد اولهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا
مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم بأموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا
قوله تعالى وقضينا الى بني اسرائيل فيه قولان
احدهما اخبرناهم رواه الضحاك عن ابن عباس
والثاني قضينا عليهم رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة فعلى الأول تكون الى
على اصلها ويكون الكتاب التوراة وعلى الثاني تكون إلى بمعنى على ويكون الكتاب
الذكر الاول
قوله تعالى لتفسدن في الارض يعني ارض مصر مرتين بالمعاصي ومخالفة التوراة
وفي من قتلوه من الانبياء في الفساد الاول قولان
أحدهما زكريا قاله السدي عن اشياخه
والثاني
شعيا قاله ابن اسحاق فأما المقتول من الانبياء في الفساد الثاني فهو يحيى بن زكريا
قال مقاتل كان بين الفسادين مائتا سنة وعشر سنين فأما السبب في قتلهم زكريا فانهم
اتهموه بمريم وقالوا منه حملت فهرب منهم فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه
هدب فجاءهم الشيطان فدلهم عليه فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها وأما السبب في
قتلهم شعيا فهو انه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي وقيل هو الذي هرب
منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار وان زكريا مات حتف انفه واما السبب في
قتلهم يحيى بن زكريا ففيه قولان
احدهما ان ملكهم اراد نكاح امرأة لا تحل له فنهاه عنها يحيى ثم فيها اربعة أقوال
احدها انها ابنة اخيه قال ابن عباس والثاني ابنته قاله عبد الله بن الزبير والثالث
انها امرأة أخيه وكان ذلك لا يصلح عندهم قاله الحسين بن علي عليهما السلام والرابع
ابنة أمرأته قاله السدي عن اشياخه وذكر ان السبب في ذلك ان ملك بني اسرائيل هوي
بنت امرأته فسأل يحيى عن نكاحها فنهاه فحنقت امها على يحيى حين نهاه ان يتزوج
ابنتها وعمدت الى ابنتها فزينتها وارسلتها الى الملك حين جلس على شرابه وأمرتها ان
تسقيه وان تعرض له فان ارادها على نفسها ابت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست
ففعلت ذلك فقال ويحك سليني غير هذا فقالت ما اريد الا هذا فأمر فأتي برأسه والراس
يتكلم ويقول لا تحل لك لا تحل لك
والقول الثاني ان امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد اعطي حسنا وجمالا
فأرادته على نفسه فأبى فقالت لابنتها سلي اباك رأس يحيى فأعطاها
ما
سألت قاله الربيع بن انس قال العلماء بالسير ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من
بني اسرائيل سبعون الفا فسكن وقيل لم يسكن حتى جاء قاتله فقال انا قتلته فقتل فسكن
قوله تعالى ولتعلن علوا كبيرا أي لتعظمن عن الطاعة ولتبغن
قوله تعالى فاذا جاء وعد أولاهما أي عقوبة أولى المرتين بعثنا أي ارسلنا عليكم
عبادا لنا وفيهم خمسة اقوال
احدها انهم جالوت وجنوده قاله ابن عباس وقتادة والثاني بختنصر قاله سعيد بن المسيب
واختاره الفراء والزجاج والثالث العمالقة وكانوا كفارا قاله الحسن والرابع سنحاريب
قاله سعيد بن جبير والخامس قوم من اهل فارس قاله مجاهد وقال ابن زيد سلط الله
عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس
قوله تعالى أولي بأس شديد أي ذوي عدد وقوة في القتال
وفي قوله فجاسوا خلال الديار ثلاثة اقوال
احدها مشوا بين منازلهم قاله ابن ابي طلحة عن ابن عباس وقال مجاهد يتجسسون اخبارهم
ولم يكن قتال وقال الزجاج طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي احد لم يقتلوه والجوس
طلب الشيء باستقصاء
والثاني قتلوهم بين بيوتهم قاله الفراء وابو عبيدة
والثالث
عاثوا وافسدوا يقال جاسوا وحاسوا فهم يجوسون ويحوسون اذا فعلوا ذلك قاله ابن قتيبة
فأما الخلال فهي جمع خلل وهو الانفراج بين الشيئين وقرأ ابو رزين والحسن وابن جبير
وابو المتوكل خلل الديار بفتح الخاء واللام من غير الف وكان وعدا مفعولا أي لا بد
من كونه
قوله تعالى ثم رددنا لكم الكرة عليهم أي اظفرناكم بهم والكرة معناها الرجعة والدولة
وذلك حين قتل داود جالوت وعاد ملكهم اليهم وحكى القراء ان رجلا دعى على بختنصر
فقتله الله وعاد ملكهم اليهم وقيل غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال
والأسرى
قوله تعالى وجعلناكم اكثر نفيرا أي اكثر عددا وأنصارا منهم قال ابن قتيبة النفير
والنافر واحد كما يقال قدير وقادر واصله من ينفر مع الرجل من عشيرته واهل بيته إن
احسنتم احسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فاذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا
المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم
عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
قوله تعالى إن احسنتم أي وقلنا لكم ان فأطعتم الله احسنتم لأنفسكم أي عاقبة الطاعة
لكم وان أسأتم بالفساد والمعاصي فلها وفيه قولان
أحدهما انه بمعنى فاليها والثاني فعليها
فاذا جاء وعد الاخرة جواب فاذا محذوف تقديره فاذا جاء
وعد
عقوبة المرة الاخرة من افسادكم بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم وهذا الفساد الثاني هو
قتلهم يحيى بن زكريا وقصدهم قتل عيسى فرفع وسلط الله عليهم ملوك فارس والروم
فقتلوهم وسبوهم فذلك قوله ليسوؤوا وجوهكم قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وحفص عن
عاصم ليسوؤوا بالياء على الجميع والهمز بين الواوين والإشارة الى المبعوثين وقرأ
ابن عامر وحمزة وابو بكر عن عاصم ليسوء وجوهكم على التوحيد قال ابو علي فيه وجهان
احدهما ليسوء الله عز و جل والثاني ليسوء البعث وقرأ الكسائي لنسوء بالنون وذلك
راجع الى الله تعالى
وفيمن بعث عليهم في المرة الثانية قولان
أحدهما بختنصر قاله مجاهد وقتادة وكثير من الرواة يأبى هذا القول يقولون كان بين
تخريب بختنصر بيت المقدس وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل
والثاني انطياخوس الرومي قاله مقاتل ومعنى ليسوؤوا وجوهكم أي ليدخلوا عليكم الحزن
بما يفعلون من قتلكم وسبيكم وخصت المساءاة بالوجوه والمراد اصحاب الوجوه لما يبدو
عليها من اثر الحزن والكآبة
قوله تعالى وليدخلوا المسجد يعني بيت المقدس كما دخلوه في المرة الأولى وليتبروا
أي ليدمروا ويخربوا قال الزجاج يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب تبر
ومعنى ما علوا أي ليدمروا في حال علوهم عليكم
قوله تعالى عسى ربكم ان يرحمكم هذا مما وعدوا به في التوراة وعسى من الله واجبة
فرحمهم الله بعد انتقامه منهم وعمر بلادهم واعاد نعمهم
بعد
سبعين سنة وان عدتم الى معصيتنا عدنا الى عقوبتكم قال المفسرون ثم إنهم عادوا إلى
المعصية نبعث الله عليهم ملوكا من ملوك فارسي والروم قال قتادة ثم كان اخر ذلك أن
بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه و سلم فهم في عذاب الى يوم القيامة فيعطون
الجزية عن يد وهم صاغرون
قوله تعالى وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا فيه قولان
احدهما سجنا قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وقال مجاهد يحصرون فيها وقال ابو عبيدة
وابن قتيبة محبسا وقال الزجاج حصيرا حبسا أخذ من قولك حصرت الرجل اذا حبسته فهو
محصور وهذا حصيره أي محبسه والحصير المنسوج سمي حصيرا لأنه حصرت طاقاته بعضها مع
بعض ويقال للجنب حصير لأن بعض الاضلاع محصور مع بعض وقال ابن الانباري حصيرا بمعنى
حاصرة فصرف من حاصرة الى حصير كما صرف مؤلم الى أليم
والثاني فراشا ومهادا قاله الحسن قال أبو عبيدة ويجوز أن تكون جهنم لهم مهادا
بمنزلة الحصير والحصير البساط الصغير
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم
اجرا كبيرا وان الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما
قوله تعالى ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم قال ابن الانباري التي وصف للجمع
والمعنى يهدي الى الخصال التي هي اقوم الخصال قال المفسرون وهي توحيد الله
والايمان به وبرسله والعمل بطاعته ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أي
بأن لهم اجرا وهو الجنة وأن
الذين
لا يؤمنون بالآخرة أي ويبشرهم بالعذاب لأعدائهم وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى من
المشركين فعجل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين
ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا
قوله تعالى ويدعو الإنسان بالشر وذلك ان الإنسان يدعو في حال الضجر والغضب على
نفسه وأهله بما لا يحب ان يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير وكان الانسان عجولا
يعجل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عجلته بالدعاء بالخير
وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة اقوال
أحدها انه اسم جنس يراد به الناس قاله الزجاج وغيره
والثاني آدم فاكتفى بذكره من ذكر ولده ذكره ابن الأنباري
والثالث انه النضر بن الحارث حين قال فأمطر علينا حجارة من السماء الانفال 32 قاله
مقاتل وقال سلمان الفارسي أول ما خلق الله من آدم رأسه فجعل ينظر الى جسده كيف
يخلق قال فبقيت رجلاه فقال يا رب عجل فذلك قوله وكان الانسان عجولا
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا
فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا
قوله
تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين أي علامتين يدلان على قدرة خالقهما فمحونا آية
الليل فيه قولان
أحدهما أن آية الليل القمر ومحوها ما في بعض القمر من الاسوداد والى هذا المعنى
ذهب علي عليه السلام وابن عباس في آخرين
والثاني آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمة لليل فنسب المحو الى الظلمة اذ
كانت تمحو الانوار وتبطلها ذكره ابن الانباري ويروى ان الشمس والقمر كانا في النور
والضوء سواء فأرسل الله جبريل فأمر جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء
قوله تعالى وجعلنا آية النهار يعني الشمس مبصرة فيه ثلاثة أقوال
أحدها منيرة قاله قتادة قال ابن الانباري وانما صلح وصف الاية بالابصار على جهة
المجاز كما يقال لعب الدهر ببني فلان
والثاني ان معنى مبصرة مبصرا بها قاله ابن قتيبة
والثالث ان معنى مبصرة مبصرة فجرى مفعل مجرى مفعل والمعنى انها تبصر الناس أي
تريهم الأشياء قاله ابن الأنباري ومعاني الأقوال تتقارب
قوله تعالى لتبتغوا فضلا من ربكم أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم
بالنهار ولتعلموا عدد السنين والحساب بمحو آية الليل ولولا ذلك لم يعرف الليل من
النهار ولم يتبين العدد وكل شيء أي ما يحتاج اليه فصلناه تفصيلا بيناه تبينا لا
يلتبس معه بغيره
وكل
انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقه منشورا إقرأ كتابك
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
قوله تعالى وكل انسان وقرأ ابن ابي عبلة وكل برفع اللام وقرأ ابن مسعود وأبي
والحسن ألزمناه طيره بياء ساكنة من غير الف
وفي الطائر أربعة أقوال
أحدها شقاوته وسعادته قاله ابو صالح عن ابن عباس قال مجاهد ما من مولود يولد إلا
وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي او سعيد
والثاني عمله قاله الفراء وعن الحسن كالقولين
والثالث انه ما يصيبه قاله خصيف وقال ابو عبيدة حظه
قال ابن قتيبة والمعنى فيما أرى والله اعلم ان لكل امرئ حظا من الخير والشر قد
قضاه الله عليه فهو لازم عنقه والعرب تقول لكل ما لزم الانسان قد لزم عنقه وهذا لك
علي وفي عنقي حتى اخرج منه وانما قيل للحظ من الخير والشر طائر لقول العرب جرى له
الطائر بكذا من الخير وجرى له الطائر بكذا من الشر على طريق الفأل والطيرة فخاطبهم
الله بما يستعملون واعلمهم ان ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو الذي يلزمه
أعناقهم
وقال الازهري الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي
فكتب ما علمه منهم اجمعين وقضى سعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا فصار لكل
منهم ما هو صائر اليه عند خلقه وانشائه فذلك قوله الزمناه طائره في عنقه
والرابع انه ما يتطير من مثله من شيء عمله وذكر العنق عبارة عن اللزوم
له
كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس هذا قول الزجاج وقال ابن الانباري الاصل في
تسميتهم العمل طائرا انهم كانوا يتطيرون من بعض الاعمال
قوله تعالى ونخرج له قرأ ابو جعفر ويخرج بياء مضمومة وفتح الراء وقرأ يعقوب وعبد
الوارث بالياء مفتوحة وضم الراء وقرأ قتادة وابو المتوكل ويخرج بياء مرفوعة وكسر
الراء وقرأ أبو الجوزاء والأعرج وتخرج بتاء مفتوحة ورفع الراء يوم القيامة كتابا
وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك كتاب بالرفع يلقاه وقرأ ابن عامر وابو جعفر يلقاه
بضم الياء وتشديد القاف وامال حمزة والكسائي القاف قال المفسرون هذا كتابه الذي
فيه ما عمل وكان ابو السوار العدوي اذا قرأ هذه الآية قال نشرتان وطية اما ما حييت
يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فأمل فيها ما شئت فاذا مت طويت ثم اذا بعثت نشرت
قوله تعالى اقرأ كتابك وقرأ ابو جعفر اقرأ بتخفيف الهمزة وفيه اضمار تقديره فيقال
له اقرأ كتابك قال الحسن يقرؤه أميا كان او غير أمي ولقد عدل عليك من جعلك حسيب
نفسك
وفي معنى حسيبا ثلاثة اقوال
احدها محاسبا والثاني شاهدا والثالث كافيا والمعنى ان الانسان يفوض اليه حسابه ليعلم
عدل الله بين العباد ويرى وجوب حجة الله عليه واستحقاقه العقوبة ويعلم انه ان دخل
الجنة فبفضل الله لا بعمله وان دخل النار فبذنبه قال ابن الانباري وانما قال حسيبا
والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس فشبهت
بالسماء
والارض قال تعالى السماء منفطر به المزمل 18 قال الشاعر ... فلا مزنة ودقت ودقها
... ولا أرض ابقل ابقالها ... من اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها
ولا تزر وازرة وزر اخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
قوله تعالى من اهتدى فانما يهتدي لنفسه أي له ثواب اهتدائه وعليه عقاب ضلاله
قوله تعالى ولا تزر وازرة أي نفس وازرة وزر اخرى قال ابن عباس ان الوليد بن المغير
قال اتبعوني وانا احمل اوزاركم فقال الله تعالى ولا تزر وازرة وزر اخرى قال ابو
عبيدة والمعنى ولا تأثم آثمة إثم أخرى قال الزجاج يقال وزر يزر فهو وازر وزرا
ووزرا ووزرة ومعناه اثم إثما
وفي تأويل هذه الآية وجهان
أحدهما أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره
والثاني أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم لأن غيره عمله كما
قال
الكفار انا وجدنا آباءنا على امة الزخرف22 ومعنى حتى نبعث رسولا أي حتى نبين ما به
نعذب وما من اجله ندخل الجنة
فصل
قال القاضي ابو يعلى في هذا دليل على ان معرفة الله لا تجب عقلا وإنما تجب بالشرع
وهو بعثة الرسل وانه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار قال وقيل معناه
انه لا يعذب في ما طريقه السمع الا بقيام حجة السمع من جهة الرسول ولهذا قالوا لو
أسلم بعض اهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها لم يلزمه قضاء
شيء منها لأنها لم تلزمه إلا بعد قيام حجة السمع والأصل فيه قصة أهل قباء حين
استداروا الى الكعبة ولم يستأنفوا ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصلاة
فالواجب عليه القضاء لأنه قد رأى الناس يصلون في المساجد بأذان وإقامة وذلك دعاء
اليها
واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميرا وكم اهكلنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا
قوله تعالى واذا اردنا ان نهلك قرية في سبب ارادته لذلك قولان
احدهما ما سبق لهم في قضائه من الشقاء والثاني عنادهم الانبياء وتكذيبهم اياهم
قوله تعالى امرنا مترفيها قرأ الاكثرون أمرنا مخففة على وزن فعلنا وفيها ثلاثة
اقوال==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق